اشكالات القبنجي – المقال الاخير 16-دلائل تنزيل الله تعالى للقرآن الكريم

اشكالات القبنجي – المقال الاخير 16-دلائل تنزيل الله تعالى للقرآن الكريم

دلائل تنزيل الله تعالى للقرآن الكريم

ومن حق السائل أن يسأل عن دليلنا بأن القرآن الكريم هو كتاب الله تعالى وحده لا شريك له، ولم يشترك بشر أو ملك في صياغته أو كتابته بتاتا. نحن نؤمن بأنه كلام خالص للقدوس العظيم جل جلاله. فإليكم بعض دلائلي الشخصية التي أقتنع أنا بها:-

1.   نحن حيوانات ناطقة مدركة نتميز عن سائر الحيوانات برمتها. وبما أننا نؤمن بالله تعالى ونعتقد بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض فإنه هو الذي منحنا النفس البشرية القادرة على التفكير، ولذلك من حقنا أن ننتظر منه أن يهدينا إما برسول نراه أمام عيوننا أو بكتاب نقرأه ونهتدي إلى ما يريده منا كبشر مدركين. فضرورة الكتاب محرزة في أذهاننا ثم نبحث في كل أرجاء الكرة الأرضية فلا نجد كتابا يدعي بأنه كتاب الله تعالى غير القرآن. وإذ لا منافس له حتى بالادعاء فهو كتاب الله الحقيقي. وحينما نبحث عن مختلف القراءات نجد بأن قراءة حفص عن عاصم هي الأشهر فهي فعلاً كتاب الله تعالى.

2.   إن أكبر معيار للصحة هو خلو المحاضرة أو المقالة من الأخطاء والمتناقضات. ونحن نرى بأن لجان علمية من كبار علماء الفنون والعلوم المختلفة يشتركون في إصدار كتاب علمي يتناول شأنا من شؤون العلم ولا يخلو من التناقض أو التضاد. وأكبر دليل على ذلك هو الملاحقات العلمية لكبار علماء الطب والفيزياء والهندسة لمن سبقهم وإثبات أخطائهم. فلا نكاد نسمع عن علاج جديد لمرض من الأمراض حتى تأتي مجموعة أخرى أكبر منهم علما ليقنعوا المؤسسات الحكومية بالمنع من ذلك الدواء لما ينطوي عليه من مضار وآثار جانبية أكثر من المرض نفسه. وهكذا في الصناعات وفي التحقيقات الكونية. لكن القرآن يخلو من هذه التناقضات. لقد سعى الكثيرون لاكتشاف التناقض في كتاب الله تعالى فلم يعثروا. نعم، هناك بعض التطفلات المضحكة من نفر من قليلي العلم أو بعض الادعاءات غير المدروسة من بعض المشاهير قد تدل على تسرعهم وعدم صرفهم الوقت الكافي لفهم الآيات التي ظنوا فيها التناقض. ليس هناك في الحقيقة تناقض واضح في آيات نزلت قبل حوالي 15 قرنا من الزمان. إنني شخصيا تواق لأن أرى ما يدفعني للمزيد من البحث، لكن الكتاب العظيم يخلو من كل تناقض فعلا. لقد استمعت إلى الكثير من أصحاب الادعاءات فرأيتهم يخلطون بين القرآن والأحاديث مثلا. ورأيت بعض الإشكالات النحوية من أناس يسعون لتحميل القرآن ما قرره علماء النحو الذين ظهروا بعد نزول القرآن بفترة طويلة وهم غير متفقين. إن الكثير من الأخطاء النحوية باعتبار المعاني التي ذكرها المفسرون وهي خاطئة. إنني حاولت خلال السنوات التسع أن أحل المشاكل النحوية التي مررت بها فيما يقرب من نصف القرآن الذي فسرته حتى الساعة وأظن بأنني كنت موفقا في سعيي. لكننني لا أؤمن بالأحاديث ولا ألزم نفسي بها. أظن بأن من الخير لأهل العلم الواقعيين أن يتهموا أنفسهم خمسين مرة قبل أن يتهموا القرآن بالخطأِ النحوي.

