الحرية الخَلقية للإنسان (تطور خَلق الانسان)

تساؤلات شاب

 

 

“ماذا لو يظهر نبي صيني ويؤمن به مليار نسمة يأمرهم بمحاربة العالم وغزوه لنشر شريعته, وحين تسأله عن معجزته يعطيك كتابًا باللغة الصينية ويتحداك أن تأتي بمثله.  المعراج غير مثبت علميًا ولا يوجد أي دليل حي ملموس يؤيده.  أما بالنسبة لتكون الجنين كصورة عامة كانت صحيحة لكن كمراحل كان الترتيب خاطئ وهناك مراحل مهمة لم تذكر حديث للرسول يتكلم عن المده الزمنية لكل مرحلة وكانت التقديرات كلها خاطئة علميا.  ترتيب القرآن لتكون الجنبن مذكور قبل في بعد كتابات أرسطو
وأرسطو عاش في القرن الرابع ميلادي أي قبل محمد ب 1100 عاما.  انتهى تساؤل الشاب.

القرآن لم يأمر المؤمنين بغزو العالم ومحاربته لنشر الدين، لا توجد آية واحدة تأمر بقتال الناس لإدخالهم الدين، بل لا يوجد آية واحدة تأمر بقتال من بلغته رسالة الإسلام وعاند ورفض دخول الإسلام، بالعكس توجد مئات الآيات تثبت عكس ذلك، فالقرآن يؤكد أن الإيمان ليس بالإكراه وأن النبي ليس مسيطراً على الناس ولا وكيلاً ولا جباراً وأن مهمته الوحيدة هي البلاغ وليس له بعد ذلك شيء: “وما على الرسول إلا البلاغ”، “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر” ، “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”، “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، “فلعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً”، “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي“.
أما القتال في القرآن فهو مشروط بعلة الاعتداء: “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”، وغير المسلمين ممن لم يقاتلونا فإن القرآن يأمرنا معهم بعلاقة البر والقسط لا بعلاقة المحاربة: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”. البر والقسط هو مرحلة متقدمة على التعايش، فالتعايش قد يكون اضطرارياً أما البر فهو موقف نفسي إيجابي من شريكك في المجتمع والدولة أو في الأرض.


ما حدث في تاريخ المسلمين من فتوحات خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، و لا يعنيني كثيراً ولست بصدد تبريره، فالفتوحات سياسية تقيم بأدوات السياسة، وليس كل ما فعله المسلمون في تاريخهم كان ترجمةً دقيقةً لمبادئ القرآن، القرآن أصلاً ضد ثقافة الغزو والتوسع الامبراطوري فهو يقول: “وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين” أي أنه دعوة أخلاقية وليس مشروعاً امبراطورياً، وفي القرآن أيضاً: “تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين” أي أن القرآن يذم الذين يريدون العلو في الأرض، أي الذين يريدون سحق إرادة الشعوب الأخرى واستعبادهم، والقرآن يذم الذين يفسدون في الأرض والذين يوقدون نار الحرب: “كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله” ويدعو إلى إصلاح الأرض وإلى التحاور بين البشر: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله” ماذا تعني ألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله؟ هذه قضية سياسية اجتماعية وليست قضيةً غيبيةً، تعني تحقيق مبدأ التساوي بين البشر وألا تكون هناك طبقات أسياد وعبيد..

 

أما التحدي ببلاغة القرآن فهو للعرب الذين تنزل عليهم القرآن لأول مرة وكانوا سادة البلاغة والشعر، وليس للناس كافةً، ولم يكن التحدي مقصداً في ذاته إنما كان أحد أدوات إقناعهم في سبيل الإيمان، فالقضية الإيمانية هي ما يشغل القرآن. كان القرآن يقول لهم إن كنتم في شك من صدق هذا الكتاب فائتوا بمثله، لم يكن يريد أن يسجل عليهم انتصاراً بل كان يريد منهم أن يراجعوا أنفسهم وأن تطمئن قلوبهم للإيمان.

 

نحن اليوم لا نؤمن بالقرآن لإعجازه البلاغي ولا حتى لما يسمى إعجازه العلمي، القرآن عظيم لاتساقه الموضوعي ولعظمة مبادئه الأخلاقية لأنه يأمر بالعدل والإحسان ومكارم الأخلاق- أنصح هنا بمراجعة مقالي “الروحي والتاريخي في القرآن” – فالقرآن بالدرجة الأولى ليس كتاب حقائق علمية بل هو كتاب طمأنينة للقلب وشفاء لما في الصدور ورحمة للمؤمنين..

