القصة الحقيقة للثورة المصرية 2


القصة الحقيقة للثورة المصرية 2

أفراح العكابري 

(مدخل : هو العاطي, وهو المعطي, وهو الذي يأخذ مثلما يعطي, وما لنا إلا أن نرضى بما أخذ وبما أعطى.)

أحدث دخول الشيخ حسن العمل في “جماعة أهل الخير” ثورة في طريقة العمل في قسم التخليص.   لم تعد هناك ضرورة لتلك المفاوضات الطويلة أحيانا, والقصيرة أحيانا, البسيطة أحيانا, والمعقدة أحيانًا, بين المخلِّصين العاملين في الجمعية وبين الموظفين العاملين في الميناء.  لم يعد الأمر يتطلب أكثر من أن يذهب المخلص إلى الجمرك لتسليم الأوراق المطلوبة وإخبار الموظف المسؤول أن الشيخ حسن سوف “يمر” عليه عند الانتهاء منها, وبذا ينتهي الأمر.  وبعد صلاة الظهر, كل يوم, وكما كان الأمر عليه قبل أن يعمل الشيخ حسن لدى الجماعة, كان الشيخ حسن يمر على جميع موظفي الجمرك لتسوية حساب من له حساب. 

لم يقف الأمر, على أية حال, عند حدود انتهاء الحاجة إلى المفاوضات اليومية وإنما امتد إلى نواح أخرى.  كان لدى الشيخ حسن موظف في مكتبه – خصص سيادة المهندس خيري جزءًا من المبنى ليضم كل العاملين في التخليص في مكان واحد – اسمه سمير.   لم يكن سمير هذا يختلف إن قليلاً أو كثيرًا عن الشيخ حسن, فهو على نفس الطيبة, ونفس الدرجة من الالتزام, ونفس الهدوء, ونفس الاستعداد للعمل طوال الوقت, بل ونفس ابتسامة الرضا.   لم يكن هناك فارق بين الشيخ حسن وبين سمير أكثر من أن سمير حاصل على ماجستير في علوم الحاسب الآلي والشيخ حسن حاصل على شهادة الابتدائية. 

كان سمير يحلم باليوم الذي يضع فيه كل المعلومات الخاصة بالجمعية على هيئة جداول بحيث يستطيع سيادة المهندس خيري, على سبيل المثال, أن يضغط على زر فيحصل على المعلومة التي يطلبها بالضبط, سواء كانت تلك المعلومة تتعلق براتب موظف ما, أو نسبة غيابه مقارنة بالمتوسط العام, أم بالأموال التي قام قسم التخليص بإنفاقها على العمولات أمس, أو حتى كمية البنزين التي تم شراؤها أول أمس لحساب سيارة سيادته.  لم يكن لدى الشيخ حسن أدنى فكرة عن موضوع “جدولة البيانات” هذا إلا أنه لم يكن لديه أي مانع أيضا من جدولة أي بيانات.  فكله, في نهاية الأمر, على المكشوف وليس لدى الشيخ حسن ما يخفيه.  وهكذا انطلق سمير في جدولة كل ما كان يحلم بجدولته وانتهى به الأمر إلى “معجزة”.  للمرة الأولى في تاريخ الجمعية أصبح بمقدور المدير المسؤول أن يحصل على أية معلومة يريدها بمجرد الضغط على زر.   كانت “النتيجة الطبيعية” لهذه الجدولة المعلوماتية أن الشيخ حسن لم يعد بحاجة إلى أن يحتفظ في رأسه بالمعلومات التي يحتاجها لتسوية حساباته.  كل ما يحتاجه هو لاب توب للحصول على كل المعلومات التي يريدها بضغطة زر.  لم تكن هناك كذلك أدنى مشكلة في الحصول على لاب توب, فهي تملأ الجمعية.  لم تكن هناك أدنى مشكلة أيضًا في الحصول على التدريب اللازم لاستعمال اللاب توب فالدكتور سمير موجود – هذا هو اللقب الذي أطلقه الشيخ حسن على الأستاذ سمير تيمنا بحصوله على الدكتوراه بإذن الله – وهو على استعداد لشرح أي شيء للشيخ حسن. 

