يوسف أيها الصديق ح 11 – امرأة العزيز 2

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

Shepherds are looking what has happened in Bethlehem.

يوسف أيها الصديق ح 11 – امرأة العزيز 2

كما قلنا فإن امرأة العزيز وزوجها كانا محرومين من الأولاد وأراد العزيز اتخاذ يوسف ولدا لهما. وامرأة العزيز أذكى من ألا تنتبه إلى توابع اللقاء مع يوسف حيث كان من الممكن أن تحمل وهي كانت تريد ذلك لإثبات سلامتها لزوجها وللآخرين. والفاحشة لأهل القصور ليست مسألة كبيرة كما عليه الحال بيننا نحن المؤمنين ولكن المهم عندهم أن يكون الأولاد من نسلهم فعلا. لنعرف جميعا بأن الزنا شائع في القصور وعيبه ليس كبيرا كما أنه كذنب مغتفر بينهم دائما.

ليتصور المؤمن أنه يرى زوجته (والعياذ بالله) تدعو غريبا للفاحشة، فهل يكتفي بأن يقول لها ما قاله العزيز لزوجته بعد أن ثبتت له براءة يوسف: استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين!!

إن أبسط أمر يقوم به الإنسان الملتزم أن يطلق زوجته ويرتاح منها.

وقد عبر الله تعالى عن السوء في حكاية يوسف منسوبا إلى يوسف وامرأة العزيز وليس إلى أحدهما. ولو كان المقصود الضرب أو رفع اليد لنسب السوء إلى امرأة العزيز مفعولا به وإلى يوسف فاعلا، وهو ليس كذلك.

قال سبحانه على لسان امرأة العزيز: أراد (يوسف) بأهلك سوء؛ وقال سبحانه لبيان ما فعله سبحانه بيوسف: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. ذلك لأن السوء بالمعنى القرآني يمس الزاني والزانية بأنهما يمهدان لطفل لم يأت عن الطريق الصحيح بل عن طريق الزنا. فالنتاج سوف يجلب لهما كليهما السوء وكما هو معروف بيننا بأنه يسيء إلى سمعتهما. والعلم عند الله تعالى.

لحظات فاصلة مرت بامرأة العزيز وفتاها، هي في غاية النشوة بانتظار اللذة الجنسية التي كان من المفترض أن تعقبها نشوة إثبات السلامة البدنية لزوجها، وهو في غاية الحبور والسرور بأنه لم يخن ربه ولم يشرك به شيئا.

والنتيجة حين سمعا دقات الباب أن انهارت المرأة اللعوب وشعرت بأن قيامتها ستقوم الآن كما استأسد يوسف وعلم بأن ربه قد أسرع في فتح باب الرحمة والنجاة على قلبه بمصراعيه.

وعلى المتفكر العاقل أن يتدبر مثل تلك اللحظات الخطيرة ويتأمل ليرى أي الطريقين أكثر قبولا لمن أكرمه ربه بالعقل فيختار طريقه بعقلانية ودراية.

لعل تعبير اللحظات غير صادقة فهي أقل من اللحظات بل أقل من لحظة مهما ساعدنا تصورنا الفكري أن نقصر من طول اللحظة. فبلمح البصر انقلب سحر امرأة العزيز عليها فاستعملت كل عبقريتها للخروج من الشرك الذي حاكته بيدها وظنت أنها نجحت، كما ارتاح يوسف بأنه ارتبط بسيد الكائنات وهو الذي غير الموقف،

وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿25﴾ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴿26﴾ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴿27﴾

جاء النصر من الله تعالى فعاد الزوج المستغفل إلى منزله قبل وقته المعتاد قليلا كما أحتمل، فرأى الباب الذي قصده مغلقا فدق الباب. لم تكن أقفال الأبواب القديمة للغرف تحمل مفاتيح مثل مفاتيحنا. ولذلك كان القفل والمفتاح للتعامل مع الباب من  الداخل. فلم يحمل العزيز مفتاحاً لغرفته التي يأوي إليها مع زوجته.

