5 اشكالات القبنجي – نماذج القبنجي على الإشكالات البلاغية

نماذج القبنجي على الإشكالات البلاغية

ثم انتقل الأخ القبنجي إلى نماذج من الإشكالات البلاغة القرآنية فقال متسائلا: أين المعجزة البلاغية في القرآن؟! ظننت بادئ الأمر أنه صيني تعلم العربية فمن حقه ألا يبلغ عمق بلاغة القرآن فانتظرته ليأتي بالمثال. فإذا به جبلا يتمخض ليلد فأرا:

ألف: قرأ الآية التالية من سورة الأحزاب:

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (50).

لقد استهزأ الأخ الفاضل بكتابنا العظيم وبنا نحن المسلمين ثم استهزأ بالآية الكريمة أعلاه. فقال: هل هناك من لا يعرف بأن زوجات النبي حلال عليه؟ وبأن بنات عمه حلال عليه؟ هل يحتاج النبي أن يعرف بعد عشرين سنة أن زوجاته حلال عليه؟ وقال ما قال.

لقد آلمني كثيرا وخرج عن حدود البحث العلمي إلى السخرية والتطاول. شعرت كمسلم بأنه ينال من كرامتي وكرامة جميع المسلمين. لكني لا أريد أن أبادله بل أروم بيان الطريقة التي تكلم بها وهي أشبه بأساليب بعض الإخوة المسيحيين الذين يستهزؤون بنا في بعض الكنائس المحترمة هذه الأيام. لا أذكر أنني دخلت كنيسة إلا باحترام و إكرام من كل قلبي باعتبارها دارا للعبادة والخضوع لسيد الكائنات جل جلاله.

على كل حال، فهذه السورة تتحدث عن مسائل غامضة تحتاج إلى المزيد من العناية لفهمها. وقد لاحظت بأن سلفنا الصالح من المفسرين عجزوا عن كشف بعض الغموض فيها، فقد ظنوا بأن ما أشارت إليه السورة من أن الرسول يخفي في قلبه شيئا والله مبديه، بأنه إشارة إلى أنه عليه السلام يخفي في قلبه حبا خاصا لزوجة زيد، وهو أمر غير صحيح بالمرة.

بالطبع أنه عليه السلام كان يحب زيدا وزوجته ويعتبرها زوجة ابنه حسب العرف العربي. لكنّ هناك حقائق عن علاقات زوجات رسول الله بزوجهن وكان الرسول يستحيي أن يظهر منها للناس شيئا. والرسول الكريم لم يكن محبا للزواج بأكثر من واحدة كما كان عليه في زهرة شبابه مع حبيبته خديجة. لكن الله تعالى أمره بالزواج المتعدد لتقوية ارتباطه العربي مع بني قومه. إن لكل واحدة من اللائي ذكرهن بصيغة الجمع أهمية في الدعوة الرسالية. لقد قدر الله تعالى لنبيه مثلا أن يتزوج بابنة أبي سفيان حاكم مكة السابق لظهور دولة الإسلام وهو في حرب معه. لقد زار أبو سفيان ابنته وأظهر موافقته وإعجابه بذلك الزواج، كما زار رسول الله وهو في حالة حرب معه.

كان يشعر بأنه عم الرسول وبأن الرسول حارس لشرفه وكان ذلك حافزا له على تقبل فتح مكة دون حرب. لقد اكتفى بالموازنة العقلانية بين قدراته وقدرات الرسول وتخلى عن المواجهة بل أسلم. لم ير أبو سفيان أي تصرف غير لائق من الرسول فكان يكره أن يقف أمام صهره. فقد كان أبو سفيان رجلا محترما في قومه يسعى لصيانة حرماته بينهم، وكانت زوجته هند محترمة في قومها وعند رسول الله أيضا.

كل ذلك من آثار زواجه بأم حبيبة. أما ما يقوله المؤرخون نقلا عن بني العباس فهو محض افتراء وكذب عن هند. فهي زوجة رئيس الدولة ولا يليق بها أن تكون من ذوات الأعلام كما ادعوا إذ لا حاجة بها لذلك. إن تاريخنا المكتوب لا ينطبق أبدا مع ما حصل ولا ينطبق مع كتابنا السماوي العظيم.

