يوسف أيها الصديق ح8 – يوسف الى مصر

تواصلا مع تفسير سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح8 – يوسف الى مصر

يوسف في الجب؟

وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿19﴾

بقي يوسف في الجب وحيدا ليس له إلا الله تعالى. هذا ما حصل لإبراهيم جده الأكبر وهو يُغادر وطنه ولكن يوسف الآن في سجن صغير محدود الحركة. جدران البئر أعلى من أن يفكر في تسلقها. لبس يوسف قميصه ليقيه من البرد والحشرات بانتظار الخروج بفضل ربه. لعل هذه المرحلة تعادل لحظات النار التي أحاطت بإبراهيم ذات يوم.

لم يبق يوسف كثيرا، يناجي ربه وهو مستمتع بالحديث القلبي مع الله جلت عظمته. هكذا يصل الأنبياء إلى الدرجات العلا وليس هناك طريق آخر. 

لا يفكر الإخوة بأن نظام العدالة الذي يحكم الكائنات لا يمكن أن يتحرك بغير أن يستعد ويتأهل المستفيد وغاب عنهم أن العزيز الحكيم لا يظلم مثقال ذرة. ولولا ذلك لما استقر شيء في الكون المهيب.

إنه سبحانه أقر قانونا للميراث باعتبار أن لأهل الميت أثر إيجابي في ثروة معيلهم ولذلك يورثهم الله تعالى القسم الأكبر من الميراث. وإذا اختار الله تعالى الأنبياء من أسرة واحدة فهو باعتبار تأثير المورثات الجينية فلا يمكن أن يكتفي سبحانه بها.

ألم يروا بأن يوسف وإخوانه كانوا جميعا أسرة نبي كريم واحد فلم يستفيدوا عدا يوسف من مواريث الأنبياء؟ مما لا شك فيه أن يعقوب كان في ريب من أن تبقى النبوة في أسرته حينما طال العهد وكبر أكثر أولاده دون أن يرى البوادر.

وصلت القافلة بعد وقت غير طويل احتمالا واتجهوا نحو الجب الذي يدعو منه يوسف ربه، وكأنهم على موعد معه. هكذا يقدر الرحمن لعبيده أن يكونوا في عون بعضهم إن يريد هو العون ولو أنهم يريدون غير ذلك كما يُقدِّر سبحانه أن يضروا بعضهم أحيانا إن كان يرى في الإضرار مصلحة ولو أنهم يريدون النفع.

أرسلت السيارة الواردة ساقيَها ليجلب لهم الماء من البئر العميق. هذه عادة القوافل أن يتقدمهم الوارد ليحضر لهم الماء. أدلى الساقي دلوه بانتظار الماء فركب يوسف الدلو بدل الماء. ليس غريبا لو نظن بأن الساقي ذهل حينما رأى الدلو يحمل غلاما بدل الماء. ولعله كاد أن يترك الدلو ولكن الذي قدَّر ذلك فهو الذي يحفظ أيضا إنه حميد مجيد.

تمالك الساقي نفسه مناديا زملاءه ومقدما لهم البشرى بأنهم حصلوا على غلام. لم تكن اللغة غريبة عليهم وكان بإمكانهم التحدث إليه. كما لا نشك بأنهم توسموا فيه أنه ابن أسرة مرموقة وبأن هناك مشكلة بسيطة وراء وجود هذا الفتى في البئر.

إن المروءة والشرف تفرض عليهم أن يسألوه عن أهله ليعيدوه إليهم إن لم يكن في إعادته خطر على حياته. ومن أكثر الاحتمالات قبولا بأن يوسف قال لهم شيئا عن أمره وبأن أباه وأمه ينتظران أي خبر منه. لكن السيارة أو أصحاب القرار فيها رأوا بأن من مصلحتهم أن يخفوا أمره ويعتبروه بضاعة ليستفيدوا من بيعه.

هؤلاء هم المجموعة الثانية التي تؤدي اختبارها بعد إخوانه فتفشل أمام ربها كما فشل إخوة يوسف. ويكتفي الله تعالى بأن يهدد عبيده بعلمه وبأنه مترصد لهم. إنه سبحانه لا يخاف أن يهرب منه أحد ولا يخشى أن يشاء أحد أمرا خارج نظام مشيئته جل وعلا. قال سبحانه في سورة التكوير:

وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29).