 

من يقرأ القرآن ككل بروحه ويستشعر معاني الرحمة والطمأنينة وهي تنسكب في قلبه فلن يتوقف بعد ذلك عند شبهة صغيرة، لأن مناقشة الشبهات المتفرقة هو شأن العقل حين ينفصل عن الروح، أما الروح فهي تتعامل مع المعنى الكلي وتستشعره، لذلك القرآن يأمرنا باتباع محكمه لا متشابهه، لأن المتشابه قد يوقع الإنسان في مشكلات، لماذا أشغل نفسي بإثبات أو نفي الإعجاز العلمي في مراحل تكون الجنين، القرآن لم يقل لي إن هذا هو مقصده، هذه آيات تظل متشابهةً، وأمامي الدليل الأكبر وهو الأثر الذي يستطيع القرآن تحقيقه في الصدور والقلوب حين يمنحها الطمأنينة والأمن والسلام الداخلي.

عن صفحة أحمد أبو رتيمة على الفيس بوك

الحرية الخَلقية للإنسان

 

 

 

EVOLUTION.jpg

مقدمة:

قرأت ما كتبه الأخ الفاضل أحمد أبو رتيمة ردا على شاب استشكل إشكالا واقعيا على القرآن الكريم وبالأحرى على فهم المسلمين للقرآن العظيم. كما استمعت إلى إشكالات الدكتور كامبل على الدكتور ذاكر نايك في دبي حول آيات تكون الجنين في القرآن الكريم على أساس التفاسير والتراجم العربية طبعا ولاحظت بأن إشكالات الدكتور كامبل صحيحة وأن الدكتور ذاكر الذي عودنا دائما على التعمق في القرآن الكريم فهو في هذه المرة لم يكن موفقا. هناك مسائل أخرى تعرض لها السائل مع الأستاذ أبو رتيمة سوف لا أرد عليها هنا. لكنني مهتم بمعرفة موضوع تكون الجنين في القرآن الكريم. ذلك الموضوع كما يشرحه علماء المسلمين يشكل إبهاما كبيرا في         ضمائر علماء الأجنة فيشعر كثير منهم بأن القرآن كتاب بشري أو كتاب تناول ما فهمه البشر يوم نزوله فقط لو كانوا منصفين أو كانوا مسلمين.

الخلية مبينة في القرآن وليس الجنين:

أنا كمفسر معاصر ما وجدت حتى هذه اللحظة مراحل تكون الجنين في القرآن الكريم. وسوف أسعى لأختصر ما أمكن. بداية قال تعالى في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11). هناك خلق بداية ثم تصوير ثم أمر من الله تعالى للملائكة أن يسجدوا لآدم. الخلق عبارة عن ارتباط الحيوان المنوي (ونختصره بالحيمن) الذكري بالبويضة الأنثوية. دعنا نسمي المرحلة مرحلة الخلق. هل تلك هي مرحلة البداية؟ كلا. قال تعالى في نفس سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174).

فالمرحلة تبدأ حقيقة من ظهور الآباء. يريد الله تعالى أن يفصل لنا الحقائق لعلنا نرجع إليه ونعرفه بأنه هو الأصل جل جلاله. الذي يحصل في ظهور الآباء هو أن بعض الخلايا وهي كلها ثنائية فإنها تنفصل عن أخواتها لتصير خلايا أحادية وتسمى العملية بالانقسام النصفي (Meiosis). تعلمون بأن الخلية الحيوانية مشابهة جدا للخلية النباتية. هي تتكون من مجموعتين من الجينات ملتصقات على شكل مجموعات صغيرة بعمود على شكل عظمة كاملة تسمى (Spindle) والمجموعات تسمى كروموزومات أو صبغيات. الشكل الكامل لذلك التركيب يظهر فقط عند الانشطار الخلوي لتشكيل خليتين من خلية واحدة وتسمى الانقسام المتساوي (Mitosis).

كل مجموعة كبيرة من المجموعتين تمثل مواريث الإنسان أو الحيوان من أبويه الأولين. وحتى نختصر الطريق فإننا نتحدث عن الإنسان فقط لأن خلايا الحيوانات التي نأكلها ليست متوارثة من أبوين بل من أربعة آباء وأمهات. هناك حيوانات وحشرات تختلف عن خلايا الحيوانات القريبة منا.

