القصة الحقيقية للثورة المصرية 6- الطريق الى القاهرة

مدخل ( هل سمع أحد من قبل عن ثورة لا صاحب لها؟  هذه ثورة لها صاحب ككل ثورة قبلها وكل ثورة بعدها.  كل الفرق أن صاحبها يهودي وهذا هو السبب في أننا لا نعرفه.  )


الطريق إلى القاهرة

قرر الحاج محمود أن خير طريقة للخروج من الإسكندرية هي الابتعاد عن الشوارع الداخلية حيث أقام الأهالي نقاط تفتيش لا تبتعد الواحدة منها عن الأخرى أكثر من عدة أمتار بما يعني أنهم كانوا سيقضون الليل في الانتقال من نقطة تفتيش إلى نقطة تفتيش.  كان من الضروري كذلك الابتعاد عن مديرية أمن اسكندرية, وقسم شرطة سيدي جابر, وقسم شرطة شرق حيث كانت كل أقسام الشرطة في الاسكندرية تتعرض للهجوم ثم الحرق.  كان ذلك يعني أن الطريق الوحيد الذي يمكن أخذه هو طريق الكورنيش ومن هناك إلى محرم بك ثم طريق المطار وبالتالي الطريق الزراعي إلى بركة السبع.  طلب الحاج محمود من الشيخ حسن وزينب أن يقرأ الجميع الفاتحة عسى أن يفتح الله لهم طريقهم.  قرأ الجميع الفاتحة, وأدار الحاج محمود السيارة, وساروا على بركة الله في الطريق إلى كفر نفرة.

مضت السيارة في شارع أبو قير.  كان الشارع مهجورًا ورائحة الحريق تملأ الجو.  لمح الجميع النيران المتصاعدة من قسم شرطة سيدي جابر.  دخل الحاج محمود شارع سوريا ومنه إلى الكورنيش إلا أنه فوجيء أن أهل اسكندرية قد قرروا الخروج جميعهم إلى الكورنيش.  أدرك الحاج محمود أن فكرة الاتجاه إلى وسط البلد مستحيلة وأن عليه الخروج من الاسكندرية بطريق آخر.  كان الطريق الوحيد المتاح هو الاتجاه شرقًا نحو سيدي بشر والانطلاق من هناك إلى الطريق الزراعي.  إذا كان الوصول إلى الطريق الزراعي عن طريق سيدي بشر في الأيام العادية صعبًا فإن الوصول إلى الطريق الزراعي عن طريق محرم بك في اللحظة التي نحن فيها الآن هو شبه مستحيل.  المشكلة هي أن أي بديل آخر كان أسوأ.

استغرق الخروج من الإسكندرية وقتا طويلا حتى وصلت السيارة إلى الطريق الزراعي.  لم يتحدث أحد طوال هذا الوقت.  لا الشيخ حسن, ولا زينب, ولا مصطفى, ولا حتى الحاج محمود.  ما أن وصلت السيارة إلى الطريق الزراعي, على أية حال, حتى انطلق الحاج محمود في التعليق على الأنباء الصادرة عن الراديو.  أكد الحاج محمود أن هذه الثورة ثورة فاشلة وأن المحرك الرئيسي لها هو إسرائيل والدليل على ذلك هو الهجوم على أقسام الشرطة وحرق أقسام الشرطة, ومديرية الأمن, ومبنى المحافظة, وممتلكات الحكومة.  لا يمكن لأي إنسان مصري أن يحرق أموال الحكومة لأن أموال الحكومة هي أموال مصر.  مرة أخرى, لم يعلق أحد بشيء باستثناء الشيخ حسن الذي كان كثيرًا ما يعلق على كلام الحاج محمود بقوله إن الله غالب. 

