الشكوى ليست من القرآن, الشكوى من المسلمين

الشكوى ليست من القرآن, الشكوى من المسلمين

أرسل إلينا سيادة الأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد رسالة تحتوي مقالاً للكاتب الفلسطيني أحمد أبو رتيمة.  جاءت المقالة بعنوان “مذبحة باكستان وعودة إلى آيات القتال”.  يقول الدكتور أحمد:

“الإخوة المحترمون,

في رايي المتواضع المقال التالي المنشور اليوم لمناقشة الداعشية هو التدليس بعينه. 

ملخص المقال

1.     المشكلة في عالمنا العربي الإسلامي ليست مشكلة دينية بل مشكلة سياسية, و  

2.     الجهاد هو تزكية الذات عبر الانتصار للحق وخوض معارك أخلاقية ضد الظلم, والطغيان, والإفساد, و 

3.     القتال [القرآني] شرع لتنظيم أوضاع كانت سابقةً لنزوله ولم يكن تشريعًا تأسيسيًا موجدًا لحالة جديدة،

         مع أطيب تحياتي.”  انتهى كلام سيادته

خالص الشكر لسيادة الأستاذ الدكتور أحمد عمرسعد على كريم مقالته.  ولي تعليق.

قرأت مقال الأستاذ أحمد أبو رتيمة ووجدت فيه فهما سليما قريبًا – إلى حد كبير – من فهمي لآيات الله كما جاءت في كتاب الله.  يظهر ذلك في قول سيادته إن :

“القتال عملية أخلاقية وليس عمليةً فنيةً تتعلق بإفناء العدو، فلا يحقق مقصد القتال أن تستأجر شركةً أمنيةً على غرار بلاك ووتر لتحقيق أهدافك باحترافية، إنما يتعلق المقصد الأساسي من القتال بدافعية المقاتل أن يكون متجرداً من أهواء الدنيا مقاتلاً في سبيل الله، وسبيل الله هو كل قضية حق, وعدل, وحرية, وسلام, في هذه الحياة”.

كما يظهر في قول سيادته إن الآية الكريمة 

*وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً*   

“تبرز الهدف الخارجي للقتال، وهو هدف إنساني يتجاوز التعصبات القومية والأهداف الدينية الخاصة، فليس هدف القتال إجبار الناس على الإيمان إذ “لا إكراه في الدين”، إنما الهدف الواضح هو الانتصار للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فالقتال هو جبهة أخلاقية عالمية لمواجهة كل قوى الظلم, والاستبداد, والاستكبار, التي تستقوي على المستضعفين”.

المقصد الأساسي من القتال, إذن, هو القتال في سبيل الله أي في سبيل كل قضية حق, وعدل, وحرية, وسلام في هذه الحياة.  والقتال, إذن, هو جبهة أخلاقية عالمية لمواجهة كل قوى الظلم, والاستبداد, والاستكبار, التي تستقوي على المستضعفين.   يمكن القول, بهذا الشكل, إن الفهم الذي يقدمه الأستاذ أحمد رتيمة فهم قد يختلف قليلاً عن فهم أي واحد منا في مركز تطوير الفقه السني إلا أنه لن يختلف كثيرًا.  المشكلة, وهي طبعًا مشكلة, أن الأستاذ أحمد “يتخيل” أنه ببيانه الواضح هذا قد كشف لنا أن القرآن لا يبيح عمليات القتل الدائرة التي يقوم فيها المسلمون بحصد أرواح البشر كما لو كانوا يحصدون عيدان قمح وأن المشكلة, بالتالي, ليست دينية.  والأستاذ أحمد, طبعًا, مخطيء.  والدليل على ذلك موجود على الإنترنت, وما على الأستاذ أحمد إلا أن يراجع “باب الجهاد” ليرى إجماع أئمتنا العظام على قتل كل من لا يؤمن بالله.  

تبين جميع الكتب المعتمدة في الفقه السني القديم, والتي يقوم الأزهر الشريف بتدريسها إلى يوم الله هذا أن على حاكم الدولة المسلمة أن يقوم مرة كل عام على الأقل بدعوة أي “جماعة بشرية” قريبة منه إلى دخول الإسلام, فإذا دخلوا كان بها أما إذا لم يدخلوا فإن عليه أن يطلب منهم مبلغا بسيطا من المال مقابل السماح لهم بأن يبقوا على كفرهم, فإذا دفعوا كان بها أما إذا لم يدفعوا قتلهم, وسبى نساءهم, واستعبد أطفالهم, واستولى على أموالهم.  يحدث هذا في حالة اليهود والنصارى فقط, أما في حالة الوثنيين فيعرض عليهم الدخول في دين الله, فإذا دخلوا كان بها أم إذا لم يدخلوا قتلهم.  غير مسموح في الدولة الإسلامية بإبقاء الوثننيين على قيد الحياة. 

