قوانين الأحوال المدنية؟

قوانين الأحوال المدنية؟

معظم قوانين الأحوال المدنية في الدول العربية والإسلامية تتبع المدارس الفقهية الإسلامية (والمسيحية) القديمة والحديثة، وهي تشترط اجراء عقد زواج، بشروط مختلفة، حسب المذاهب المختلفة، فبعضها يشترط الولي، وبعضها لا يشرط ذلك في الأنثى البالغة الرشيدة، وبعضها يشترط الاشهاد برجلين عادلين في الطلاق، وبعضها لا يشترط ذلك، كما ان معظم الفقهاء المسلمين يجيزون زواج المسلم من اليهودية والنصرانية، ولا يسمحون بالعكس، وبالطبع لا أحد من الفقهاء المسلمين يجيز الزواج من الملحد أو البوذي أو الهندوسي سواء كان رجلا أو امرأة.

وتشترط القوانين في معظم البلاد العربية والإسلامية على اتمام عقد الزواج لدى محاكم دينية ومذهبية، من أجل الاعتراف بالزواج وترتيب الآثار الاجتماعية والمدنية عليه.

وبالرغم من أن الزواج في الإسلام مدني أي هو عقد بين شخصين (ذكر وانثى) وليس بحاجة الى عقده لدى مأذون أو شيخ دين، إذا ما تم وفق الشروط الإسلامية، فان الفقهاء المسلمين واجهوا في العقود الأخيرة ظاهرة (الزواج المدني) الذي يتم أمام كتاب عدل، أو في البلدية، وبشروط متساهلة مختلفة، فوافقت بعض البلاد العربية والإسلامية على اجراء الزواج المدني، ولا يزال يرفضها كثير من البلاد الأخرى، أو القبول بها ضمن أديان محددة كالمسيحية في مصر، ورفضها بصورة عامة، ولا يزال الجدل حول الزواج المدني محتدما في كثير من البلاد الأخرى.

وفي الوقت الذي يستمر الجدل حول شرعية الزواج المدني، يواجه الفقهاء المسلمون ظاهرة جديدة أخطر، تتمثل في (الزواج الأبيض) وهو يعني المساكنة من دون عقد لا ديني ولا مدني، بما يشبه الصداقة في البلاد الغربية (بوي فريند، وغيرل فريند). واذا كان هذا النوع من الزواج في الغرب أقرب الى الزواج الإسلامي (المدني) الذي لا يشترط الذهاب الى الكنيسة، ويتضمن سهولة الطلاق، في محاولة للتهرب من تبعات الطلاق الصعبة والمعقدة في الدول المسيحية، فان (الزواج الأبيض) افضل أو اقل سوءا من (الزنا) المنتشر منذ القدم في البلاد العربية والإسلامية، والذي أنتج وينتج ظاهرة اجتماعية سيئة جدا وخطيرة وهي ظاهرة (أولاد الشوارع) الذين لا يعترف بهم الزناة من الرجال والنساء، ويضطر هؤلاء (الزناة) الى رمي الأطفال في الشوارع لتحتضنهم دور الرعاية الاجتماعية، أو يكبرون في الشوارع بين القمامة والعصابات، ويتحولون في النهاية الى لصوص أو جناة يبحثون عن لقمة عيش بالحلال والحرام، والسبب في ذلك ، كما هو اضح، تهرب الزاني من عار الزنا، وعدم استعداده للاعتراف بعمله المشين أو تحمل مسؤولية الطفل الذي يتولد عن عملية الزنا، وكذلك تهرب الأم الزانية من العار ، والمسؤولية في تربية الطفل ورعايته ماليا، لا سيما اذا كانت صغيرة وفقيرة.

ومع الأسف الشديد ان الاحصائيات في مختلف البلاد العربية والإسلامية عن (أولاد الشوارع، أو اللقطاء) تنطوي على أرقام هائلة وكبيرة.

ان الدول الغربية حاولت أن تخفف من آثار جرائم الزنا، والحد من ظاهرة أولاد الشوارع، وذلك بتكفل المرأة الزانية (الأم المفردة)، وتوفير البيت والمعاش لها ولأولادها، وتأمين الدراسة والصحة والخدمات الأخرى، ولكن الدولة في البلاد العربية والإسلامية عاجزة عن تأمين كل تلك الخدمات للأولاد الشرعيين فكيف بأولاد الشوارع؟ وهو ما يؤدي الى تضخم تلك الظاهرة وانتشارها، بتخلي الأبوين الزانيين عن الأولاد، والقائهم في المزابل أو على أبواب الجوامع.

