المؤمنة كاترين 31 -الفرق بين الوصايا والحكم والمواعظ القرآنية – 1

المؤمنة كاترين

المقطع الحادي والثلاثون

الفرق بين الوصايا والحكم والمواعظ القرآنية – 1

أبدى الحاضرون إعجابهم باقتراح كاترين ليستفيدوا فعلا من تلك الجلسات ويقضوا وقتا أكثر مع بعض سائلين ومجيبين.

محمود:

والآن نجيب على سؤال علوي حول الفرق بين الوصايا والحكم والمواعظ القرآنية.

الوصية هي كما يظن بعض علماء اللغة مأخوذة من الأرض الواصية بمعنى الأرض المتصلة نباتها. فإذا لم تكن النباتات متصلة ببعضها البعض فإن تلك الأرض لا تسمى واصية. فالمقصود من الوصية بالنسبة لنا نحن البشر هو تفعيل حق الشخص في أن يوصل نصائحه أو مواعظه أو تعليماته ليقوم الوصي بالموصى به سواء كان الموصي حاضرا أو غائبا. ولذلك نستعمل الجذر كثيرا في تعليماتنا لمن يبقى بعد موتنا باعتبار أننا نريد أن نوصل طلباتنا إلى ما بعد موتنا ونحن لا زلنا أحياء.

مثال ذلك ما يوصي به الأب أبناءه بالاهتمام بالعدل والإنصاف وبعدم التفرق والتشرذم وغيرها أو ما يوصيه بالنسبة لتقسيم الميراث أو ما يوصيه لشخص معين بجزء كبير من ماله ولعل من حقه أن يوصي بكل ماله. ولكن لو ثبت بأنه لم يكن مصيبا في وصيته أو قام بعمل غير عقلاني فإن من حق القضاء أن يتدخل بعد وفاته ويعيد تقسيم الميراث إلى وصية الله تعالى.

وأما الوصية بالنسبة لله الحكيم فإنه سبحانه من حقه أن يأمر أو ينهى خلقه سواء كانوا موجودين فعلا أو سيأتون. فوصية الله تعالى واجبة التنفيذ دائما وأبدا وهي تحمل صفة القانون الذي يجب العمل به في حدوده باعتباره تشريعا يمكن تجاهله في حرية الحياة الدنيا ولكن لا يمكن تفادي العقاب في الآخرة. بمعنى أن الله تعالى قد يترك الذي يهمل وصايا ربه دون أي عقاب ولو استمر في عصيانه ثم إن له أجلا لا يعدوه يوم الحساب. وبما أن كل أحكام الله تعالى وتشريعاته تستند إلى فلسفة دقيقة ولكن ليس من واجب ربنا أن يذكر لنا دائما أسرار أوامره الكريمة المطاعة فإن تلك الأوامر تسمى وصايا والعلم عند المولى.

ولعل من الضروري أن ننتبه إلى أن وصايا ربنا في تقسيم الميراث الواجبة طبعا فإنه سبحانه حدد تنفيذها بعد وصية الموصي أو المالك نفسه. فلو أوصى الموصي بكامل الميراث كما يشاء فإن وصية الله تعالى لا تكون نافذة بأمر المولى سبحانه.

والوصية السماوية بالإضافة إلى حملها صفة الوجوب فإنها تحمل صفة الاستمرارية أيضا. ولذلك نراه سبحانه يوصي خلقه بالاهتمام بتوحيد العبودية للخالق العزيز ويوصيهم بالابتعاد عما هو ليس من حقهم وبالابتعاد عن الفواحش. وهاكم بعض الأمثلة:

1. سورة مريم: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31).

2. سورة الأنعام: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153).

ونكتفي بتلك الآيات حتى نوفر الوقت لبقية المسائل.

ماري:

شكرا عم محمود على هذا البيان الرائع ولي سؤال في الآية التالية من سورة الأنعام وأذكر ما قبلها أيضا للارتباط الوثيق بينهما: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144). فأنا لا أجد وصية من الله تعالى في الآية وأجهل مرجع الإشارة في قوله الكريم: “بهذا”.

كاترين:

فعلا يا عم لقد حاولت كثيرا أن أتعرف على تلك الوصية ولكنني لم أتوصل إلى فهم دقيق كما لم أتوصل إلى السر في أن يقوم ربنا سبحانه بوصية لنا وهو يتحدث عن الأنعام التي أحلها لنا.