المشكلة, بهذا الشكل, أن الأستاذ أحمد “يتخيل” أن غير المسلمين “يتخيلون” أن القرآن الكريم هو المشكلة.  والآن, وبما أن سيادته قد أثبت براءة القرآن مما يذهبون إليه فعليه تكون المشكلة غير دينية.  والمشكلة دينية, وسوف تستمر إلى أن تتوقف معاهد التعليم الدينية عن تدريس ما يذهب إليه الفقه السني القديم من وجوب قتل اليهود والنصارى إلا إذا دفعوا مبلغًا بسيطا من المال ووجوب قتل الوثنيين وعدم جواز بقائهم على قيد الحياة إلا إذا آمنوا بالله. 

تلزم الإشارة هنا إلى أن موقف الأستاذ أحمد في هذا التفصيل لا يختلف قيد شعرة عمن يبين لمن جاء يشكو من صنوف العذاب التي أذاقتها له شرطة هاييتي أن “ميثاق الشرف لشرطة هاييتي” ينص على أن يبذل رجل الشرطة في هاييتي حياته دفاعًا عن كرامة المواطن الهاييتي.   يا أستاذ أحمد: لا أحد يشكو من “ميثاق الشرف لشرطة هاييتي” وإنما الكل يشكو مما يفعله رجال الشرطة في هاييتي.  لا أحد يشكو من القرآن وإنما الشكوى من المسلمين.  رجاء الاعتراف بأن لدينا مشكلة.  رجاء الانضمام إلى مركز تطوير الفقه السني في الدعوة إلى تغيير مناهج الأزهر ووضع مناهج جديدة تتبنى نوع الفكر الذي يقدمه لنا الأستاذ أحمد أبو رتيمة.  إلى أن يغير الأزهر مناهجه سيستمر القتل على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة, ومذهب الإمام الأعظم مالك, ومذهب الإمام الأعظم الشافعي, ومذهب الإمام الأعظم ابن حنبل, رضي الله جل ثناؤه عنهم وأرضاهم جميعا.  

مقال الأستاذ أحمد أبو رتيمة

“من جديد يقف العالم مصدوماً أمام مشهد دموي مروع يكاد يتحول من كثرة تكراره إلى مشهد اعتيادي، وأمام الصدمة الإنسانية التي يخلفها قتل الأطفال والأبرياء يتساءل من تبقى في قلبه شيء من معنى الرحمة والسلام أي عقيدة تصنع هؤلاء القتلة الذين لا يتورعون عن إزهاق نفوس البشر وسفك الدماء بأي حجة واهية ثم يضيفون إلى جريمتهم جريمةً أبشع حين يكذبون على الله فيزعمون أن الله أمرهم بهذا!  

لا بد من التقرير بدايةً أن حقيقة المشكلة في عالمنا العربي والإسلامي ليست دينيةً بل هي مشكلة سياسية اجتماعية تتمثل في مخزون الاستبداد والظلم وردة الفعل الهوجاء الخاطئة عليه، وما استحضار النصوص سوى تسويغ لواقع اجتماعي سياسي تماماً مثل الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش التي مورست بمباركة الرب إله المحبة! فالثقافة تمارس وعياً انتقائياً تجاه النصوص فتعزز كل نص تشتبه تأييده لمواقفها وتسقط النصوص التي تتناقض مع اتجاهاتها، ولو كانت الأجواء السياسية في بلادنا مشجعةً على السلام والمحبة لراجت النصوص التي تبشر بالسلام والمحبة والتي هي أكثر حضوراً من الآيات التي تتحدث عن القتال، إذاً فالحكم الغالب هو للثقافة وللاعتبارات الاجتماعية والسياسية وليس للنصوص النظرية.

