سيرة الاحلام -1

سيرة الأحلام-1

إن الدارس لسيرة البخاري كما تناقلتها كتب التاريخ وتراجم الرجال سيجدها تركز على مجموعة من الأحلام لإبراز فضله واستثنائيته بشكل غريب، والأغرب منه أن من يورد هذه الأخبار التي لا تتجاوز كونها أضغاث أحلام، يوردها على أنها الحقيقة التي لا حقيقة بعدها.  ولعل القارئ سيصاب بالدهشة لما سنقف عليه من تقديس للشيخ البخاري، المعتمد على أحلام، والتي من المفروض ألا يبنى عليها شيء أبدا لكن الشيوخ بنوا معتقدهم في البخاري وكتاب الجامع الصحيح على هاته الخرافات كما سنرى.

تبدأ أول الخرافات والأوهام الملتصقة بسيرة الشيخ محمد بن إسماعيل البخاري عندما كان طفلاً صغيرًا وفقد بصره.  وروى المؤرخون أن بصره فقد وهو صغير فرأت أمه  إبراهيم الخليل عليه السلام في المنام فقال لها: “يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك أولكثرة دعائك” فأصبح وقد رد الله عليه بصره  طبقات الحنابلة – ابن أبي يعلى، أبو الحسين محمد بن محمد (طبعة دار المعرفة:ج1 ص274), وكنوز الذهب في تاريخ حلب – سبط ابن العجمي، أبو ذر أحمد بن إبراهيم بن محمد بن خليل (طبعة دار القلم:ج2 ص81).

إن أول ما يلاحظ في هاته القصة هو أن الإمام البخاري بلغت أهميته الكبرى أن أوحى الله إلى أمه عبر نبي الله إبراهيم في المنام بأن ابنها قد رد إليه بصره.  في رواية بسبب بكائها وفي رواية أخرى بسبب دعائها وكأن أم البخاري كانت نبية يوحى اليها. ثم لماذا أوحى الله الى أم البخاري أن ابنها رجع إليه بصره عن طريق هذا الحلم؟  ألم يكن بإمكانها معرفة أن ابنها محمد رجع إليه بصره بمجرد أن يفتح هو عينيه فيلاحظ ذلك ويخبر أمه؟ لماذا هاته المسرحية برمتها؟ فالمعروف أن أي شخص رجع إليه بصره يمكن أن يعرف ذلك بسهولة ويخبر من كانوا حوله.  ثم لماذا إبراهيم عليه السلام بالضبط هو من حمل رسالة الإخبار لأم البخاري؟ ألأنه أبو الأنبياء؟ أليتم إيهام الناس بأن البخاري كان له اتصال بالنبوة؟ كان بإمكان الراوي أن يقول إنها رأت النبي, ثم من أخبرها أن من رأته في المنام – إذا كانت فعلاً  قد رأت – هو سيدنا إبراهيم الخليل؟

والغريب أن سيرة الإمام البخاري كان حضور الأحلام فيها بشكل كبير وغريب، وكل هذه المنامات تصب في إطار إبراز البخاري على أنه شخص أسطوري وخرافي وله اتصال بالغيب يؤيده، وتقدم هذه الأحلام للناس على أساس أنها حقائق تاريخية مع كامل الأسف، بل تجد من يصدقها ويطبل لها، ويستشهد بها في مواطن الدفاع عن شخص البخاري.  وفي نفس سياق صناعة الأسطورة أورد جلال الدين السيوطي في كتابه تدريب الراوي ما نصه: “(الثانية) من مسائل الصحيح (أول مصنف في الصحيح المجرد صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري)، والسبب في ذلك ما رواه عنهإ إبراهيم بن معقل النسفي قال : كنا عند إسحاق بن راهويه فقال : لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع الجامع الصحيح.  وعنه أيضا قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب عنه، فسألت بعض المعبرين فقال لي : أنت تذب عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح.  قال : وألفته في بضع عشرة سنة”. (تدريب الراوي الجزء الأول الصفحة رقم 92 في معرض حديثه عن أسباب تدوين البخاري للجامع الصحيح).

