يوسف أيها الصديق ح 16 – النبوة والكتاب

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 16 – النبوة والكتاب

والآن دعونا نفكر في المقطع الأخير من الآية:

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)

المقطع :

ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون.

 أصل الملة من أملل يُملل كما يقول اللغويون من أمللت الكتاب. فكأنها كلمة تُطلق على ما تمليه الأمة أو الشخص القوي الذي يكون أمة بنفسه، على الأفراد من طقوس والتزامات نفسية يدينون بها ويخضعون لتبعاتها ومظاهرها.

وليس ضروريا أن يكون الإملال بالقوة الجبرية بل المهم قناعة الناس واستعدادهم لاتباع الملة والدفاع عنها فهي حينذاك ملتُهم وشريعتهم الشخصية. وأما الدين فهو ما يجب أن يكون عليه الناس بالنسبة لربهم باعتباره الدائن الحقيقي الذي يجب أن يُظهر الناس عبوديتهم له ويعترفون بالمديونية لكبريائه ولنعمه . 16

والإيمان لا يعني الاعتقاد فحسب بل يعني سيطرة الاعتقاد على النفس بحيث يوجه صاحبه لاتباع مقولة العقيدة. فالمؤمن بالله تعالى هو الذي يترك نفسه وأهواءه طلبا لمرضاة ربه وليس المؤمن من شهد الشهادتين حسب تعبيرنا أو الذي انحدر من أسرة تؤمن بالله تعالى.

فقوله عليه السلام: لا يؤمنون بالله، يعني لا يلتزمون بما يترتب على قبول العاقل المدرك لوجود الله تعالى من تقوى وحذر ومن استبشار بالرضوان وباللقاء المقبول مع إله السماوات عز اسمه. ولذلك لم يعطف جحودهم بالآخرة على عدم إيمانهم بل وضح مقصوده من عدم إيمانهم بأنهم يكفرون بالآخرة. فالواو قبل “هم” الأولى للحال وليست للعطف. فكأنه قال: كيف يؤمن بالله من يعمل عملا يتنافى مع الخوف من اللقاء بربه؟ إنهم كانوا يؤمنون بالآخرة بمعنى الاعتقاد بها ولكنهم لا يستعدون لها كما يجب فكأنهم يعتقدون بها ولكنها لا توجههم ولا تؤثر في الحيلولة دون اتباعهم للشهوات. واستعمل ما فسره القرآن بالكفر بالآخرة بدل عدم الاهتمام ليقول بأن الآخرة لا تحد من ملذاتهم ولا تقف عائقا أمام شهواتهم ومتعهم وتنافسهم وتسابقهم على المعاصي والآثام فكأنهم يجحدون بها.

ونفهم من خطاب يوسف لصاحبيه بأن النبوة ليست منحة بقدر ما هي استحقاق للنبي الإنسان وبأن النبي ليس ضامنا للوحي بل شديد الحذر ألا يخسر ما حباه الله تعالى به فهو يعيش الخوف ويبتعد عن المعصية جهد الإمكان وليس له عصمة بل هو معرض للإثم بصورة كبيرة وموسعة.

إنه هو الذي يؤمن وهو الذي يتجنب المعصية وليس هناك مانع نفسي يقطع عنه سبل العصيان أو يمنع عنه وساوس الشيطان. وسنرى بعد قليل بأن يوسف النبي نفسه قد أتى بذنب يحتاج معه الى الغفران وهو منهمك بالدعوة إلى ربه دون أن يشعر فأخذه الله تعالى بذنبه وعاقبه ولم يهمل عبده فلم يمهله، سبحانه، ثم سبحانه.

إنه سبحانه منزه من أن يقبل الانتساب المشوب إليه ومنزه من أن يساعد أنبياءه أكثر من أن يساعد عبيده المحرومين من نعمة النبوة. إنه ليس مَلِكا من ملوك الأرض الذين يهتمون بأولادهم لا لشيء إلا لأنهم أولادهم، بل هو سبحانه عادل يسعى للقسط ولا يفضل أحدا على أحد دون أن يكون لدى الموهوب نفسه مرجح يفضله على غيره.

ونضيف على فهمنا من خطاب يوسف بأنه لم يكن ليكسب العلم الذي به فند تفسير المنامين بكل قناعة ويقين لو أنه كان من المذنبين، وبأنه سوف يُعدُّ من المذنبين لو أنه لم يمنع نفسه من اتباع الشيطان ولم يجاهد ضد أهوائه وشهواته.

كان على يوسف أن يعتزل القوم الذين لم يؤمنوا بالله وباللقاء بالله ليحظى بالعلم الحقيقي الصحيح الذي يعطيه الأهلية لاستلام الوحي. قال تعالى في سورة مريم متحدثا عن جد يوسف الأعلى إبراهيم:

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50).