هذا نموذج لأهميةِ واحدةٍ من زوجات الرسول. وكل واحدة منهن كان لزواج الرسول منها دور رسالي يمكن الانتباه إليه إذا قرأنا سورة الأحزاب بإمعان. ولعلي أتوفق لشرحها جميعا في المستقبل بإذن الرحمن عز اسمه.

الكلّ يظلمون نبينا ويصورونه على أنه رجل شهواني يتهالك في إشباع شهواته من خلال الاقتران بالنساء وهو خطأ فاحش وظلم لا يغتفر. فقد اتهموه بأنه تزوج فتاة في السادسة والعياذ بالله، وهو زواج باطل في الإسلام، يقول تعالى في سورة البقرة:

نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223).

فكيف يمكن أن تكون الطفلة حرثا؟ إنهم لم يعرفوا أهمية أبي بكر في شخصيته الكبيرة وفي حبه لله تعالى ولرسوله وفي خدماته الجليلة لنشر الدعوة النبوية وظلموه في تاريخهم المكتوب مع الأسف. هو الذي تمكن من أن يدير الدفة بعد وفاة الرسول مباشرة وتقبله الذين رباهم الرسول على التقوى والعلم.

أليس هو الذي قال أكبر كلمة يمكن أن تُقال بعد الرسول: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإنه حي لا يموت؟ (بهذا المعنى). فكيف يمكن أن نتوقع رضا أبي بكر بتزويج طفلته من رجل تجاوز الخمسين؟ إن قصتها مع الرسول مشابه لقصة أمنا حفصة. هي كانت عانس وحفصة لا تستقر في بيت زوج فأراد النبي أن يساعدهما بأن تزوج ابنتيهما، والعلم عند الواحد الأحد سبحانه.

المسألة الأخرى هي أن الله تعالى منع من الجمع بين الأختين فكان يتبادر إلى الأذهان بأن الجمع بين ابنة العم وابنة الخال مماثل للجمع بين الأختين فأراد ربنا أن يعلمنا بالفرق بين الأختين وبين ابنتي العم حيث يجوز الجمع بينهما. بالطبع ليس في القرآن إذنا بالزواج من أكثر من زوجة واحدة أو الزواج بملك اليمين. والإذن بالزواج المتعدد مشروط بوجود النساء اللائي يعشن منفردات بلا معيل وليس إذنا عاما لكل من شاء وأراد المزيد. فيجوز الجمع بين ابنة عم وابنة عم آخر، أو ابنة العم وابنة العمة مثلا ضمن الشروط المذكورة في سورة النساء. إنما أباح الله تعالى للنبي وحده أن يتزوج بأكثر من واحدة دون ملاحظة مسألة اليتامى التي تُعتبر بمثابة حلّ لمشكلة اجتماعية وليس إذنا بالزواج المتعدد كما تصوروا.

هناك الكثير من التعسف في فقهنا المخالف لكتاب الله تعالى. والقرآن يرفض ذلك ولا يأذن بذلك إلا بالزواج الرسمي معها ودفع المهر حسب المتعارف والاكتفاء بها زوجة. فعلى المسلم الذي يعبد الله تعالى أن يعمل بكتاب ربه ليرضيه وأن يضرب بكل ما عداه عرض الحائط. إذ لا قيمة لأي رأي أو فتوى خارج نطاق القرآن.

فنعلم من الآية الكريمة بأن الله تعالى فرض على المؤمنين أمرا وعلى رسوله أمرا آخر ولذلك قال سبحانه في آخر الموضوع بنفس الآية: خالصة لك من دون المؤمنين. وأما قولهم بأن الجملة متعلقة بالتي وهبت نفسها للنبي والتي لا تحتاج إلى مهر مثلا فهو ادعاء بلا دليل. ذلك لأن الله تعالى ذكر الأجور وهي المهور عينا في بداية الآية فقد دفع النبي المهر لبنات عمه وبنات عماته أيضا. ولذلك فالجملة الأولى شرط واجب للتحليل والواو بعدها في وما ملكت …. بيانية.