3.  إن كل كتاب يخاطب مجموعة معلومة من الناس ويسعى لمساعدتهم. فالذين يكتبون في العلوم والحقائق المختلفة مثل الهندسة والطب والفيزياء فهم يخاطبون أهل تلك العلوم، والذين يكتبون للحرفيين والمهنيين فهم يخاطبونهم والذين يكتبون للتسلية أو للصغار أو للفن فهم يخاطبون مجموعات من الناس. والذين يتحدثون عن الأديان والمذاهب فهم يسعون لبيان ما يفيد المتدينين والمذهبيين وأتباع مذهبهم. لكن القرآن يخاطب كل الناس في الواقع وغالبا ما يدعو الجميع وأحيانا يخاطب الجن والإنس. إنه يدعو الناس جميعا للحج ويأمر المنزل العظيم عبده إبراهيم ليجهز مكة لاستقبال السواح من كل البشر. يدعو القرآن محمدا أن يخاطب المشركين والكافرين ويدافع عنهم ويحبهم ويسعى لتعليمهم. إن القرآن يدعو كل الأنبياء أن يكونوا إخوانا للمشركين والكافرين بعكس كل المذاهب والأديان المعروفة. لا يفرق القرآن بين دين ودين ولا بين ملة وملة ولا بين لغة ولغة. إنه يعتبر العربية التي أنزل فيها القرآن للسهولة فقط ولا يعطي أية ميزة للعربية. لنقرأ آيتين من سورة الدخان: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)؛ والأخرى من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62).

4.   يتوق الإنسان بطبيعته إلى السلام والأمان. وحينما يقرأ القرآن فاحصا ممعنا يجد بأن هذا الكتاب يوافقه تماما. إنه يمنع من القتل إلا للقاتل أو الساعي لموت الناس عن طريق إفساد الأرض. لا يُجيز القرآن التعرض لأي إنسان باعتبار مبادئه أو دينه الذي أوجده أو اختاره لنفسه. فالقرآن يحكم على القاتل أو من في حكمه بأن يموت ولا يحكم على غيره بالموت. والذي في حكم القاتل موضح في الكتاب أيضا وهو الذي يسعى فسادا في الأرض. ذلك باعتبار أن الناس يعيشون على خيرات الأرض بإذن ربهم، فتخريب الأرض في حكم التسبب في المجاعة والعرى والأمراض السارية وهي من دواعي الموت والقتل العام. يمنع القرآن من التعرض للمرتد أو الذي يسب الله تعالى ورسوله أو الذي يرفض أولياء أمور الناس ويسعى لإبعادهم عن السلطة. إنه يمنع من أن نمس بدن الذي يسعى للتبشير ضد الدين أو الله تعالى إذا لم يمس أبدان الناس بأي أذى. هذا ما فعله السامري فقال له رسول الله موسى: اذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس (طه 98). فأطلق سراحه بل لم يسجنه واكتفى بالاستفسار عن أهدافه. إن السامري لم يمس بدن أحد فمن حقه في الحياة الدنيا أن يدافع بذلك عن نفسه ولكن لله تعالى معه أمر وشأن آخر يوم القيامة. فالقرآن فعلا كتاب السلام من السلام جل جلاله.

5.   يتسرع الكثير من المنتقدين للمسلمين في فهم الكتاب السماوي فيقعون في الخطأ. فمثلا يظنون بأن القرآن يأمر المسلمين بقتل المشركين أينما كانوا ولذلك يقوم بعض المنتمين إلى الإسلام بقتل الناس ظلما وعدوانا بحجة القرآن. وليس في القرآن أي أمر من هذا القبيل. كل ما في المسألة أنه سبحانه يأمر الذين آمنوا وهم الصحابة في حضور الرسول فقط بأن يترصدوا للإرهابيين فيقتلونهم أينما وجدوهم متلبسين بالجرم المشهود كما يقال أو في حين ارتكاب الإجرام. يخلو القرآن من أي إذن عام للمسلمين ولا للرسول بالقتل إلا في قضايا خاصة بأمر الله تعالى. دققوا في سورة التوبة فهي تتحدث عن مجموعة خاصة من المشركين وليس كل المشركين. يقولون بأن القرآن كان يدعو للسلم في مكة وقليلا في المدينة ولكنه يدعو للقتل بعد فتح مكة. إنهم يشيرون إلى قضايا مختلقة كتبها الأفاكون مثل قصة قتل يهود بني قريضة وغيرها. كل هذه القصص غير قرآنية وقد كتبها الملوك لتبرير مجازرهم. ليس هناك أي فرق بين تشريعات وأوامر ما قبل فتح مكة وما بعده. أقول ذلك بعد فحص وتمحيص والحمد لله تعالى وبانتظار من يتحدث إلي ويحاورني علميا بعيدا عن مخطوطات البشر طبعا.

