علاج سماوي للكآبة والوسواس

علاج سماوي للكآبة والوسواس

حكى لنا القدوس جل جلاله حكاية النبي أيوب عليه السلام الذي كان مريضا مرضا نفسيا مؤلما. أيوب كان متألما وصابرا وأخيرا طلب من ربه أن يساعده فعلمه ربه ماذا يفعل وشُفي بإذن الله تعالى. فلنقرأ القصة من الكتاب العزيز. قال تعالى في سورة ص: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ﴿41 ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴿42وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴿43 وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴿44.

 وقال تعالى في سورة الأنبياء: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿83 فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴿84.

اشتكى أيوب عليه السلام من مس الشيطان كما اشتكى من الضر الذي مسه. إذن شكوى الرسول الأمين هو من مرض أصابه فسبب له الضر وكان الشيطان هو المسبب. بالتأكيد أن ليس للشيطان سلطان على البشر فهو لن يستطيع أن يمس الإنسان بأذى فيزيائي لا سيما لو كان مؤمنا. لكنه يدعو الناس فيستجيب له البعض هناك يمكن أن يقترب منهم بإشعاعاته فيشعرون بالحرارة وخاصة في الجبهة وبعض النواحي الأخرى من الرأس كما أظن. لكنه يعرف حالات ومواقع بعض الحساسيات لدى الإنسان فيسعى لتخويف البشر من عمل الخير كما يسعى لتشجيعهم على الشر. بمعنى أن الشيطان سلبي يكره الخير ويحب الشر لنا، إلا أنه لا أذن له فيسمعنا ولا عين له فيرانا لكنه يستوحي من نفوسنا بعض الذبذبات الفكرية فيستفيد منها ليضرنا.

فإذا رأيت نفسك خائضا في الأوهام فاعلم بأن الشيطان الآن مترصد لك لأن الأوهام يضيع الإنسان. قال تعالى في سورة الحج: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53). التمني يمثل الخوض في الأوهام. والأنبياء والرسل الكرام يحبون نشر المعرفة وتوحيد الناس تحت لواء التمسك بالرحمن فلعلهم أحيانا يتخيلون النصر والتوسع في الخير. هنالك يشعر الشيطان بأنهم تركوا الحقائق وانحازوا نحو التخيلات ثم الأوهام. فيسعى لأن يُشغلهم بأوهامهم فيبعدهم عن الحقائق. هكذا يُلقي الشيطان في أمنية الرسول كما أظن.

تلك الحالة قد تتحول إلى حالة مرضية لو لم ينتبه الإنسان. لا فرق في ذلك بين إنسان عادي وإنسان رسول. كلهم يتعرضون لوساوس الشيطان. قال تعالى في سورة فصلت: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36). وقال تعالى في سورة الأنعام: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68). وقال سبحانه في سورة الأعراف: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201). فالمتقون يستفيدون من وساوس الشياطين ليزدادوا تذكرا ويزيدوا تذكيرا لأنفسهم ليزدادوا بصيرة وفهما.

فلنعرف ما الذي حصل فعلا لأيوب وكيف أخذ العلاج من ربه. بالطبع أرجو من المهتمين بأن يطلعوا على تفاسير سلفنا رحمهم الله تعالى ولكن لا أحتاج أن يذكروني بذلك، فأنا مطلع على مقولاتهم وداع لهم ولي بالمغفرة من الله تعالى وبالرضوان مقابل سعيهم وسعيي والذي لا يخطئ هو ربنا نفسه سيحانه وتعالى وليس البشر. كيف تأتى للشيطان أن يمس أيوب بالنصب والعذاب. النصب يعني التعب والعذاب يعني الألم احتمالا. كلاهما نفسيان لأن الشيطان ليس مأذونا بأن يصيبنا فيزيائيا بإشعاعاته القوية المحرقة إلا إذا تقربنا إليه وليس الرسل من الذين يتقربون إلى الشياطين قطعا. نعرف بأن مرضه كان نفسيا لأن الله تعالى قال بأنه بعد أن علمه وشافاه فإن الله ضمن نظامه أعاد إليه زوجته وأولاده كما أعاد إليهم زوجهم وأباهم. هكذا أعرف معنى ومثلهم معهم. معنى الجملة بأن أيوب شعر بزوجته وأولاده كما يشعر عامة الناس كما أن الزوجة والأولاد شعروا بأن أيوب قد شفي فشعروا به زوجا وأبا كعامة الناس.

عالجه ربه بأن قال له سبحانه: اركض برجلك. الركض بالرجل هو الوسيلة المثلى للتخلص من الكثير من الأمراض النفسية. وقد وصفه الله تعالى: هذا مغتسل بارد وشراب. المغتسل هنا يعني الذي يغسل ذاكرته المليئة بالأوهام فيتنظف الذهن مما علق به من السلبيات. شراب يعني الدواء في العرف القديم. كانت الأدوية قديماً عبارة عن أعشاب يغلونها ويتخذون منها شرابا علاجيا. فيعني سبحانه بأن الركض بالرجل ينظف الذهن معنويا ويعالج البدن فيزيائيا. ذلك لأن الأمراض النفسية تؤثر في البدن فتضمحل بعض الأعضاء والمواد المساعدة للقضاء على ما يضر بالبدن الإنساني والعلم عند المولى.