لم يكن الدكتور سمير ليغفل عن أن المساعدة التي قدمها له الشيخ حسن من أجل تحقيق حلم الجدولة هي مساعدة غير مسبوقة في مصر حيث تعارف القوم على “الستر” لا على “المكاشفة”, كما جرى العرف على نسبة أي نجاح في أي عمل إلى السيد رئيس العمل ونسبة الفشل إلى الموظف القائم على العمل.  في حالة الشيخ حسن لم يدعِ الرجل يومًا أن عنده أي فكرة عن الجدولة فضلاً عن أنه لو كان قد ادعى ذلك لما صدقه أحد.  كان غريبًا أن يوافقك رئيسك في العمل على عمل لن يعود الفضل فيه إليه. 

كان الدكتور سمير, بهذا الشكل, على وعي بأن ما قام به الشيخ حسن عمل غير عادي وأن الشيخ حسن “شخصيًا” رجل غير عادي.  لم يكن غريبًا, إذن, أن يقدم الدكتور سمير كل ما يمكنه تقديمه من أجل أن يفهم الشيخ حسن, بالضبط, كيف تعمل عملية جدولة البيانات.   لم يكن غريبًا, أيضا, أن يبذل الشيخ حسن كل جهده من أجل أن يفهم.   لم ينسَ الشيخ حسن يوما منذ أن كان طفلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه “إذا أدى أحدكم عملاً, فليتقنه أو فليتركه”.   لم يحدث أن أدَّى الشيخ حسن عملاً لم يتقنه, بدءًا من زراعة البرسيم, مرورًا بالعتالة والتخليص, وانتهاءً بإدارة قسم التخليص في جمعية أهل الخير.  إذا كانت إدارة القسم تحتاج إلى معرفة جدولة البيانات فسوف يتعلم.  وقد كان.  وهكذا أصبح الشيخ حسن “أستاذًا” في جدولة البيانات, وطبعًا, في استخدام الحاسب الآلي. 

كانت “النتيجة الطبيعية” لكل هذه الجدولة المعلوماتية أن أصبح “قسم التخليص” في الجمعية هو أول قسم تتم جدولته بالكامل.  في “جماعة أهل الخير” لم تكن مثل هذه المعلومة لتمر هكذا مرور الكرام, وإنما تم “تسجيلها”.   في مدينة صغيرة كذلك مثل الإسكندرية لم تكن هذه المعلومة لتمر هكذا أيضا مرور الكرام, وإنما أيضًا تم تسجيلها.  بدأت الفكرة تنتشر أن الشيخ حسن ليس رجلاً “ثقة” وحسب, وإنما هو أيضا “رجل إدارة” من الطراز الأول.  أول رجل في الإسكندرية قام بجدولة قسمه بالكامل.

إذا كانت ظروف حياة الشيخ حسن قد تغيرت فإن حياة الشيخ حسن لم تتغير, أو فلنقل إن الشيخ حسن لم يتغير.  انتقل الشيخ حسن إلى شقة في بولكلى قريبًا من عمله برشدي.  أحس الشيخ حسن لأول مرة في حياته في الإسكندرية بأن الحياة في الإسكندرية لا تختلف عن الحياة في كفر نفرة, فهو الآن يمكنه أن يدخل بيته ويغلق “بابه وراءه”.  ما أروع أن تشعر بأن لا أحد ينظر إليك.  لم يعد الشيخ حسن كذلك بحاجة إلى القفز من “مشروع” (مايكروباس) إلى مشروع, فالشغل خصص له سيارة لتنقلاته الخاصة بالعمل, فضلاً عن أن المسافة من بولكلى إلى رشدي لا تزيد عن ربع ساعة سيرًا على الأقدام وهو, فعلاً, يسيرها يوميا على الأقدام.

أصبح في مقدور الشيخ حسن كذلك أن يشتري ملابس كتلك الملابس التي يرتديها الدكتور سمير وباقي الزملاء في الجمعية, وهي ملابس لا يوجد مثيل لها في المنشية ويلزم شراؤها من رشدي.  حقيقة الأمر, كان الشيخ حسن يبدو وسيما في هذا النوع من الملابس خاصة وأنه كان شابًا طويلاً عريضا, إذ أخذ الطول وضخامة الجسم من عائلة أمه, والبشرة الفاتحة من عائلة أبيه.  كانت عائلة العكابري شديدة البياض كما لو كانوا من أصول تركية.   لم يكن غريبًا, إذن, أن كان الشيخ حسن يحظى بنظرة احترام حتى من أولئك الناس الذين لا يعرفونه ولا يعرفون أنه يعمل في “جماعة أهل الخير”.

