المؤمنة كاترين 13- بعد العشاء 1

Happy and smiling pretty young girl with glasses, writing diary on her working desk. Vector illustration character, cartoon, outline, thin art line, linear, hand drawn sketch design, simple style.

المؤمنة كاترين

المقطع الثالث عشر

بعد العشاء (1)

لم تكتف الحسناء كاترين بتقديم العشاء الصحي والمزين واللذيذ، الأكلات بسيطة طبخت بكل مهارة ودقة ونظافة. فالحلوى ضرورية بعد الأكل، لكن كاترين لا تريد إيذاء ضيوفها لينتفخ بطونهم وينشغلوا بآلامهم. إنها تفضل أن يستفيد الجميع من هذه الجلسة ويخرجوا متزودين بالعلم ومترقين درجات نحو التكامل.

قدمت كاترين نوعين من الحلوى التي ابتكرتها بنفسها مطبوختين بالحليب نصف الدسم ونشا الذرة وقد أضيف الزعفران العجمي إلى إحداها وأما الثانية فقد أضيفت إليها نسبة ضئيلة من عصارة الجوز المنقع بماء الورد وحب الهال، كما حُليت كلتاهما بقليل من العسل فإن الهال والزعفران يسدان مسد الحلاوة نسبيا.

كاترين وضعت طبقي الحلوى وسط السفرة واكتفت بقولة: تحلوا ولو قليلا لكي نكون حلويين، ولم تبالغ في التقديم لأنها تعرف مضار الحلوى الزائدة ولا تريد المرض والسمنة لضيوفها. بعكس عامة المضيفين الذين يهتمون بإظهار قدرتهم في تحضير الأغذية والحلويات اللذيذة وفرضها على الضيوف ولو جبرا أو تخجيلا. إنهم لا يهتمون بما يعود على الضيف من وبال وبلاء بل يحاولون بشتى السبل أن يصبوها في جوفه، ولو أظهر الضيف خوفه من العواقب قالوا له بأنها مرة واحدة. مثل هذه الليالي مستمرة في خليجنا وبطون الناس تتوجع من هذه المكارم الحمقاء.

كثر المديح للحلوى البسيطة واللذيذة، حتى العم محمود تذوق منها قليلا وقال: أعتقد بأن هذه الحلوى لا تضرني كثيرا.

ماري: 

ولكن قليلا يا عم، فأنت في سن يجب فيه الحذر من الحلويات.

محمود:

إنني مهتم كثيرا بصحتي وأراعي التعادل بين نسب مواد الدم، وأشكرك كثيرا على نصيحتك الخالصة واهتمامك المحمود بصحة العجائز.

كاترين:

الفتيات في فرنسا يفضلن العجائز يا عم محمود وماري فرنسية.

ضحك الحاضرون جميعا بمن فيهم الطفلان البريئان.

محمود:

ولكن ماري هي في سن أحفادي وأنا أكبر فيها ذكاءها وعلمها وأدبها.

ماري: 

شكرا يا عم محمود وشكرا للجميع.

وبعد الانتهاء من الأكل كان الملح المذاب في الماء الفاتر مهيئا على المغسلة ليتمكن الحاضرون من غسيل أسنانهم بأبسط وأرخص الطرق ويتفادون أعراض التسوس إثر بقاء بعض الأكل بين اللثة والأسنان وفي فجوات الفم.

