فقه بدائي شرير

فقه بدائي شرير

 

إذا كان لأحد أن يسألني عن الهدف من بقائي على ظهر الدنيا لقلت له:”بيان الفرق بين دين الله ودين الفقهاء”. أي بيان أن دين الله هو ما أنزله الله على رسول الله أما دين الفقهاء فهو ما أنزله علينا أهل الفضل, والعلم, والنظر من أهل السنة والجماعة, الأئمة العظام, شموس الإسلام, أحبار الأمة, وأسود السنة, رضي الله تبارك وتعالى عنهم جميعًا ورضوا عنه أجمعين.  وبالتالي بيان أن ما يلزمنا الإيمان به هو ما جاءنا من عند الله على حين أن ما يلزمنا عدم الإيمان به فهو ما جاءنا من عند فقهائنا.  كيف لنا ألا نؤمن بما قاله الله؟  وكيف لنا أن نؤمن بما لم يقله الله؟ 

 

في محاولة مني لبيان الفرق بين ما قاله الله وما قاله الفقهاء قمت بنشر رسالة بعنوان “الحكم إذا أدب السلطان رعيته”  وهي رسالة موجزة للغاية تبيّن حكم الفقه السني القديم إذا قام السلطان “بتأديب” أحد رعاياه تأديبًا أدى إلى وفاته.  قلت:

الحكم إذا أدب السلطان رعيته

“جاء في “كتاب الديات” من كتاب “الروض المربع بشرح زاد المستقنع مختصر المقنع” في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه, المتن للعلامة شرف الدين أبي النجا موسى بن  أحمد  الحجاوي, والشرح للعلامة منصور بن يونس البهوتي, من تحقيق وتعليق فضيلة الشيخ فرج بيومي عامر, وفضيلة الشيخ محمّد السيد الشيخ.  وهو الكتاب العمدة المعتمد في تدريس الفقه الحنبلي لطلبة المدارس الثانوية التابعة للأزهر الشريف.  جاء التالي:

“الحكم إذا أدب الرجل ولده, أو السلطان رعيته, فمات المؤدّب.  إذا أدب الرجل ولده ولم يسرف, لم يضمنه.  وكذا لو أدب زوجته في نشوز, أو أدب سلطان رعيته, أو أدب معلم صبيه ولم يسرف, لم يضمن ما تلف به.  أي بتأديبه.  لأنه فعل ما له فعله شرعًا ولم يتعدّ فيه.  ومن أسرف أو زاد على ما يحصل به المقصود أو ضرب من لا عقل له من صبي أو غيره ضمن لتعديه.”

 

والرسالة, كما هو واضح, هادئة لا تهدف إلا إلى بيان أن الفقه السني القديم يرى أن من حق السلطان أن “يؤدب” رعيته, وأنه إذا حدث وأن توفي الرعية أثناء عملية تعذيبه فلا مشكلة هناك إذ أن السلطان لم يقتله إلا أثناء قيامه بواجبه, كما أنه – وهذا أمر مهم – لم يستخدم أداة من أدوات القتل أثناء عملية التأديب.  أما إذا كانت الوفاة بسبب استخدام سيف, أو مثقلة, أو غيرهما من أدوات القتل, فيلزم ساعتها أن يدفع السلطان دية القتيل.   

 

قمت بعدها بيومين بكتابة رسالة حول مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول على يد خمسة عشر رجلاً من العاملين في أجهزة الدولة السعودية.  وهي رسالة أشكو فيها من عجزي عن ممارسة حياتي بعيدًا عن التعذيب, والتأديب, والقتل.  كما أشكو فيها كيف تحولت محطات التليفيزيون التي أشاهدها إلى فيلم أمريكي أسود يقع في مستشفى تقوم الأطباء فيها بتأديب المرضى حتى الموت على خلفية موسيقى كلاسيكية.  كيف, بالله, يحضر الأطباء, والخبراء, وكبار رجال الدولة السعودية إلى اسطنبول لقتل رجل يكتب في الصحف ثم العودة في نفس اليوم إلى الرياض؟  كيف, بحق الله, يقوم الأطباء بتقطيع جثة جمال خاشقجي على خلفية الموسيقى؟  ولا في أفلام الرعب الأمريكية.   قلت:

إلى متى ستطير الطائرات تحمل هذه الكائنات؟

لا أذكر متى كانت آخر مرة شاهدت فيها نشرة الأخبار في تليفزيون من تليفيزيوناتنا العربية “الجميلة”.   قد يكون عشرين أو ثلاثين عاما أو أقل قليلاً أو أكثر قليلا.  المهم أني لا أشاهد نشرات ذالأخبار العربية لأنها تصيبني بالحزن.  وهي تصيبني بالحزن لأن أخبارها حزينة إذ هي أخبار سرقة وفساد, وقتل ودماء, وخراب ودمار.  وهذه أخبار ترهقني.  وعليه, اكتفيت بـ CNN  وBBC.  فأخبارها جميلة, عن شعوب جميلة, مشاكلها جميلة.  وحتى عندما يحدث دمار, كانفجار بركان, مثلاً, أو حدوث عاصفة مثلاً, أو ضربة سونامي, مثلاً, أو حتى زلزال, مثلاً, فإن طريقة حل هذه المشاكل جميلة.  أضف إلى ذلك أن هذه مشاكل لم يتسبب أحد فيها وإنما هذه هي طبيعة الأمور.  هذا هو ما يحدث في فلوريدا وكاليفورنيا. 

 

إلا أنه منذ أسبوعين تحولت الـ   BBCوالـ CNN إلى قنوات عربية لا حديث لها إلا عن مصائب عربية.  ذهب جمال خاشوقجي إلى القنصلية السعودية في اسطنبول وتحولت حياة كل “إنسان” على ظهر هذه الكرة التي نعيش فوقها إلى جحيم.  قام نوع من الكائنات الحية بتحطيم أصابع جمال ثم قام بتمزيقه.  كان من ضمن هذا النوع من الكائنات الحية نوع تخصص في الجراحة وحضر خصيصًا وهو يحمل منشارًا لتقطيع العظام.  وتحولت حياتي أنا إلى جحيم.  أنا لا أحب القتل.  أنا لا أحب أن أسمع أن خمسة عشر كائنا من هذه الكائنات الحية قد طار في طائرتين من الرياض إلى اسطنبول وهو يحمل منشارًا ليقص به عظام جمال.  هذه أخبار ترهقني.   والسؤال الآن هو كالتالي: إلى متى ستعيش هذه الكائنات بيننا؟  إلى متى سيقصون أصابعنا وينشرون عظامينا؟   إلى متى ستقبل البشر أن تعيش هذه الكائنات بيننا؟  ثم إلى متى ستطير الطائرات تحمل هذه الكائنات؟” 

 

إذا كانت رسالة “الحكم إذا أدب السلطان رعيته” قد قصرت نفسها على بيان أن من حق السلطان في الفقه السني القديم “تأديب” الرعية حتى الموت ولا شيء عليه طالما لم يستخدم أداة من أدوات القتل.   وإذا كانت رسالة “إلى متى تطير هذه الطائرات؟” قد قصرت نفسها على بيان شكواي من كل هذا الدم وهذا التقطيع فإن رسالة “مقتل جمال خاشقجي والحكم إذا أدب السلطان رعيته” قد نظرت في حكم قتل جمال خاشقجي من منظور الفقه السني القديم.  قلت:

مقتل جمال خاشقجي والحكم إذا أدب السلطان رعيته  

“يلفت مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي النظر إلى موقف الفقه السني القديم من موت أحد رعايا السلطان أثناءعملية تأديب السلطان له.  يظهر ذلك فيما جاء في “كتاب الديات” من كتاب “الروض المربع بشرح زاد المستقنع مختصر المقنع” في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه, المتن للعلامة شرف الدين أبي النجا موسى بن أحمد  الحجاوي, والشرح للعلامة منصور بن يونس البهوتي, من تحقيق وتعليق فضيلة الشيخ فرج بيومي عامر, وفضيلة الشيخ محمّد السيد الشيخ.  وهو الكتاب العمدة المعتمد في تدريس الفقه الحنبلي لطلبة المدارس الثانوية التابعة للأزهر الشريف.  جاء التالي:

“الحكم إذا أدب الرجل ولده, أو السلطان رعيته, فمات المؤدّب.  إذا أدب الرجل ولده ولم يسرف, لم يضمنه.  وكذا لو أدب زوجته في نشوز, أو أدب سلطان رعيته, أو أدب معلم صبيه ولم يسرف, لم يضمن ما تلف به.  أي بتأديبه.  لأنه فعل ما له فعله شرعًا ولم يتعدّ فيه.  ومن أسرف أو زاد على ما يحصل به المقصود أو ضرب من لا عقل له من صبي أو غيره ضمن لتعديه.”