وأما الحرج المذكور في الآية فإنها مرتبطة ومتعلقة بتحليل الزواج للنبي. فقد كان النبي – ولأمر آخر – يشعر بعدم تحقق الزواج الحقيقي بينه وبين نسائه بحسب القرآن نفسه وبحسب العرف العام فأراد الله تعالى أن يبين لنا وله بأن الذي أحلّ هذا النوع من الزواج هو الله تعالى وليس من حق أحد فعلا أن يحلل ذلك. وأعود فأكرر بأن زواج نبينا مع زوجاته بعد خديجة ليس مثل زواجه مع خديجة أو مع زواج البشر مع أزواجهم. هناك فرق جوهري لا يمكن بيانه في هذا المختصر.

لكن الأخ القبنجي أظهر بأنه لم يتجشم عناء التفكّر بمعنى الآيات، هداه الله تعالى، ولعله لم يقرأ القرآن ولم يشعر بالإيجاز الغريب حتى في الأحكام التشريعية التي باتت واضحة جدا ولكنها مختصرة غاية الاختصار، فتحدث وكأن القرآن كله صفحات في جريدة يومية مع الأسف.

أمثلة على الاختصار والبلاغة القرآنية:

دعني أضرب للمؤمنين مثالا من بلاغة القرآن في الاختصار. لنقم بتحليل هذا المقطع من الآية 12 سورة النساء: …

وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ.

لو أردنا فك الآية حسب تعابيرنا العربية العادية لقلنا هكذا:

وإن كان رجل يورث كلالة وذلك يعني أنّ له أخ أو أخت فلكلّ واحد منهما السدس دون فرق بين الذكر والأنثى الأول باعتبار أن السدس هو أقل النسب التي توزع على مثل تلك القرابة. ولكن لو كانوا اثنين أو أكثر فيوزع بينهم ثلث التركة. وإن كانت امرأة تورث كلالة أخا أو أختا فلكل واحد منهما السدس ….

فانظر كيف اختصر الله تعالى ذكر ميراث المرأة الميتة بقوله: أو امرأة، وبقي المعنى واضحا فعلا.

ولننتقل إلى مسألة علمية مختصرة. قال تعالى في سورة الرعد:

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3).

في هذه الآية ثلاث مسائل علمية مهمة لا يمكن للرسول محمد أن يكون عارفا بأي منها.

1. اليابسة والبحار مركبة على ألواح أو دروع صخرية تتحرك بهدوء. إن قسما كبيرا من الجبال الراسيات قد صنعت إثر اصطدام الدروع الأرضية مع بعضها البعض أو مع الدروع البحرية. وهكذا الأنهار مصنوعة إثر تحرك هذه الدروع.

2. لا يمكن للنباتات أن تثمر إطلاقا دون أن يتم التلقيح بين زوجيها. هذا القانون يشمل كل الثمار بلا استثناء.

3. نلاحظ بأن الله تعالى دائما يقدم الليل على النهار لأن حديث الليل والنهار في القرآن عادة ما يدور مدار الطاقات التي لا تحمل الضياء والمعروفة حديثا بالجرافيتون و الطاقات المنبثقة من الفوتونات التي تحمل الضوء. هذه الطاقات المظلمة أسرع بكثير من الضوء ومن المحتمل أنها هي التي تنتقل بسرعة من الأرض باتجاه الفوتونات القادمة من الشمس لتغزوها فتبتعد الفوتونات عن مدارها لتطلق الضوء ثم تعود إلى المدار مستدرجة الجرافيتون معها. فالطاقة المظلمة هي التي تغشي الطاقة الحاملة للضوء. وقد أشار الله تعالى احتمالا إلى هذه الفرضية العلمية في سورة الأعراف هكذا:

إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54).