فالاعتزال شرط من شروط استجابة الدعاء. وبعد أن رأى يوسف الرؤيا في صباه تاقت نفسه للنبوة فوضع سياسة حياته المستقبلية على أساس كسب النبوة والعلم الإلهي متبعا ملة سلفه الصالح الطيب.

كان يوسف يعرف بأن النبوة التي أخبره أبوه عنها ليست مضمونة إن لم يهيئ نفسه لاستقبالها. ليس لأحد قرابة مع الله تعالى ولا لأحد دالة على الذات القدسية جل جلاله.

إن الله تعالى هو الذي يهدد باسترجاع النبوة الممنوحة فكيف بالنبوة بالقوة والتي لم تتحقق بعد؟.

وهنا جدير بأن نعرف بأن النبوة التي يتحدث عنها القرآن بالنسبة للبعض قبل أن تظهر نتائج أعمالهم فهي نبوة بالقوة وليست بالفعل كنبوة موسى وعيسى الموعودين بها قبل أن يولدا. ذلك لتسعى والدتاهما في مساعدتهما ليكسبا النبوة احتمالا. فلم يكن عيسى نبيا حقيقيا في المهد بل كان يحمل نفسا مستعدة للنبوة .17

( هامش 16 :   الملة تشابه المذهب تقريبا الذي يظهر ويتولد تحت لواء دين واحد.

ولكل أحد مناسكه التي تُظهر شخصيته كمتدين ملتزم بالدين. فالمنسك لكل شخص والملة للأمة والدين هو ما أقر به الله تعالى لنفسه فرضا تشريعيا على عبيده.

فكان إبراهيم أمة باعتبار أنه ذهب مذهبا رائدا في العبودية والخلوص للذات القدسية وقد أقر الله تعالى له بالصحة، فمن اتبعه في خلوصه فهو سائر على ملته المقبولة عند الله تعالى وكلهم يدينون لرب العالمين ويسعون لإظهار المديونية والعبودية له كما يرتضيه هو سبحانه أو هكذا يجب أن يكونوا.

وملة أهل مصر كبقية الملل التي لا تعيش النبوة أو التي مات أنبياؤها فإنهم يتبعون طقوسا تساعدهم على إقناع أنفسهم بأن دينهم يسمح لهم بأن يشبعوا شهواتهم ويضمن لهم آخرتهم مع ربهم.

هكذا ينسون حقيقة الله تعالى فلا يعطون الأولوية لأي اهتمام توحيدي بل يتحركون باتجاه الشرك شيئا فشيئا. فليس صحيحا قول من يقول بأن فرعون مصر وحاشيته كانوا كافرين بالله، وليس ممكنا أن يرسل الله تعالى نبيا إلى قوم لا يملكون أوليات العقيدة بالذات الربوبية جل وعلا.

كان المصريون معتقدين بالله تعالى ولذلك بنوا الأهرامات لملوكهم استعدادا للملك في الحياة الأخروية، فهم يؤمنون بالمعاد أيضا. قال العزيز ليوسف وامرأته:

 يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29).

فهم يؤمنون بالله ويؤمنون بالمعاد ويهتمون بطلب المغفرة من الرب العظيم سبحانه وتعالى. لكنهم يبررون متعهم وظلمهم بأنها مسموحة لهم أو بأنهم يحبون من يحبه الله تعالى فيخلصهم من خطورة الوقوف أمام رب العالمين.

ولذلك فهم يعترفون بالذنوب ولكنهم يتخلصون من تبعاتها بما يأفكون وينسبونه إلى الله تعالى فلا يرون داعيا لأخذ الحيطة والحذر من عذاب ربهم وسخطه. هذا الالتزام المتعثر يسمى ملة أيضا. فهي تعبير عام ينطبق على الأديان السماوية والأديان أو المذاهب البشرية.

فملة إبراهيم هي التزامه بالتوحيد وبوجوب إرضاء ربه وحده دون أن يخضع لأي ذي شأن آخر وهو الصحيح الحق. وأما ملة حكام مصر فهي التزامهم باتباع ما خلقوه وأوجدوه بأنفسهم من زعامات وطقوس دينية وترك حقيقة الألوهية وعدم الاكتراث بالبحث عنها أو أخذ الحذر من اللقاء مع تلك الحقيقة والاكتفاء بالأوهام والأساطير.     نهاية الهامش 16.)

(هامش 17:   قال تعالى في سورة آل عمران:

 قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ….

فالرسالة تتحقق بعد أن يعلمه الله تعالى الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.