إذا كان الخروج من الإسكندرية قد أخذ أكثر من ساعتين فإن الوصول إلى بركة السبع لم يأخذ أكثر من ساعتين.   اتجه الحاج محمود يسارًا في الطريق إلى كفر عليم ومنها إلى هورين ثم كفر نفرة.  لم يختلف الطريق من بركة السبع إلى كفر نفرة عن الطريق من بولكلى إلى سيدي بشر, فالحواجز مقامة والأهالي متجمعون حولها لتفتيش السيارات الداخلة إلى كفر عليم, أو هورين, أو حتى كفر نفرة.  كان الفرق الوحيد هنا أن لا أحد كان يطلب من الحاج محمود إبراز أية أوراق.   الكل هنا يعرف الحاج محمود, والحاج محمود يعرفهم, ويعرف آباءهم, إن لم يكن جدودهم أيضا.  وما هي إلا دقائق حتى وقفت السيارة أمام دار الشيخ حسن.  كانت الساعة حوالي الثانية عشرة تقريبا.

خرجت الحاجة كريمة على أصوات السيارة لترى ما الأمر لتفاجأ بأحلى منظر في الدنيا.  منظر الشيخ حسن وزينب وهما متجهان نحو الدار.  كانت تتمنى أن تزغرد فرحة بعودة الشيخ حسن وزينب ابنة الحاجة صفية بالسلامة إلى البلد, إلا أنها كانت تعرف ابنها وتعرف أن ذلك لن يسعده.  احتضنت الحاجة كريمة زينب وقبلتها, ثم احتضنت الشيخ حسن وقبلته كذلك.  كانت تردد بشكل متواصل أن الحمد لله.  اتفق الشيخ حسن مع الحاج محمود أن يتحركا إلى القاهرة بعد صلاة الفجر مباشرة, كما طلب من حسين أن يأخذ الأستاذ مصطفى إلى غرفة المسافرين ثم اتجه إلى إلى غرفته لتغيير ملابسه.

تناول الشيخ حسن طعام العشاء مع الأستاذ مصطفى في غرفة المسافرين.  لم يتحدث أحد كثيرًا.  مرة أخرى كانت العيون والآذان تتابع قناة الجزيرة لرؤية ما يحدث في ميادين مصر.  وما أن انتهى الطعام حتى استأذن الشيخ حسن وذهب إلى غرفته لينام ولو ساعة.  وفي الصباح قام وتوضأ ثم خرج هو والأستاذ مصطفى وحسين إلى المسجد لصلاة الفجر.  كانت سيارة الحاج محمود شاهين تقف أمام المسجد.  أدى الجميع الصلاة ثم اتجهوا إلى السيارة.  سلم الحاج عبد المنعم العكابري على الشيخ حسن وتساءل عما إذا كان “الأهل” بخير.  رد الشيخ حسن أن الجميع بخير والحمد لله وأن سفره إلى القاهرة هو بسبب العمل لا أكثر ولا أقل. 

استأذن الشيخ حسن من الحاج محمود لكي يسلم على أمه قبل السفر, واتجه إلى الدار.  استقبلته أمه وزينب وهما في حيرة.  لم تكونا تعرفان ما الذي يمكن أن يدفع المهندس خيري إلى أن يطلب من الشيخ حسن أن يسافر من الاسكندرية إلى القاهرة بينما الاسكندرية والقاهرة تحترقان, والشرطة سقطت, وامتلأت الطرق بالقتلة وقطاع الطرق.  ثم ما الداعي لإرسال الشيخ حسن طالما أن الأستاذ مصطفى موجود؟  إذا كانت المسألة مسألة توصيل رسالة ألا يكفي الأستاذ مصطفى والحاج محمود شاهين؟  نظر الشيخ حسن إلى وجه أمه وعروسه وابتسم “يا أمي. كله خير بإذن الله.  وصيتك زينب”.  انهالت الدموع على وجه زينب ثم على وجه الحاجه كريمة.  لم يصدر صوت واحد عن أي منهما إلا أن الدموع تفجرت عندما استدار الشيخ حسن خارجا من الدار في الطريق إلى القاهرة.