ولئن كان ممكنا شرعنة الزواج المدني، أو حتى الزواج الأبيض (الصداقة والمساكنة) ببعض التأويلات الفقهية، فلا يمكن أبدا شرعنة (الزنا) المحرم في جميع الشرائع السماوية.

ولا نريد أن نجادل في هذا الموضوع، ولكن يهمنا البحث حول ظاهرة (أولاد الشوارع) هل نتركها تنتشر وتتعاظم؟ أم هناك مجال لمعالجتها فقهيا وقانونيا، والحد منها، والبحث عن المسؤول عن نشوئها وانتشارها؟ هل هم الفقهاء المسلمون بفتاويهم الخاطئة؟ أم قوانين الأحوال المدنية التي لا تعترف الا بأولاد الزيجات الشرعية، فلا تنسب أولئك الأولاد الى آبائهم، ولا تورثهم، ولا تحمل المسؤول (الزاني) مسؤولية العناية بهم وتربيتهم؟

ان الزنا جريمة، والتهرب من مسؤولية أولاد الزنا، جريمة أخرى، وليس من العدل عدم تحمل الزاني مسؤوليته عن نتيجة الزنا، أو القاء المسؤولية كاملة على المرأة الزانية.

والسؤال الآن: ما هو دور الفقهاء المسلمين في نشوء هذه الظاهرة؟

لقد كان أبناء الجاهلية قبل الإسلام، يزنون ويحرصون على تبني أولادهم من الزنا، بل كانوا يتخاصمون مع الزناة الآخرين حول الأولاد، كل يريد ان ينسب الولد اليه، ويتبناه، وكانوا يلجؤون أحيانا الى العرافين والقافة ليحددوا نسبة الطفل الى أي زان، أو يقترعون فيما بينهم. وهناك قصص كثيرة في التاريخ عن المخاصمات حول تبني (ابن الزنا) بين عدد من الزناة، الذين لم يكونوا يخجلون من الاعتراف بالزنا.

وهناك قصة معروفة حدثت في الجاهلية وتخاصم طرفاها في العهد الإسلامي، وامام الرسول الأعظم، وهي قصة اختلاف الصحابي سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة رضي الله عنهما في ثبوت نسب أحد الأولاد، فكان سعد يرى أنّ هذا الولد لأخيه عتبة، بينما كان عبد بن زمعة يرى أنّ هذا الولد أخوه وابن أبيه من أمَته، وقد وُلِد على فراش والده، فلما رأى النّبي الشبه الكبير بين هذا الولد وبين عبد بن زمعة قضى به إليه قائلاً: الولد للفراش وللعاهر الحجر.

وقد بنى الفقهاء المسلمون من السنة والشيعة، عبر التاريخ، في نفي مسؤولية الوالد الزاني، عن الوليد، سواء بالنسبة لحمل الاسم، أو التوريث، على هذا الحديث. ولذلك ترفض المحاكم في البلاد الإسلامية تسجيل الولد على اسم ابيه الزاني، اذا كان نتيجة سفاح، وليس نتيجة عقد زواج شرعي، وترفض بالطبع توريثه من مال أبيه أو أمه، أو بالعكس، وتنظر الى ابن الزنا وكأنه مقطوع الشجرة، بينما تعترف بعض القوانين بنسبة الوليد الى أمه فقط.

لا يثبت نسب الولد من الزنى:

وبناء على الحديث النبوي الشريف: ” الولد للفراش وللعاهر الحجر ” فقال الفقهاء بعدم ثبوت نسب الولد من الزنى، أي لا يثبت نسبه من الواطئ الزاني ، ولا يلحق به بذلك قال الفقهاء .