وبما أن أمتنا اليوم مبتلاة بالكثير من الأمراض النفسية بسبب عدم اهتمامها بحماية نعم الله تعالى وتسليم كل المقاليد بيد الحكام الذين رأوها فرصة لسلب الناس ونهبهم وفرض العقوبات عليهم وإدخالهم في حروب إقليمية لا داعي لها ولا فائدة فيها. على المرء أن يحافظ على نعم ربه والعقل نعمة سماوية علينا إنعاشه والاستفادة منه وتوسيع نطاق عمله بالمزيد من التفكير الجاد والدقيق. لكننا لا نعمل ونسلم الأمر لغيرنا ليفكر نيابة عنا فنُبتلى بالخذلان مع الأسف.

والخلاصة بأن المثل العربي المعروف: العقل السليم في الجسم السليم؛ صحيح وعلينا بأن نبني أجسامنا أيضا بالركض اليومي على أرجلنا. غالبية المبتلين بالوساوس الشيطانية وبالكآبة هم من الذين يهتمون بنفوسهم أضعاف اهتمامهم بأبدانهم ولا يسترجعون مسألة البدن الذي سبق خلقه صناعة النفس في الخلية أو البويضة الأولى. قال تعالى في سورة الانفطار: يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8). فالخلق يتم حين التقاء الحيمن بالبويضة ثم تُخلق النفس وبعد ذلك يتم التعديل الجيني فتتكامل الصورة الأولى للبدن. نحن في الآخرة سوف نكون بعكس الدنيا. ستكون نفوسنا موجودة قبل أبداننا فسوف يصير البدن ضيفا على النفس.

ولعل السبب في أنه سبحانه يحدد الركض بالرجل على أن الركض لا يتم إلا بالرجل هو أن الأمراض النفسية أصولا تعالج بالتحرك والامتزاج بالناس ورؤية الأشجار والحيوانات وكل ما في الطبيعة. هناك يشعر المرء بوجوده ويحس بجسمه؛ كما يحس بالفرق بينه وبين الكائنات الأخرى فيشكر ربه وينجو من بعض الوساوس التي تضر بالنفس. ثم إن مرور الصور المختلفة أمام العين وتحركَ الإنسان بين هذه الصور يشغله عن التخيلات. لكن الله تعالى لا يكتفي بذلك بل يؤكد الركض بالرجل وليس المرور بالسيارة والمركب. حتى يتخلص المرء تماما من الوساوس ومن الكآبة وبعض الأمراض النفسية الأخرى عليه بأن يركض برجليه ليرى الصور المتحركة أمامه وهو يركض برجليه. وقد عرضت العلاج على أحد أساتذة الطب النفسي في الأمارات فوافقني. قال لي صديقي الاستشاري في أبي ظبي رحمه الله تعالى لو أن المريض يرضى بأن يركض فأنا أرفع عنه أو عنها كل الأدوية. سوف لا يحتاج أو لا تحتاج إلى أي دواء.

وأظن بأني ذكرت ذلك لبعض استشاريي الطب النفسي في بريطانيا أيضا لكنني لا أذكر التفاصيل. وعلى كل حال فاسمحوا لي بأن أوصي المبتلين بالكآبة والوسواس والأمراض النفسية المشابهة ألا ينسوا الركض بالرجل والعبور على مختلف الأماكن ولا يكتفوا بالركض داخل البيت ليروا الصور المتجددة في الشوارع وعلى ضفاف البحار والأنهار والأماكن العامة فقد يشعروا بالشفاء التام أو بالتحسن. يوصي بعض الأطباء بأن العبور في الشوارع مفيد للمرضى النفسيين لأنهم سوف يشعرون بأبدانهم إذا ما واجهوا خطرا قد يمس أبدانهم. فمثلا حينما يريد الراكض أن يعبر الشارع فينظر إلى جانبي الشارع ليتأكد من عدم وجود ما يمس بدنه. هناك يبدأ يستشعر أهمية البدن. أو حينما يريد أن يدافع ضد من أو ما يمكن أن يؤذي بدنه فسيشعر بأن للبدن أهمية كبيرة لحمايته. لأن أهم شيء في المريض النفسي أن يتجاوز حب الذات أو حب النفس إلى حب البدن أيضا والاهتمام به كبدن لا كنفس. قد يهتم المرضى بأبدانهم ليظهروا بمظهر يليق بهم. ذلك حب للنفس وليس حبا للبدن. حب البدن يتجلى حينما لا يهتم الإنسان بما يقول الناس عنه كثيرا بل يهتم بحماية البدن من كل سوء حتى لو تحدث الناس ضده.

حمانا الله تعالى جميعا من الأمراض النفسية.

أحمد المُهري

6/8/2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.