لعل الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يحمل خلايا موروثة من آدم وزوجه التي نسميها حواء. والفرق بينهما أن المتوارث من حواء لا تحمل الكروموزوم (Y) بل تحمل كروموزوما أكبر على شكل (X). الكروموزوم الخاص بحواء تحمل حوالي 1000 وحدة وراثية تسمى جين طبعا. وأما المورث الجنسي الذكري من آدم فلا تحمل أكثر من 50 جينا وراثيا كما يظنون. بالطبع أن آدم يحمل الكروموزوم (Y) أيضا موروثا من أم آدم.

ولعلكم تهتمون أكثر فإن مسؤولية الخلية الأنثوية أكبر من الذكورية. الكروموزوم الذكري يساعد الجنين على تكوين الخصيتين وعلى تحويل العضو الأنثوي المشترك بينهما إلى عضو ذكري. إنها تقلبه فتجعل داخله خارجه فتنتقل الأعصاب المرتبطة بالجنس إلى خارجه بينما تبقى نفس الأعصاب داخل العضو الأنثوي ولذلك يشعران باللذة حينما يجتمعان ليقوم الرجل بتحريك العضو داخل العضو المشابه لدى المرأة. أحدهما حساس من الخارج والآخر حساس من الداخل.

ومن المفيد أن تعلموا بأن الإنسان الأول آدم كان أنثى وكان متساويا مع أخته حواء فكانا توأمين متشابهين (Identical). لعلكم فكرتم في الآية التالية من سورة آل عمران: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59). فكما أظن بأن وجه الشبه هو أن عيسى بلا أب فهو مصنوع من خلايا مريم التي لا تحمل الكروموزوم الذكري Y. قام الروح القدس بتحويل الكروموزوم الجنسي لديها إلى كروموزوم ذكري. وبما أن الأنثى أكثر تطورا من الذكر فإن جبريل نقص من خلية مريم شيئا ولم يضف إليها شيئا. إنه كما يبدو فعل نفس الشيء في الخلية التي خُلق فيها آدم وحواء لأنهما كانا أنثيين فقام بنفس العملية لتحويل الكروموزوم الجنسي لدى آدم إلى كروموزوم أنثوي وهذا هو وجه الشبه بينهما بظني والعلم عند المولى عز اسمه.

الكروموزوم الأنثوي الجنسي مسؤول عن صناعة الرحم والحليب احتمالا والكثير من التوابع الضرورية لاحتواء الجنين وتربيته طيلة شهور الحمل. ولذلك فهو أكبر من المشابه الذكري فالأنثى في واقعه أكثر تعقيدا من الذكر وأهم في عملية التكاثر. وأما القدرة على خلق النفس فكما أظن بأنها موجودة في خلايا الرجال فقط والأنثى محرومة منها.

أنا شخصيا أحتمل بدون أن أملك دليلا مقنعا بأن المجموعة الكروموزومية الذكورية التي تنطوي على نوعي الكروموزومات القادرة على خلق النفس فهي حينما تنفصل عن بعضها البعض تمهيدا لخلق خلايا أحادية نصفها ذكوري ونصفها أنثوي فإنها تصنع نفسا تفيد الذكر لو كان التجميع تجميعا ذكوريا كما تصنع الأنثى لو كان التجميع تجميعا ذكوريا أنثويا. فلو اجتمعت خلية أحادية ذكرية من الأب مع خلية أحادية من الأم فإنها تصنع نفسا ذكرية بكل سهولة. كما أنها تصنع نفسا أنثوية لو كانت الخلية الأبوية خلية أنثوية.

لكن خلايا الأنثى التي تكون كلها خلايا أنثوية فإنها لا تحمل القدرة على خلق النفس لأنها حينئذ لا ترضى بالعودة إلى الوراء لصناعة نفس ذكورية أقل أهمية من نفس أنثوية. سوف تصنع دائما نفوسا أنثوية. ولذلك فإنه سبحانه جعل قدرة خلق النفس في خلايا الرجال فقط ولم يجعلها في خلايا النساء. والعلم عند الله تعالى.