يفزع العاقل حينما يتصور الناس يفعلون ما يفعلون ضد بعضهم غافلين أن ملك الكون المهيب معهم يراقبهم ويعد أنفاسهم.

إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95/مريم).

والبضاعة تُطلق أصلا على القطعة الطيبة الهبرة من اللحم. ولكن يحتمل أنه قد اصطلح فيما بعد على ما يملكه المرء من طيب المتاع ليستعمله في تجارته. فالتاجر لن يتسنى له المتاجرة بغير الحسن الثمين مما يملكه. ولذلك فالبضاعة مال للتجارة وهو من أطيب المال.

ولم ترد هذه الكلمة بهذا المعنى في غير سورة يوسف في القرآن الكريم. فوردت كتعريف لمن لا يعرف يوسف بعلمه وتقواه ولكنه يعرفه بأنه مال طيب للتجارة، كما وردت لما قدمه إخوان يوسف ثمنا للحبوب ولذلك وبعد أن اضمحلت أحوالهم سموا بضاعتهم بالمزجاة. فنعرف بأن البضاعة في القرآن تعني فعلا الطيب من المال ولو استعمل أحد الرديء للتجارة فهي بضاعة غير نقية بل هي مزجاة، والعلم عند من أنزل القرآن سبحانه وتعالى.

اصطحبت قافلة التجار يوسف معها لتبيعه في مصر. فلعلهم كانوا فعلا تجار مصر لكنهم لم يعلموا بأنهم يبيعون من سوف يحكمهم ويتحكم في طعام بطونهم طيلة سبع أو أربعة عشر عاما بالأحرى.

عرضوا يوسف بكل حذر وخوف في سوق النخاسة. كانوا يخافون من أن تتفتح قريحة يوسف ليفهم الناس قصته فيواجهوا مشكلة كبيرة. إن النُخّاس عادة ما يتعاملون مع الأباعد من البلدان البعيدة جدا أو يتداولون ما ملكت أيدي شعوبهم خلال الحروب.

والأهم من ذلك أنهم لم يكونوا تجار عبيد وإماء فالشكوك قد تحوم حولهم بأنهم سرقوا الغلام من بيت من بيوت أغنياء مصر. والطامة الكبرى تكون إن نودي في المدينة بأن غلاما قد ضاع من الوزير أو العزيز أو النبيل. بقي يوسف في معرض البيع لحظات حتى حام حوله الزبائن وكذلك تجار العبيد.

ومن طرف آخر فإن أحد وزراء فرعون كان عقيما أو كانت امرأته عاقرا. كان هو وزوجته يتمنيان الولد فكأن الوزير كان بصدد شراء طفل أو تبنيه.

ولا نعلم ما الذي أوصل الوزير إلى سوق النخاسة؟! على أننا نعلم بأن بيع يوسف ما كان ممكناً خارج السوق. فكل بيع من ذلك الشكل يُعتبر نوعا من التخفي وغير مأمون العواقب. كما نعلم بأن الوزير لن يقبل أن يشتري عبدا من المارة. فيا ترى هل أوصى الوزير أحدا ليُعلمه عن أي غلام أو طفل مميز يدخل السوق أو أنه كان مارا في عودته ظهرا إلى قصره وكان السوق في طريقه فانتبه إلى أن أهل السوق يحومون حول بضاعة جديدة دخلت السوق أو أي احتمال آخر؟

المهم أن الوزير انتبه لذلك وبمجرد دخوله السوق ابتعد الآخرون احتراما له وخوفا منه. رأى الذين انتحلوا يوسف بضاعة بأن من الخير لهم أن يرضوا الوزير فلا ينكشف أمرهم. لعلهم تمنوا أنهم لم يأتوا به في السوق بل لم يأخذوه من المنطقة التي أخرجوه فيها من الجب.