ونعرف بأن النباتات لن تتحرك بدون التمثيل الضوئي المنشط بواسطة الضوء الشمسي. ونرى وجدانا بأن الفوتونات تنقلب ضياء بالقرب من الأرض وليس من بعيد. فلينظر المنصفون كيف اختصر الله تعالى ثلاثة مواضيع علمية كبيرة في سطرين. هل هناك بلاغة أقوى منها؟؟ فاتق الله أخي القبنجي.

باء: ثم استشهد القبنجي بآية أخرى من سورة النور لإثبات عدم بلاغة القرآن الكريم والعياذ بالله فأتى بقوله تعالى:

لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61).

وقبل أن أرفع الإشكال بإذن الله تعالى أحب أن أنصح الأخ القبنجي وأصدقاءه الذين يستمعون إليه وبقية الناس أن يفكروا قليلا في وجه تسمية القرآن بالقرآن. فليس القرآن مجموعة من المسائل جمعها بشر في كتاب واحد بل هو كله مجموعة واحدة مفيدة. وعلى هذا الأساس سمي قرآنا وليس على أساس التلاوة كما تصوره أغلب المفسرين رضي الله تعالى عنهم وعنا أجمعين.

كل السور مرتبطة ببعضها البعض ولا يمكن فهم أيّ سورة دون الرجوع إلى السورة السابقة وكذلك اللاحقة ليعرف الباحث السبب في وضعها بذلك الموضع من القرآن الكريم. ناهيك عن آيات كل سورة فهي مشدودة ببعضها البعض ولا يمكن فصلها إطلاقا، وأنا أفسر القرآن هكذا وأذكر ارتباط كل سورة بما قبلها وما بعدها وأذكر السبب في ذلك بفضل ربي. وأما الذين يأخذون آية دون آية أو يستخرجون جملة من وسط آية ويؤولونها فإن الله تعالى لهم بالمرصاد.

لاحظ مثلا أن سورة النور تتناول مسألة العلاقات الجنسية بين المرأة والرجل وتسعى لتنظيمها لكي تعيش العائلة بسلام وأمان. ولذلك فإنها تبدأ بالتشريع الحدودي ضد الذين يأثمون ويأتون بالفاحشة ولكنه سبحانه يعلق العذاب الذي لا يتجاوز 100 جلدة على أية حال، يعلقها بطرق إثبات لا يسهل تحققها في الواقع العملي، إن لم نقل إنها غير ممكنة .

لا بد لنا أن نقول هنا بأن الرجم وما شابهه من عقوبات لم ترد الإشارة إليها في القرآن الكريم هي في الحقيقة من مفتريات المحدثين والرواة الذين يأتون بهذه الأمور ضد خلق الله تعالى وضد إرادته التشريعية فلينتظروا عذاب ربهم.

عموما فإن الله تعالى يعلّم المؤمنين في هذه السورة طرق الوقاية من الزنا. ومن هناك يبين لنا بأنه نور السماوات والأرض وليس غيره. ذلك ليقول للذين يتشبثون بالشرف والكبرياء بأن الذي يأتي بهذه الفاحشة المعيبة فهو لا يعبأ بشرف ربه الذي هو المالك الحقيقي أكثر من إهماله لشرفكم أنتم الذين تملكون حقوقا بسيطة تجاه أقرب الناس إليكم. فلو أن الله تعالى المالك، أمر أن يتحاشى المسلمون مسهم بأذى فمن الأولى ألا ينتظروا من ربهم حكما لعقابهم بسهولة. ويشعر الإنسان بأن الاهتمام في السورة مصبوب على شرف الناس أكثر من اهتمامها بالزنا نفسه. فيمنع الفاحشة مثلا ويعاقب الذي يرمي أحدا بكل جدية ولكنه سبحانه يحول بقانون صارم للإثبات دون المساس بالزاني والزانية الذين أتيا بالفاحشة.

