يوسف أيها الصديق ح 24 – الامة والام و منام الملك

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 24 – الامة والام و منام الملك

المنام الذي رآه الملك كان مناما صادقا ولذلك اعتنى به لشعوره بأن هناك مسألة خطيرة وراء تلك الرؤيا. ثم إنه دليل واضح على أن الملك كان يؤمن بالله وبأنه تعالى يدير الكائنات ويدبر أمورها من الغيب.

ليس هناك ملحد يؤمن بالأحلام الصادقة. إنه رأى شيئا غريبا يخالف الصور الذهنية تماما. ليس البقر من آكلات اللحوم حتى تأكل البقر. لقد حاولت أن أتصور كيفية أكل البقر للبقر فما اهتديت. لنتصور أن نرى أسدا في المنام فسوف نخاف ولو رأيناه يفتك بفريسته فسنزداد خوفا ولو رأينا قطة آكلة للحوم تأكل أسدا فسنزداد رعبا ولو نرى ما رآه الملك فسوف نفزع.

فليس أكل البقر من شأن البقر ولا يقوى النحيف على أكل السمين. ثم إنه رأى السنبلات و عدَّها وهو شيء غريب أيضا. فلا أحد معتاد على عد سيقان الزرع لكنه عد السنابل بنوعيها وانتبه للناتج وتمكن من وصف ما رآه في النوم بكل دقة. هذه رؤيا يندر أن يُرى مثلها.

كان الملك خائفا جدا مما رآه في منامه ويلتمس رأيا من المحيطين به ليساعده على تخمين المستقبل. إن الملوك يعيشون على التدبير للمستقبل ليضمنوا ملكهم، فهم يشعرون بالخطر الكبير المستمر على ما بيدهم من قدرات لعلمهم بوجود أطماع كبيرة ضدهم. فهم يهتمون بإدارات التجسس ليستعدوا لما يمكن أن يواجهوه؟

كان ملك مصر على رأس أكبر دولة في الأرض في زمانه، وقد رأى في منامه الشخصي ما أفزعه.

ولذلك لم يطلب شخصا خاصا بل تكلم مع كل الحاشية حتى أن الخدم والسقاة سمعوه وشعروا بما يحيط بالملك من ذعر. ويُطلَق الملأ لغويا على كبار الحاشية الذين يملؤون العيون ولكنه هنا تحدث مع كل من رآه كما يبدو وسمح لأي منهم أن يشير عليه.

لعل الملك من فزعه خاطبهم جميعا بالملأ ليهتموا كلهم بالمسألة أو أن كل واحد منهم ملأ عيني الملك أملا بأن يأتي له بنتيجة وكانت فراسة الملك في محلها. فلولا ذلك لم يكن ممكنا أن يصل الدور إلى ساقي الخمر لديه.

إن الموقف شبيه بحالة الملوك حينما يسمعون عن استعدادات حربية لغزو بلادهم ويرون أنفسهم على وشك مواجهة قد تفضي بهم الى الزوال. هناك فإن كل المستفيدين من الملك يهتمون لأن العدو أجنبي ودخوله بلادهم يعني فناءهم جميعا.

إنهم لا يعلمون شيئا عما سيحل بهم لأن الخبر أتاهم عن طريق الرؤى التي تحتاج إلى تفسير دقيق. الكل يخشى من أن يتفوه بكلمة فقد تكون خاطئة ولا يمكن تحمل عواقبها.

وقول الملك لهم: أفتوني في رؤياي، ينطوي على استعطاف وطلب خاضع للمساعدة من كل من يقوى على ذلك. فالاستفتاء يعني جهل المستفتي وبأنه ينظر إلى من يخاطبه نظرة استرحام لإخراجه من ظلمات الجهل إلى نور العلم في الجزئية التي يطلب فهمها. واشتراطه: إن كنتم للرؤيا تعبرون، يشتمل على شرط حازم بأن لا يتفوهوا بلا علم.