من الطبيعي أن تتوقف المزايدة حينما دخل العزيز واختار يوسف ليشتريه. ولو فرضنا أن المزايدة كانت في بدايتها فمن يجرؤ أن يزيد على سوم الرجل الحكومي الخطير. ولذلك باعوه بما تسنى لهم دون تعطيل. لم يحصلوا على سعر معقول بل باعوه بسعر أرخص بكثير مما يُباع أمثاله، لو فرضنا وجود أمثال له. حالهم كان حال لص سرق ابن ملك من الملوك وعرضه للبيع فهو في خوف وذعر ويبيع بأي سعر لأنه لص كبير. وصدق الحق المتعالي حيث قال:

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴿20﴾

انتقل ابن إسرائيل إلى قصر الوزير المصري الذي اشتراه بسعر زهيد ولكنه لمس كبرياء في الغلام يستحق معه أن يتبناه. لو كان يوسف طفلا لما كان هناك إشكال في تبنيه ولكنه كان غلاما في بداية الرجولة. لكن العزيز على أي حال لم يرض بأن يسميه عبدا أو خادما. فلم يقل عسى أن يخدمنا أو يحرس بيتنا مثلا. لقد أوصى زوجته في يوسف قائلا: أكرمي مثواه. وهو يعني ما يقول بأن يجعله عضوا أساسيا في البيت كما لو كان لهما ولد.

لا ندري ما الذي جذب الوزير وليس لنا أن نقول إلا أنه الذي اجتباه ربه للنبوة. وأنه سيدخل بيتا غريبا عليه لغرض تربوي كبير. في الحقيقة أنه لا يمثل في منطق السماء دور المالك بل هو الذي اشتراه من مصر. إن له دورا هاما في هذه المسيرة الكبيرة ولكنه يجهل دوره.

الغريب في قصة يوسف أن كل الأشخاص يقومون بأدوار لصالح القضية ولكنهم يقصدون شيئا آخر. والعجب من ربنا العظيم الذي له هدف خاص يستعمل فيه من يشاء من أصحاب القدرات بالشكل الذي يريده في حين أنه سبحانه يختبرهم ويُبلي نفوسهم أيضا. حكمة غريبة لا يسع الإنسان إلا أن يخضع إجلالا للعليم الحكيم. دعنا نقول كما قال ربنا وهو يصف لقاء العزيز بزوجته مصطحبا يوسف:

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿21﴾

يظن الوزير المسكين أنه اشترى من سيبقى عنده إما ولدا أو مساعدا مكرما. وهو أيضا يجهل بأن هذا الذي اشتراه من مصر سوف يدخل قلب ملك مصر قريبا فيصير الوزير المقتدر تحت ظلاله.

لنقرأ قصة يوسف مع الوزير المصري الذي سيفتح الأبواب أمام يوسف دون أن يخطر بباله ما سينتج من إكرامه ليوسف. ولنكن واقعيين فإن العزيز فعلا أكرم يوسف وما يقوله اليهود بأن الملك طرد العزيز وأخذ منه زوجته وزوجها بيوسف هو غير صحيح.

ينظر اليهود إلى يوسف نظرتهم إلى أنفسهم التي لا تتعدى مصالحهم وقلما نراهم يهتمون بالمبادئ والمثاليات. كيف يمكن أن نتصور هذا اللؤم في نبي عظيم مثل يوسف؟ سنرى بأن كل مواقف العزيز كانت جميلة محمودة تدل على أنه أحب يوسف واعتبره ابنا له فعلا. ولا نعرف من الذي أرسل يوسف إلى السجن، فالقرآن لم يصرح بأنه العزيز نفسه.

وكان يوسف مهتما أن يعلم العزيز بأنه لم يخنه بالغيب. فالعزيز برأيي هو أحد أفضل أبطال القصة. إنه كريم ولذلك يقول لها: أكرمي مثواه. لقد رأى يوسفَ دقائق أو ساعة مثلا وأكرمه وأمر بإكرامه فهو إنسان طيب بالمفهوم الإنساني.