6.   لا ينطوي القرآن على أية دعوة لأي شخص غير الله تعالى. فالقرآن لا يدعو إلى محمد أو بقية الرسل فضلا عن بقية الناس ويرفض القرآن أن يقوم رسل الله بالدعوة إلى أنفسهم أو بأن يكون لهم أمر غير الدعوة إلى الله تعالى وبالقرآن والكتب السماوية فقط. وكل المفاهيم القرآنية تحمل نبرات جادة تدل على ثقة الذي أنزلها وعدم خوفه من انكشاف خطأِه. كما أن القرآن يدعو أتباعه بأن يقرؤوا كل ما كتبه الآخرون مع القرآن ويختاروا طريقهم بأنفسهم. فليس في منطق القرآن كتاب أو بحث محرم ولا يتَّهم بقية الكتب بأنها كتب ضلال أو ما شابه ذلك. كل ما يقولونه عن كتب الضلال تقولات متعسفة من عندهم ولا تمت إلى القرآن بأي ارتباط. 

7.   كل الكتب تنطوي على مديح وتقاريظ منضدة ومعرفية لمؤلفيها ولو بالإجمال أو الإشارة. لكن القرآن لا ينطوي على أي مديح أو تبريرات للرسول ولا لبشر. هناك الكثير من التهديدات للرسول نفسه في القرآن والقرآن يدعوه لأن يتعلم ويزداد علما ويعلمه بأن يدعو ربه لمساعدته. فلو كان محمد مؤلفا للقرآن لما رأيناه يهدد محمدا في الدنيا والآخرة. ليس في القرآن أي ثناء لأي بشر أو شخص وإنما يبين أحوالهم فقط. حتى قوله للرسول بأنه على خلق عظيم فهو ليس من باب الثناء ولكن من باب تشجيعه على المضي في أخلاقه الجميلة التي ترضي الله تعالى وتساعده على نشر الدعوة إلى الله سبحانه. كانوا يتهمونه بالجنون فيقول له ربه بأنهم مخطئون وليس ما تقوم به جنونا فأنت لست مجنونا بأن الله تعالى أنعم عليك بالعلم والهدى ولكنك إنسان عظيم الأخلاق. وأما الصلاة عليه فهو دعاء وليس ثناء ولقد صلى الله تعالى على كل المؤمنين قبل النبي في نفس سورة الأحزاب. لقد أخطأ الرسول مرة في تعامله مع أعمىً فلم يتركه القرآن دون أن يوضح له ولغيره الخلل في تعامل الرسول مع الدعوة، وضمَّن القول المزيد من التهديد له.

8.   ليس في القرآن أية شهادة بالسيادة لأحد أبدا، فيما عدا السيادة العشائرية ليحيى باعتباره سيد قومه وهو من بني إسرائيل المؤمنين بالعشيرة والعائلة. فليس في القرآن أي ذكر بأن أحدا سيد على أحد أو أشرف من أحد أو أفضل من أحد. كل اختيارات القرآن واصطفاءاته بعيدة عن المديح والثناء. إنه اصطفى الرسل كما اصطفى بني إسرائيل وكلهم يمرون بالاختبار طيلة حياتهم الدنيوية. ولا ينطوي القرآن على أي غلو أو أي تحطيم لشخصية أحد. إن أكبر أعداء الله تعالى بين البشر هم الظالمون والله تعالى يتناولهم بكل حكمة وعقلانية. إنه يبعث نبيين إلى فرعون مصر الذي قال لقومه: أنا ربكم الأعلى. يأمر الله تعالى رسوليه بأن يقولا له قولا لينا على أمل أن يتذكر أو يخشى. واتخذ سبحانه من فرعون نموذجا لبقية الظالمين بأن السعي لهدايتهم أمر غير مجدٍ.

