يوسف أيها الصديق ح 6 – مراحل النبوة الخمس

تواصلا مع تفسير سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 6 – مراحل النبوة الخمس

بالطبع لم يكن الموقف مفاجئا ليوسف لأنه احتفظ لنفسه بالرؤيا التي رآها وبتفسيرها اتباعا لنصيحة أبيه، لكن الإخوة العشرة وبكل وقاحة وقسوة جلسوا يتآمرون ضد أخيهم أمامه.

كانوا في البرية ولم يكن تحت تصرفهم غرف ولا مخابئ ليبعدوا يوسف. كان الأمر الذي يتحدثون بشأنه أكبر من أن يجرؤوا على اتخاذ قرار غير جمعي فيه خوفا من أن يصل الخبر الصحيح إلى أبيهم يعقوب.

كان ضروريا لهم أن يتحدثوا في كل الحيثيات قبل البدء بالتنفيذ لئلا يتمكن أحد من أن يلوم الآخرين.

هذه هي الطريقة التي يتفق عليها اللصوص والمجرمون قبل تنفيذ أية جريمة وخاصة لو كانوا يعيشون جميعهم في بيت واحد كإخوة يوسف.

دار الحديث مع الأخ الأكبر احتمالا الذي لم يكن موافقا بالكامل معهم ولكنه لا يريد أن ينفرد بموقفه عنهم فلا يمكنه مساعدة يوسف كما لا يمكنه أن ينجو بنفسه.

أقنعهم بأن الموت ليس جزاء مناسبا لمن لا ذنب له وليس لديهم أي مخرج للتوبة إلى الله تعالى بعده فلا يمكنهم أن يكونوا قوما صالحين. إنهم يريدون أن يخلو لهم وجه أبيهم فقط فعليهم أن يبعدوا يوسف بأقل درجة من القسوة.

اتفقوا بعد المناقشة على أن يلقوا يوسف بكل هدوء في جب في طريق القوافل التي تمر من تلك المنطقة ليكون بضاعة يطمع فيه أصحاب القوافل كسباً للمال فلعله يدخل بيت من لا يظلمه ويعيش بسلام عندهم.

هكذا تقل قسوتهم ويصغر ذنبهم. قالوا لأخيهم بأنهم لا يريدون له الموت ولكنهم يريدون أن يكسبوا ود أبيهم بأن يفصلوا بينه وبين أخيه الصغير حتى لا يشكلا حزبا ثنائيا قويا ضدهم.

و قالوا بأن عليه أن يصبر حتى تمر القوافل. وأغلب الظن بأنهم رأوا قافلة من بعيد فأضافوا إلى حمالته بعض الأكل والشراب ليعيش يوسف عليها حتى يصل الذين سيأخذونه.

لم يبد يوسف أي استرحام لأنه كان يظن بأنه منذ تلك الرؤيا مرشح للنبوة. كان يعرف بأن الترشيح للنبوة لا يعني النبوة بل يعني بأن عليه أن يصلح عمله ويسعى للمزيد من التعلم حتى لا يفقد هذا الامتياز الكبير. و لذلك لم يبد أي اعتراض لأنه كان على علم بأن الله تعالى سوف يصطنعه على عينه ليساعده على أن يصير صالحاً للرسالة . (5)

(هامش 5 :  لاشك أنه كان يعلم بإن الله تعالى لا يمنح العلم لأحد لا يستحقه، والنبوة مقام علمي كبير وصاحبه مستعد دائما لحمل الرسالة إن وجد. ألم نر بأن الله تعالى قال لنبينا كما في سورة الإسراء:

وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86).

وقال في سورة الزمر:

وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65).

فالأنبياء دائما وأبدا مهددون بأن يخسروا النبوة الفعلية إن هم عصوا ربهم. هذا يعني بأنهم أدوا اختبارا استحقوا معه أن يصيروا أنبياء. ومن الطبيعي أن يساعد الله تعالى بعض الناس الطيبين ليصيروا في معرض استلام النبوة كما ذكر سبحانه بأنه فعل ذلك مع موسى وعيسى. نهاية الهامش5.)

إن الله تعالى يساعد عبيده دائما ليستفيدوا من مواهبه ولكننا نحن الذين نبتعد عن الله تعالى فلا نتمتع بهداه للحد الذي يمكن أن نتمتع به. نظن دائما بأن الطريق إلى الله تعالى مفروشة بالورود والرياحين، كما أننا قلما نطلب الطريق من الله تعالى نفسه فنستفيد من وحيه العام وأحيانا من الهمس مع الملك الرحيم العظيم.

يوسف وهو في بداية المسيرة يسعى ليصحح كل أعماله وينتظر مواصلة الرحيم إغداق رحمته الخاصة عليه. استمر يوسف بالهمس مع ربه يدعو ويطلب منه السكينة والرحمة دون ريب.