لنعود الآن إلى آيات الأعراف الثلاثة أعلاه لنتعرف على معانيها بكل اختصار:

  1. أخذ ربنا في حاله الربوبي الذي يساعد به خلقه وليس في حاله الألوهي المختص بالقوانين. أخذ سبحانه ذرية بني آدم نساء ورجالا من ظهور أبناء آدم الذكور وليس من ظهور بناته الإناث. شرحت بأن السبب هو أن الرجال يحملون نوعي الخلايا ولكن النساء يحملن نوعا واحدا؛ بمعنى أن الكروموزوم الجنسي لدى الذكور يكون (XY) والمشابه لدى الإناث يكون (XX). كما شرحت بأن قدرة خلق النفس لو كانت مودعة في خلايا الإناث لما كان لدينا اليوم رجال في الأرض ولتوقفت البشرية من بعد آدم وزوجه. فلا تفضيل للرجال في الواقع بل ضرورة الحياة الحيوانية للإنسان.

  2. الذرية تعني أصغر الكائنات من أي نوع. فذرية الإنسان هي كروموزوماته أو خلاياه كما أظن والعلم عند المولى. والكلمة تدل على الأولاد المنحدرين من الشخص أيضا.

  3. نعلم من القرآن بأن كل الكائنات بلا استثناء تستجيب لربها بصورة طبيعية. عدا الجن والإنس فإنهما بأبدانهما وبماهيات نفوسهما مستجيبان ولكنهما بنفوسهما وجوديا مختاران. والاختيار يعطي كل فرد القدرة على الخضوع لربها أو معصيته والخروج عن طاعته. لكن هذا الاختيار ليس منشَّطا لحظة الولادة بل ينشط فيما بعد بعكس بقية الحيوانات. انظروا إلى الدجاجة أو إلى أي حيوان آخر لتجدوها في لحظة الولادة تتحرك وتبحث عن الأكل ولكن الإنسان يسقط على الأرض محتاجا لمن يساعده وإلا فسيموت حتما. الاستجابة لأمر الله تعالى لدى الجن والإنس نسميها الخضوع الاختياري. فالإنسان لحظة الانفصال عن الأم بل لحظة الخلق في رحمها لا يحمل أية عقيدة موروثة من الأب كما لا يحمل عقيدة موروثة من الأم. والسبب في أن جينات الأم كانت مصنوعة منذ أمد في مبيضها وهي كلها خلايا أحادية لا تتحرك، فالسبب هو أن الخلق يحتاج إلى جينات نشطة قوية وهي في بداية شبابها أقوى مما بعد ذلك. لكن جينات الأب صنعت ساعات أو أياما قبل انفصالها عن أخواتها لتشكل خلايا أحادية ولعل السبب هو أن أهمية الأب هو في خلق النفس والنفس تحتاج إلى روح قوي ليتفاعل مع الزمن. وحين الانفصال فإنها فقدت كل الأفكار والعقائد التي صنعها هو في نفسه لأن الخلية المنفصلة لا تحمل غير المواريث الخَلقية الطبيعية. وهذا هو السبب برأيي أن الطفل الحيواني يحمل صفات أبويه لأنه غير مؤهل للتكليف ولكن الطفل الإنساني لا يحمل أفكار أبويه فلا يعرف كيف يتصرف لحظة الولادة.

  4. الاستشهاد المذكور في الآية 172 استشهاد طبيعي مماثل لقول السماء والأرض: أتينا طائعين. لأنهما لم يحملا عقيدة أو فكرة لعدم وجود نفس لديهما. والإنسان لحظة الظهور باعتبار أنه تكَوَّن من خلية أحادية لا تحمل أفكار الوالد فإنه مثل بقية الكائنات مستجيب لربه فقط إذ لا اختيار عنده ولا أفكار ولا عقائد. هذا الاستشهاد الطبيعي حوَّلَه الله تعالى إلى جملة عربية لنا نحن لنعلم بأننا يوم القيامة لا يمكننا التذرع بعقائد آبائنا ولذلك:

  5. قال الله تعالى بعدها في الآية 173 بأننا لا يمكننا أن نقول بأننا ذرية آبائنا لأننا انفصلنا في ظهورهم وحينما انفصلنا فقدت الخلية كل أفكار وكل عقائد آباءنا. فلا يوجد شرك موروث ولا كفر موروث ولا دين موروث بل كل إنسان يختار ما يريده لنفسه. ولو تأثر بأسرته فهو الذي تأثر لأنه مارس الكسل ولم يفكر بل استمر في اتباع الأبوين حتى بعد أن صار قادرا على التفكير. هذا هو الفرق الأساسي بيننا وبين الحيوانات ولا أعرف الكثير عن مشتركاتنا مع الجن والشياطين المكلفين.