سارا:

ما فكرت في الموضوع ولكنني فعلا أرى بأن ماري وكاترين انتبهتا إلى إشكال كبير في فهمنا للآية الكريمة وأتمنى بأن يقوم العم محمود التمار بعدم الاختصار في بيان هذا الموضوع.

توم:

أنا لست مهتما كثيرا بالقرآن الكريم باعتبار أنني كنت أظن بأنه كتاب أناشيد نستمتع بها حينما نشاء كما نستمتع بأغاني أم كلثوم الدينية. لكنني أشعر اليوم بأن هناك أسرارا غريبة في هذا الكتاب العظيم تجعلنا نشعر بوجوب دراستها والتعمق فيها.

محمود:

شكرا لكم جميعا والمسألة بسيطة. فعلا لا توجد وصية من الله تعالى وهو سبحانه أيضا يشير إلى عدم وجود وصية منه سبحانه. وكأنكم تطلبون تفسيرا كاملا للآيات في هذه الجلسات وهو فعلا غير متاح. ولكن باختصار شديد فإنه سبحانه ذكر قبلها مقولة المشركين هكذا: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139). فهو سبحانه رد عليهم بأنه هو الذي أنشأ جنات معروشات وهو الذي خلق الأنعام ليستمتعوا بها فهل هو سبحانه الخالق لما يحتاج إليه عبيده حرم عليهم شيئا منه وهل أنتم شهدتم بأنه سبحانه وصاكم بأن لا تأكلوا مما تقولون؟ ولذلك فإنه سبحانه أضاف الآية التالية بعد ذلك البيان: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145).

بمعنى أن الرسول عليه السلام لا يرى في وحي السماء له أي حرام عدا ما ذكره ربه في كتابه واختصرها في نفس الآية أعلاه. فالتحريم يحتاج إلى وصية من الله تعالى وهي غير موجودة.

سارا:

ولو تختصر لنا يا عم معنى الآيتين 143 و144 من سورة الأنعام حيث ذكر الله تعالى فيهما بأنه خلق من الأنعام زوجين وذكرها جميعا في آيتين بالاسم.

محمود:

هذا يأخذ بعض الوقت فهل أنتم مستعدون أولا ثم قد لا نتمكن من بيان المسائل الأخرى حول فهم الموعظة والحكمة.

كاترين:

أظن يا عم بأننا لو نتعلم موضوعا واحدا بدقة حتى نفهمها ونستوعبها خير لنا من الاستعجال.

وفي هذا الأثناء انتبه الجميع بأن ماري ذهبت في غيبوبة فكرية وكأنها ليست بينهم. لكن كاترين بكياستها وفطنتها انتبهت للحكاية ولكنها لم تقل شيئا عدا أنها حاولت التحدث عن مسائل غير علمية ريثما تستعيد صديقتها ماري انتباهها. عرفت كاترين بأن ماري شعرت بالخيبة أنها سوف تسافر قريبا وليس لها أن تتعلم المسائل التي بدأوا بها. إنها طبعا لا تدري ما يخفيها لهما القدر؛ لكن كاترين اطمأنت بأن ماري توجهت إلى السماء في تلك اللحظات وطلبت من ربها حاجة. كما ظنت بأن ماري قد تكون طالبة من ربها البقاء قريبا منهم لأنها أصبحت تشعر بالحاجة إلى مثل تلك المجالس العلمية الثرية بالمفاهيم السماوية.

لكن الموضوع لم يقتصر على كاترين بل انتبه الجميع بمن فيهم العم محمود بأن هناك أمرا مهما يجول في خاطر ماري. هي لا تريد الإفصاح عنه ولذلك لم يسألوها واكتفوا بتبادل الإشارات بالعيون والحواجب وقسمات الوجوه وكأنهم يناقشون موضوعا بدون استعمال الكلمات اللغوية.

لم تمض دقائق وإذا بماري تخرج من الجلسة وكأنها تريد استعادة رشدها قبل أن تعود للجلسة. قالت كاترين للحاضرين:

لعلها خرجت لتبكي أو تنعزل عنا ومن الصالح أن نتركها قليلا.

توم:

ما بها يا كاترين؟

كاترين:

أظن بأن ماري الطيبة الصالحة متألمة بأنها سوف تفارقنا ولا أظن بأن الله تعالى ينساها. إنها تسعى للاستزادة من معرفة الله تعالى والاستزادة من تعلم كتاب الله سبحانه.