وذكر سببين لأمره بالإكرام وهما: أن ينفعهما، أولا. ذلك يعني أن يستفيدا من ذكائه وعلمه والكرماء يكرمون العلماء. لم يقل أن نستفيد منه فيعني أنهما يشغلانه فينتفعان من عمله. بل نسب النفع إلى يوسف بأنه هو الذي ينفع فقال ينفعنا. هذا يعني بأن العزيز شعر بأن الضيف الجديد إنسان كريم لا يحتاج إلى من يأمره بأمر، بل هو الذي يقدم ما بيده لينفع الآخرين.

وحتى يقفل الطريق أمام زوجته فلا تُشكِّك في حسن نيته أضاف بأنه لائق لأن نتخذه ولدا، ثانيا. ويعني بأنه يمكن أن يسد النقص الذي منينا به. ولعل السبب الأساسي في أنه بدأ بما يمكن أن يصلهم من نفع من يوسف هو أن النساء يكرهن عادة أن يُنظر إلى كبر عمرهن. فأن يُقال بأن هذا الغلام ابن لسيدة البيت يعني بأنها ليست صغيرة كما تنظر هي إلى نفسها ولذلك بدأ بما ينتظره من نفع من وراء يوسف ثم ذكر النقص الموجود بينهما. وكلا السببين يدلان على أنه صار مشدودا ليوسف ولا يريد أن يخسره بأي ثمن.

أما السيدة فسنعرف بأنها فعلا لم تنظر إلى يوسف كولد لها بل نظرت إليه نظرة أخرى. ويمكن أن نقول بأنها أرادت أن تصفع زوجها الذي عرض عليها تبني غلام مثل يوسف فهي أصغر من أن تكون أما لهذا الغلام. لعلها كانت تنتظر الأولاد ولعلها كانت تظن بأن زوجها هو السبب، لكنها على أية حال لا تتوقع أن تكون أما لفتى في هذا العمر. وسوف نحلل الموضوع فيما بعد بإذن الله تعالى.

وأما المشهد الخفي لهذه القضية فهو أن الله تعالى أراد للعزيز وقصره وكل من يزوره، أن يكون مدرسة تأهيلية للنبي المقبل على تحمل مسؤولية جسيمة ليتعلم تأويل الأحاديث.

وتأويل الأحاديث أعم من تأويل الأحلام ولكن وجود عدة رؤى في مسيرة النبي يوسف جعل المفسرين يظنون بأن الله تعالى أراد أن يعلمه تأويل الأحلام .8

 (هامش 8:  إنه تعلم تفسير الأحاديث وعن طريقها تمكن من تأويل الأحلام في الواقع.

لننظر نظرة سريعة إلى مفهوم الأحاديث في القرآن الكريم. وقبل البدء في الموضوع دعنا نفهم أن تأويل الأحلام غير تأويل الأحاديث.

فقد استعمل القرآن لفظ تأويل الأحلام في سورة يوسف ولو كان ذلك مرادفا لتأويل الأحاديث لكان ممكنا أن يكتفي بواحد منهما حتى لا نضيع في معناهما. ولم يقل الله تعالى ولا يعقوب بأن الله أراد ليوسف أن يتعلم تأويل الأحلام. إنه سبحانه سمى قصة يوسف حديثا في آخر السورة حينما قال سبحانه: ما كان حديثا يُفترى، كما سمى قصة ضيف إبراهيم حديثا أيضا. إنه سبحانه سمى القرآن حديثا بل سماه أحسن الحديث. فالحديث هو عامة الكلام الذي يخرج من شفتي المبتكر في الواقع فيكون حديثا بالنسبة لما ألفه الناس. دعنا نحاول فهم الموضوع بطريقة اوسع.

لو أننا نسعى لتدبر السر في القضايا التالية في القرآن فسوف نصل إلى بعض الحقائق العلمية، بصورة طبيعية:

1.      كان نوح قريبا من الذين يحكمون قومه قال تعالى في سورة الشعراء:

         كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ (111).

         فقوم نوح الأصليون هم الملأ الذين كذبوه وهم الحاكمون هناك. كانوا يشعرون بأن هذه الدعوة لا تفرق بين النبيل والرجل العادي ولذلك خالفوه بشدة. وهكذا قوم هود وصالح فلقد خاطب الله تعالى الحاكمين بأنهم قومهم الحقيقيون واستعمل لهم كلمة الأخ.