لم يكف الحاج محمود عن تغيير مؤشر الراديو من محطة إلى محطة, كما لم يكف عن التعليق على الأنباء الواردة عن أحداث ميدان التحرير.  لم يكف الشيخ حسن هو الآخر عن ترديد عبارة “الله غالب”.  لم يجد الشيخ حسن عبارة تعبر عن الوضع أفضل من هذه العبارة.  لا أحد يعرف ماذا يحدث في ميدان التحرير.  على الأقل, الشيخ حسن لا يعرف ماذا يحدث في ميدان التحرير.  كل ما يعرفه هو أن لديه رسالة عليه تسليمها لأصحابها في القاهرة. 

نام الأستاذ مصطفى طوال الطريق من كفر نفرة إلى القاهرة.  كان واضحًا تمامًا أنه لم ينم دقيقة واحدة في كفر نفرة وإنما أمضى الليل أمام التلفزيون.  إلا أنه ما أن اقتربت السيارة من شبرا الخيمة حتى قام من النوم وبدأ في توجيه السيارة من شارع إلى شارع.  كان واضحًا تماما أن الأستاذ مصطفى يعرف كل شبر من القاهرة إن لم يكن كل واحد من سكان القاهرة.  لم يطلب أحد من الأهالي الواقفين على نقاط التفتيش الممتدة من شبرا الخيمة إلى المقطم أي أوراق من الحاج محمود على امتداد الطريق من شبرا الخيمة إلى المقطم.  كانت تحية واحدة من الأخ مصطفى تكفي لفتح الطريق. 

توقفت السيارة أمام مبنى كبير يقف أمامه آلاف الشباب.  أراد الحاج محمود التوقف في مكان آخر بعيدًا عن الزحام إلا أن الأخ مصطفى أخبره بصوت هادئ وثقة أن السيارة هنا ستكون في أمان.  نزل الجميع من السيارة واتجهوا إلى داخل المبنى.  استمر الأستاذ مصطفى في سيره إلى أن دخل غرفة صغيرة بها مكتب يجلس عليه رجل في الخمسين من العمر.  رحب الرجل بهم باهتمام حقيقي وطلب منهم أن يتفضلوا بالجلوس لدقائق ثم خرج من المكتب وأغلق الباب خلفه.   لم تمضِ إلا دقائق, على أية حال, حتى عاد وطلب بأدب من الشيخ حسن أن يذهب معه إلى مكتب الدكتور محمد.   نظر الرجل إلى الحاج محمود وقال له إن الأمر لن يستغرق أكثر من دقائق. 

دخل الشيخ حسن مكتب الدكتور محمد ليجد في انتظاره رجلاً في الأربعين من العمر تقريبا.  رحب الرجل به بهدوء وطلب منه الجلوس ثم دخل غرفة جانبية وعاد منها ليطلب من الشيخ حسن مقابلة الدكتور محمد.  وجد الشيخ حسن رجلا قليل الحجم يميل شعره إلى الشيب جالسا إلى مكتبه.  نظر الرجل إلى الشيخ حسن وابتسامة مرهقة تعلو وجهه وطلب منه الجلوس.  شكره على المجهود الذي قام به وقال إنه يفهم أن الأخ خيري أرسل معه رسالة.  مد الشيخ حسن يده في جيبه وأعطاه الرسالة.  شكره الدكتور محمد مرة أخرى وأخبره عن ضرورة أن يتناول طعام الإفطار قبل العودة إلى الإسكندرية.  جاء رد الشيخ حسن بالشكر على دعوة الدكتور محمد الكريمة وخرج من الغرفة.