دعا محمود لها بالتوفيق وأمّن الجميع.

لم تمض دقائق وإذا بها تعود وقد غسلت وجهها وسيطرت على مشاعرها وجلست ساكتة بانتظار أن يستمر العم محمود في بيانه.

محمود:

الآيتان 143و144 من سورة الأنعام تحتاجان إلى فعل البداية إذ لا معنى لأن نقول: ثمانيةَ أزواج دون أن نتحدث عن الفعل والفاعل في بداية الآية الأولى. إذن نبحث عنها في الآية 141 التي تتضمن فعلا وفاعلا هكذا: وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ….. فإذا الآية 143 تعني وهو الذي أنشأ ثمانية أزواج. ثم علينا بأن ننتقل إلى الآية المتوسطة 142 وهي: وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142). ومعناها: وهو الذي أنشأ من الأنعام حمولةً وفرشاً. ثم تكون الآية 143.

فريجا:

ما هو الفرق بين الإنشاء والخلق يا عم؟

محمود:

كل بناء يحتاج إلى تصميمات ومحاسبات دقيقة وكبيرة فإنه سبحانه ينشئها ويخلقها وكل بناء يتطلب مواد أكثر وأهم من المحاسبات فلا يعبر عن إحداثه بالإنشاء. فالله تعالى يُنشئ النشأة الآخرة لأن المواد موجودة ولكنه سبحانه سوف يغير في تركيباتها ويغير بعض خواصها وتصميماتها حتى يبني بنفس المواد عالما قابلا للبقاء الأبدي. العملية بالنسبة له سبحانه أقل أهمية من الخلق الأول فالقرآن يعبر عنها في سورة ق: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15). لكنها تنطوي على محاسبات وهندسة بالغة التعقيد.

نحن أيضا كبشر نعبر عن التصميمات الكبرى بالإنشاء ولا نكتفي بأن نعبر عن إحداثاتنا آنذاك بالبناء. فالأسطى مثلا يمكنه أن يبني مبنى بأربع طوابق بموجب خريطة وتصميم هندسي عادي. ولكنه لا يمكن أن يبني ناطحة حساب دون أن تكون هناك مجموعة من المحاسبات الدقيقة للرياح وللزلازل وللأعاصير والتغير الحراري والكثير من المحاسبات الأمنية مثل مكافحة الحريق والعمليات الإرهابية وكثيرا غيرها. فالمصممون ومختلف المنفذين ينشئون ويبنون ناطحة السحاب. ولذلك فإن الناطحات غير اقتصادية إلا في الأماكن التي ترتفع فيها قيمة الأرض أضعافا بالنسبة للمناطق غير المزدحمة. ومثلها إنشاء المدن والمولدات الكهربائية الكبرى وأنظمة التصريف الصحي وتصريف مياه الأمطار والمصانع الكبرى والمطارات بمختلف أنواعها وما يشابه ذلك فهي كلها مرافق إنشائية.

ماري:

وهي تتحدث بصعوبة وكأن هناك شيئا ينغصها في نفسها:

أظن بأن العم محمود بانتظار أن نقلل من أسئلتنا ليشرح لنا السر في الآيتين 143 و144 من سورة الأنعام. بمعنى أنني وإياكم لا زلنا بانتظار أن نسمع من عمنا الفاضل بيانه لخلق زوجين من كل من النعم التي نأكلها وكأنه سبحانه يريد أن يوضح لنا الفرق بين خلقنا كبشر وخلقهن كأنعام.

العم محمود:

أحسنت ماري بأن أوقفتِ الأسئلة الفرعية وأحسنت في فهمك المهم بأن ربنا في صدد توضيح الفرق بين خلقنا وخلق الأنعام الأربعة.

جمع الحاضرون أنفسهم واستعدوا للاستماع إلى بيان أمر غير عادي من أسرار الخلق التي يتخصص بها القرآن الكريم مما بيدنا من كتب سماوية. ثم قالت كاترين.

كاترين:

أرجو من العم محمود نفسه أن يبدأ ببيان سر الفرق بيننا وبين الأنعام بدون الحواشي والملاحظات الكثيرة الأخرى. نحن اليوم أمام علم غير بشري لنفهم سرا من أسرار الخلق العظمى.