9.   يسعى القرآن الكريم لإقناع الناس بأن الله تعالى عادل لا يمكن أن يُخالف العدالة وسوف لا يكتفي بها يوم الحساب بل يضع الموازين القسط ليوم القيامة. إن القسط أدق بكثير من العدل، فالعدل يعني التوازن في التعامل والتقسيم ولكن القسط يعني التساوي في التعامل والتساوي في التقسيم بين أصحاب الحق. ثم إنه سبحانه يُعاملنا كأب رءوف ودود فيذكر خشونة الحياة الأخروية لمن ظلم وأترف في الدنيا في مقابل نعومة الفردوس لمن تواضع للبشر وقنع في حياته الشخصية وأنفق على المحتاجين وخضع للحقيقة وآمن به بإخلاص وتضحية. وقد أمرنا بأن ندعوه أحيانا كما نطلب من آبائنا كما في سورة البقرة: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ (200). وأرجو الانتباه بأنه تعالى أن يكون أبا لأحد بل هو من مظاهر رأفته. يقدم سبحانه أشد التهديدات ليضمن خوف أكبر نسبة من الناس من عذاب الجحيم فيدخلهم في رحمته يوم الحساب. يخاطبنا الله تعالى بلحن الطلب وبلغة النصح المخلص أن نفكر في مستقبل حياتنا ولقائنا مع سيد الكائنات الذي لا يمكن أن يظلم أحدا أو يفضل أحدا على أحد دون أن يستحق. يقول لنا الرحمن بأن لغته يوم الحساب ليس كلغته في حياتنا الدنيا لنخاف ونخشى ونطلب رحمته ورضوانه. ويتضح من ذلك بأنه سبحانه يريد أن يُكرم ويرحم ولا يريد أن يعذب وينتقم. لو كان يحب الانتقام لتركنا نفعل السيئات فيعاقبنا على مخالفتنا معه. إنه فتح باب التوبة على مصراعيه للجميع. قال تعالى في سورة الزمر:قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (54). ثم يهدد بالعذاب بعد الدعوة لنخافه فنسعى لأن نكون طيبين مسالمين نحب الناس جميعا كما كان رسله وأنبياؤه الكرام.

10.       كل القرآن يهدي للتي هي أقوم ولا يمكن أن يجد فيه أحد مسألة تمويهية أو مضللة. كل التأويلات الباطنية غير مستدلة وغير صحيحة. وكل الجمل القرآنية جامعة مانعة. يمكن للمتتبع وبكل سهولة أن يكتشف كذب التأويلات الباطنية. بمعنى أن التأويلات ليست فقط بلا دليل بل القرآن يردها ويرفضها بصراحة. غاية ما هنالك أن يفكر فيه المحققون ليكشفوا زيف ادعاءات أصحاب الأغراض والمقاصد. نحن الذين نسعى لفهم القرآن فإننا بصورة طبيعية نرفض أي تأويل باطني باعتباره لا يحمل دليلا من القرآن، لكننا إلى اليوم لم نجد ادعاء باطنيا لا يسعفنا القرآن بالرد عليه إضافة إلى عدم وجود دليل لهم. هذا فعلا إعجاز في حد ذاته بأن المعاني واحدة ولا يمكن اللعب فيها. بالطبع أن القرآن يمنع من التجزئة والتعضية ويهدد القائمين بها. قال تعالى في سورة الحجر: كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93).

11.       ينطوي القرآن على شجاعة خارقة تفوق كل الأعراف البشرية في بيان المسائل. إنه يتحدث بكل شجاعة وصراحة عن علاقة الرجل بالمرأة ويدخل في أعماق الروابط، في غرف النوم المشتركة في الحالات الحيوانية الخاصة بلسان بديع لا يدعو إلى الضحك والسخرية، بل يجعل المرء يفكر في تلك المسائل. إنه يشعرنا بأهمية تلك العلاقات أكثر من أن يُشعرنا بلذتها. حتى حديث القرآن عن اللذات الجنسية حديث علمي يعبر عن ضرورة تلك اللذات ليتحمل المرء تبعاتها من التكاثر والتربية وكسب وصرف المزيد من المال والراحة. لا يشعر مفسر القرآن بالقرآن بأي نوع من الخجل وهو يحدث الصغار والكبار إناثا أو ذكرانا، من أولاده وأقاربه أو من الغرباء حينما يصرح أمامهم بمعاني العلاقات الجنسية بلغة القرآن. ليس في القرآن أي موضوع يدعو للضحك أو السخرية. كل الآيات جادة ناصحة أمينة في بيان أعماق الحقائق. ولذلك لا يمكن التعامل معها بدون الحيطة والجد والسعي الحثيث للمعرفة.