بالطبع أنه يعرفهم جميعا ولولا ذلك لما اختارهم حاشية له، و يعرف بأنهم ليسوا من أهل تعبير الرؤيا ولكنه يريد منهم أن يستعينوا بمن يعرف الرؤيا ولا يستعجلوا ولا يذكروا رؤيا الملك لمن لا يعرف تعبير الرؤيا. أظن بأنه كان يبحث عن نافذة أمل تُفتَح أمام عينيه ليرى من خلالها بصيصا من الأمل، ولذلك أشعر بأن جواب الملأ  كان مخيبا لآماله. إنهم جميعا اعترفوا بانعدام حيلتهم في هذه المسألة، حيث:

قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ﴿44﴾.

والضغث كما قال صاحب الصحاح: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. ولذلك قال اللغويون العرب بأن أضغاث الأحلام، تعني الأحلام المختلطة التي لا يمكن تفسيرها.

فكأنهم قصدوا أن يُبعدوا شبح الخوف عن ملكهم المذعور بأن ينسى منامه وأن لا يعتد به. لكن الملك الذي رأى المنام وشعر بأهميته نتيجة أنه اشتغل في المنام بِعَدِّ ما رآه عدًّا دقيقا ورأى بأن هناك تطابقا في الأعداد لكل ما رآه.

ثم إنه شعر بأن الرؤيا كلها كانت دقيقة متناسبة لم يتخللها أي خلط أو عدم وضوح فلا يمكنه قبول ما سعى إليه أفراد حاشيته.

من هنا نعرف بأن يوسف قد أخطأ خطأ كبيرا بأن ظن أن عليه أن يسعى لتكميل المسيرة التي بدأها ربه وأحسن ترتيبها. أخطأ حينما لم يتعمق في توكله على الله تعالى فانطلق بعجلة واضحة يطرح تصوره عن تغيير مصيره عبر إطلاق العنان للتعبير عن حاجاته لسجين لا يعرفه.

وحينما نقارن بين المسائل العلمية التي ذكرها لصاحبيه ومقولته غير المدروسة لأحدهما في غياب الآخر نشعر بالهوة السحيقة بين الذي قاله بالأمس والذي قاله فيما بعد.

فهو بكل قوة أثبت علمه وتفوقه في التقوى وبأنه موهوب وبأن الله تعالى علمه ما لم يعلمهما. ثم فسر لهما مناميهما بدقة وذكر لهما السر في أمر التوفيق بينهما بكل وضوح وتميّز. لكنه تسرع وتخلى عن كبرياءه أمام سجين ينظر إليه بإعجاب، ليستميله و يستعطفه.

وكان سببُ نسيان الساقي طلبَ يوسف هو ما أوحاه يوسف إليه من شخصية محطمة لا يعرف كيف يتخلص من السجن فيتشبث بكل شيء.

لم يذكر الله تعالى بأن الشيطان أنساه التحدث عن يوسف ولو أن للشيطان دورا بلا شك. فيا ليتنا نحن المسلمون اليوم نعرف بأننا لو نوكل الله تعالى ليتولى أمورنا ونكتفي بأن نتعرف عليه من خلال قرآنه العظيم فنسعى لإرضاء ربنا لكان خيرا لنا. إن الكثير من أساليب المقاومة لدينا خاطئة وغير صحيحة، كما أن الكثير من ادعاءاتنا الإعلامية وهمية. هناك خلط كبير بين تعريفاتنا لمسائلنا المصيرية اليوم وبين معارف القرآن الكريم ويجب تصحيحها جميعا. يجب الدقة حينما نتحدث عما وراء الطبيعة وحينما ننسب شيئا إلى الغيب وإلى تقديرات رب العالمين وإلى الثواب والعقاب، حتى لا نقع في حبائل الشياطين فنخسر رحمة الله تعالى.

فلننظر كيف دبر الله تعالى نجاة يوسف على يد نفس الشخص الذي طلب منه يوسف بجهل وتسرع أن يساعده. لنرى كيف حقق الله تعالى القوة والسلطان ليوسف السجين في أجمل تقدير. لنتصور اليأس الذي طرأ على الملك المذعور، فرعون مصر العظيم بعد أن سمع جواب الجهل من وزرائه و من أقرب حاشيته وفيهم العزيز صاحب يوسف بالطبع. هذه ساعة تذكر الساقي الذي ليس من كبار المسئولين ليفتح باب النجاة لفرعون مصر. هكذا يدبر الله تعالى الأمر:

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴿45﴾.