لقد أخذ الإخوة قرارهم الأحمق وسمع يوسف بأذنيه اتفاقهم ولكنه شعر بنفس الوقت في قلبه بوحي الرحمن:

لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون.

اطمأن يوسف بأنه أصبح فعلا بعين الله تعالى وبدأ بتفسير الحديث النفسي. إنه بدأ يتعلم ما وعده النبي الكريم يعقوب.

لننظر إلى الآية العربية نظرة عربية ولا ننس بأن الوحي لم يكن بالعربية ولعله لم يكن بأية لغة بشرية.

اللام للتأكيد، فبكل تأكيد سوف أنبؤهم بما فعلوه ضدي وضد أخي الصغير، بما أوحاه إلي ربي. إنه ربي لأن الشيطان لا يوحي بما يعطيني الاطمئنان. لو كان هو الشيطان لقال لي: حاول أن تسترحمهم وتلجأ إليهم، ولكن الله تعالى هو الذي لا ينسى عبيده فيعدهم إيجابيا بما هو أعلى لئلا يحتاجوا إلى خلقه إن كانوا يعبدونه وحده لا شريك له.

هذا الوحي يعني بأنهم سوف يأتوني محتاجين لا يرون غير أن ينالوا مما سيعطيني ربي. سوف لا يفكرون في الذي أمامهم من شدة الحاجة بل ستكون عيونهم وأفكارهم في ما يساعدهم على البقاء. سيكون حالهم مشابها إلى حد كبير لحالهم اليوم ولكن في شأن آخر. إنهم في معمعة أخرى ولم يلتفتوا مع طول الساعات التي جلست بينهم بأني ألبس قميص أخي وليس قميصي.

لقد صدق أبي بأنهم سوف لا ينتبهون إلي ولا إلى ملابسي. إنهم في فقر شديد يشعرون بأنهم في حاجة ماسة إلى التخلص مني وسيأتي اليوم الذي يشعرون فيه بنفس النسبة من الشعور بالفقر بأنهم يحتاجون إلي أنا الجديد الذي أنعم الله تعالى عليه.

اشتد شوق يوسف لتلك النعمة التي بدأ يشعر بها أمام عينيه واستهزأ في قلبه بإخوانه ولم يعبأ بهم ولم يطلب منهم أي شيء وتركهم يأخذون قرارهم كما يشاءون واكتفى بالله حسيبا. ونعم بالله كافيا وحسيبا.

فكر يوسف احتمالا بأبيه الأكبر إبراهيم الذي خرج من بيته وأسرته وحيدا بدون أي قريب من أهله فأوحى إليه ربه بأنه اتخذه خليلا.

شعر يوسف بأنه أصبح يتبع ملة أبيه إبراهيم وقد ساعده الله تعالى قبل الدخول في الجب بالوحي المطمئن الذي أنساه كل خوف ووحشة.

عرف يوسف معرفة عيانية بأن الله تعالى حينما اتخذ إبراهيم خليلا فهو ليس إلا رب إبراهيم وقد رأى عبده وحيدا فأبى له الوحشة من الانفراد والانعزال عن المجتمع وقد عامل سبحانه حفيد إبراهيم الآن نفس المعاملة.

شعر بأن الله تعالى اتخذه خليلا لأنه انعزل عن أهله. لقد علم واستيقن بأن الله تعالى أكرم من أن ينتظر لعبده المخلَص البلاء فهو يُخرجه من وحشة البلاء بمجرد أن يراه جادا في طاعته وعبادته. اتبع يوسف ملة أبيه إبراهيم كما اتبع ملة أبيه يعقوب.

اتبع الملة ولم يتبع الأفراد ولم يتبع العادات ولم يلبس مثلهم ولم يَسِر مثلهم بل اتبع الملة التي تعني عمق الانقياد للمنعم وهو الله تعالى.

لا معنى لأن يلبس ما لبسه إبراهيم ولا لأن يأكل ما أكله في نظام الله تعالى. إنه يفهم أكثر من إبراهيم كيف يأكل وكيف يلبس وكيف يختار المركب والمسكن ولكن إبراهيم قدوة له في التقرب إلى العزيز الكريم فحسب.

رأى يوسف بأن أباه إبراهيم قد خرج من بيوت الملوك ومن راحة العيش في عراق الخير والزرع والعمران إلى طريق خارجي باتجاه المجهول. لكن يوسف قد خرج من بيت لا يمكن أن يوصف بالثروة والغنى إلى مكان يعلم بأنه أكثر رخاء من بيته.