ثم تدلف السورة إلى بيان الآداب التي تحول دون الوقوع كثيرا في طريق الفاحشة. ذلك لأن الضرورة تقتضي أن يعيش الناس مع بعضهم إخوانا نساء ورجالا دون التفريق بينهم. فلو راعوا الآداب فإن الخجل والحياء يساعدانهم على تجنب النظرات المريبة ثم ارتكاب الفاحشة لما سيشعران به من أنها عمل غير حضاري ومخالف للآداب، ومن أهم الآداب التي تعلم الإنسان الحذر والحيطة هي آداب المائدة. فيبدأ سبحانه بذكر الأشخاص المرفوع عنهم الحرج وينزل شيئا فشيئا للمواقع التي يزداد فيها الحرج مراعيا لكل الحقوق في الواقع. فالأعمى لا يرى شيئا ولا يمكن أن نتوقع منه أي أدب باعتبار أن الحياء في العين التي يفقدها ذلك المعوق المغلوب على أمره. يأتي بعده الأعرج باعتبار أنه يفقد وسيلة مهمة لمراعاة الآداب وهو حرية الحركة. فالآداب بعبارة أخرى عمل يحتاج المرء معه إلى المزيد من الحركة من قيام احترام ومشي على الأقدام لتقديم الطعام وأدواته للغير. ويأتي المريض في المرحلة الثالثة فهو قادر بصورة طبيعية على رعاية الآداب ولكنه مبتلى بمرض يقعد به بصورة مؤقتة فعلى الآخرين مراعاته وعدم توقع رعايته لكل الآداب. وجدير بالذكر ما تفطن به أخي قصي الموسوي بأن الأعرج يدل على المعوق عامة وليس على من يعرج في الرجل. إنه كلام جميل وأظن بأنه مصيب في تحقيقاته اللغوية حول الأعرج.

ولو أكل الإنسان في بيته وحيدا فهو يتعامل مع الأكل ومع نفسه تعاملا حرا ولكن لا يتجاوز الآداب البسيطة التي نتوقعها من أصحاب العاهات والأمراض الثلاثة المذكورين في بداية الآية. ذلك ليحافظ على سننه وآدابه بصورة جزئية مع نفسه لئلا يفقد الحرمات حينما يشارك الآخرين. ثم يسمح له ربه بأن يأكل من بيت أبيه ولكن عليه بأن يكون حذرا قليلا أكثر من رعايته في بيته. ذلك لأنه قد فارق بيته السابق وتكَوَّن لأبيه التزاماتٌ أخرى قد يكون يجهل بعضها كما أنه لا يعرف بعد الخروج من منبته الشيء الكثير عن قدرات أبيه. فعليه بأن يراعي الآداب أكثر من مراعاتها مع نفسه.

والمرحلة التالية والتي تزداد الرعاية الأدبية فيها شدة هي بيوت الأمهات اللاتي يعشن بعيدات عن الآباء كما في حالات الطلاق أو الترمل وسواء كن متزوجات مع الغير أم وحيدات. ذلك لأن الأمهات عادة ما يكنّ أقل مالا من الآباء أو يكنّ في عهدة رجل آخر فعلى المرء أن يراعي الآداب في بيوت الأمهات أكثر من رعايتها في بيوت الآباء.

ثم يأتي دور بيوت الإخوان الذين يكونون ملتزمين بمراعاة زوجاتهم وأهل نسائهم فتكون المعلومات عنهم أقل عند المرء مما يعرفه عن بيت أمه. هناك الكثير من المسائل التي تحدث بين أخيك وزوجته أو أهل زوجته مما يحرجه أمامهم لو أنك أخذت حريتك كاملة في بيته فعليك بمراعاة أحواله.

ثم يأتي دور الأخوات. إنهن مثل الإخوان في كل شيء إضافة إلى أن مسئولي التمويل في بيوتهن هم أزواجهن فتكون الأخت محرجة أكثر أمام أخيها وعلى الأخ رعاية حالها أدبيا أكثر من أخيه.

وأما الأعمام فإنهم أصلا يرتبطون بابن الأخ أو ابنة الأخ بواسطتين هما الجد ثم الأب. كانت علاقة القرابة بين الأخ بواسطة واحدة وهي الأب أو الأم أو كليهما ولكنها ازدادت بالنسبة للعم. فعلى الإنسان أن يكون أكثر أدبا في بيت العم من بيت الأخت.