إن القتل الذي تمارسه القاعدة ينطلق من نفس القاعدة النفسية التي يقتل بها الأسد و القذافي و السيسي، وإذا كانت القاعدة تبرر جرائمها بمبررات دينية فإن علمانية القتلة الآخرين يعني أن ثمة سبباً آخر لا علاقة له بتدين أو بعلمانية وهو التربة الخبيثة التي لا يخرج نباتها إلا نكداً.. 

لكن كون المشكلة سياسيةً لا دينيةً لا يعفينا من مواجهة صريحة مع القواعد التأصيلية التي يستند إليها التيار المتطرف فإن كنا عاجزين في هذه المرحلة عن وقف جنون القتل فليس أقل من أن نحرم القتلة من الشرعية التي يسعون لاكتسابها بتبرير جرائمهم بنصوص دينية، وهنا يبرز أمامنا مفهومان قرآنيان حدث حولهما تدليس خطير ومثلت إساءة فهمهما نقطة انطلاق لأشد الأفكار تطرفاً والتي وصلت في نسختها القصوى إلى الدعوة إلى حرب شاملة ضد كل مختلف سياسياً وفكرياً مع معتنقي هذه الأفكار، هذان المفهومان هما: الجهاد والقتال.. 

أما الجهاد فإذا رجعنا إلى أصله اللغوي فهو يعني بذل أقصى الجهد، أي أن معركته الأساسية هي داخل النفس قبل أن تكون خارجها، فكل عمل يقتضي مغالبةً لهوى النفس وانتصاراً عليها جهاد، وبذلك عدَّ القرآن المحاججة الفكرية جهاداً كبيراً لما تتطلبه من صبر وطول نفس على التكذيب والسخرية والإيذاء: “وجاهدهم به جهاداً كبيراً” أي جاهدهم بالقرآن.

فإذا انتقل الجهاد من ميدانه الأول وهو داخل النفس إلى الميدان الخارجي فإنه لا يفقد بوصلته بأن هدفه النهائي يتعلق بتزكية الذات عبر الانتصار للحق وخوض معارك أخلاقية ضد الظلم والطغيان والإفساد، فالجهاد في الإسلام لا يمكن أن يتحول يوماً إلى ترف أو قتل عشوائي، بل هو صيغة عملية للانتقال من الدور التاريخي الذي أدته المسيحية عبر دعوتها للروحانية والرهبانية إلى المبادرة والفعل الخارجي الذي يتطلب تدافعاً بين الأمم والشعوب وواقعيةً لا تتسع لها الرهبانية المجردة.

أما مفهوم القتال فهو أكثر التباساً لأن دلالته اللغوية فيها ارتباط مباشر بالميدان الحربي، لكن هذا الالتباس سرعان ما يزول إذا تأملنا السياق الذي جاءت فيه آيات القتال، فأول آية نزلت في القتال هي: “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير” وهي آية يتضح فيها أن القتال شرع لتنظيم أوضاع كانت سابقةً لنزوله ولم يكن تشريعاً تأسيسياً موجداً لحالة جديدة، والحديث عن الإذن للمظلومين بالدفاع عن أنفسهم يدل أن السلوك الأمثل الذي كان مطلوباً منهم هو الصبر على الأذى: “ولنصبرن على ما آذيتمونا” لكن رسالة الانطلاق وتأسيس دستور حياة مدنية متكاملة التي جاء الإسلام بالدعوة إليها يتطلب مغادرة مواقع الصبر السلبي والاشتباك مع القوى الظالمة المتنفذة.

هذه أول آية نزولاً في قضية القتال، أما أول آية ترتيباً في سورة البقرة فهي: “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين* واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين* فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم”، وقد تعمدت إيراد هذه الآيات المتتاليات لأن هناك من يستدل بآية “واقتلوهم حيث ثقفتموهم” منتزعةً من سياقها ولو كلف نفسه بقراءة الآية التي تسبقها لعلم أنها آية مقيدة وليست مطلقةً فهي تتحدث عن ظروف قتال كان الفريق الآخر هو البادئ به وهناك محدد أخلاقي واضح بعدم الاعتداء لأن الله لا يحب المعتدين.

هذه الآية “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم” ليست مقيدةً للآية التي تليها مباشرةً وحسب بل هي مقيدة لكل آيات القتال في القرآن، والقرآن فيه العام والخاص والمطلق والمقيد، ولا يتصور عاقل ذو فطرة سليمة أن الله يقرر في آية حكماً أخلاقياً ثم ينقض هذا الحكم في آية أخرى إنما يقيد العام بالخاص.     