محمود:

أظن والعلم عند الله تعالى بأنه سبحانه حينما يؤكد بأنه خلقنا من أبوين لا ثالث لهما فهو بصدد بيان السر في قدراتنا النفسية على الإدراك وهو ما ننفرد به مع كل الكائنات الأخرى التي نراها ونلمسها. فاتباعا لسنة التطور فإننا خلقنا من آدم وحواء وهما كانا صنفا واحدا في رحم أمهما فكانا أنثيين. ثم قام الروح القدس بتغيير التركيبة الجينية لآدم ليصير ذكرا بمعنى أن الروح أزال منها ما يختص بالقدرة على الحمل والرضاعة التي تتميز بها الأنثى وهي كما تعلمون أكثر تطورا من الذكر. فالروح القدس أزال منها بعض القدرات. ولذلك قال ربنا في سورة آل عمران بأن مثل عيسى كمثل آدم: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59). فعيسى عليه السلام مخلوق من خلية أنثوية لا تحمل الكروموزوم الذكري Y بل كلاهما X . فما فعله الروح في خلية عيسى هو نفس ما فعله في خلية آدم ليفصل بينه وبين حواء. إنهما في الواقع توأمان في بطن واحد ومنحدران من عملية تناسلية واحدة. وضح سبحانه ذلك لنا في الآيات التالية:

1- من سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9).

2- من سورة المرسلات: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا (26). إلى أن يقول: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38).

وهذا يتطلب أن نحب بعضنا البعض ونعيش مع بعضنا البعض. قال تعالى في بداية سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1).

والآية الأخيرة تؤكد أننا لسنا فقط من خلية أنثوية واحدة بل نحن من نفس واحدة أيضا. بمعنى أن الروح القدس نقل الطاقة أو النور الإلهي المباشر فنفخ في الخلية التي صنع فيها آدم من ذلك النور الخلاق ليصنع لآدم نفسا إنسانية شاعرة ثم منح أخته التي أصبحت زوجه فيما بعد نفسا من نفس الروح السماوي الذي خلق منها نفس آدم. هكذا أصبحا يحبان بعضهما البعض بكل عمق. وهكذا يحب الناس بعضهم البعض لولا المؤثرات الأخرى فترى الصيني يتزوج مع الآري والعربي يتزوج مع الأفريقي والأبيض مع الأسود، وهم جميعا يحبون بعضهم البعض بمستويات مختلفة طبعا. ذلك لأن البشر بجمعهم إخوان مع بعض.

علوي:

يا عم أنا متلهف جدا لأفهم الفرق بيننا وبين الأنعام الأربعة فاستعجل في بيان ذلك.

ماري:

شكرا يا علوي؛ فأنا متلهفة أكثر منك لأنني سوف أغادركم قريبا إلى فرنسا.

ولما نظرت كاترين إلى وجه ماري واستمعت إلى حديثها المشوب بالحزن أدركت بأن تفرسها كان صحيحا. إن ماري متألمة من أنها سوف تُحرم قريبا من جلسات قرآنية تحبها بكل عمق. إنها مؤمنة بكل معنى الكلمة. وهي لا تدري ما دعته ماري ولكنها دعت لماري أن يقدر الله تعالى لها البقاء معهم ولتشاركهم مناقشاتهم القرآنية المفيدة.

محمود:

لكن الأنعام الأربعة التي خلقها الله تعالى لنا فهي شبيهة بنا إلا أنها لم تنحدر من والد ووالدة مثلنا. إن كلا منها انحدرت من والدين ووالدتين.

علوي:

أدركت السر يا عم. كان هذا هو الذي ما انتبهت له بدقة فاسمح لي لأشرح الآن بقية العملية لتقوم بتصحيح ما أخطئ فيها.

ابتسمت كاترين وشعرت بالمزيد من الحب لعلوي. قالت في نفسها بأن الله تعالى قدر لها زوجا كانت تحلم به منذ أمد طويل.

وما كان من ماري أن ابتسمت أيضا. إنها تشعر بحب كبير لكاترين وأدركت الآن بأنها اختارت لأختها العزيزة كاترين زوجا لائقا ومناسبا.

لاحظ الجميع ما لمح من كاترين وماري وقرأوا الكثير مما يدور في خواطرهما مع علوي.

محمود:

تفضل علوي.