ماري، استحسنت ذلك وقالت:

كاترين، من علمك هذه الطريقة غير المكلفة والممتازة للتخلص السريع والمضمون من أمراض الفم والأسنان؟

كاترين:

سمعت من علوي قبل عدة سنوات رواية نبوية أن نبدأ بالملح ونختـم بالملح ففكرت في السبب وأدركت بأن رسول الله كان مهتما بالصحة فأراد لأمته أن ينظفوا أفواههم من الجراثيم التي تنتقل إليها من الجو حتى لا ينقلوها مع الأكل إلى أجوافهم. إن الميكروبات إذا انتقلت مع الأكل، تمكنت من التزود بالطعام والعيش مدة أطول وتكاثرت مختبئة بين فجوات الغذاء. لكن مجرى الأكل الفارغ من الغذاء ليس مكانا آمنا لكثير من الجراثيم التي طالما فقدت حياتها متأثرة بالغازات والحوامض التي تغزوها وهي في طريقها إلى الجوف. أما بعد الأكل فهي تفيد التخلص من كل البقايا التي تمثل مرتعا خصبا للبكتيريا الضارة والمؤثرة في أمراض الأسنان واللثة وكذلك اللوز.

علوي: 

يا ليتك علمتني طريقتك المبتكرة من ذي قبل يا كاترين.

كاترين:

تعلمت منك يا علوي فكيف أعلِّم من علمني؟

علوي: 

أنا نقلت لك الحديث النبوي وأنت التي تعبت وفكرت فيه واستفدت منه على أكمل وجه بنظري، فأنت التي علمتني أكثر مما فعلت. ما قلته لم يتجاوز نقلا لقراءة ساذجة قمت بها من خلال مطالعة بسيطة، ولكنك قمت بتحقيق مفيد ودقيق وملفت، وأنا أشكرك على ذلك.

الكثير من الواعظين والمقرئين يقرءون الأحاديث على الناس بكل سذاجة ودون عناء. لعل الكثير مما ينقلونه إلى مريديهم وأتباعهم خاطئ وتمثل كذبا على رسول الله ولكنها توصلهم إلى مآربهم المالية والاجتماعية وحسبهم ذلك. أتمنى أن يدرك الناس ذلك فيتركوا هذه المجالس الضارة التي تمسخ عقيدة الإسلام وتضر بالمجتمع الإسلامي ويتفكروا في انتخاب الذين يدققون في أخبار الرسول وفي آي الذكر لعلهم يبنوا بذلك دنياهم ويتزودوا لآخرتهم.

محمود:

ماذا نقول يا أحبابي، لقد توغل الناس مسلمين ومسيحيين ويهودا وغيرهم في الأكاذيب وبنوا عليها أصول عقائدهم وأسس دينهم. إن هناك برلمانات داخل الدول الإسلامية وغير الإسلامية تسن القوانين باسم تشريع الله على أساس الخرافات الموجودة بين الكتب الضالة وتنفذها حكوماتهم وينكلون في عقاب من يخالفها فكأنهم أولياء الله على خلقه.

علوي: 

باعتباري بنكيا فإني أضرب لكم المثل بالبنوك اللاربوية التي تتكاثر يوما بعد يوم وتجذب عباد الله باسم الإسلام ولمكافحة الربا وهم لا يعرفون معنى الربا ولا يميزون الفرق بين الربا والبيع.

كاترين:

ليتك تشرح لنا ذلك يا علوي حتى نقف بدقة على هذه الظاهرة التي فرضت نفسها على الناس باسم العودة للأصول الإسلامية في التعامل.

علوي: 

والأنفع أن نسمع ذلك من العم محمود، فهو تاجر يلمس الآثار وهو منطو على أسرار علمية تفوقني أنا بكثير.

محمود:

شكرا يا علوي، هذه المسألة شيقة ومفيدة بالنسبة لي ولكن ما دور ماري في هذا البحث فهي ليست بنكية مثلكما ولا تاجرا مثلي. أخشى أن يصيبها الملل من الإنصات لحديث لا يهمها. فيا ليتكم تؤجلونه إلى وقت آخر حتى لا تنعزل ماري عنا اليوم وهي غير باقية في الكويت لزمن طويل.

ماري: 

لا يا عم، فكل ما يلقى إلى جمعنا اليوم مفيد للجميع وباعث للبهجة لأننا نزيد علما وتكاملا. البنوك هي حديث الزمان وما أهم التكلم حولها.