 

يحتاج الكلام أعلاه إلى بعض الشرح.

  1. يذهب الفقه السني القديم إلى أنه إذا “أدَّب” السلطان أحد رعاياه – أي قام بضربه – بشكل أدى إلى “تلفه” – أي وفاته –  فإنه “لا يضمنه”.  أي لا يدفع ديته.

  2. يشترط الفقه السني القديم هنا ألا يكون هناك إسراف في “التأديب”.  أي يشترط أن يتم التأديب عن طريق الضرب بالأيدي, مثلاً, أو الضرب بعصاة, مثلاً, أو بالسوط, أيضًا مثلا.  أما إذا تم “التأديب” عن طريق استخدام “سيف”, مثلاً, أو “مثقال” – أي كتلة من الحديد مربوطة بسلسلة من الحديد كذلك – أيضًا مثلا, أو غيرهما من الأدوات المعدة للقتل, فيلزم في هذه الحالة دفع ديته. 

  3. يرى الفقه السني القديم, بهذا الشكل, أن الله قد أعطى السلطان حق تأديب رعاياه حتى الموت على ألا يستخدموا في هذا التأديب أداة معدة للقتل.  أما في حالة استخدام أداة معدة للقتل فإن السلطان ملزم بدفع الدية.

  4. يعني هذا الكلام أنه حتى في حالة ما إذا اكتشف وليّ عهد المملكة العربية السعودية, سمو الأمير محمّد بن سلمان – حفظه الله – أن “تلف” الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول يعود إلى أوامر سموه – حفظه الله – بتأديبه, فإن سموه – حفظه الله – غير ملزم بدفع ديته حيث إن رجاله قد أتلفوه قبل أن يستخدموا “منشار العظام” الذي أحضروه معهم.  أضف إلى ذلك أن “منشار العظام” هذا ليس “أداة معدة للقتل” وإنما هو “أداة معدة للعمليات الجراحية” يستخدمها الأطباء لا للقتلة.

 

وكأن المسألة, بهذا الشكل, أنه طالما لم يستخدم رجال الدولة السعودية منشار العظام إلا بعد وفاة جمال فلا قصاص هناك بل ولا دية.  يعود ذلك إلى أنهم قد “فعلوا ما لهم فعله شرعًا ولم يتعدّوا”.  ذلك ما يخبرنا به أهل الفضل, والعلم, والنظر من أهل السنة والجماعة, رضي الله جل جلاله عنهم جميعًا وأرضاهم أجمعين.

 

وإن الحمد لله, والشكر لله, على ما آتانا وما لم يؤتِنا, وما أعطانا وما لم يعطِنا.  ولقد أعطانا وأفاض العطاء.   ولا حول ولا قوة إلا بالله الذي ليس لنا سواه.   وللسلطان الحق “شرعًا” في ضربنا حتى تلفنا.”

 

 

وكأن الهدف من هذه المقالات هو بيان أن هذا هو ما سوف يصيبنا إذا طبقنا “حكم الشرع” على أنفسنا. إذ سيكون بحق حكامنا ساعتها أن يؤدبوننا حتى الموت, ولا شيء عليهم.  وهذه والله مصيبة.  إلا أنها ليست بالكبيرة, إذ أن المصيبة الكبيرة هي أن أئمتنا العظام, شموس الإسلام, أحبار الأمة, وأسود السنة, رضي الله جل جلاله عنهم جميعًا وأرضاهم أجمعين, يتحدثون عن هذه المصيبة على أنها “حكم الشرع”.  أي أنهم يرفعون أحكامهم إلى مستوى أحكام الله ويرفعون أنفسهم إلى مستوى الله.  أين قال الله أن من حق الحاكم أن يؤدبنا حتى الموت ولا شيء عليه؟  ما كل هذه الجرأة على الله؟  كيف لنا أن نخلط كلام الأئمة العظام بكلام الله؟  كيف لنا أن نخلط كلام الله بما هو من دون الله؟  وأشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.  والفقه السني القديم فقه بدائي شرير.

 

كمال شاهين

25 أكتوبر 2018

 

#تطوير_الفقه_الاسلامي
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.