هناك قاعدة بدهية جداً يسهل ملاحظتها في القرآن الكريم، ورغم بساطتها إلا أنها تنسف كل مزاعم مدرسة العنف والقتل، هذه الملاحظة تتمثل في أننا لو تأملنا كل آيات القتال في القرآن لوجدنا أن القتال يأتي دائماً عكس القعود والجبن وليس عكس السلام، أي أن علة فرض القتال هي دعوة الناس إلى التحرر من الجبن والخوف من الموت على الصعيد النفسي، ودعوتهم إلى كسر إرادة العدو على الصعيد الخارجي، فلو تحقق هذان الهدفان المتمثلان في تحرر المرء من الجبن وهزيمة القوى التي تمارس الظلم والاستضعاف بأي وسيلة أخلاقية فقد تحقق هدف القتال حتى وإن تم ذلك بوسائل سلمية خالصة، والبشر قد تعارفوا على الاستعمال المجازي لكلمة “القتال” فكثيراً ما نسمع عن الذين يقاتلون في سبيل الكرامة والحرية والسلام مثل غاندي ومانديلا دون أن تنصرف أذهاننا إلى أنهم يمسكون أسلحةً ويقتلون أعداءهم إنما يتبادر إلى مخيلاتنا أنهم يصرون على مبادئهم ويتحملون الأذى والسخرية والاضطهاد ويكتسبون كل يوم أنصاراً جدداً بقوتهم الأخلاقية.

للمثال وليس للحصر تأملوا هذه الآيات:

*”كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”.. هل يتصور عاقل أن الإنسان يكره القتال لأنه سيخلصه من عدوه أم إنه يكرهه لما يمثله له من مفارقة للقعود والسلامة! إذاً هي دعوة للناس لمغادرة ألحفتهم الدافئة والاشتباك في ميدان الحياة والانتصار على أنفسهم التي تدعوهم لإيثار راحة الأجساد على مطالب المعالي. 

بالعكس فإن هذه الآية تمثل شهادةً ضمنيةً لجيل المؤمنين الذين تنزلت عليهم، فهي تنبئ في ثناياها عن ميولهم السلامية التي كرهتهم في القتال رغم كل الثناء الذي أعطته الثقافة القبلية العربية لقيم القتال والسيف والثأر، فأن يخرج جيل من تلك الجزيرة الملتهبة بأشعار الحماسة والبطولة يكره القتال فهذا مؤشر سلام داخلي وهو موقف متقدم بمعايير ذلك الزمان.. 

*”ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون* وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم”.. يتضح من هاتين الآيتين أن الجبن عن المواجهة لن يطيل عمر الإنسان وأن الشجاعة والإقدام لن تقصر الأجل فهي دعوة إلى الشجاعة لا إلى سفك الدماء.

*”وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين”..من جديد تتأكد فكرة أن القتال في القرآن هو عكس الوهن والضعف والاستكانة وأنه شرع ليحرر الإنسان منها..

*”فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيُقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً”.. هذه الآية مثل سابقاتها تبين أن القتال عملية أخلاقية وليس عمليةً فنيةً تتعلق بإفناء العدو، فلا يحقق مقصد القتال أن تستأجر شركةً أمنيةً على غرار بلاك ووتر لتحقيق أهدافك باحترافية، إنما يتعلق المقصد الأساسي من القتال بدافعية المقاتل أن يكون متجرداً من أهواء الدنيا مقاتلاً في سبيل الله، وسبيل الله هو كل قضية حق وعدل وحرية وسلام في هذه الحياة. ومن الملاحظ في هذه الآية تقديمه للشهادة على الانتصار، وهذا لا يستقيم إلا في المقياس الأخلاقي الذي يجعل خسارة الحياة في سبيل المبدأ مقدماً على الانتصار على العدو.    

*”وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً”.. هذه الآية تبرز الهدف الخارجي للقتال، وهو هدف إنساني يتجاوز التعصبات القومية والأهداف الدينية الخاصة، فليس هدف القتال إجبار الناس على الإيمان إذ “لا إكراه في الدين”، إنما الهدف الواضح هو الانتصار للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فالقتال هو جبهة أخلاقية عالمية لمواجهة كل قوى الظلم والاستبداد والاستكبار التي تستقوي على المستضعفين.