محمود:

إذن تفضل يا أخ علوي فباعتبارك بنكيا عارفا بأصول الصيرفة، يسهل عليك أن تسعفنا ببيان مقتضب حول كيفية معالجة هذه البنوك للربا قبل أن ندخل في مناقشتها.

علوي: 

بكل بساطة، فهذه البنوك اللا ربوية تشارك المستدين في تجارته -بشكل صوري عادة- وتضيف الفوائد بحسب المزاج على مبلغ الدين. وأحيانا يشترى البنك سلعة ما باسمه بعد أن يحرز على توقيع المشتري بالموافقة على شراء البضاعة من البنك بالسعر مضافا إليه الفوائد. لكنهم لا يتحدثون عن الفائدة بل يضيفونها إلى البضاعة باعتبارها ربحا. أما بعض البنوك اللاربوية فتقصر الطريق وتكتفي بادعاء المشتري وجود بضاعة وهمية لدى متجر خيالي فيشتريه البنك وفي نفس المجلس يبيعه على المشتري نفسه بسعر أكبر ثم يسلم شيك الشراء لنفس الشخص ويستلم منه شيك البيع المؤجل والمضاف إليه الفوائد.

هناك معاملات مشابهة أخرى لتسليف طالبي السكن، فالبنك اللا ربوي يشتري المسكن بعد أن يأخذ موافقة طالب القرض -مسبقا- على شرائه من البنك ويتفق معه على سعر البيع قبل إقدام البنك على الشراء. هذا المبلغ يقسط على المدين لقاء نسبة عالية من الأرباح وبضمان البيت نفسه الذي يرهن لدى البنك. كل هذه الفوائد محسوبة مع سعر البيع، فإذا عجز المدين عن الدفع شهرين أو ثلاثة قام البنك اللاربوي ببيع الرهن واستحصال حقه. أما إذا أراد المدين أن يدفع مبلغ السلفة ويفك الرهن فهو غير قادر على تجاهل الفوائد إلا إذا أراد البنك أن يكرمه مثلا. إنه قد اشترى البيت بذلك الثمن المرتفع وله أن يدفعها فيما بعد جملة واحدة أو يستمر في دفع الأقساط!!

البنك اللا ربوي يتخذ لنفسه اسما غير بنكي في بلادنا، وأما في بعض البلدان -حيث لا تحكمها القوانين المصرفية الصارمة- فهو يتخذ اسما بنكيا بيد أنه يقوم بالتعامل كالتجار لا كالبنوك.

محمود:

لا شك في أن هذه الأنواع من المعاملات التي ذكرتها ليست مبايعات شرعية وهي بمجملها صورة أخرى من الربا المحرم كما سأشرحها الآن.

هناك في الأوليات الإسلامية موضوع هام جدا هو موضوع الخوف والرجاء. فالمؤمن يخاف ربه ويرجو رحمته في كل شؤون حياته. حتى العبادات وأعمال الرسل غير مضمونة العواقب. يقول تعالى لخاتم أنبيائه: “قل ما كنت بِدعا من الرسل ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم” سورة الأحقاف:9. ليس أحد مبشرا بالجنة ولا من يعرف ما سيكون مصيره يوم الحساب. ناهيك عن الفرية المعروفة بالمبشرين بالجنة فإن القرآن يرفضها كما يرفض الطلاق بالثلاث.

هذه سياسة الله في الأرض حتى يكثر الناس بمن فيهم أنبياؤهم من عمل الخير. وهذا الأساس الإسلامي دخيل في كل المعاملات والعقود والإيقاعات. الزواج والإنجاب مثلا سنة مؤكدة ولكنها مخاطرة كبيرة لكلا الزوجين. السفر من أكبر المخاطرات في حياة الإنسان. السياسيون يركبون أكبر المخاطر التي تودي بحياتهم وحياة أهليهم أحيانا وتزلزل إيمانهم للوصول إلى القمة. وهكذا المبايعة المشروعة فهي لا تبتعد عن هذا القانون السماوي.