نفهم من الآية الكريمة هذه بأن تفسير يوسف لمنامي صاحبيه في السجن وظنه بمآل أمرهما كان صحيحا وقد تحقق فعلا.

فالآية توضح بأن أحدهما نجا، وتشير إليه بـ “الذي” وهو يعني فعلا بأن الله سبحانه يشير إلى ما ذكره من قبل وهو تفسير يوسف للمنامين ليحل محل تفسيرهما بنفسهما لحلميهما. فالذي نجا في مقابل الذي هلك. ثم تذكر الآية الكريمة مسألة تدبيرية أخرى وهي أن الله تعالى قدر للذي نجا منهما ألا يتذكر يوسف قبل الوقت المحدد.

إن عنصر المفاجأة في الوقت المناسب هو الذي سيحفز الملك أن يعين سجينا لا يعرف عنه سوى أنه عبد مملوك لأحد وزرائه، أن يعينه وزيرا بصلاحيات كبيرة.

وليس غريبا إن قلنا بأن الساقي الخاص للملك رأى القصر في حيص بيص من رؤيا الملك. عاشوا الرعب لما لمسوه من رعب وحذر في ملكهم. هنا أراد أن يقوم بخدمة لأسياده ففكر كما فكر غيره فتذكر قصته وصاحبه مع يوسف. وكأن الله تعالى أراد له ألا يتذكر قصته مع يوسف قبل ذلك اليوم، فأنساه الشيطان ما قاله له يوسف عمليا. ومعنى “ادكر بعد أمة” هو تذكر بعد فترة مقصودة من الزمان.

ولنحلل ما قاله صاحب السجن بعد أن ندرك مفهوم الأمة .31

(هامش 31 :   أظن بأن معنى “الأم والأمة” يعود الى مفهوم “القصد” وكل المعاني مشتقة من المعنى الأساسي. فالأمة تعني: المجموعة المقصودة من الزمان ومن الناس. وأما الأم فهي تعني الهدف المنشود والمقصود.

 هذا ما أفهمه من استعمالات الكلمة في كتاب الله تعالى وكما يلي: 

1.      الأم في مقابل الأب: وقد وردت كثيراً في آيات الكتاب باعتبار أن الله تعالى خلق الناس من ذكر وأنثى ليجعل من جنس الإنسان من يقوى على القيام بأعباء التكاثر، فهي مقصودة لهذا الغرض ولو أنها مليئة بالمحاسن الأخرى التي تجذب بني جنسها من الرجال العاجزين عن صناعة الإنسان إلا في حدود المشاركة معها. ولقد أثبت الله تعالى قدرة المرأة أن تكون أما بدون أب، من خلال حمل مريم بعيسى دون زواج.

2.      الإمام: وهو الذي يسبق من دونه في القيام بعمل عبادي كالصلاة والحج بقصد تعليم الناس أو توحيد صفوفهم.

3.      الأمة: وهي المجموعة المختارة من القرن لتستضيف نبيا يبعثه الله تعالى من بينهم رسولا له سبحانه. وذلك بقصد اتخاذ الشهود والنماذج منهم لمقايسة الآخرين عليهم يوم القيامة. والقرن تعني المجموعة البشرية المتكاملة القادرة على الحياة الطيبة المواكبة للعصر دون الحاجة لأن تُدار من قبل الغير. وتتشكل القرون عادة مقرونة بنوع من الحضارات البشرية كالفراعنة وقومي عاد وثمود المعروفين بالحضارة العمرانية والبابليين المعروفين بالحضارة الزراعية وأهل مدين المعروفين بالتجارة والفينيقيين المعروفين بالملاحة والتجارة عبر البحار. قال تعالى في سورة النساء:

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41).