تزاحمت مشاعر مختلفة لدى كل منهما في غرفة النوم المغلقة. يوسف يشعر بأن ربه أرسل له العزيز لينجيه من الإثم وامرأة العزيز تشعر بأن الوقت حان للتمتع بمكرها المدبر لكل احتمال فعليها الآن إخراج يوسف بسرعة من باب آخر قبل فتح باب العزيز. ذاك يفكر في ربه وفي شرفه وكرامته واحترامه لما قدمه له العزيز من خدمة وحب، وهي تفكر في أن تنجي نفسها ولو على حساب حبيبها يوسف.

هذا الاختبار الخطير يرينا مدى حب هذا النوع من النساء الشهوانيات لغير أزواجهن. إنه طفرة غرام و محاولة لإشباع شهوات جسدية فقط.

بادر يوسف فورا لفتح باب النجاة للعزيز قبل أن يدنس شرفه بيديه كما بادر بفتح باب النجاة لنفسه قبل أن تثور شهواته فتقطع عليه سبل العودة إلى الله الكريم المتفضل عز اسمه.

لقد أدار يوسف ظهره للمرأة قبل سماعها لدقات العزيز فساعده الإدبار على التقدم عليها لفتح الباب، لكنها جمعت كل قدراتها لإخراج يوسف من باب آخر درءا للفضيحة، فاتجهت هي أيضا طرف باب العزيز لإزاحة يوسف وليس لفتح الباب.

لم تساعدها قواها وسرعة رجليها على إزاحة يوسف ولكنها وصلت إلى قميص يوسف فتقطع القميص من الخلف ووصل يوسف إلى الباب وفتحه وهي تجري من خلفه.

أسرعت لتكون في مقدمة يوسف قبل أن يطل العزيز على الغرفة ويتعرف على حقيقة ما حصل.

الذي فتح الباب هو يوسف والتي بدأت بالشكوى هي امرأة العزيز لتتهم يوسف بأنه أراد بأهل العزيز سوءا . (11)

يوسف النبي في موقف الخادم لسيدةِ قصرِ وزيرِ فرعونِ مصرَ، ولكنه مع علمه وتقواه وحب سيد القصر له لم يعرف كيف يدافع عن نفسه. لم يقل يوسف شيئا إلا أنه ذكر الواقعة بكل صدق بقوله البريء:

هي راودتني عن نفسي.

لم تكن هذه الجملة مفيدة له في مقابل منطق المرأة وسعيها لاستدرار عواطف زوجها وكذلك تحريك مشاعر الغيرة لدى العزيز.

ثم إنها تمكنت من الابتداء بالخطاب وهو أمر مفيد جدا لمن يريد الظهور بمظهر المظلوم. إنها هي التي اشتكت ويوسف هو الذي دافع. إن شكواها مقبولة للزوج وللسلطاتِ القضائية لأنها امرأة تشكو من سعي رجل قوي لاغتصابها. ثم إنها كانت بحالة استعداد لاستقبال زوجها فتبدو عليها أمارات الإثارة الجنسية والهدف حسب الظاهر هو الزوج؛ إلا أن يوسف قد أثير ولم يتمكن من أن يقي نفسه ضد شهواته. هذا ما يتراءى لمن يشاهد القضية كطرفٍ ثالث.

لم يكن أمام العزيز أي سبيل إلا الدفاع عن زوجته خاصة وأن الأصوات التي تعالت من الركض الثنائي إلى الباب ثم فتح القفل بقوة ثم صياح امرأة العزيز بقصد التأثير في زوجها، كل ذلك قد فتح عيون وأسماع خدم القصر وجعلهم يهرعون لمكان الحادث. كان من واجبهم ذلك لمساعدة سيدهم وسيدتهم.

 في هذه اللحظة الحاسمة يدافع الله تعالى عن المؤمن الصالح بين هذه اللمة.

وإذا بالعزيز ينتبه إلى نداء الوجدان ونداء العقل معا يقولان له: لو تريد أن تعرف القصة وهي من حقوقك المشروعة فانظر إلى قميص يوسف المشقوق. بالطبع أن الذي شق القميص هو زوجتك وليس يوسف. فلو كانت امرأتك هي التي تهرب من هجوم يوسف عليها وكان يوسف هو الذي يريد اغتصابها ويريد إبقاءها في الغرفة لحظة سماع دقات الباب ليخرج من باب آخر وأرادت المرأة التخلص منه لكان الشق في القبل لأن من المفروض أن يكونا وجها لوجه، لتشق هي قميصه. وأما لو كانت زوجتك هي التي تريد اغتصاب يوسف وهو الذي هرب منها لينجو وهي التي أرادت أن تمسك به لتخرجه من باب آخر فسيكون الشق في الخلف لأنها التي جرت وراء يوسف.