إنه سوف يُباع إلى من يقدر أن يشتري مثل يوسف وسوف يكسب القدرة والقوة التي تُحوِج إليه إخوانه مستقبلا. فهما يسيران في خطين مختلفين ولكنهما هو وإبراهيم متوجهان إلى ربهما وحده ومستأنسان بوحيه وكلامه ونداءه وحده. هذا هو معنى الاتباع المطلوب عند الله تعالى وليس التمسك بالأشخاص .(6)

( هامش 6 :  لم يشجع  الله تعالى على التمسك بغير العروة الوثقى وهو سبحانه وحده العروة الوثقى التي يتمسك بها الأنبياء والصالحون وكذلك الملائكة والأرواح القدسية، جل جلاله.

كل العالم العلوي وكل ذوي الألباب وكل العارفين الحقيقيين يتمسكون به وحده؛ ولكن الذين يتمسكون بالأنبياء ليسوا عارفين بل هم يحتاجون إلى المزيد من العلم والتفكر لعلهم يعرفون موارد خطإهم فيصححوها إن هداهم الله تعالى ربهم.

وحينما نتعمق في هذا الوحي السماوي المعطاء نرى بأن الذي استلمه قد مر بخمسة مراحل أساسية فيعني ذلك بأن ليوسف يدا في الاستيحاء. تلك المراحل هي:

أولا: الكتمان ونرمز إليه (ك) لنعرف الموضوع من نفس القرآن ذلك الكتاب المجيد. لقد كتم يوسف رؤياه عن غير أبيه بعد أن أعلمه أبوه بوجوب الكتمان. كان المنام الذي رآه إشارة سماوية مهمة ولقد كتمه يوسف وكتم معه كل ما يدور في قلبه فمر حقيقة بالمرحلة الأولى من أمر آخر.

ثانيا: الهمس ونرمز إليه (هـ). يقول الله تعالى لعبيده: ادعوني أستجب لكم. ومعناه أن يذهب العبد بقلبه إلى الله تعالى قبل أن ينتظر وصول الإمداد إليه من منطلق الغيب القدسي.

لم يستلم يوسف وحي النبوة الذي يأتي للنبي ليجعله إماما بالنسبة للناس، ولكنه استلم وحيا يهمه هو شخصيا. فهو يجب أن يبدأ بالتضرع ثم ينتظر الوحي ولقد فعل يوسف ذلك قطعا. عرف يوسف بأن الأدب أمام الساحة القدسية واجب على العبد فلم يتحدث مع ربه بغير الهمس القلبي. إنه سبحانه يعرف ما تخفي الصدور فالحديث بالكلام وبالصوت الخارج من اللسان يُعتبر قلة أدب في حضرة سيد الكائنات جل جلاله.

ولا ننس بأن يوسف بين إخوانه ولم يكن ممكنا له أن يتوجه إلى ربه باللسان فكان التوجه القلبي هو الطريق الوحيد له وقد سلكها دون شك.

ثالثا: اليقين وهو من مادة يقن فنرمز إليه بـ (ي). إذا قال لنا ربُّنا: ادعوني أستجب لكم، فهو يعني بأن الاستجابة قطعية لو دعوته وحده بكل أدب. إذن اليقين شرط من شروط الإيمان بالله تعالى عند الطلب من القدوس العزيز عز اسمه. وكان عدم اهتمام يوسف بإخوانه دليلا على يقينه بأن الله تعالى سوف يستجيب دعاءه وتضرعه واستجارته بوجهه الكريم.

رابعا: عزل الداعي نفسه عن الناس ونرمز إليه بـ (ع): حقا بأن يوسف كان يسير ببدنه مع إخوته المذنبين ولكن قلبه كان متوجها إلى ربه فقط. فقد عزل يوسف نفسه عنهم تماما فكان يناجي ربه فعلا.

خامسا: الصبر ونرمز إليه بــ (ص): مما لا شك فيه بأن العاقل يخاف من أن يمسَّ المجرمون بدنه بالسوء. لا أحد يُحبّ الأذى إن كان في كمال من عقله. لكن يوسف لم يخف أبدا وهو يُجَرّ إلى المجهول. ذلك يعني بأنه التزم آنذاك بالصبر بانتظار الفرج من ربه حتى:

فتحت أمامه أبواب الرحمة وشعر بالسكينة  كالذي تقر عينه بعد انتظار طويل.

والصبر في كل مجال مختلف زمانيا. فبالنسبة ليوسف وفي تلك الحالة، فإن كل دقيقة أطول بكثير من 60 ثانية. فصبَرَ يوسف صبرا طويلا فعلا. وكان مستعدا للمزيد ولكن الله تعالى لا يريد له أن يغمره الخوف وهم يلقون به في غيابت الجب!

دعنا الآن نجمع الحروف التي ذكرناها لنرى انها تكون كلمة : كهيعص. وما ذكرناه معنىً لفاتحة سورة مريم بإذن الله تعالى. وكل أبطال السورة الكريمة أنبياء وكلهم مروا بالمراحل الخمسة في دعواتهم المختلفة.        نهاية الهامش 6.)

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.