فلكل أمة شهيد والرسول شهيد على صحابته الذين أشار إليهم القرآن الكريم بـ “هؤلاء”. وهي تعني بأن شهداء الأمم هم رسل أيضا. وبما أننا لا نرى في كل زمان ومكان رسولا فإن الأمة مصطلح قرآني يدل على الذين اصطفاهم الله تعالى لإنزال الدين السماوي عليهم ليكونوا نماذج لغيرهم. وعلى هذا الأساس لم يبعث الله تعالى رسولا لكل قرية والعلم عند الله تعالى.

4.      السياحة المقصودة الهادفة: سمى الله تعالى مكة أم القرى. والقرية تعني المكان الذي يُستضاف فيه الناس باعتبار أن كلمة قرى تعني ضَيّف. فالقرية لو تطلق على المكان فهي باعتبار من يسكنها. قال تعالى في سورة الطلاق:

 وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا (8).

وكانت مكة مكانا لخلق آدم وحواء والأنعام الثلاثة الصغيرة التي خلقت مع الإنسان مكانيا وقبله زمانيا ليتخذ منها طعامه. فأول بيت وضع للبشر هي مكة فهي بطبيعتها أمٌ لجميع الأماكن التي تستضيف البشر في الأرض. ولكن ميزة مكة أن الله تعالى أراد أن يجعلها مدينة سياحية لكل الناس باعتبار أنها ورشة عمل رب العالمين ولذلك سماها بيته ولم يسم أي مكان آخر بمثل هذه التسمية. فمكة قرية أنشأها الله تعالى بقصد أن تكون في النهاية قرية سياحية وأمر عبديه إبراهيم وإسماعيل ليبنياها فيتمكن إبراهيم من أن يدعو الناس جميعا لزيارتها بغض النظر عن أديانهم وأفكارهم، فهي الأم الحقيقية لقرى الأرض جميعا بهذا الاعتبار لا باعتبار ما ظنه البعض بأنها مركز الدحو، فهو ادعاء باطل لا أصل له ولا ينطبق مع الحقيقة. ولا يوجد في القرآن أية دعوة للمسلمين لزيارة مكة بل الدعوات للحج موجهة برمتها إلى الناس جميعا.

5.      النهاية المعلومة التي يسير باتجاهها الشخص: فحينما يموت المرء الذي خسر آخرته وبعد بداية الدمار الكوني فإنه يشعر بالنهاية الأبدية المزعجة. قال تعالى في سورة القارعة:

 وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11).

 فالهاوية هي التي تنتظر الذي أراه الله تعالى خفة موازينه ليعلم بأن الهاوية هي مآله. فالهاوية أمه باعتبار أنها مقصودة.

6.      الكتاب الأصلي الذي يربط العاملين بقانون الطبيعة: قال تعالى في الآية 7 من سورة آل عمران:

 هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ…الآية

فمحكمات القرآن تمثل التشريعات الطبيعية التي تناسب سير البشر ضمن النظام العام للكون. إنها هي المقصد الأصلي للكتاب وأما المتشابهات فهي تمثل علوم القرآن والحقائق الكبرى للكائنات و هي ليست هدفا للكتاب ولكنها لمساعدة البشر لعرض تحقيقاتهم العلمية عليها والاطمئنان لصحة نظرياتهم.

7.      الزمن المقصود لتحقيق شأن إلهي: وقد وردت الكلمة بهذا المعنى مرتين في القرآن. إحداها في سورة هود بقوله تعالى:

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (8).

وهذه المدة المعدودة مقصودة ليتم منحهم الفرصة الكافية للعودة إلى الله تعالى وترك وساوس الشياطين والتغلب على أهواء نفوسهم. والثانية هي ما في سورة يوسف وتعني زمنا معلوما حتى لا يضيع عنصر المفاجأة في قصة صاحبي السجن، والعلم عند العزيز العليم.

وأما الإشكالات التي يمكن أن ترد على التحليل أعلاه فيُخرج الأمة من معناها الاحتمالي الذي وصلنا إليه بعد ملاحظة مناسبة ورودها في الكتاب العزيز فهي كالتالي:

1.      قوله تعالى في سورة البقرة:

 كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (213).