  6. أما الآية الأخيرة فهي تشير إلى موضوع آخر مشروح في الآيتين التاليتين من سورة الزمر كما أظن: إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42). فكل نفس إنسانية تعود إلى ربها لحظة المنام فتبتعد في ساعات النوم عن كل المؤثرات ويتوفاها الله تعالى بمعنى أنه سبحانه يريحها من المؤثرات الفاسدة بأن يستعيد أمانة الإرادة منه فيسقط مع بدنه على فراش النوم بلا إرادة ثم يرسلها ربها مرة أخرى ليرى ما يفعل حتى يحين أجله الطبيعي. آنذاك يمسكه بلا رجعة بمعنى أن المرء يسقط في يد ربه ممسوكا كالملائكة وككل الموتى إلى الأبد. والعلم عند المولى.

عملية التصوير الجيني:

عرفنا إلى حد ما مسألة بداية خلق الإنسان. ثم نأتي للمقطع الثاني من الآية 11 من سورة الأعراف وهي: ثم صورناكم. عملية التصوير تمثل عملية تكاثر الخلايا. فالخلية تصور نفسها بداخلها لتملك تصويرا كاملا كمقدمة لتجزئة الخلية إلى خليتين بداية. لكن التصوير الأول هو أساس البدن الجديد فهو عملية معقدة جدا ويتبعها صناعة النفس. والله تعالى يقول عنها في سورة الانفطار: يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8). الخلق هو ارتباط الحيمن بالبويضة؛ التسوية تعني خلق النفس لقوله تعالى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7). فالله تعالى بمجرد ارتباط أو تعلق الحيمن بالبويضة فإنه يخلق النفس للمخلوق الجديد. إنه لا زال في الخلية الأولى حيث يقوم نظام رب العالمين بالتعديل الجيني. ثم يشرح الله تعالى في الآية 8 من الانفطار معنى التعديل الجيني وهو تركيب الجينات بحيث تتكامل تركيبة المخلوق الجديد داخل الخلية الأولى. كل العملية كما أظن لا تأخذ أكثر من دقائق أو لحظات احتمالا. تلك هي صورة المخلوق الجديد المصنوع من خلية الأب الأحادية المسماة بالحيوان المنوي أو الحيمن ومن خلية الأم الأحادية المسماة بالبويضة الموجودة في المبيض منذ أن كانت شابة في مراحل البلوغ.

التكاثر الخلوي لدى الإنسان:

هذا مبدأ المخلوق الجديد. ثم يحدثنا القرآن الكريم في سورة الحج وفي سورة المؤمنون كيفية التكاثر الخلوي وفي سورة الزمر كيف ينشئ سبحانه البدن الإنساني وكيف يوزع الخلايا على مجموعات للقيام بعملية صناعة البدن. ولنبدأ بسورة المؤمنون حيث يقول سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15). السلالة إشارة إلى ما استل من الشيء. واستل تعني أخرج شيئا من شيء آخر. وأظن بأن المقصود هو الطفرات الجينية التي تحصل في فترات طويلة جدا في الكائنات فتتغير ماهياتها.

وجميل أن نعرف بأن أول من اكتشف تلك الحركات برأيي هو المرحوم صدر الدين الشيرازي في القرن العاشر الهجري وسماها الحركة الجوهرية. اكتشفها فلسفيا ثم بعد حين رأى بأن ذلك الاكتشاف لا ينسجم مع الأحاديث والروايات ولذلك خالف نفسه واعترف خطأ بأنه مخطئ. كان مصيبا دون أن يعلم بأنه مصيب وبأن الله تعالى منحه نعمة كبرى هي مقدمة معرفة التطور. أسفا على ما حصل له رحمه الله تعالى.

إن الإنسان كبقية الحيوانات مخلوق بداية من تواجد تراب في شقوق الأرض وقد مسه الماء وسلطت عليه الشمس أشعتها فتكونت من الخليط خضر أحادي الخلية باعتبار تأثر الخليط بالتركيب الضوئي احتمالا. أنا شخصيا أجهل النباتات الأولية ولعل فهم المسألة تحتاج إلى تخصص لا أملكه. يقول سبحانه في سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99). وقال تعالى في سورة عبس: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27).

كلما أعرفه من الآيات الكريمة هو أن هناك نبات أولي أحادي الخلية تشكلت من مياه الأمطار المتخزنة في الشقوق الأرضية. أخرج الله تعالى من تلك النبتة الأولى خضرا قد يكون هو الكلوروفيل أو نوع من الطحالب الأولية. أخرج الله تعالى منها النباتات المركبة من خلايا ثنائية. الخلية الثنائية قادرة على التنوع بفضل الطفرات الجينية ويمكنها أن تصنع الحيوانات والبشر. والعلم عند المولى.