2.      كان إبراهيم قريبا من الملك العراقي ولعله نمرود وكان آزر أبوه وهو من المقربين إلى الملك. ولقد رأينا بأن إبراهيم دخل على الملك وقام بمناقشته وهو أمر مستحيل للأباعد.

3.      تربى موسى في قصر فرعون منذ نعومة أظفاره حتى اشتد ساعده. ثم عاد مرة أخرى إلى قصر أبيه الذي تبناه، فدعاه وصبر عليه فترة طويلة لعله يتذكر أو يخشى.

4.      تربى عيسى في حضن زكريا وهو سيد قومه بل هو سيد بني إسرائيل وهم أكبر قوم احتفظوا بقيمهم العائلية هناك.

5.      لم يكن محمد بعيدا عن سادة قريش فعمه كان موئلا لهم وبنو أمية الحاكمون يشعرون بحقوق بني هاشم في الأسرة القرشية الكبيرة ويعترفون بها.

لنسعَ الان لفهم الأسباب الحقيقية وراء اختيار الله تعالى أنبياءه من بين الأسر والأقوام القريبة من الملك والسلطة.

إن من ذكرناهم عدا هود وصالح فهم المعروفون بأولي العزم بيننا نحن المسلمين. وأما داود وسليمان فهما قد بنيا لنفسيهما سلطانا بقوتهما. والذي نعرفه بأن داود هو الذي بنى المجد بانتصاره على الفلسطينيين القدماء ثم آتاه الله الملك والنبوة. فهو ملك قبل أن يكون نبيا فيكون سليمان متربيا في ظلال العرش السلطاني. ولعلنا نستوحي لذلك الامر الأسباب التالية من كتاب الله تعالى:

1.      الدعوة السماوية تأتي للقرون وليس للأفراد، والقرون هم المجموعات المتكاملة المتقارنة مع بعضها والذين يشكلون أمما كاملة. فيهم الملوك والنبلاء والعلماء والأغنياء والصناعيون والحرفيون والعمال والفقراء.

2.      الأنبياء ليسوا مأمورين بدعوة كل البشر وإلا لكانوا متواجدين في كل زمان ومكان. ذلك لأن نظام الألوهية لا يريد من بعض الأقوام الكاملة إلا أن يصيروا نماذج لغيرهم من البشر. هكذا يمكن انتخاب مجموعة أكبر من الناس لدخول جنات النعيم. ومن السهل معرفة أن الله تعالى كريم يريد أن يتوقى إرسال عبيده إلى النار. إنه سبحانه يحب أن يهتدي الناس جميعا فتعمُّ عليهم نعمه وأرزاقه ويُظهر بهم كرمَه وجوده. وما يأتي به من اختبار فهو من ضرورات عدالته التي لا يمكن أن يتجاهلها. فهو رب العالمين جميعا.

3.      إن الملوك هم مراجع القدرات المالية والعسكرية وهكذا القضاء والتنفيذ وأحيانا التشريع، لهم جاذبية خاصة يجتمع في حضرتهم العلماء في كل الفنون. فمنهم ومن مجالسهم ومؤسساتهم يظهر وينتشر ما استحدث من ابتكارات علمية ومِن عندهم تبدأ اللغات الجديدة. ولذلك فلا يمكن إدراك مغزى الجمل الجديدة والاستعمالات المستحدثة للكلمات في اللغات الأصلية إن ابتعد الإنسان عن مجالس الملوك. فاللغة والحضارة والثقافة العامة ليست إلا اتفاقا اجتماعيا على استعمال كلمة أو اتخاذ عادة أو إبداع علاج لأمراض المجتمع وأمراض أفراده، فتحتاج إلى مجمع يتفق فيه المجتمع، والملك هو المسيطر على تلك المجامع المختلفة. والنبي إنسان يريد أن يتحدث إلى الأمة فعليه أن يبدأ بملوكها لأن الناس على دين ملوكهم. ثم عليه بأن يتعرف على حضارة الأمة ويفهم لغتها ويتعرف على استعمالها لكل مفردة لغوية وخاصة المفردات الحديثة فعليه أن يتواجد في المجالس الملكية، حتى لا يكون بعيدا عن التطور العام لمجتمعه وقومه.