الوجدان يناديه بألا يظلم إنسانا أسيرا في بيتهم يخدمهم بكل إخلاص ويساعدهم أكثر من كل خدم القصر. والعقل يقول له بأنهما (يوسف وزوجة العزيز) جمعا موظفي القصر بصياحهما وخاصة صياح الزوجة وسيرون القضية ويفكرون فيها وسيعلمون من الجاني ومن المجنى عليه فتصرف يا أيها العزيز بعقلانية حتى لا تلام غدا.

لاحظ العزيز واستمع بقلبه الندائين من قلبه وعقله فاضطر أن يستعمل العقل ويترك عواطف الدفاع عن شريكة الحياة.

انتبه العزيز إلى أن الوجدان والعقل يناديانه بالمعقول والعادل فبادر بفتح عينيه وترك التفكير في زوجته فرأى بأن القميص مشقوق من الخلف. هذا يعني بأن الهارب هو يوسف والملاحِق هي زوجته.

كان العزيز يحب يوسف كثيرا ورأى بأن يوسف الآن في غاية الحاجة إلى من يحميه ويرفع عنه التهمة التي تؤدي إلى سجنه أو تعذيبه عذابا أليما. وفتح عينيه ثانية ليرى خدم القصر هرعوا لمساعدتهما ولكنهم شاهدوا القصة وسمعوا الأصوات ورأوا قميص يوسف مشقوقا وليس قميصها هي.

أظلمت الدنيا على العزيز ولكنه اتبع العقل والوجدان حقا ولم يستعمل العنجهية والاستبداد. العزيز هو من أهل المرأة التي تشكو ضد يوسف وهو الذي يشهد بقلبه ووجدانه كذب امرأته وصدق يوسف.

هذا موقف صادق ثان من العزيز ليرى ويعلم يوسف بأن ربه قد قدَّر له راعيا كريما يحافظ على حبه له حتى في أحلك الظروف. انتهى دور القلوب فلنشاهد العيان:

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴿28﴾ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴿29﴾

نجح العزيز في محاربة نفسه ونظر إلى القميص وقال لزوجته خطابا عاما لكل النساء. كان يحب زوجته كثيرا ويشعر بأن هناك نقصا يحول دون أن تنجب ويحتمل بأن يكون هو الذي فيه عيب فتكبر زوجته في عينه ويسعى دائما لإرضائها.

ولذلك خاطب النساء جميعا ليخفف من حدة الألم على زوجته التي ظلمت يوسف في كل مواقفها ذلك اليوم.

لكن خطابه ليوسف كان خطابا فرديا ليعلمه بأنه لا يزال يحبه ويكرمه ويسعى للدفاع عنه ضد أقرب أهله إليه. لم يكتف بحماية يوسف ودعوته للإعراض عما حصل إكراما للوزير الذي ليس له أي دور جنائي في القضية بل دعا زوجته بخطاب فردي أيضا قائلا:

استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين.

ولسان حال العزيز في خطابه لزوجته: لقد تجاوزتِ كل الحدود وقمتِ بالظلم تلو الظلم ضد إنسان بريء جعله الله تعالى تحت سيطرتك. إنك خاطئة بكل المعايير ولا مجال للدفاع عنك فقد شهد عليك شاهد من أهلك وهو زوجك ولم تتمكني من أي مكر أمام المنطق والبرهان المحكم فلم يبق لك إلا العودة إلى نفسك والاستغفار لعل الله تعالى يغفر لك ذنبك. فحَكَم العزيز ضدها ولكنه عفا عنها بأن طلب منها الاستغفار من ربهما.

وهكذا نجح العزيز في السيطرة على الموقف وأعاد الامور إلى مجاريها ولو بالظاهر وعاد يوسف إلى عمله في القصر واستعاد هو وامرأة العزيز منزلتهما لدى سيد القصر وعادت كل الخفيات في مقارها في أعماق النفوس محملة بما استجد إثر الصدمة الكبرى لحين آخر.