ولا نعلم نحن أي الروايتين نصدق، وكلتيهما منسوبتين للشيخ البخاري، لكن العديد من شيوخنا اليوم يميلون إلى رواية الأحلام، لأنها تتفق كثيرا مع شخصية العديد منهم والتي تميل إلى الأحلام والرؤى والخرافات بشكل غريب، ولأنها أيضا تتفق مع الشخصية الأسطورية  التي رسموها للشيخ البخاري، فلن تتم حلقة “أمير المؤمنين في الحديث ” إن لم تبدأ بحلم له علاقة بالبخاري وأمه، برسالة من أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام لها عنه عندما كان هو صبيا، ويتوسط عقد الأحلام حلم ذب الذباب عن وجه النبي. والطريف في القصة أن الذباب هو رمز الكذب على رسول الله وقد نسي “علماء” الجرح والتعديل أن يضيفوا اسم الذباب الى مصطلح الحديث ومصطلح تجريح الرجال، فبدل أن يقال هذا رجل كذاب كان عليهم أن يقولوا هذا رجل ذباب، تطبيقا لحلم البخاري وتعبير معبر الرؤيا بأنه يذب عن رسول الله الكذب”الذباب”.

الأحلام المؤسسة لأسطورة البخاري لم تقف عند هذا الحد بل تعدته إلى من يدورون في فلك الشيخ البخاري، ومن كيس هذه الخرافات ما أورده الشيخ محمد صادق النجم نقلا عن أبي زيد المروزي أنه قال : كنت نائمًا بين الركن والمقام فرأيت النبي (ص) في المنام، فقال لي : يا أبا زيد، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي؟  فقلت : يا رسول الله (ص) وما كتابك؟ قال : جامع محمد بن إسماعيل البخاري”،( أضواء على الصحيحين رقم الصفحة 78.  راجع أيضا مقدمة كتاب الفتح لابن حجر العسقلاني الفصل الأول).

وكما بدأت حياته بحلم لأمه”بخصوص رجوع بصره” تنتهي حياته أيضا بحلم، لتستحكم الحلقات المشكلة لسيرة الإمام المصنوعة من الأحلام، وفي هذا نجد في آخر صفحة من صفحات كتاب هدي الساري وهو مقدمة فتح الباري لابن حجر العسقلاني ما نصه:” وقال الخطيب أخبرنا علي بن أبي حامد في كتابه أخبرنا محمد بن محمد بن مكي سمعت عبد الواحد بن آدم الطواويسي يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت ما وقوفك هنا يارسول الله قال: أنتظر محمد بن إسماعيل قال فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت فيها النبي صلى الله عليه وسلم.  قال مهيب بن سليم: كان ذلك ليلة السبت لسلة عيد الفطر سنة ستة وخمسون ومائتين وكذلك قال الحسن بن الحسين البزار في تاريخ وفاته وفيها أرخه أبو الحسين بن القانع وأبو الحسين بن المنادى وأبو سليمان بن الزبر وأخرون. قال الحسن وكانت مدة عمره أثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما. تغمده الله برحمته آمين” هدي الساري للحافظ ابن حجر العسقلاني الصفحة673.

إذن حلم آخر ينضاف إلى سلسلة الأحلام لكنه هذه المرة من العيار الثقيل، حيث يقف الرسول والصحابة إجلالا للبخاري في الدار الأخرى، وهم واقفين قبل أيام من وفاته ينتظرون قدومه إليهم – طبعا في الجنة – ولم يتورع هؤلاء من رواية مثل هذه القصة التي تجعل نبينا يقف في انتظار البخاري كما تنتظر الرعية حاكمها، كي يظهروا تفوق البخاري ولو على حساب صورة نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ويدون هذا الهراء ابن حجر في مقدمة شرحه لصحيح البخاري على أساس أنه حقيقة وعلى أساس أن هذا الخبر الغريب المستند إلى منامة جزء من سيرة الشيخ البخاري رحمه الله، وهذا ما يدرس حقا في جامعاتنا المهتمة بالحديث وأصوله والشريعة وأصولها، لتنتج في النهاية شيوخا تعشش الخرافات في عقولهم، ليفتوا بعدها في كل شيء حتى في مدة الحمل، ليصلوا بها إلى سبع سنوات في بعض الأقوال الفقهية، كما يفتون في دوران الأرض حول نفسها، ويكفرون من يعتقد به، كما يكفرون من يعتقد بكرويتها.

يتبع …

رشيد ايلال 

#تطوير_ الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.