فالآية تتناول حكاية الناس قبل أن يُبعث الرسل وتعتبرهم أمة واحدة. والواقع أن الآية الكريمة بصدد بيان السبب الداعي لبعث الأنبياء وآثار إرسال الرسل. ولعل السبب الداعي لذلك هو التنويه بعدم جدوى إرسال الرسل في كل زمان ومكان ولكل المجموعات البشرية في الأرض. إن المقصود من إرسال الرسل حسب الظاهر هو هداية الناس للتمييز الدقيق بين الطاغي والمعترف بالحق أو الشقي والسعيد، بغية إرسال أكبر عدد ممكن من المخلوقين للجنة. فهناك تمهيد لذلك وهو أن يكونوا مستعدين لاستقبال الرسل بأن يؤمنوا بالله بداية فيصيروا مستعدين للاستماع إلى من يدعي الرسالة من السماء. فالناس مخلوقون بالقوة لاستقبال الرسل ولكنهم غير مستعدين بالفعل، إلا بعد فترة وهو السبب لتأخير البعث الموضح بحرف الفاء في كلمة (فبعث). ثم إن أول مجموعة استلمت الرسالة الكاملة وهم بنو إسرائيل فإنهم لم يكملوا الانصياع للحق إلا قليلا منهم. بالطبع كان ذلك بعد إنزال الأنبياء بلا كتب لمن قبلهم دون جدوىً. فالمقصود من الأمة فعلا هو القوة وليس الفعل ولا يضر بتفسيرنا للأمة.

2.      ورد في آل عمران كلمة الأمة بنفس الطريقة المذكورة أعلاه هكذا:

 كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110).

ويتضح من الآية التي سبقت بيان الموضوع قبل عدة آيات بأن المقصود فعلا أنهم كانوا قادرين على استقبال الرسالة السماوية فبعث الله تعالى بينهم خاتم النبيين فاكتمل اتصافهم بالأمة ولذلك قال لهم الله تعالى بأن يسعوا لأن يكونوا أمة متطورة تتطلع إلى التقدم الحضاري الذي يقدره الله تعالى سواء مع النبي أو بعده ليكونوا قدوة لغيرهم. هذا ما نفهمه من الآية التالية من قبلها:

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104).

فالفلاح ليس بمصاحبة النبي فحسب بل بأن يهتموا بالعرف العام وهو المسيرة النهضوية التي يرعاها الله تعالى بموجب قوانين الألوهية. وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يتبعها ويأمر بها. تلك هي أمارة التقدم وامتطاء صهوة الحضارة المتطورة جيلا بعد جيل. قال تعالى في الأعراف:

 خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199).

ولقد ظن البعض بأن الأحكام الشرعية هي المعروف وقد رأينا القرآن يضيف الصلاة والزكاة إلى المعروف. قال تعالى في سورة التوبة:

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71).

فالمعروف يمثل أصلا معنى الولاية والمحبة بين الناس وتتلوه بقية المسائل الشرعية الواجبة مثل إقامة الصلاة و…. فهي ليست أجزاء المعروف بل معطوفات عليه.

3.      قوله تعالى في سورة الأنعام:

وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39).

فالأمم هنا تشمل الجن والإنس الذين لم يروا عهود الرسالات السماوية. والله تعالى بصدد بيان سياسته في إرسال الرسل ليرد على إشكال المكذبين برسالة حبيبنا محمد خاتم النبيين. ولذلك ذكر الإنس بصفة الدواب والجن بصفة الوجودات الطاقوية التي تنجز مهماتها بطاقتين سلبية وإيجابية. ذكرهم بأنهم جميعا أمم بمعنى أن كل مجموعة منهم قادرة على استضافة رسول من الله تعالى ولكن الله تعالى لا يريد بسط الهداية خارج نظام المشيئة إلا في حدود اتخاذ النماذج ولذلك أرسل عددا قليلا من الأنبياء. فالأمة هنا أمة بالقوة لا بالفعل. ولا ننس بأن سورة الأنعام تشابه أختها الرحمن في بيان مشتركات الجن مع الإنس وقد سمى الله تعالى كلا الجنسين في السورتين بالمعشر.