ولعل قائلا يقول بأن الإنجيل مرسل إلى قومه فكيف يتقدم إرساله على رسالته، فهو رسول حينما استلم الإنجيل. والواقع أن موسى استلم التوراة كاملة قبل أن يرسله ربه إلى بني إسرائيل بالكتاب. إن إرسال التوراة مغاير لإرسال القرآن لأسباب لا مجال لذكرها هنا. وأما الإنجيل فهو احتمالا اتخذ نفس شكل التوراة في الإرسال ولعل رسالة المسيح الأولى بدأت بعد استلامه وتعلمه للتوراة والإنجيل. إنه أُرسل إلى قوم يحملون التوراة فلم يكن ضروريا أن يمهد الله تعالى لكتاب سماوي دون مستوى الكتاب الذي بين أيديهم بغية منحهم بعض التسهيلات وإجراء تجربة جديدة عليهم للحياة مع الكتاب السماوي دون الأنبياء التي بدأت مع وفاة المسيح وانتهت بظهور نبينا.

ولعل من يدعي بأن المسيح تعلَّم كل شيء قبل الولادة كما يقول بعضهم وهو كلام غير مستدل ومخالف لنص قرآني آخر. قال تعالى في سورة النحل:

 وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78).

فوسائل الإدراك الدنيوية المحصورة في أن يتحول السمع الأذني والبصر العيني إلى سمع وبصر مدركين بمساعدة الفؤاد أو بربطهما بالفؤاد وهو حركة فيزيائية تحتاج أن تمر على مراحل التطور ولا يمكن أن تدرك العين قبل الولادة حيث لا مجال هناك لا للرؤية ولا للاستماع فيحتاج العضوان الرئيسيان إلى تطور فيزيائي وإلى تجارب للرؤية والسمع قبل أن يمنحهما الله تعالى الإدراك بربطهما ربطا مباشرا بالفؤاد. والفؤاد هو الرابط الطاقوي بين البدن الفيزيائي والنفس الطاقوية.

مما علمني ربي: تصريح من يوسف بأن ربه قد علمه فعلا وبأنه علمه من منطلق الربوبية وليس من منطلق الألوهية وبأنه سبحانه قد علمه علوما أخرى منها ما استعان به يوسف لفهم خطإ صاحبيه ولمعرفة حقيقة الأمر وبكل دقة.

فمسألة الربوبية هي نظام دقيق يطوِّر به الله تعالى مختلف الكائنات باعتباره رب العالمين. وبما أن الإنسان موجود مختار يتكامل بَدَنيا ضمن نظام الطبيعة كما تتكامل الشمس والنجوم والحيوانات ومختلف الكائنات الأخرى فان تكامله العلمي يتوقف على سعيه هو بنفسه.

وأما الجانب الإلهي فإن الله تعالى ضمن نظامه العام لا يمكن أن يخصص أحدا بالعلم أو يميزه عن بقية الناس وإنما يبعث بالعلم إلى أهل كل كوكب ضمن الزمان والمكان المناسب لينتهل منه من أراد أن ينتهل.

والسبب في أننا لا نرى الأنبياء اليوم ليس عائدا للأنبياء بل هو عائد للنظام الربوبي الذي يعطي كل مكان وزمان حقه من العلم.

وبدون أن نشرح المسألة بتفصيل فإني أطلب من الجميع أن ينظروا إلى التطور العلمي العام لأهل كوكبنا ليروا بأن الناس يتكاثرون وتتكاثر معهم أساليب الزراعة والتسهيلات وتظهر مع تكاثرهم الصناعات.

ثم إنهم يترابطون بعد التكاثر الشديد فتظهر لهم قدرات مختلفة لاكتشاف المزيد من القوى الكامنة في الطبيعيات فيخترعون الحاسوب ويتعرفون على الالكترونات ويكتشفون أنواع الطاقة.

ثم إنهم اكتشفوا الذخائر الأرضية في الوقت المناسب والضروري لهم ولو كان السلف على علم بها لأسرفوا فيها ولم يبق للمتكاثرين شيء اليوم. حتى الإعلام ووسائل النشر تطورت مع تكاثرنا وتطورنا وهذا دليل واضح على وجود قوة خارقة وراء الطبيعة التي نشعر بها وهي التي تنظم الحياة العامة وتقسم الثروة وتعطي العلم والحكمة والإدراك الحضاري بما يتناسب مع شؤون البشر.

وليس هناك علم يصل الإنسان دون أن يسعى كما يدعي الكثيرون. إذ أن لله تعالى يذكر بنفسه حقيقة أخرى في كتابه الكريم تتعارض تماما مع مقولة العلم اللدني أو ما شابه ذلك من تعابير غير دقيقة نسمعها هنا وهناك. ألا وهي ما قاله سبحانه في سورة النجم:

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى (39).

والعلم هو إضافة إنسانية تجعل الإنسان أكثر إنسانية فلا يمكن أن يكسبه المرء بدون أن يسعى.

والجانب الربوبي في المسألة هو مساعدة الله تعالى كرب لكل فرد منا أن ينال حظه من العلم بما يتناسب مع كيانه ومسؤولياته وسعيه.

ونكتفي بهذا القدر من بيان الحقيقية القرآنية دون إثباتها علميا حتى لا نبتعد كثيرا عن قصة يوسف.     نهاية الهامش 17.)

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.