علوي:

أظن يا عم بأن الله تعالى خلق كل واحدة من الأنعام الأربعة: الضأن والمعز والبقر والإبل كما يلي:

خلق ضأنا أو لنقل قام سبحانه بتطوير أربعة أعداد من نوع حيوان واحد ليصيرا ضأنين ذكرين وضأنين أنثيين. ولنرمز لهما بالضأن ألف والضأن باء ولكل منهما زوجان طبعا. جمع بين الضأن الذكر ألف مع الضأن الأنثى ب لينتج منهما الصنف الثالث وهو الضأن جيم الذكر. ثم جمع بين الضأن الذكر ب مع الضأن الأنثى ألف لينتج منهما الصنف الرابع وهو الضأن الأنثى جيم. ثم جمع بين الضأن الذكر جيم والضأن الأنثى جيم ليُنتجا حيوانات الضأن التي نراها اليوم.

هكذا فإن:

الضأن صنف ألف ذكر    اشترك في صناعة الضأن الجديد بـ 25% تقريبا.

الضأن صنف ألف أنثى    اشتركت في صناعة الضأن الجديد بـ 25% تقريبا.

الضأن صنف ب ذكر    اشترك في صناعة الضأن الجديد بـ 25% تقريبا.

الضأن صنف ب أنثى    اشتركت في صناعة الضأن الجديد بـ 25% تقريبا.

فحيوانات الضأن التي نراها اليوم ليست من صنف ألف بالكامل ولا من صنف باء بالكامل بل هي صنف جديد أسميناه الصنف جيم.

محمود:

أحسنت علوي. العملية بظني تمت كما تفضلت به وأنا ازددت يقينا حينما رأيتك تتحدث وكأنك نفسي. علمت بأننا تفكرنا في موضوع واحد وقد أكرمنا ربنا بفهم صحيح ودقيق لموضوع وراثي معقد لأننا استعنا به سبحانه ولأن الزمان هو زمان ظهور هذه الحقيقة الوراثية.

ولعلكم توافقوني بأن الأنعام تتطور مثلنا أيضا ولكن المؤثرات في كياناتها ضعيفة ومتباينة فهي تتطور ببطئ شديد. لكننا نتطور بسرعة ملحوظة لأن المؤثرات الجينية في كياناتنا قوية وفعالة ومتناسقة. فكروموزوماتنا متشابهة كثيرة لأنها كروموزمات آدم وحواء؛ وما يقابلها لدى كل من الأنعام الأربعة منحدرة من أبوين وأمهين.

وبعد أن تطورنا بحيث وصلنا إلى حد يمكننا التميز بين المدرك وغير المدرك فإن عدالة السماء اقتضت بأن يمنحنا النفس الإنسانية الشاعرة. قال تعالى في سورة البلد: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ (4). الوالد هنا هو أبو آدم وحواء وهما من بطن واحد قطعا والبلد هو مكة المكرمة وهي مكان خلق الإنسان. والإنسان خُلق بالحقيقة في مكان ضيق صغير هو الخلية كما تعلمون. أبونا الأول هو حيوان طبعا وأمنا الأولى هي حيوانة طبعا وهما أبوا آدم وحواء. فآدم وحواء يمثلان المرحلة البدائية من انتقال الحيوان الآدمي إلى إنسان. وأهمية والد آدم (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) هي بأن ذلك الوالد الحيواني الهام تمكن بفعل التطور الكبير في كيانه أن ينتج حوامن أحادية أقوى من حوامنه السابقة. أم آدم وحواء لم تتمكن من التطور الكبير عدا ما توصلت إليه وهي صغيرة حينما كون الله تعالى في كيانها بويضات أحادية استقرت في مبيضها قبل أن تجتمع بالوالد الأول بسنوات أو عقود.

فالتطور من الحيوانية إلى الإنسانية حصل بشكل أوسع في والد آدم وحواء وليس في والدتهما والعلم عند المولى عز اسمه. بالطبع أنكم تعلمون بأن هناك طفرات جينية كبيرة لا تسعني بيانها لأنني لست عالم جينات؛ كما لا أظن بأن علماء الجينات قادرون على تصور تلك الطفرات الجينية. فلعلها تبقى في مكنون علم الرحمن حتى نلقاه يوم القيامة فنسمع منه سبحانه حقيقة تلك الطفرات.

ماري:

وهل تنصحنا يا عم ببيان مسائل يمكننا بها أن نتوسع في تفكيرنا في تلك العمليات الوراثية المعقدة التي فرقت بيننا كبشر وبين أخواتنا من الضأن والمعز والبقر والإبل.