فالسلالة تمثل طفرات جينية خلال مئات الملايين من السنين لخلق مختلف النباتات والحيوانات ومنها الإنسان ببدنه طبعا. هناك تستل كل تركيبة جديدة من تركيبة قديمة ومجموع الاستلالات تمثل السلالة الفطرية لأي كائن في حالته النهائية. يريد الله تعالى في القرآن أن يكرمنا ويقول لنا بأننا لسنا أبناء قرود بل هناك إرادة إلهية جازمة ليبدأ خلق الإنسان من طين. قال تعالى في سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (9). فهناك حيوانات بشرية لا تملك النفس البشرية هي أصولنا وليس القرود. تلك الحيوانات البشرية انقرضت بتقدير من الله تعالى حتى لا نختلط بهم. البحث طويل في القرآن ولا مجال لذكر كل شيء في مقالة طبعا.

والإنسان في أساسه هو خلية ثنائية صارت قادرة على خلق إنسان كامل بالسلاميات والقدرة على الحركات المختلفة والقدرة على اختزان المعلومات في المخ. هناك منح الله تعالى ذلك الإنسان المخلوق من سلالات خلقية كثيرة العدد نفسا بشرية وسماه آدم. كما أن زوجه وهي أخته في الواقع كانت تسمى آدم في حقيقتها لأن الله تعالى يسمي الكائنات على مسمياتها. ولكنه سبحانه للفصل بينهما لم يذكر اسمها بل اكتفى بقوله زوجه أي زوج آدم. الزوج يعني المشابه المكمل للشيء والعلم عند المولى عز اسمه. تلك الخلية العظيمة نتجت من ارتباط والد آدم بأمه. وقد ذكره الله تعالى في القرآن الكريم في سورة البلد: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ (4).

هناك آيات أخرى نعرف منها بأن آدم خلق في مكة ثم نقله الله تعالى مع زوجه وهما طفلان إلى طور سيناء. والوالد الذي اعتبر الله تعالى ما ولده حركة أرضية مهمة بحيث أقسم به وبوليده هو والد آدم وآدم نفسه ولعله مع حواء. والكبد هو الخلية التي خلق فيها آدم وزوجه والعلم عند الله تعالى.

نعود إلى آيات سورة المؤمنون: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14). بعد أن تكامل الحركات الجينية خلال مئات الملايين من السنين فإن والد آدم ذلك الموجود العظيم في حياتنا نقل خلية أحادية أو حيمنا عن طريق المني إلى رحم زوجه وهي أم آدم وحواء. هناك تحولت النطفة إلى علقة. هي لا زالت في بويضة الأم وهي خلية أحادية أيضا. تعلق الحيمن بالبويضة فتكون من ذلك التعلق خلية ثنائية قادرة على التكاثر والإنتاج. عرفنا من آيات الانفطار بأن تلك العلقة أو الحيمن المتعلق بالبويضة تعلقا خلويا تمثل الخلق ومن بعد الخلق فإن الله تعالى منحه النفس قبل التعديل الجيني أو التركيب الجيني. نحتاج الآن إلى أن ننتقل إلى آية الحج لنعرف المضغة. العلقة الموصوفة في كتب التفسير ليست صحيحة والمعنى الأولي للعلق أوالعلقة هو تعلق شيء بشيء آخر كما هو مذكور في كتب اللغة العربية القديمة كلها تقريبا.

قال تعالى في سورة الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5). سوف أوضح بعض غوامض الآية بعد أن ننتهي من عملية التكاثر الخلوي. الخلية الجديدة هي نفس البويضة التي غزتها الحيمن فكونت معها خلية ثنائية. أصبحت الخلية عبارة عن ما يقرب من 100000 وحدة وراثية تسمى الجين موزعة على 23 زوج من الكروموزومات فعدد الجينات صارت في حدود 200000 وحدة وراثية أو جين باعتبار زوجية الكروموزومات. الكروموزوم تعني الصبغي أو المعروف ب DNA. الوحدات الوراثية الموزعة على كروموزومات هما مواريث آدم وحواء. الكروموزومات غير قابلة للرؤية في الواقع إلا حين التكاثر الخلوي. فهي في الحالة العادية على شكل لحم مدقوق وهي المضغة بنظري.