ثم يأتي دور العمات اللاتي قد يكن في حرج مع أزواجهن كما كانت عليه الأخوات. وأما الأخوال فهنّ أبعد من الأعمام باعتبار أن علاقتك معهم تكون عن طريق الأمهات اللاتي تحملن نفس الحرج الذي ذكرناه للأخوات في مقابل الإخوان. فدرجة الحرج تزداد وعلى المرء أن يكون أكثر رعاية لهن وأما الخالات فإن درجة المالكية لديهن أقل من كل من ذُكر بالنسبة لك فعليك بأن تشدد حيازيمك لاحترام أكثر للآداب في بيوت الخالات. هذه هي الآداب بالنسبة للأقارب.

ثم يأتي دور الآداب التي يجب مراعاتها لمن يحمل مفتاح بيت. ذلك مثل العامل الذي يحمل مفتاح بيت من يعمل لديه ليقوم بعمل هناك مقابل أجر. يحق للعامل أن يأكل من ذلك البيت بدون أن يطلب إذنا من صاحب البيت ولكن بحذر شديد. فقد يكون صاحب البيت قد أعد طعاما في بيته بانتظار ضيوف يأتونه والعامل لا يمكن أن يعلم بذلك عادة فسيخجل صاحب البيت حينما يعود ومعه ضيفه ويمنعه الحياء من التعرض للعامل. فعلى العامل بنفسه أن يراعي كل شيء فلا يأكل من ذلك البيت إلا إن جاع فعلا ومما لا يظن بأن صاحب البيت قد يكون أحوج منه إليه.

وأما الصديق فلعله يكون مبتليا بكل ما ذكرناه في الحالة السابقة إضافة إلى مزيد من الخجل أمام صديقه ولذلك على الصديق ألا يستعمل حقه في الأكل بلا إذن إلا عند الضرورة القصوى خوفا من أن يمسّ طعاما يكون صديقه أحوج إليه ولكن الصداقة تمنعه من أن يصارحه بعدم المس حياء وخجلا. وكما قيل بأن المأخوذ حياء كالمأخوذ غصبا.

ثم وضح سبحانه بأن الأكل جمعا مباح لهم ولكن عليهم الانتباه بأن الأكل منفردا أو في مجموعات صغيرة من مجموعات كبيرة أكثر حاجة لرعاية الآداب. ذلك لأن حضور الجميع على السفرة يعطي الإنسان نوعا من العلم بعدم وجود أشخاص آخرين بانتظار هذا الأكل فيرى المقدار ويرى الحاضرين جميعا ويمكنه بسهولة تقدير سهمه الحقيقي من ذلك الأكل. ولكن لو أنهم قدموا أكلا لمجموعة دون مجموعة أخرى فلعل مقدار الأكل يكون محدودا لديهم ولكنهم خجلا قدموه لمن هو أكثر غربة ثم إنهم سيقدمون ما لديهم للأكثر قربا منهم. هناك على المرء أن يحافظ بكياسته على حدود الآداب مراعيا أحوال أصحاب البيت.

فانظر أخي أولا بأن رعاية هذه الآداب تساعدك كثيرا على عدم التعدي عن حدود الأكل إلى النظر إلى النساء والبنات والتورط فيما لا يرضي الله تعالى ولا يرضي الذين تأكل في بيتهم. وهي تساعدك ثانيا على الشعور بأنواع الحرج وأنواع الرعاية النسَبية والمالية والأخوية لكل العلاقات. وأخيرا فهل يملك الأخ القبنجي سبيلا لإيجاز هذا الموضوع الهام والحيوي في بيان يعطينا نفس المعاني ويشير الى كلّ هذه الامور؟ أليس ذكر الموارد كلها أكثر إيجازا من بيان الحالات؟

جيم: ثم قال الأخ القبنجي بأن آخر سورة قريش غير بليغ لأن كل واحد يعرف بأن الإطعام هو من جوع وبأن الأمان هو من الخوف فكلمتا الجوع والخوف زائدتان. لنقرأ السورة بالكامل لنعرف ما يريد أن يقوله الله تعالى:

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4).