الشيء الذي كان غريبًا فعلا هو أن كل هذه التغيرات لم تؤثر بالمرة على شخصية الشيخ حسن.  حافظ الشيخ حسن على أصدقائه.  نفس الأصدقاء الذين تعرف بهم من يوم أن كان عتالا, إلى يوم أن كان مخلصا, إلى يوم أن عمل بالجماعة.  لم يشعر يوما أنه أحسن منهم في شيء, أو أنه أهم منهم في أي شيء.   وعندما كان ينزل إلى البلد كان يسعى إلى نفس البيوت التي كان يسعى إليها.  حقًا, زادت الفلوس لديه إلى درجة أنه أدرك أن الاستمرار في تحويل الراتب إلى كفر نفرة هو عمل غير سليم.    من الخطأ, حقيقة الأمر, أن تحتفظ والدته بمثل هذه المبالغ في الدار, وعليه قام بفتح حساب في البنك لإيداع مدخراته.    إلا أنه لم يشعر يوما بالرغبة في أن يأكل أكلا غير الأكل الذي اعتاد على أكله, أو أن يرى أماكن غير الأماكن التي اعتاد على رؤيتها, أو أن يقوم بعمل غير الأعمال التي اعتاد على القيام بها.  لم يكن غريبًا, كذلك, أن يرتفع حسابه في البنك كل شهر عن الشهر الذي سبقه.   لم يكن غريبًا, أيضا, أن يزداد حب الناس له.   من أين لنا في مصر بشاب يفتح الله عليه أبواب الخير, ويحقق له كل ما يحلم به, ثم لا يعمل على إفهامنا بأنه شخصية غير عادية, وأنه لم يصل إلى ما وصل إليه إلا لأنه يستحقه.  في حالة الشيخ حسن كان الأمر مختلفًا تماما.

لم يدر بخاطر الشيخ حسن يوما أنه يستحق غير ما أراد الله.  هو العاطي, وهو المعطي, وهو الذي يأخذ مثلما يعطي, وما لنا إلا أن نرضى بما أخذ وبما أعطى.   لم يصل الشيخ حسن إلى عمله هذا لأنه “يستحقه” وإنما لأن الله شاء.  ولن يترك الشيخ حسن عمله هذا لأنه لا يستحقه وإنما لأن الله شاء.   وما علينا إلا الرضا بما شاء والعمل بما شاء.  لم يكن الشيخ حسن وليًا من أولياء الله الصالحين, طبعًا, وإنما كان شابًا رضي بما شاء الله وسعى إلى العمل بما يرضي الله.    كيف لا تحب شابًا يرضى بما شاء الله ويسعى إلى العمل بما يرضي الله؟

لم يكن ينقص الشيخ حسن, حقيقة الأمر, سوى أن “يكمل نصف دينه”, بتعبير الناس عندنا في كفر نفرة.  وهو أمر لم تقصر فيه والدته الحاجة كريمة ابنة عمتي سكينة رحمها الله.  فهو والحمد لله رجل مقتدر قام بإصلاح بيت البلد بالكامل تقريبًا, ولم يقصر في مساعدة أخواته البنات, بل لم يعتذر يومًا عن الاستجابة إلى طلب المساعدة من إخوته الصبيان.  حقيقة الأمر, يعرف رجال عائلة العكابري كلهم أن حسن رجل الشدائد وأن لهم أن يطلبوا منه ما يريدون, وقتما يريدون.  حقًا, هم دائمًا يردون ما يأخذونه, إلا أنه لم يحدث أن طالب الشيخ حسن واحدًا منهم برد ما أخذه.  الشيخ حسن رجل باله طويل, ولا يستعجل شيئًا على الإطلاق.   ثم يكفي أنه أرسل أمه للحج وزيارة رسول الله.  لقد قام الشيخ حسن بكل ما يمكن أن يقوم به شاب في سنه ولم يبق إلا أن يقوم بما يجب أن يقوم به كل شاب في سنه.  لم يبقَ إلا أن يكمل نصف دينه.

