نقاش هادئ مع دعوى القبنجي وسروش 2

مع القبنجي في دعواه:

ولنعد إلى الأخ القبنجي لننظر في ادعاءاته التي سمعتموها حول حقيقة الوحي الإلهي للرسول الكريم محمد بن عبدالله صلى الله عليه و آله. ومقالتي هذه لمن سمع ذلك الموضوع وهو منتشر في اليوتيوب.  

قال القبنجي بأن الرأي السائد لدى المسلمين اليوم بشأن الوحي السماوي هو أن جبريل تصرف كساعي بريد لنقل كلمات الله تعالى إلى عبده محمد. فالقرآن بكلماته هو كلام الله تعالى. وقد ذكر بجوار ذلك آراء بعض القدماء كما ذكر رأي المسيحيين بأن المسيح هو الوحي وليس هناك فاصل بينه وبين ربه. قال بأن القرآن يؤيد ذلك حينما يقول بأن المسيح كلمة الله.

بالطبع أنني أروم الاختصار هنا فمن أراد أن يعرف معنى المسيح كلمة الله وروح منه فعليه أن يطلب من الأخ المهندس عادل الحسني تفسيري لسورة النساء وللآية المرتبطة بذلك ليتعرف على رأي أكثر شمولية من الآراء المشهورة حول هذه المقولة في الكتاب الكريم. وعنوانه الإلكتروني هو:almawaada@gmail.com. بالطبع أن تفسير كامل السورة يربو على 90 محاضرة لا تقل كل محاضرة عن ساعة بل تزيد أحيانا، فمن الأفضل طلب تفسير الآيات 171-173 وهن ضمن محاضرتين فقط.

كلمة الله تعالى لا تعني الاتحاد مع الله سبحانه كما يدعيه إخواننا المسيحيون أو ما يدعيه العرفاء. يهمني بيان مسألة الوحي هنا فقط. وسأرد على استدلالاته ضد الرأي السائد حسب تعبيره بإذن الله تعالى وكما يلي:

أشار القبنجي إلى الرأي الثاني في الوحي وهو: أن بعض القدماء قالوا بأن الله أوحى المفاهيم إلى جبريل ثم قام الروح القدس بوضع القرآن بالشكل الذي بين يدينا واستندوا إلى قوله تعالى في سورة الحاقة:

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43).

وواضح أن المقصود هنا هو النبي وليس جبريل. ذلك لأن الذي اتُّهم بأنه تعلم من الكهنة أو الشعراء هو محمد وليس جبريل. والجملة مذكورة أيضا في سورة التكوير:

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22).

وهي أيضا تشير إلى نبينا وهو الذي رموه بالجنون وليس جبريل وهو عليه السلام صاحبهم وليس جبريل. فالآيتان لا تؤيدان ادعاء الذين ظنوا بأن جبريل وضع القرآن. ودعنا نرد على شبهة كون القرآن من النبي نفسه استنادا إلى هاتين الآيتين بناء على كلمة القول. فالقول في العربية الأصيلة لا يختص بما يخرج من بين شفتي الإنسان من كلام كما يتراءى للكثيرين. لقد استعمل القرآن هذه الكلمة لبيان لسان حال الكواكب الغازية والصلبة مثل الشمس والأرض بأنهما قالتا أتينا طائعين. والكواكب لا تمتلك ألسنة ولا شفاها ولكن الكلام يبين لسان حال النوعين الأصليين من الكائنات الكبيرة. أراد سبحانه بذلك القول إثبات سلامة إدارته وتدبيره بحيث أخضع كل الكائنات للطاعة ولو كان هناك تدبير خاطئ لاضطربت الكواكب وانهارت وتهدمت.

فقول الرسول الكريم ليس بالضرورة كلاما صادرا من صنع الرسول بل مجرد خروج اللفظ من بين شفتي الرسول الأمين عليه السلام وإبلاغه لقومه. إن الذي يقوله الكاهن هو من وحي الشياطين الذين يلهمونه وليس من نفسه، وما يقوله الشعراء من كلام موزون هو من وحي الشهوات والمؤثرات النفسية الأخرى التي تشجعهم على تنظيم الشعر وليس الشعر كلاما خالصا من الشخص دون أن يتأثر بالواقعة أو بالشخص أو الموضوع الذي يتحدث عنه.