يريد الله تعالى أن يخلق إنسانا جديدا أقوى من الأب والأم. ذلك لأنه سبحانه يريد أن يطورهما شيئا فشيئا. التطوير المستمر للإنسان ضروري لأن الهدف الأساسي من كل الخلق هو ظهور كائنات عن طريق الطبيعة تتعرف على الخالق العظيم بصورة طبيعية فتعبده باختيارها بحق وصدق.

هذه الجينات مسؤولة عن صناعة مختلف الأجهزة والجزيئات الإنسانية بما فيها اللون. هي مضغة باعتبار أن الكروموزومات مختلطة ببعضها البعض إلى وقت القيام بعملية صناعة المثل. هناك يحفز الله تعالى الجينات الأقوى لتقوم بالعملية مقابل الجينات الأضعف التي لا تقوم بعملية الخلق. الجينات لا تتركب إلا بعد أن تنفصل عن العصا الحاملة لها (spindle) وتختلط مع بعض مثل اللحم الممضوغ. جزيئات هذه المضغة منشطة وغير منشطة. بمعنى أن الأقوى ينشط ويقوم بعملية التكاثر والأضعف لا يقوم بالعملية بل يبقى موجودا بلا نشاط. فالمخلقة تعني المعدة لعملية الخلق وغير المخلقة تعني غير المعدة لعملية الخلق. قال تعالى في سورة السجدة كما ذكرت أعلاه: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7). إنه يخلق الأحسن باعتبار أنه ينشط الجينات الأقوى لتسود عملية التكاثر الجيني وخلق الأعضاء والأجزاء والدم وكل مركبات البدن.

التحسين يبدأ من عملية الخلق أو من تكميل عملية الخلق وهو التعديل الجيني. عملية التعديل الجيني عبارة عن تصوير الجينات نفسها مرة بعد مرة. ولذلك أشار إليها سبحانه في سورة آل عمران: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6). وقال تعالى في سورة غافر: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64). وقال تعالى في سورة التغابن: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3). لاحظوا بأنه تعالى ينسب التصوير إلى نفسه في الآيات الكريمة لأنه يريد أن يخلقنا على أحسن تقويم ممكن فيشرفنا بأن ينسب الكثير من تحولاتنا الخَلقية إلى نفسه الكريمة. لقد أكرمنا كثيرا والحمد لله رب العالمين.

السجود للخلق الآدمي:

ذلك التصوير هو أساس الأبدان الإنسانية. يمر الإنسان بعده بمراحل حساسة جدا حتى يتكامل نموه. وقد أمر الله تعالى كل الكائنات المشعة أن تسجد لآدم. آدم هنا في آيات السجود فقط اسم جنس لأبوينا ولنا جميعا. أولئك الكائنات المشعة مثل الملائكة بأنواعها والجن بأنواعها تؤثر في تلك الخلية الحساسة التي مرت على تطويرها مئات الملايين من السنين تحت عناية الله تعالى ورعايته. فالأمر بالسجود ليس للخضوع لآدم. لم يكن آدم بعد التصوير سوى بنية أساسية لإنسان في طور الخلق في رحم أمه. لم يكن آدم موجودا كاملا يشعر بشيء ولا معنى للخضوع له. ثم إنه سبحانه يأمر بعدم الخضوع لغير الله تعالى. قال تعالى في سورة فصلت: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37). فالسجود سجود فيزيائي بمعنى أن يكمش الكائن الطاقوي نفسه حين المرور على خلية الإنسان حتى لا يتأثر الإنسان الجديد بإشعاعاته.

ولذلك قال تعالى لآدم كما في سورة طه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117). قال سبحانه لآدم بأن الشيطان عدو له ولزوجه لأنه لم يسجد لهما! هل عدم السجود يعني العداوة؟ هذا يعني بأن عدم سجود إبليس لآدم كان يضر بآدم وزوج آدم وهما في بطن أمهما. فالسجود كان عملا فيزيائيا لحماية آدم وحواء ولم يكن عملا عباديا. المعبود هو الله تعالى وحده لا شريك له. لم يقل الله تعالى اعبدوا آدم بل قال اسجدوا له لأنهم يكمشون إشعاعاتهم حتى لا تؤثر فينا فلننتبه.