تلفتت الحاجة كريمة حولها بحثًا عن عروس للشيخ حسن فوجدت أينما تلفتت بلدًا مليئًا بالعرائس.  سواء نظرتَ في ناحية العكابري, أم ناحية قرطام, أم ناحية شاهين فلن تجد إلا عرائس.  وكلهن والحمد لله مثال لحسن الخلق, وحسن الأدب, إلا أن قلب الحاجة كريمة لم يخفق لأحد مثلما خفق لزينب بنت الحاج إبراهيم شاهين.  لم تكن زينب تختلف عن أي من البنات الأخريات, فالكل والحمد لله لا تتخير واحدة منهن عن الأخرى.  الشيء الذي كان يميز زينب هو أنها ابنة الحاجة صفية العكابري والحاج إبراهيم شاهين, وحفيدة الحاجة لطيفة قرطام والحاج عبد الهادي شاهين.  لم ترً كفر نفرة رجلاً في مهابة الحاج عبد الهادي شاهين.  مضى أكثر من أربعين عام منذ أن توفاه الله ولم يظهر من يحل محله.  سوف تأتي زينب بإذن الله بابن للشيخ حسن يحل محل الحاج عبد الهادي شاهين.  لم ترَ كفر نفرة كذلك امرأة في طيبة, وخلق, وكرم الحاجة لطيفة قرطام, وسوف تأتي زينب بإذن الله بابنة للشيخ حسن تحل محل الحاجة لطيفة. 

أخبرت الحاجة كريمة الشيخ حسن بأنها قد اختارت له زينب ابنة الحاج إبراهيم شاهين وأن عليه أن يذهب إلى دارهم مع أكابر عائلة العكابري لطلب يدها.  نظر إليها الشيخ حسن وابتسم.  ربما كانت تلك أحسن ابتسامة رضا ابتسمها الشيخ حسن في حياته.  زينب ابنة الحاج عبد الهادي شاهين مرة واحدة.  أحلى بنت في البلد.  ابنة رجل من أكابر البلد.  آخر رضا.  والحمد لله على ما أعطى.

رحب الحاج إبراهيم بطلب الشيخ حسن.   ومن لا يرحب بأن يكون الشيخ حسن نسيبه؟  لم يتحدث الحاج إبراهيم في “الترتيبات” فالكل في كفر نفرة يعلم بالتفصيل ما هي “الترتيبات” في هذه الحالة, بدءًا من هدية الزيارة الأولى, والزيارة الثانية, ونوع الهدية, والمحل الذي تشتري منه الهدية في شارع المحطة في طنطا, والشبكة, وكم جرام بالضبط, وهدية العيد, والحلوى من محل ياقوت في شارع عبد المنعم رياض في بركة السبع, ونوع الخشب في غرفة النوم, ونوع الثلاجة وحجمها, والستائر, وكل هذه التفاصيل التي تعرف نساء كفر نفرة تفاصيل تفاصيلها.  الكل يعلم ذلك, ويعلم, أكثر من ذلك, أن الشيخ حسن لن يقصر في شيء من ذلك وأن الحاج إبراهيم لن يطلب أكثر من ذلك.

وأخيرًا, جاء يوم الفرح.  كان يومًا جميلا حقا, وفرحًا جميلاً حقا.  تألقت العروس في فستانها الأبيض الذي قامت على خياطته الحاجة بسمة, أقدر خياطة في كفر نفرة إن لم يكن في المنوفية كلها, كذلك تألق الشيخ حسن في البدلة السوداء التي اشتراها خصيصًا للفرح.  كان الطعام من أجمل ما يكون.  لم يقل طبقًا واحدًا عن آخر فرح في عائلة العكابري, ولا زاد طبقًا واحدًا عن آخر فرح في عائلة العكابري.  كان الحاج إبراهيم شاهين حريصا على ألا يقل فرح ابنته عن أفراح آل العكابري, كما كان حريصًا كذلك على ألا يزيد عن أفراحهم.  أهل العكابري ناس كرام لا بد من الحرص على مشاعرهم.  وأخذ حسن عروسه إلى منزلهم, وما هي إلا أيام حتى انتقلا كلاهما إلى شقة الشيخ حسن في الإسكندرية.

كمال شاهين

#تطوير_الفقه_الاسلاميhttps://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.