يوسف ايها الصديق 7 – الجولة الثانية من المؤامرة

تواصلا مع تفسير سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح7 – الجولة الثانية من المؤامرة

عودة الى إخوة يوسف :

أنزلوا الأخ المؤمن الصغير إلى الجب بعد أن نزعوا قميصه وهو ساكت وكأنه على موعد مع كل هذه الممارسات المريبة. ولعلهم انتظروا قليلا ليطمئنوا من أن أناسا من القوافل أتوا ليأخذوه، أو أن أخاهم الكبير قد عاد ليطمئن بأن أخاه انتقل مع الناس ولم يبق وحيدا في الجب. هذا ما يمكن أن نتخيله ولكننا لا نجزم لأن الرحمن سبحانه لم يهتم بأن يحدثنا عن ذلك.

 الجولة التالية من المؤامرة:

كيف يعودون إلى البيت وبأي شكل ويقابلون من منهم أولا وفي أي وقت؟ لنلطخ القميص بدم الصيد دليلا على تعرض يوسف للهجوم من قبل الحيوانات.

 لم يفكروا في حيوان غير نفس الذئب الذي احتمله أبوهم. لقد قال أبوهم ذلك كمثال وليس بالجد. كان يوسف غلاما آنذاك والغلام يعني الظاهرة غرةَ شواربه فلم يكن عمره أقل من ثلاث عشرة سنة.

كانوا سابقا يحملون العصي والأكل معهم في أسفارهم وتنزهاتهم للدفاع عن النفس. حتى الذئاب الخطيرة فهي تهرب من العصا ومن شاب يتجاوز الثانية عشر عاما.

فظنوا بأن تكرار ما احتمله أبوهم سيفيدهم ويزيد أباهم يقينا بالحادث الكذب. كان من الأنسب لهم أن يتهموا حيوانا أكبر وأشد فتكا من الذئب. ثم أي ذئب يقوى على أكل شاب بالكامل؟ كان عليهم أن يأتوا بالجسد المقتول دليلا على صدقهم ولكن ادعاءاتهم كانت حمقاء مثلهم.

ثم اتفقوا على تصنع البكاء وعلى الدخول على أبيهم دون زوجته وأن يكون الوقت ليلا ليصدق استباقهم وطول غيابهم عن يوسف. يعقوب أب لهم جميعا ولكن أم يوسف ليست أما لهم فسوف تنفجر مشكلة كبيرة لو بدأوا بها.

وصلوا البيت ليلا وقد ساعدهم الهلع أن يتصنعوا البكاء بل أن يبكوا فعلا. إنهم يعلمون بأن ما فعلوه منكر كبير والمفقود هو في النهاية أخوهم الصغير الذي داعبوه طويلا. فاستعدوا لدخول البيت حذرين من أن لا يصل صوت بكائهم إلى غير الأب الذي يحمل قلبا كبيرا. فمشوا الهوينا،

وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ ﴿16﴾

كان يعقوب ينتظر ذلك فلم يبد على وجهه أمارات المفاجأة مما أضاف إلى خوفهم قدرا آخر من الخوف. وبعد البكاء أو التباكي،

قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴿17﴾

 توقعوا تبادل البكاء مع الأب حتى تضيع القضية ويتشارك الجميع في المصيبة وكأنها مصيبة نزلت من السماء وليست من صنع أيديهم.

وكما يبدو فإن الأب الكبير لم يساعدهم بالبكاء بل انتظر المزيد من الأخبار قبل أن تظهر على وجهه أمارات ردة الفعل.

لم يكن لديهم أي مجال للتفكير فكل ما يأتون به يعبر عن اتفاق على كل المشاهد التي يلعبونها والتي سيلعبونها فيما بعد . 7

(هامش 7 : حينما نقرأ قصص أنبياء الله تعالى على لسان ربهم وهو لسان الصدق والحق، نرى بأنهم لا يتفاجؤون بل يفاجئون الآخرين بتصرفاتهم العقلانية التي تفوق كل المؤامرات.

فمثلا محاولة فرعون لإفزاع موسى بإحضار مقادير كبيرة من المواد السحرية المعمولة والآخذة أشكالا كبيرة تفوق طول الحية التي رآها في قصره فإذا بموسى يقف أمام الناس ويستغل التجمع الكبير ليدعوهم إلى الله تعالى ويخوفهم من أن يسحتهم بعذاب لو استمروا في افتراء الكذب على الله عز اسمه. فانهار فرعون واضطر أن يجمع وزراءه فورا لتدارك الموقف.          نهاية الهامش 7.)

إخوان يوسف لم يتمكنوا من تدارك الموقف حينما رأوا أباهم لا يشاركهم البكاء بل ينتظر ليسمع منهم حديثهم. أحتمل أنهم شعروا بأن الأب الحكيم انشغل بتحليل الموقف بدلا من الانفعال والانخراط بالبكاء.

وهكذا فإن المؤامرات تنكشف بسرعة أمام الذين أوتوا الحكمة والعلم. واستمروا في إظهار المشهد الثاني من المؤامرة،

وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴿18﴾

لم يخطر ببالهم أن يكون القميص الذي لطخوه بالدم غير قميص يوسف. نظر أبوهم إلى القميص قائلا ليس هذا قميص يوسف بل هو قميص أخيه!. إنكم تكذبون علي.