وقد قال علي بن أبي طالب عليه السلام: التاجر مخاطر. يعني أن التعامل بدون مخاطرة ليس تجارة وغير مشمول في حكم البيع المجاز شرعا. فتحريم الربا وهو مثل البيع ليس إلا لأنه يضمن الفائدة ولا يدخل في قانون الخوف والرجاء. وإلا فما الفرق بين ما تقوم به هذه البنوك الإسلامية وبين ما يقوم به المرابون. إنهم جميعا يربون في أموال الناس، سواء خسر الناس أم ربحوا.

ولننظر إلى الموضوع من زاوية أخرى، فإن الله تعالى يريد لعبيده أن يعملوا ليستثمروا الطبيعة ويبدلوها لمصالحهم. يصلحون الأرض بالحرث والبناء ومد الطرق، يحترفون ويصنعون الحديد ويستخرجون المعادن والأحجار الكريمة، يقطعون الجبال والوديان ويحفرون اليابسة وأعماق البحار، ينقلون المصنوعات والمزروعات من أبعد البلدان ويبادلون الأذواق والطلبات بين الصانع والمستهلك وهلم جرا.

فلو تم الكسب بهذه الطرق التي أباحها الله لعباده فإن الثروة سوف توزع بصورة تلقائية بين الناس ولسوف يرى العامل والذي يرهق نفسه آثار عمله في تغيير مظاهر الحياة والعيش ويطالب بها كما أن المستثمر أو المضارب سيتعرف على مقدار تأثير رأسماله في الإنتاج ويشارك العامل في المخاطرة. ولكن الكاسب بدون المخاطرة فهو يزداد مالا دون أن يضيف عملا ودون أن يخسر. أليس ظلما أن يتعرض الذي يتعب ويجتهد للخسارة ولا يصيب صاحب رأس المال أية خسارة؟ لعل هذا هو السر في تحريم الربا وإباحة البيع.

بعبارة أدق فإن البيع التجاري يشمل العمل ورأس المال ولكن البيع الربوي لا يشمل العمل بل هو تزويد رأس المال بلا عمل وبما أنتجه الغير. يقال بأن رأس المال له قوته وتأثيره في التكاثر وهو صحيح ولكن من ذا الذي يعرف النسبة الحقيقية التي تخص قوة رأس المال في مختلف النشاطات؟ وما هو دور صاحب رأس المال في الخسارة التي تصيب الذي يستعمل رأس المال في صناعته وتجارته؟

ولعل ذلك من علل تحريم الله للربح المضمون وهو الربا حتى يتم التوازن بين الناس ولا ينفرد أصحاب رؤوس الأموال بالتكاثر غير الطبيعي في حين أن العمال الحقيقيين في الحرف والمبادلات هم الذين يتحملون الخسائر لوحدهم، فتنتقل الأموال بصورة تدريجية إلى أصحاب رؤوس الأموال ويتحول الناس عبيدا لهم كما كان الحال عليه من سالف الزمان.

علوي: 

ولكن الاقتصاد الدولي اليوم يستند على الفوائد البنكية وهو ربا أيضا، فكيف يمكن تغيير الوجهة الاقتصادية عمليا.

ماري: 

يا أخ علوي نحن نريد أن نعرف رأي الإسلام في الربا ثم نطبقه على البنوك الإسلامية التي تدعي عدم التعامل بالربا، وأقترح أن يؤجل العم محمود الإجابة على سؤالك هذا ريثما تأخذ هذه البنوك سهما من البحث.

علوي: 

أنت على حق يا ماري فيا ليت العم يوضح المسألة أكثر مما فعل حتى يتجلى تطبيق الربا على معاملات هذه البنوك الإسلامية فلعلها تفيدهم لتغيير موقفهم.

أحمد المُهري

يتبع بعد العشاء (2)

30/3/2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.