بينما القرآن هو قول رسالي بمعنى أنه شبيه بقول الكاهن والشاعر بأنه ليس منهما بالكامل، ومميز عنهما بأن رسولا كريما يقوم بإعلانه و إيصاله إلى المخاطبين. ووصف سبحانه الرسول بالكريم باعتبار أنه يقدم كلما يستوحيه من ربه بالكامل للأمة دون أن ينقص منه شيئا يبقيه لنفسه كما ظنّ البعض. ذلك لأن الكريم هو الذي يعطي دون أن يأخذ.

وأما ما نقرأه في سورة هود:

فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12).

فليس معناه بأنه عليه السلام قد ترك فعلا بعض ما أوحي إليه، بل بأن صدره كان يضيق بنقل بعض الآيات للذين يطلبون منه ما ليس له يد في أن يحققه لهم. فالأثرياء من قومه كانوا يتفاخرون عليه بثرواتهم يعيرونه بالقول بأنه لو كان رسولا من الذي يملك كل شيء فلماذا لا يكون لديه كنز ليكون متفوقا عليهم أو لِمَ لم يأت معه ملك ليكون دليلا على أنه رسول من مالك الملك فعلا؟ كان يضيق صدره الشريف وتنقطع حيلته فأقنعه الله تعالى بأنه ليس إلا نذيراً وبأن الله تعالى نفسه هو الذي يتولى أمر كل شيء وليس عليه هو كرسول أيّة مسؤولية أخرى كما أنه ليس ملاما برفض قومه له وإعراضهم عنه.

وأما قوله الكريم في سورة التكوير فهو بأنه عليه السلام كان يمثل رسالة السماء وهي رسالة طبيعية تلائم المخلوقات، فهو مؤهل لأن يُقابَل بالطاعة ممن ليس في قلوبهم مرض. ثم إنه أمين على الرسالة التي لا تبيح له استخدام العنف أو توجيه أحدٍ باستخدامه ضد خصومه ليبدي لهم قوته وسطوته الاجتماعية إثر تكليفه الإلهي بحمل الرسالة إلى قومه. ولو أنه مارس القوة كما يفعل الملوك وأصحاب المطامع والمقاصد الدنيوية لدانت له الأقوام جميعا خوفا لكنه كريم لا يتعاطى إلا بفائض الرحمة ومزيد الصفح معرضا عن استخدام العنف والشدة والإكراه مع أي أحد.

وبهذا الاعتبار فقد رموه بالجنون كونه يتكلم ويدعو فقط دون أن يقرن ذلك باستخدام القوة،  فقد ظنوا بأنه جاهل بالأساليب المناسبة للعمل الاجتماعي ولكن الله سبحانه وتعالى دافع عنه وقال بأنه ليس مجنونا ولكنه يريد أن يمارس الإنذار الشفهي معكم ويترك أمر التمييز لله تعالى بين من يستقيمون ومن لا يستقيمون، وأنه لا يبتغي السلطة والسيطرة. والعلم عند الله تعالى.

ثم أشار القبنجي إلى الرأي الثالث وهو: أن الله تعالى ألقى المعاني على قلب النبي الكريم وهو إنسان نوراني وذلك بواسطة جبريل. ثم قام النبي بنفسه بترجمة معاني الوحي إلى لغته فصاغ القرآن بالشكل الذي نراه. وقال أيضا بأن أصحاب هذا الرأي يستدلون على رأيهم بالقراءات المختلفة التي نراها اليوم والتي ادعى بأنها كانت موجودة أيام الرسول وأنه عليه السلام لم يكن يمنع أحدا من القراءة بأي منها. ذلك لأن العبرة بإيصال المعنى الإلهي عبر اللفظ الذي يختاره هو عليه السلام فلا داعي للتشديد على اتباع الألفاظ. انتهى.

وظني أن القائلين لم يدركوا معنى لفظ “القرآن”! والذي يعني: المجموعة المفيدة، لقوله تعالى في سورة القيامة:

إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18).