والآن لنحلل المشهد العظيم بكل حرص لنأخذ منه العبر. إن ربنا ذكره لنا لنعتبر إن كنا من أولي الأبصار.

1.      لا نعرف كم فكرت امرأة العزيز بهذا التدبير الذي فشل خلال لحظات ولكنها أدخلت يوسف في غرفة النوم وأغلقت عليه الأبواب وأرته نضارة الأنثى وشبقها وشوقها إليه وهو شاب في مقتبل العمر يلمس غضارة العيش الهنيء في قصر المترفين. فلا يمكن الاعتماد على التدبير إن لم يكن الهدف مشروعا. ذلك لأننا نمكر ولكن الله أيضا يمكر والله خير الماكرين.

2.      لننصح أنفسنا وننصح شباننا من الجنسين أن لا ننسى الله تعالى في أي حال لئلا نقع في متاهات لا يمكن الخروج منها.

3.      لولا عناية الله تعالى لوقع يوسف في السجن أو العذاب بتهمة السعي لاغتصاب سيدته، إذ لم يكن دفاعه بمُنج له فعلا. لكنه ترك كل حيلة في تلك اللحظة واكتفى بقول الصدق دون تفكير في العواقب، إلا أنه توجه بقلبه إلى ربه وساعده حبُّه لله تعالى واهتمامُه بذكر العزيز الحكيم. فأنجاه الله تعالى بأن ألقى في قلب العزيز ما ألقى. يا له من رب رؤوف رحيم يحمي المظلوم المحتمي بربه في أحلك اللحظات بكل قوة.

4.      وأقول: لو أنكم وقعتم في مثل هذا المأزق فاتركوا كل حيلة لأنكم عاجزون عن مواجهة مثل هذه المسائل بالحيلة والمكر. في المقابل استعينوا بالصدق وحده كما فعل يوسف. وفي نفس الوقت توجهوا فورا إلى ربكم واطلبوا منه المعونة السريعة فإنه أسرع الحاسبين وأسرع المستجيبين. إنه سبحانه وحده المأمول أن يساعدكم حتى لو كنتم مخطئين. استغفروه فورا واطلبوا رضوانه ومساعدته ولكن فقط بقلوبكم. لا تتحدثوا باللسان واكتفوا بالهمس القلبي. لا تجعلوا اللغة حاجزا بينكم وبينه. اتركوا التعابير اللغوية واطلبوا منه سبحانه بقلبكم بكل بساطة وبكل خضوع.

لقد حاولت سيدة القصر أن تخفي شيَن نزواتها عن أعين الناس جميعا عدا يوسف وحاول العزيز أن يقفل باب القضية بأي شكل خوفا من انتشار الفضيحة ضد الأسرة المرموقة في مصر. لكن الله تعالى أظهرها للعزيز ثم لخدم القصر فخرجت السيطرة من يد العزيز ومن يد زوجته. إن قضية غريبة مثل هذه سوف تصل قطعا إلى أسماع المرتبطين بهم على الأقل. إن في القصور الملكية جواسيس لا يمكن اكتشافهم ولا مؤاخذتهم، لأصحاب القصور الأخرى. فكل سيد وسيدة من النبلاء والأمراء يتمنى أن يتعرف على أسرار بيوت منافسيه ليستفيد من تلك المعلومات عند الحاجة. ولذلك فإن لكل واحد صديقا أو صديقة من خدم القصور التي يهتم بها لينقلوا له الخبر. ليس هؤلاء مسجلون ولا يتقاضون رواتب ولكنهم يسمعون كلمات الود والرفق وبعض الهدايا العادية أحيانا. إنهم لا يعرفون بأنهم جواسيس يعملون للغير كما لا يمكن التحري حولهم ولا يصدر منهم أخطار أمنية كبيرة. لكنهم يصلحون لنقل مثل هذه الأخبار إلى الذين يتوددون إليهم من أصحاب القصور الأخرى. إنهم كخدم يشعرون بضرورة خلق بدائل لأنفسهم لو خسروا أعمالهم كما أن الدولة مضطرة أن تشجع هذه العلاقات حتى لا ينتقل خدم القصور إلى معارضيهم وأعدائهم. حتى العبيد فإنهم يحتاجون إلى من يتوسط لهم ويدافع عنهم من أهل القصور الأخرى. وهكذا انتشر الخبر المثير بين نساء الوزراء الآخرين بسرعة،

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴿30﴾

والمشكلة الكبرى في مثل هذه الإشاعات المحصورة بين نزلاء القصور هي أن الخبر لا ينتشر عن طريق أصحاب القصور أنفسهم فيصل بدقة إلى الآخرين. لكنه ينتقل عن طريق الخدم الذين يجهلون الكثير من الأسباب فيشيع الخبر ليكون أكثر ضررا مما لو أنه نقل بكل دقة.