محمود:

بالطبع عزيزتي ماري. تحتاجون بداية أن تدرسوا هندسة الخلايا النباتية وتفرقوا بينها وبين هندسة الخلايا الحيوانية ثم الإنسانية. ثم تلاحظون التالي:

1.                 يجب على الإنسان العاقل أن يبحث عن العلم إن كان صادقا في أنه تواق للحقيقة. وبما أن الله تعالى هو مَلِك الطبيعة فكل ما يُنسب إليه سبحانه لن يخالف الطبيعة.

2.                 لا يجوز للعاقل أن ينسب أمرا إلى الله تعالى إن لم يشاهده بنفسه. ذلك لأن الله تعالى عين عقابا وثوابا لمن يعمل بأمره. فلا يجوز الاعتماد على الكتب والأشخاص وأي شيء آخر دون المشاهدة الشخصية أو الاستناد إلى القرآن الكريم بعيدا عن تفاسير المفسرين.

3.                 بما أنه سبحانه هو مالك كل حركة في الطبيعة فلو وصانا بأمر يجب طاعته وإلا فسنكون مخالفين لسير الطبيعة.

4.                 لا يجوز المخاطرة بالآخرة عقليا اعتمادا على الأشخاص كائنا من كانوا بل يجب اللجوء إلى وحي الرحمن وحده. كل إنسان قد يكذب أو يضل بغير علم فالعمل بقول الناس كائنا من كانوا مرفوض عند الله تعالى الذي منح كل فرد منا العقل والإدراك ووعدنا بالهدى من عنده. نرجع لآية البقرة: اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257). وحينما كان الله تعالى بنفسه وليا فلا معنى لولاية غير الله تعالى.

5.                 يجب التركيز على توارث التطورات الفكرية والثقافة والحضارية ولا يقتصر على تطور المواد البدنية.

6.                 هناك حقيقة نشاهدها فيجب الانتباه إليها حين الدراسة. ألا وهي ما نراه من حب متبادل بين الإنسان والإنسان بصورة عامة مما يدل على تشابه المعالجات النفسية لديهم من الأولين والآخرين وليس بمعنى توافق المعالجات النفسية التي تؤدي إلى التقليد وتباطؤ التطور.

7.                 من المفيد جدا أن نعلم بأن كل التمهيدات الفسيولوجية الأساسية في عامة البشر كانت في واقعها تمهيدا لحشرهم مع بعض أمام الله تعالى يوم الحساب. بالطبع أننا لا نعرف وجه تشابه الجن معنا على أنها سوف تجتمع معنا في موقف واحد يوم القيامة. لعلنا نعرف بعض الشيء عن السر في التكوين الجيني للإنسان المنحدر من سلالة واحدة ولكننا لا نعرف كل ما نحتاج إليه عن الملائكة بمختلف أنواعها؛ وهي جميعها تقريبا تكون واقفة معنا يوم الحساب. بالطبع نعني بكل الأصناف الثلاثة؛ الإنسان والجن مع كثرة أنواعه والملائكة بمختلف أنواعها كل ما يخص كوكبنا الذي نعيش فيه ولا نعني من هم في الكواكب الأخرى.

علوي:

أظن بأننا نحتاج إلى بيان مختصر لموضوع الوصايا السماوية في الجلسة القادمة بإذن الله تعالى قبل أن ينتقل العم محمود التمار إلى الحكم والمواعظ.

كاترين:

فعلا.

ماري:

ومتى تكون الجلسة القادمة؟  

كاترين:

متى سيصل الضيفان الفرنسيان؟

ماري:

غدا بإذن الله تعالى.

كاترين:

فأنت ستكونين مشغولة معهما. فهل ترين أن نجلس بعد غد؟

ماري:

من الأفضل أن ننتظر لنرى ما يستجد من أمر. لكنني من حرصي طلبت تعيين موعد للجلسة القادمة.

كاترين:

إذا يا عم و يا شباب نعين موعد الجلسة فيما بعد. فهل الجميع يحبون الحضور وليس لهم ارتباطات أخرى؟

الجميع:

نحب الحضور وسوف نعالج ارتباطاتنا الأخرى.

تفرق الجميع بانتظار ما يستجد من أمر لدى ماري. خرج الجميع من بيت كاترين وهم يشعرون بالكثير من التعاطف مع تلك الفتاة الفرنسية الرائعة التي تبحث عن حقائق الوجود وتثق في سيد الكائنات عز اسمه.

أحمد المُهري

28/8/2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.