إن فهم السياق الذي جاءت فيه عموم آيات القتال في القرآن وفهم المعاكس الذي جاءت هذه الآيات لتنقضه ضروري للتفريق بين الروح والشكل، بين الثابت والمتغير، فالثابت في كل هذه الآيات هو أن تصنع إنساناً متحرراً من الوهن والضعف والاستكانة يدافع العدو حتى يثخن في الأرض وتكون كلمة الله هي العليا، أما الشكل فهو متغير ما دامت العلة متحققةً، فإن اختلفت الظروف التاريخية ولم يعد القتال بمعناه الحرفي المباشر حاضراً بنفس المركزية التي كان حاضراً بها زمن تنزل القرآن سواءً في المعارك الداخلية بين المستبد وشعبه أو في المعارك الخارجية بين الدول بحثنا عن وسائل تناسب هذه التغيرات وتحقق فاعليةً أكبر بتكلفة أقل متمثلةً في وسائل سلمية واقتصادية وثقافية وإعلامية حسب طبيعة المعركة التي يفرضها الزمان والمكان.

ما دام هدف القتال حسب التصور القرآني متعلقاً بتحرير نفوس المؤمنين من الوهن والضعف والاستكانة، وتحقيق الانتصار الخارجي عبر كسر شوكة العدو الذي يمارس الظلم والاستضعاف فإن القرآن يكسر مركزية المواجهة العسكرية كونها ليست هدفاً في ذاتها، وهذا ما يتضح في آية الفتح: “وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً”.. في هذه الآية يمتن الله تعالى على المؤمنين ليس فقط في أنه منع عدوهم من إيذائهم بل أيضاً بأنه كف أيديهم عن أعدائهم بعد أن أظفرهم عليهم، والنفس المشبعة بحب القتال لا تفهم أين المنة في أن تتمكن من عدوك ثم لا تشبع رغبتك بقتله وسفك دمه، لكن الروح السلامية السائدة في القرآن جعلت المنة ليست في انتصار فريق وهزيمة فريق آخر، بل في إلغاء المواجهة العسكرية نفسها..

إن كليات القرآن ومبادئه العامة تعطي مركزيةً لعمارة الأرض وإقامة العدل فيها وتجرم الإفساد فيها وسفك الدماء: “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”، “ادفع بالتي هي أحسن”، وقد كان تخوف الملائكة الأول من استخلاف الإنسان: “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء”، والقرآن يقول مراراً: “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها”، ويتحدث عن فريق يفسد في الأرض وهو يظن نفسه مصلحاً ليعلي فينا مشعر الحساسية: “وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون* ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون”، بل إن القرآن يعطي المؤمنين درساً تربوياً مكثفاً في السلام عبر التصالح مع كل المخلوقات بتحريم الصيد أثناء الإحرام وفرض كفارة على من يخالف هذا التعليم، والقرآن يغرس فينا حب الطبيعة فيخبرنا أن الجبال والأشجار والطير يسبحن بحمد الله مما يعني أن الإنسان مطالب بصداقة هذا الكون لا بمعاداته، فمن أين يفهم عاقل تشبع بروح العدل والإحسان والإصلاح والسلام التي تبثها مئات الآيات أن يخوض معركةً عبثيةً دون ضوابط من أخلاق تؤدي بالضرورة إلى الإفساد في الأرض والتناقض مع أبسط بدهيات الدين! إن من يفعل ذلك هو بالضرورة إنسان قد انتكست فطرته وتشوه سلامه الداخلي فهو يريد أن يصدر ناره المشتعلة في صدره ليحرق بها الأنام ثم يكذب على الله تعالى الذي يأمر بالعدل والإحسان فيزعم أنه أمره بهذا ليضفي شرعيةً على باطله وإفساده.

إن من يصنع السلام بين الأنام لا بد أن يحقق سلامه الداخلي أولاً فيفيض على الناس من الحب الذي يملؤ قلبه، أما من امتلأ قلبه بالكراهية والانتقام فهو مريض يستحق الشفقة ولن تكفي كل نصوص الكتب وأقوال الحكماء في إقناعه بالسلام لأنه لم يذقه في حياته، ومن لم يذق لا يعرف.”  انتهى كلام سيادته

خالص الشكر لسيادة الأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد على كريم رسالته.

كمال شاهين 

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

18 ديسمبر 2014

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.