لهذه الأسباب الجوهرية في تبليغ أوامر الله تعالى ونواهيه وحكمه وعامة تشريعاته وخاصة قبل الدعوة الختامية – التي لها خاصية أخرى، نسعى لنتحدث عنها في نهاية هذا البحث – فإن الله تعالى قدّر أن ينبثق أنبياؤه من بيوت الملوك أو يتواجدوا بينهم من الصغر أو من عهد الشباب ليتعلموا لغة المجتمع ويتعرفوا على بديهيات الأمة التي سيتولون تبليغ رسالة السماء فيها.

فتأويل الحديث هو بمعنى تفسير الكلمات والجمل المستحدثة الخاصة بالأمة التي يكون المرشح للنبوة والرسالة مستعدا لمواجهتها والاندماج معها. أضف إلى ذلك بقية علامات التواصل من إيماءات وإشارات وعادات وتقاليد ووو.

وحتى يسهل على القارئ فهم هذه المسألة الجوهرية فيمكن له أن يفكر قليلا في الذين يرشحون أنفسهم للمناصب العليا مثل رئاسة الجمهورية وحتى الذين يترشحون للنيابة في البرلمان فإن الناخبين يهتمون كثيرا بخطبهم وبالمناقشات العلنية معهم. إنهم من خلال ذلك يتعرفون على حقيقة الشخص فيصوتون له أو لا يصوتون.

وطيلة حكمه ونيابته فإن خطبه هي التي تقنع الناس ليساندوه وبها يستولي على أذهان الكثير من المنتقدين وبها يبدل كل إشكال لصالحه. ولذلك نرى بأن القوانين المتطورة تفرض على المرشح للرئاسة أن يكون مقيما في وطنه زمنا أكبر من أزمان أسفاره. ذلك ليكون على علم مستمر ومتواصل بالتطور الثقافي والحضاري وليكون قادرا على التفاهم مع مجتمعه. وأصل التفاهم هو اللغة وفهم اللغة ليعرف كيف يوصل رسالته كما يعرف في المقابل رسائل المستمعين والمرسلين إليه. ولولا ذلك لا يمكن أن ينجح في رسالته ولا يمكن أن يصل إلى هدفه متسلحا بالقوة النفسية المطلوبة.

فمن ضروريات الرسول الإلهي أن يكون على علم كامل بلغة الناس ولولا ذلك فإنه سيكون عديم الشأن.

هذا لا يعني أن يكون بليغا بالضرورة ولا يعني أن يعرف النحو والصرف. فموسى بن عمران لم يكن بليغا ولكنه كان يعرف لغة الأقباط ويعرف تأويلها بالكامل كما يعرف كيف يتحدث إليهم بحيث يفهمونه.

والحقيقة أن مسألة التحدث المباشر إلى الناس لا تحتاج إلى المزيد من العلم بالبلاغة وخفايا الكلمات الغريبة. ذلك لأن الذي يعرف ما يريد أن يقوله فإنه يضيف إلى رسالته الخطابية إشاراته اليدوية والعينية وكذلك يفيض على الحاضرين وحيه النفسي والقلبي. ولكن المهم أن يعرف ما يقول الناس له.

بالطبع أن البلاغة الخطابية تساعده كثيرا ولكن المهم ألا يستعمل الألفاظ والكلمات التي تدل على مفاهيم أخرى بعيدة عن موضوع حديثه وبحثه أو خطابه. ولو نتعمق في المسألة لنتدبر مسألة رسالة السماء التي لا يحملها إلا من هو لائق بالارتباط بالله تعالى وبالناس. فالرسول الذي يجهل التواصل مع الناس لا يليق بالله أيضا. كيف يمكن لرسول لا يعرف العربية مثلا أن يحمل القرآن العظيم أو لا يعرف العبرية أن يحمل التوراة العظيمة؟.  نهاية الهامش8.)

وقبل أن نكمل الكلام حول تأويل الأحاديث جدير بأن نلتفت إلى أن الله تعالى أشار إلى دخول يوسف في قصر العزيز هكذا:

 وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.