وحتى لا أطيل عليه وعلى القارئ الكريم فإن الخطيب قد نسي بأن الإطعام ليس معناها منح الأكل فقط بل معناها التقوية، فالإنسان يأكل حتى يتقوى. والأمان ليس من الخوف فقط بل من الجوع والعرى والمرض والجهل وما شابه ذلك وهذا أمر واضح في عصرنا الحالي. ولكني سأشرح معنى الطعام.

فطعم بالقرآن لا تُطلق فقط على الأكل بل على ما يقوي بصورة عامة. قال تعالى في سورة الذاريات:

مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58).

ليس الله تعالى كائنا محتاجا حتى يأكل ولكن يمكن أن يطلب المعلومات من أحد ليزداد علما بقضية مثلا. والآية الثانية توضح المعنى بأن الله تعالى هو الذي يرزق غيره بكل قوة فلا يحتاج إلى من يرزقه، وبأنه سبحانه هو ذو القوة فلا يحتاج إلى من يقويه لا بالمعلومات ولا بأية قوة أخرى فهو المتين. ونحن نستعمل الكلمة في التطعيم ضد المرض مثلا وتعني تقوية البدن لمقاومة المرض أو منح الحب لتقوية القلب كما قال الكميت:

بَلى إِنَّ الغَواني مُطعَماتٌ        مَوَدَّتَنا، وإِن وَخَطَ القَتِيرُ

وتعني الطلب المصحوب بالقوة كما قال أبو عبيدة:

تَدارَكهُ سَعْيٌ ورَكْضُ طِمِرَّةٍ       سَبُوحٍ، إِذا استَطْعَمْتَها الجَرْيَ تَسْبَحُ

والطمرة تعني الجواد.

وبالمناسبة فإن الرزق أيضا لا يعني الأكل في القرآن الكريم فإن النبي شعيب قال لقومه كما في سورة هود:

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88).

وليس معنى ذلك بأن الله تعالى أعطاه مالا أو أكلا حسنا فليتبعه الناس، بل المعنى أن الله تعالى منحه علما يفوقهم فليتبعوه.

دال: ثم ذهب الأخ القبنجي في خوضه دون رعاية للكتاب العظيم ودون حذر من أن يكون الكلام فعلا كلام سيد الكائنات جلّ جلاله، إلى مسألة أخرى. وهي عدم معرفة (كاتب القرآن!) للحساب. ذكر لنا الآية التالية من سورة البقرة:

وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196).

كنت أتمنى أن يراعي الأخ أدب المعارضة حينما قال هذا الكلام. هذه الآية تنطوي على مجموعة مسائل مذكورة في غاية الإيجاز ومختومة بذكر 3+7=10 كما قال القبنجي سامحه الله تعالى. كان عليه أن يفكر قليلا ويشك في نفسه قبل أن يشك في الكتاب العظيم. كان يمكنه بكل سهولة أن يعرف السبب دون أن يهين الله تعالى ورسوله وينسب إليهما الكلام الزائد. معاذ الله تعالى.

فلو أن أحدا تمكن من الصيام أربعة أيام في الحج فعليه أن يصوم في بيته ستة أيام ولو تمكن من أن يصوم خمسة أيام في الحج فعليه أن يصوم خمسة أيام في بيته، وهكذا. المفروض أن يسعى لئلا يقل صيامه في الحج عن ثلاثة أيام وأن يكمل العشرة في بيته. هذا هو الحكم كما نراه ونعلمه من الآية فليأت الأخ القبنجي بتعبير أوجز مما قاله الله تعالى دون أن يفسد المعنى ثم يعترض. وليعلم أن الله شديد العقاب ومن حقه أن يكون كذلك ليراعي العدالة بين الذي يحترم الحقيقة ويراعي الأدب والذي يفلت لسانه ليقول ما يخطر بباله دون أن يفكر. معذرة.

يتبع 

أحمد المُهري 

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.