من أقوال الفقهاء في عدم نسب الولد من الزنى:

أولاً : قال ابن حزم الظاهري : ” نفى صلى الله عليه وسلم أولاد الزنى جملة بقوله عليه الصلاة والسلام ” وللعاهر الحجر ” فالعاهر – أي الزاني – عليه الحد فلا يلحق به الولد ، والولد يلحق بالمرأة إذا أتت به ، ولا يلحق بالرجل ، ويرث أمه وترثه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ألحق الولد بالمرأة في اللعان ونفاه عن الرجل “

ثانياً : ومن فقه المالكية : ” إن ماء الزاني فاسد ، ولذا لا يلحق به الولد ” .

ثالثاً : من فقه الحنفية : ” أقر أنه زنى بامرأة حرة وأن هذا الولد ابنه من الزنى وصدقته المرأة فإن النسب لا يثبت من واحد منهما لقوله عليه الصلاة والسلام : ” الولد للفراش وللعاهر الحجر ” ولا فراش للزاني ، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حظ الزاني الحجر فقط ، والمراد هنا أنه لا حظّ للعاهر من النسب … “

الولد من الزنى يلحق بالمرأة الزانية:

والولد من الزنى لا يلحق بالرجل الزاني كما ذكرنا ، ولكن يلحق بالمرأة الزانية التي ولدته إذا ثبت ولادتها له ، فقد جاء في ” المبسوط ” للسرخسي : ” أقرَّ أنه زنى بامرأة حرة وإن هذا الولد ابنه من الزنى وصدقته المرأة ، فإن النسب لا يثبت من واحد لقوله صلى الله عليه وسلم : ” الولد للفراش وللعاهر الحجر ” ولا فراش للزاني … فإن شهدت القابلة -أي شهدت بولادتها – ثبت بذلك نسب الولد من المرأة دون الرجل ، لأن ثبوت النسب منها بالولادة وذلك يظهر بشهادة القابلة ؛ لأن انفصال الولد عنها معاين فلهذا ثبت النسب منها “

زواج الزاني بمزنيته وأثره في نسب الولد :

جاء في ” الفتاوى الهندية ” في فقه الحنفية : ” ولو زنى بامرأة فحملت ثم تزوجها فولدت ، إن جاءت به لستة أشهر فصاعداً ثبت نسبه منه ، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لم يثبت نسبه إلا أن يدعيه – أي يدعي أن هذا الولد ابنه – ولم يقل أنه من الزنى ، أما إن قال إنه مني من الزنى فلا يثبت نسبه ولا يرث منه ” .

جاء في ” المغني ” لابن قدامة الحنبلي: ” ولد الملاعنة يلحق الملاعن إذا استلحقه ، وولد الزنى لا يلحق الزاني – أي لا يلحق الزاني ولد الزنى إذا استلحقه – في قول الجمهور .

ولكن اذا دققنا النظر في الحديث النبوي الشريف، نرى أن النبي لجأ الى اعتماد الشبه الموجود بين الولد واخيه أو أبيه البيولوجي زمعة سيد الأمة الزانية، والحكم له ورفض الاعتراف بأبوة عتبة له. وهذا حكم قضائي في واقعة، وليس فتوى عامة، تمنع من تسجيل ولد الزنا باسم أبيه البيولوجي الحقيقي، أو التوارث بينهما، ولكن فهم الفقهاء المسلمين الخاطئ لهذا الحديث، عبر التاريخ، أدى لنشوء ظاهرة (أولاد الشوارع)

والمشكلة في الحقيقة لا تقتصر على أولاد الزنا ، وانما تشمل كل أنواع الزيجات التي لا تعترف بها الأديان الإسلامية والمسيحية واليهودية، أو تلك التي تخالف الشروط الدقيقة لعقود الزواج، ومنها ارتداد أحد الزوجين، و هي ظاهرة تتفشى اليوم بين المسلمين بين الأزواج الشرعيين، وتثيرا سؤالا عن ضرورة الانفصال أو الاستمرار في الزواج، والاعتراف بنتائج الزواج، فضلا عن نتائج الزواج المدني والزواج الأبيض (المساكنة والصداقة). فهل يجرؤ الفقهاء المسلمون على أعادة النظر في (اجتهادهم الخاطئ) وتعديل أوضاع (أولاد الزنا) أو (أولاد الحرام) بالنسبة لتحميل الأبوين ولا سيما الأب، مسؤولية الأبناء وتوريثهم والاعتراف القانوني بهم؟

احمد الكاتب 

29 اغسطس 2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.