فالذي جمع القرآن هو نفسه الذي أنزله وليس محمدا ولا عليا ولا عثمان ولا أي شخص آخر. والقرآن يسمى قرآنا باعتبار تماسك أجزائه واجتماع آياته وليس باعتبار آخر. فهو كتاب واحد فعلا، ولو كان محمد مؤلف هذا الكتاب بهذا التنضيد البديع لسمع الناس منه مقولات أخرى مماثلة من حيث اللغة والبيان والبلاغة ضمن أحاديثه الأخرى. لكن شيئا من ذلك لم يصلنا مما قد ينسب للرسول محمد أو أحد صحابته.

ثم يقوم الأخ القبنجي في مقاطع أخرى من خطابه بتكريم نهج البلاغة وبأن كلام الإمام علي أكثر بلاغة من القرآن. معاذ الله تعالى. ولم يستشهد عمليا بأية خطبة ولكنه أشار إلى أن خطبه تنطوي على مقتطفات بديعة وجميلة وبليغة. هذا ما يدل على أن الأخ لم يعرف معنى القرآن أبدا. إذ قد نتوقع من شخص عربي أن يرى في مقطوعة شعرية أو نثرية بديعة جمالا يفوق بعض آيات القرآن الكريم، فمن حق المعجبين بالبديع والبيان أن يبدوا آراءهم على أن يقدموا أدلة يقبل بها المختصون والناقدون المتمرسون. غير أن القرآن الكريم مترابط الأجزاء يهدف إلى إيصال رسالة موحدة ولذلك لا يمكن أن نجعله موضعا للمقارنة مع خطبة أو مقطوعة نثرية، بل إننا نحتاج إلى قرآن آخر يتمتع بنفس المزايا والمواصفات لتكون المقارنة معقولة، الأمر المتعذر منذ نزول القرآن وحتى يومنا هذا على الأقل. اللهم إلا أن يقوم الأخ القبنجي بكتابة قرآن جديد، وحتى يفعل فنحن بالانتظار .

وقام الأخ بعد ذلك بذكر أخطاء أو ما وصفها بأنها عبارات غير بلاغية في القرآن مما يدل على أن واضعه – إن كان بشرا – لم يكن يعرف الحقائق المحيطة به بل كان يخطئ. وبهذا فقد أراحني الأخ القبنجي من تجشم عناء البحث عن الرد المناسب على ذلك الرأي. فلو كان الرسول الكاتب مستلما المعاني من ربه فكيف أخطأ علميا؟ هذا يتناقض مع كون الرسول يحمل قلبا نورانيا مغمورا بالنور الإلهي يستلم المعارف من ربه ثم يترجمها بلغة العرب فكيف يمكن أن تكون المعلومات المترحمة خاطئة؟ أنا لا أدري ما هو تأثير هذا النور المزعوم الذي يضعف عن هداية صاحبه وإخراجه من الضلال العلمي؟

وبغض النظر عن الادعاءات التي تنسب إليه عليه السلام كالادعاء بأنه أفصح العرب، إذ أننا لم نجد في تراث أسلافنا أيّة معلقة أو مقطوعة نثرية بديعة للرسول محمد أو أية خطبة بقوة سورة الإسراء مثلا سواء في ذلك ما كان منه قبل البعثة أو بعدها. فكيف تأتّى لهذا الشخص الذي يجهل الشعر ولم يُعرف بالخطب الرنانة ولم يؤلف كتبا بل لم يكن يعرف القراءة والكتابة كما يقولون أن يضع لنا قرآنا بهذه الأهمية؟ أظن بأن ادعاءاتهم تلك واهية.

ثم وضح لنا القبنجي نظرية العرفاء التي لا تستند إلى منطق أو دليل متين. فهي لا تعدو كونها مجرد ادعاءات مشفوعة بجمل رنانة طرقت أسماعنا كثيرا من عدد من العرفاء وهي أقل من أن يصرف الإنسان عليها وقتا لتحليلها. لكني سوف أرد على تطاوله غير المنطقي على الكتاب العزيز فقد قال في معرض رده على الرأي السائد الأول بأن القرآن ينطوي على إشكالات:

عقلية / بلاغية / أخلاقية وعلمية.

يتبع

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلاميhttps://www.facebook.com/Islamijurisprudence/


اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.