12.       ينبئنا القرآن وبكل شجاعة وبدون حذر عن أن أبناءنا أعداء لنا. إنهم يأتون لنخرج، يحيون لنموت، يستمتعون لنضحي في سبيلهم. ومع ذلك يقول بأن حبنا لهم حب طبيعي صحيح في مكانه. كل المسائل في القرآن صريحة ومتجلية للأبناء والآباء دون أن يخشى من أن يتجاوز أحد على أحد.

13.       يتناول الكتاب الكريم حقوق المرأة بكل صراحة وعدالة. لا يمكن أن ترى في القرآن أي تفريط في حقوق الرجل أو في حقوق المرأة. لقد فسرت سورة النساء بالكامل في 91 محاضرة أسبوعية. وكان الحضور من الرجال والنساء الأكفاء المتعلمين والذين يخدمون في مختلف المجالات العلمية من الطب والهندسة وبقية المهن. ناقشنا معا كل المسائل بكل صراحة وجدية ولم نجد فيها ما يفرق بينهما في الحقوق. كلها تسعى للتعادل وللإنصاف والتعاون بينهما. إنها تمنع من التعالي والترفع على المرأة وتعالج الفروق بالحكمة. ومن الغريب أن يحدد الله تعالى في هذه السورة التي أنزلت للنساء، مسائل القتال الخاصة بالرجال. ذلك ليبرر حديثه عن الزواج المتعدد باعتبار أن الرجال يموتون في الحروب ويخلفون نساء وبنات يتامى بمعنى العيش بدون معيل. فهو في سماحه  للزواج المتعدد يعالج قضية العنوسة أو الحياة اليتيمة ولا يفتح مجالات التمتع الجنسي كما يظن مرضى الجوع الجنسي. وقوله مثنى وثلاث ورباع لا يعني إلا الاكتفاء بالثانية لو ارتفعت المشكلة بها في المجتمع ثم الثالثة لو بقيت المشكلة وبقيت إناث في حال اليتم والوحدة. والعدالة المذكورة في الآية لا تعني العدالة بين النساء كما فسره الرجال بل تعني العدالة بين الرجل وزوجته التي تعيش معه بأن تكون راضية ومنسجمة مع زوجها في إحضار زوجة جديدة بقصد مساعدتها وإخراجها من الحياة بمفردها. إنه سبحانه يؤكد في نفس السورة بأن العدالة بين النساء غير ممكنة فكيف يتوقع مثل تلك العدالة في آية تعدد الزوجات؟

14.       يتحدث القرآن بكل قوة عن الحقائق العلمية الموجودة والتي ستحصُل في المستقبل مثل الدمار الشمسي والدمار الكوني وفقدان الجاذبية بالكامل. كل ذلك بقوة لا يمكن أن نتصورها حتى في الذين يكتبون القصص الأسطورية ويسمونها الأساطير. ترى بأن الذي يسمى كتابه أسطورة مكتوبة لغرض الفكاهة أو تفتح الذهن فهو يتحدث باستحياء ولكن القرآن بقوة يقول بأن الله تعالى يدمر كل المجرات ويطويها جميعا في قبضته. إنه سبحانه لا يخاف أبدا أن ينكشف أي خلاف عقلي في كتابه لأنه فعلا لا يتضمن أي مخالفة عقلية. إن قوة الحديث دليل واضح على ثقة المنزل العظيم فيما يقوله وهو خاص بالقرآن. لا ترى في الأرض أي كتاب يستعمل قوة الإلقاء ويمنح الثقة للقارئ بكل صلابة غير القرآن. حتى الذين لا يدركون أعماق القرآن فإنهم يتقبلون عظمة القرآن. ولذلك ترى أعداء القرآن يتحدثون بحذر وخوف ضد الكتاب الكريم. وحينما نحلل كلمات وجمل المستهزئين بالقرآن نراهم لم يأتوا بجديد بل استهزأوا بمناطق القوة في القرآن دون أن يشعروا. أنا أشعر حينما أرد على أحد المستهزئين بأنه صرف وقتا كبيرا ليركب الجمل بعضها على بعض بهدف الاستهزاء ولكني أصرف وقتا قليلا للرد عليه. أشعر بأن القرآن بنفسه يساعدني على دحض ادعاءاتهم وأشعر بأن الذين انحرفوا عن القرآن وتوسلوا بالأحاديث وغيرها هم الذين يقفون عاجزين أمام المستهزئين ولست أنا وأمثالي من أتباع القرآن. وأكثر من ذلك فإن المستهزئين يزيدوننا علما ويفتحون علينا أبوابا جديدة لفهم القرآن العظيم ولا ينقصون منا شيئا أبدا.