فتحوا عيونهم وإذا به قميص الأخ وليس قميص يوسف. اندهشوا ولم يعرفوا ما الذي فعلوه. هل أخذوا الأصغر بدل الأكبر أم تركوا يوسف مع قميصه ينحدر نحو قاع الجب العميق أم ماذا؟ هذا فعلا ليس قميص يوسف. انكشفت المؤامرة أمام حكمة يعقوب واضطرب الإخوة المجرمون وعرفوا بأنهم أخطأوا.

إنهم لن ينالوا وجه أبيهم بل سوف تقل محبة الأب لهم. لقد عرف الأب كل شيء ولكنه لم يبد لهم معرفته سوى ما أتى به من استنكار لكذبهم.

شعروا بأن أباهم يضمر أشياء لا يقولها لهم. لقد هابوا أباهم وعرفوا بأنهم دون أن ينالوا عظمة قلبه أو يغيروا أعماق نفسه. إنه ينظر بنور ربه الذي يعلم منه ما لا يعلمون. شعروا بأن أباهم واثق من أن يوسف على قيد الحياة ولكنه لا يقول لهم كيف ذلك.

لقد علم آباء بني إسرائيل كم هم جاهلون!!

فكروا في كلام أبيهم: بل سولت لكم أنفسكم أمرا، يعني بأنهم هم الذين فعلوا شيئا وليس هناك ذئب ولا حيوان مفترس في القضية.

ثم فكروا في ما أضافه أبوهم: فصبر جميل. يعني بأن الأب ينتظر عودة ابنه فكيف يمكن أن يخلو وجهه لهم؟

إنه كان يرى يوسف يوميا وينشغل به وبزهرة شبابه ويعطيهم أقل وجها ولكنه من اليوم سوف يفكر في استعادة الابن وسوف يراهم كل يوم بعين الادانة لانهم هم الذين تآمروا على أخيهم الصغير.

إنه نبي مرسل من الله تعالى وهو يستجير بربه: والله المستعان على ما تصفون، فما الذي سوف يحل بهم من الآن؟ تبددت كل آمالهم ولم يعرف كبيرُهم كيف يُقنع أباه بأنه ليس مذنبا ولو فتح فمه فسوف لا ينجو من إخوانه التسعة الذين لا يتورعون عن عمل أي شيء ضده حينذاك. شعر الأخ الكبير بأن واجبه كان أن يخبر أباه بالمؤامرة قبل أن يذهبوا ولم يعرف بأن مشيئة القدر أعمته وأعمت كل إخوانه.

 وأما أم يوسف فإنها استقبلت زوجها النبي الكريم يهدؤها ويقول لها كما أظن: لا تجزعي فإن ابنك سيعود إليك ولكن بعد فترة طويلة احتمالا. إنه قطعا حي وله مهمة سوف ينهيها ويعود إلينا.

وكيف تعرف ذلك يا يعقوب؟

يعقوب: لا أقدر أن أفصح عن كل شيء ولكن اعلمي بأني أعلم من الله ما لا تعلمون!

هدأت الأسرة الكبيرة ولم يتعالَ النحيب والبكاء كما تصور الإخوة الضالون. إنها أسرة النبوة وإن يعقوب بينهم ويعرف كيف يهدّئهُم. لقد اسود وجه الإخوة ولكن الأم ولعل الأخوات سمعوا من يعقوب في غياب الأخوة ما يطمئنهن بأن يوسف عائد وبقوة. خسر الإخوة الحمقى وجه أبيهم وخسروا وجه زوجته ولعل وجه أخواتهم إن كان لهم أخوات في البيت. وهذا جزاء المسيئين.

ومما لا ريب فيه بأن يعقوب أخفى عنهم ما قاله لأم يوسف لأنهم لا يستحقون أن يطمئنوا بأن أخاهم راجع. عرفوا بأنهم خسروا أباهم وخسروا أخاهم ولكنهم لم يعرفوا ولم يفكروا أبدا في الموقف الذي ينتظرهم أمام يوسف الوزير المصري من خذلان وخزي.

وحينما راجعوا أنفسهم في جلسة لاكتشاف أسباب الخطأ، دار بينهم الحديث عن القميص. خافوا كثيرا من قصة القميص وصاروا يحسون بأن وراء القميص حدثا كبيرا بانتظارهم. بحث الجميع عن قميص يوسف في البيت فلم يهتدوا. لقد استغرب كل من في البيت إلا يعقوب الذي التزم الهدوء تجاه قصة القميص. اختفى القميص وبقي الشك يراود الأم وبقية الأهل حول الإخوان.

ما كان في إمكان يعقوب أن يخبرهم بالموضوع فهو سر يجب أن يبقى حتى يأتي وقته بإذن الله تعالى. لكن الإخوة في أعماقهم قالوا ولعلهم تداولوها بينهم بأن يوسف قد سرق قميص أخيه الصغير دون أن يعرفوا السبب. ولعلهم ظنوا بأنه لم يعثر على قميصه فسرق قميص أخيه لحاجته إليه أو لأنه كان مشتاقا للسفر في أول سفرة له مع إخوانه. والخلاصة أنهم قد مكروا ومكر الله والله خير الماكرين.

ولعلهم فكروا فيما بعد بأن الأسرة لم تطالبهم بمكان عظام يوسف أو قبره فلا يمكن أن يأكل الذئب كل البدن بما ضمنه العظام. ولعلهم خافوا من ذلك أيضا.

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.