4.      وأما المجموعة من الآيات التي تضم الآيتين 34 و38 من سورة الأعراف فهي تتحدث عن الارتباط بين الأمم الفعلية التي احتضنت الرسالات والأمم بالقوة التي لم تر الرسل من الجن والإنس. ومن الضروري التنويه بأن الرسل الذين أرسلوا إلى الجن من الجن أنفسهم لم يكونوا حاملي كتب سماوية ولذلك فإن مؤمني الجن كانوا يؤمنون بالتوراة ومن بعدها آمنوا بالقرآن. ولا بأس بأن يعرف القارئ الكريم بأن الأمم الفعلية التي استلمت الرسالات لم تعش مع الرسل أكثر من الزمان اللازم والضروري لمن كان يمكن أن يؤمن ليؤمن دون زيادة أو نقصان حتى تتحقق العدالة بين حاضري الرسالات وغائبيها والعلم عند الله تعالى. 

5.      ولا بد لنا أن نعرف بأن الأنبياء هم أنفسهم أعضاء في أقوامهم. فالنبي الذي يرسله الله تعالى إلى قوم وهو منهم بالطبع هو نبي ورسول إلى نفسه أيضا. ومعنى ذلك أنه يجب أن يكون أول المسلمين برسالة السماء ليكون نموذجا عمليا صادقا لقومه. وحينما أراد الله تعالى أن يوضح لنبينا أهمية إبراهيم كمسلم فإنه خاطبه هكذا في سورة النحل:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا ِلأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123).

أراد الله تعالى أن يعطي نبينا أكبر مثال للتسليم لله تعالى في هذا الكوكب فتمثل بإبراهيم باعتباره ليس فقط رسولا إلى قومه بل نموذجا صادقا بكل معنى الكلمة للتسليم والخضوع لربه. فكان إبراهيم أمة قانتا لله وحده وتاركا قومه مائلا عنهم وعن معبوداتهم إلى العلي العظيم جل جلاله بكل خضوع وبكل صدق. فهو نموذج للأنبياء من بعده ليكون كل منهم أمة طيبة لقومه صادقا في تمثيل رسالة السماء وفي تنفيذ تشريعات ربه سبحانه.

6.      ثم نأت إلى الآية التالية من سورة القصص:

وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23).

فالأمة هنا برأيي باعتبار وجود موسى بينهم في تلك اللحظات. ولعل الذي خفي على البعض أن موسى حينما كان في مدين كان يدعو إلى الله تعالى قبل أن يصير نبيا. وقولهم بأن الفتاتين كانتا بنتي شعيب ليس صحيحا برأيي. وقد ختم الله تعالى قصة موسى في سورة القصص بذكر دعوته لقوم مدين هكذا:

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45).

وعلى كل حال فتسمية الله تعالى أهل مدين بأمة من الناس لا يخالف تفسيرنا لكلمة “أمة”.

7.      ونرى القرآن يسمي زمر الانس وربما الجن أيضا والموقوفين أمام ربهم يوم القيامة بالأمم. قال العزيز في سورة الجاثية:

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (29).

ذلك بأن الله تعالى لا يمكن أن يُحاسب الناس قبل أن يرسل لهم الرسل. ولكنه لم يبعث في كل قرية رسولا بل يتخذ من بعض القرون البشرية أمما ليرسل إليهم الرسل ثم يعتبرهم نماذج يقيس عليهم غيرهم من البشر. ذلك هو مظهر من مظاهر الرحمة منه سبحانه. فكل زمرة من الناس يُحشرون مع نموذج مماثل لهم من أصحاب الأنبياء ولذلك يسميهم أمما، والعلم عنده سبحانه وتعالى. فالأمة إذن تتفرع من أمّ يؤمّ بمعنى قصد يقصد وليس بمعنى آخر.   نهاية الهامش 31.)

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.