والذي يزيد الطين بلة هو أن الأخبار تنتقل بصورة مجتزأة لكل ذات شأن من نساء النبلاء وقد مر بعضها عن طريق خادم لخادم آخر ومنه للسيدة ثم تجلس النساء في مجالسهن ويقمن بتلصيق الأخبار ببعضها البعض ويحصلن على نتيجة قد تكون خاطئة ولكن المسألة تشيع بينهن بعد أن تتخذ شكلا مقبولا بغض النظر عن الحقيقة.

مثل هذه النزوة المشينة كثيرة في بيوت المترفين فهم يسعون لمعرفة أسرار أندادهم بغية استعمالها لضمان الستر على أنفسهم. فكل واحدة تحب أن تعرف سراً قبيحا لصاحبتها أو زميلتها حتى لا تسعى هي للوشاية ضدها. والذي يبدو من هذه الآية أنهن كن مفتقرات إلى سر قبيح من أسرار امرأة العزيز المعروفة بينهن بالشرف والوقار وعدم الخيانة.

ومن المحتمل أن امرأة العزيز كانت أحيانا تغمز وتلمز الزميلات والصديقات. ولعلها كانت تتكلم عنهن وعن عشاقهن. هي حالة متفشية في قصور الملوك وكبار حواشيهم.

ولذلك تداولوا القصة الجديدة بينهم بصورة مشينة تنم عن الرغبة في الانتقام إلى حد ما. وعادة ما يكون أصدقاء كبار النسوة من نفس الوزراء أو الأمراء أو كبار رجال الدولة. وحتى ينتقمن منها ومن فتاها الذي كانت تتفاخر به عليهن فإنهن ذكرن نزوتها وهي مراودة فتاها، وبأن عشيقها فتاها وليس شخصية كبيرة وبأنها أسيرة حب لا يمكنها التخلص منه وبأنهن شريفات يرونها هي في ضلال واضح. وبتعبيرنا كان النسوة يعقبن لمزاتهن بكلمة: غلطانة فلانة. وكأنهن غير غلطانات؟!

( ملحق 11 :   هذا هو معنى حب الغانيات وهذا مدى صدقهن! لو كانت الحياة أكلا وشربا وتمتعا بالجنس وتفاخرا بالأموال والأولاد وبالملابس والقصور والمراكب لما وُصِف الإنسان بالإنسان. قال تعالى في سورة القيامة:

 أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36).

كم هو سبحانه جميل وحميد. يرسل العظيم سورة بعد هذه الآية ليري الإنسان بأنه إنسان لو تخلى عن ملذاته وقدم من حقه لغيره ليعينه على التخلص من الجوع، وسمى السورة سورة الإنسان. لقد أخطأت امرأة العزيز ولكنها أثمت حينما اتهمت يوسف بالذي فعلته هي بيوسف.

قال سبحانه في سورة النور:

 إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23).

يهمني أن أوضح لمن يطلع على هذه القصة أن الله تعالى يخاطب الذين يكثر عنوان الخطاب بحضرتهم ويقصد الجميع. إن الذين يتأثرون بمثل هذه التهم هم النساء ولذلك حذر الرجال ولو حصل العكس فإن الذي رمى هو الذي يصيبه اللعن ولو كان امرأة.

في هذا الموقف رمت امرأة العزيز يوسف بالإقدام على الزنا مع امرأة محصنة أمام زوجها، فهي التي تُحرم من الرحمة ويوسف هو الذي ينال الرحمة من الله تعالى. قال سبحانه في سورة الحج:

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38).

والمظلوم هنا يوسف والخوّان هنا امرأة العزيز فلننظر كيف دافع الله تعالى عنه.     نهاية الهامش 11.)

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.