15.       يكتب العلماء كتبهم أحيانا بإيجاز يحتاج معه الشخص إلى المزيد من التفصيل لفهم موجزاتهم. وحينما يقرأ المرء بيانهم أو بيان تلاميذهم للموجز الأصلي يشعر بأن الموجز كان ناقصا أولا. ثم يشعر بأن البيان أو الشرح قد وضح الموجز بجمل لا نحتاج معها إلى مزيد من التفكير. ولكن القرآن بعكس ذلك تماما. توجز السور الصغيرة التي جاءت قبل السور الكبيرة الكثير من المسائل العلمية التي جاءت فيما بعد بشكل سور كبيرة. وحينما نقارن بينهما نشعر بكل ثقة بأن السورة الصغيرة لم تكن ناقصة بل أوصلت رسالتها بالكامل ولكن السور الكبيرة توضحا وتبينها بالمزيد من المعلومات. ثم نشعر بأن معاني آيات السور الكبيرة التي تبين معلومات السور الصغيرة، تتطلب المزيد من الفكر والإمعان لمعرفة معانيها. فلو ننظر إلى سورة الحمد مثلا تاركين وراءنا تأويلات المفسرين الباطنية فإننا نراها فعلا تختصر أهداف سورتي البقرة وآل عمران. فالحمد تتحدث عن الله تعالى واللقاء مع الله ولزوم التمسك بهما للفوز. وهذا هو مطلب البقرة وآل عمران معا اللتان تفوقان الحمد أكثر من 330 مرة من حيث عدد الكلمات. وحينما نمعن في آيات السورتين فإننا نحتاج معهما إلى أن نصرف المزيد من الوقت لفهم مقاطعهما. إنني شرحت الحمد في ثلاث محاضرات من ضمنها شرح البسملة، وشرحت آية الكرسي وهي أقل من ضعف الحمد في خمس محاضرات وشرحت ألم في 11 محاضرة. كنت أشعر بأن التلاميذ فهموا سورة الحمد أكثر من آية الكرسي ولعلها أكثر من ألم أيضا! هناك عرفت بأني كنت مخطئا حينما ظننت بأن السور الصغيرة أكثر إيجازا من الكبيرة تبعا لطبيعة الفن الكتابي. وأجمل مثال للمقارنة هو ما نعامل به أطفالنا في الصغر فيظنون بأنهم عرفوا كل شيء ثم إذا كبروا بدأنا نفسر لهم ما تعلموه في الابتدائية بتفصيل لا يمكنهم أن يعرفوا بيان كل ما تناولوه في الصغر. هكذا تعامل الله تعالى مع المسلمين بأن أرسل لهم سورا صغيرة بديعة وجميلة ثم أعقبها بسور علمية كبيرة مليئة بالمسائل العلمية. ومن المستحيل أن يتمكن كاتب من الجمع بين التربية العلمية للصغار والتحليل الفلسفي للكبار في كتاب واحد. يشعر الذي يفسر السور الصغيرة قبل الكبيرة كما فعلنا نحن بأنه يحتاج إلى أن يعود إلى السور الصغيرة ليدقق فيها مرة أخرى ويتعرف عليها على أساس معلوماته الجديدة المستقاة من السور الكبيرة وهكذا العكس.

ونكتفي بهذا القدر من الدلائل لبيان معجزة القرآن الكريم.

وختاما أعتذر من الأخ الفاضل القبنجي ومن الدكتور سروش وأخي الصديق الجديد بأنني تناولت مقولاتهم بقلم الرد الجزئي لا بقلم الموافقة الكلية. إنني أحبهم جميعا كما أحب كل الذين يصرفون وقتهم للبحث والتحقيق فأرجو منهم أن ينظروا إلى ما كتبته بعين الفحص والبحث لا بعين العداء والرد. فلو رأوا فيما كتبته رشدا فلا يخالفوه خدمة للحقيقة. وأكون شاكرا لهم إذا أسعفوني بذكر أخطائي لأصححها فنحن جميعا بشر نخطئ ونصيب وأتمنى أن يكون الله تعالى من وراء قصدي.

أحمد المُهري

7 فبراير 2011

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.