سأل الشيخ حسن عن مكان المسجد, وتوجه هو والحاج محمود لصلاة الصبح ثم توجها بعد ذلك إلى المطعم لتناول طعام الإفطار.  أعلن الحاج محمود عن رغبته في النوم ولو لساعة حيث إنه لن يستطيع العودة إلى كفر نفرة قبل أن ينام ولو ساعة.   أدرك الشيخ حسن ساعتها أن الحاج محمود لم ينم هو الآخر ليلة أمس وإنما سهر أمام التلفزيون.   لم يكن الأمر, على أية حال, يحتاج إلى نقاش.  تناول الحاج محمود والشيخ حسن طعام الإفطار واتجها إلى المسجد مرة أخرى.  هذه المرة ليناما ولو ساعة.  في الطريق إلى المسجد لحق بهما الأستاذ مصطفى وأبلغ الشيخ حسن أن الدكتور محمد يريد أن يقابله لدقائق بعد صلاة الظهر. 

قام الشيخ حسن من النوم قبل صلاة الظهر بقليل, وتوضأ وصلى ركعتين ثم جلس يقرأ في كتاب الله حتى تقوم الصلاة.  دخل الدكتور محمد وأم المصلين ثم اتجه نحو الشيخ حسن وسلم عليه واتجه الاثنان إلى مكتبه.  أغلق الدكتور محمد الباب خلفه واتجه إلى مكتبه وتناول ظرفا مغلقًا ناوله للشيخ حسن وطلب منه إعطاؤه إلى الأخ خيري في الاسكندرية.    نظر الدكتور محمد إلى الشيخ حسن وطلب منه ضرورة تناول طعام الغداء في المطعم قبل السفر, وصافحه واتجه نحو مكتبه.

لم يختلف طريق العودة إلى الإسكندرية عن طريق القدوم من الإسكندرية.  كان الطريق الزراعي مهجورًا تماما.  لم يتوقف الحاج محمود عن نقل مؤشر الراديو من محطة إلى محطة بحثًا عن آخر الأخبار, كما لم يتوقف عن التعليق على الأخبار التي يسمعها.  كان متأكدًا تمام التأكد أن الذي قام بهذه الثورة هم اليهود والدليل على ذلك هو أنه لو كان الذي قام بها هم المصريين لسمعنا عنهم ولعرفناهم.  هل سمع أحد من قبل عن ثورة لا صاحب لها؟  هذه ثورة لها صاحب ككل ثورة قبلها وكل ثورة بعدها.  كل الفرق أن صاحبها يهودي وهذا هو السبب في أننا لا نعرفه.  إلا أن الذي كان يشغل بال الحاج محمود حقيقة فهو ما كان يفعله الشيخ حسن.   ما الذي يفعله الشيخ حسن؟  وما هو موضوع الرسائل المتبادلة بين الإسكندرية والقاهرة؟  ولماذا الشيخ حسن؟  إذا كان هناك رجل “مهم” مثل الأستاذ مصطفى فلماذا لا يتم إرسال الأستاذ مصطفى وانتهى الأمر؟  بل لماذا يتم إرسال رجل مهم مثل الأستاذ مصطفى لمجرد “فتح الطريق” أمام الشيخ حسن؟  والأستاذ مصطفى – كما ثبت أمامه من موقف كل اللجان الشعبية من شبرا الخيمة إلى المقطم – رجل مهم.   المهم هنا, وهذه نقطة كانت واضحة تماما للحاج محمود, أن من المستحيل توجيه سؤال واحد من هذه الأسئلة إلى الشيخ حسن.  لم تكن المسألة هنا أن الشيخ حسن لن يجيب على السؤال وإنما أنه لن يسمح بالسؤال أصلاً.  هذه أسئلة ممنوعة من أصله.  النقطة الثانية الواضحة تمام الوضوح كذلك هي أن هذا رزق.  في ظل الوضع القائم الذي لا تتحرك فيه سيارة أجرة واحدة على أي طريق في مصر كانت سيارة الحاج محمود تقطع الطريق من الإسكندرية إلى مصر ومن مصر إلى الإسكندرية.  هذا رزق.  اللهم أدمها نعمة وامنعها من الزوال.  واستمر الحاج محمود في تقديم شريط الأخبار الذي يقدمه تعليقًا على نشرات الأخبار التي يسمعها.   وانطلقت السيارة في الطريق إلى الإسكندرية.

كمال شاهين

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.