البعث:

وأما السر في أن الله تعالى استشهد في سورة الحج بخلقنا لإثبات البعث يوم القيامة فهو التالي كما أظن. البعث في اللغة تعني الإثارة والتحفيز Stimulation. والإنسان بعد الموت يبتعد عن بدنه الفعلي ثم ينقل الله تعالى النفس الإنسانية إلى الأرض الجديدة. نحن حينما نموت فلسنا جميعا ندخل القبور. الكثير من الناس يموتون حرقا والكثير من الأديان تحرق الأجساد أو تأكله الأسماك والحيوانات وغيرها من أنواع الموت لكننا في الحياة الثانية الأخروية فإننا جميعا ندخل الأرض بنفوسنا ثم نخرج منها خروجا نباتيا. ولذلك قال تعالى مثلا في سورة طه: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55). فهو سبحانه خلقنا من الأرض كما وضحت ثم يعيدنا إلى الأرض الجديدة في الآخرة ثم يخرجنا بشرا من الأرض الجديدة كالنبات حتى لا نكون مقيدين بالآباء والأمهات بل نكون أحرارا من كل قيد غير العبودية لله تعالى.

كيف يُخرجنا من الأرض؟ إنه سبحانه يحفز نفوسنا لتحول خلية نباتية إلى خلية حيوانية مناسبة لكل منا. بالطبع أن هذا الموضوع مشروح ضمن عدة آيات في عدة سور لا مجال لبيانها هنا. كل العمليات التي ذكرها الله تعالى في آية سورة الحج فهي عمليات تحفيزية في الواقع ولذلك يقول سبحانه عن نفسه، بأننا هنا قمنا بعملية البعث عدة مرات حتى حولنا الحيمن والبويضة إلى إنسان، فنحن قادرون على أن نحول خلايا أخرى يوم القيامة إلى بشر لنحيط نفوسكم بتلك الأبدان. نحن البشر سوف نخلق أبداننا بالتحفيز بتقدير من الله تعالى والعلم عنده. والذين يظنون بأن عودة الإنسان إلى البدن تُعتبر قسرا لا يناسب الله تعالى فعليهم أن يعلموا بأننا هنا جئنا عن طريق الأبدان فالأصل هنا هو البدن الفيزيائي ولكن الأصل في الآخرة هو النفس، والبدن ضيف على النفس فلا قسر بل هو تطور إلى الأمام.

وبعد العمليات الخلوية يقول سبحانه: ثم نخرجكم طفلا. تتجاهل الآية كل تحولات الجنين وتكتفي بذكر التحولات الجينية والعلم عنده سبحانه.

والآن نعود إلى آية المؤمنون لنتعرف على المراحل الأخرى من التحولات الجينية. عرفنا مسألة المضغة تقريبا. تلك المضغة التي تتكون من مجموعة الجينات الموروثة من آدم وحواء فإنها بعد انهيار المجموعة الجينية تخلق أربع عصوات (جمع عصا) العصا الأولى والثانية تحمل كروموزومات آدم وحواء وهكذا الثالثة والرابعة. ثم تقسم الخلية نفسها إلى خليتين تتوسط كل منهما عصوين. سماهما الله تعال عظما إذ لا توجد في اللغة كلمة تدل عليها وهي أقرب إلى العظم وهي بشكل العظم ومصنوعة من الألياف الموجودة داخل الخلية وتسمى بالإنجليزية (Spindle). العظام تحمل اللحم والعصوان في كل خلية تحملان البروتينات فسماها الله تعالى لحما لأن اللحم بروتين ولم تكن الكلمة موجودة يوم تنزيل القرآن الكريم. وهكذا فإن الخلية الأولى تتحول إلى خليتين وكل منهما إلى خليتين وهلم جرا. تتجاهل الآية المراحل الأخرى لعملية الخلق الإنساني وتنتهي بالقول بأنه أنشأه خلقا آخر. فالطفل خلق آخر غير الخلية. إنه مجموعة خلايا كما سنعرف بعد قليل.

طبقات الجرم الثلاثة:

قال تعالى في سورة الزمر: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6). بمجرد أن بدأ عملية تكاثر الخلايا فإنها بداية وفي حدود اليوم السادس عشر تكمل صنع ثلاثة أغشية أو أكياس. تسمى بالإنجليزية:

(the ectoderm (outside layer), the mesoderm as the middle layer and endoderm (inside layer))

ويمكن تسميتها بالعربية بناء على تعريب البعض بطبقة الجرم الخارجية وطبقة الجرم الوسطى وطبقة الجرم الداخلية. تلك هي الظلمات الثلاث باعتبارات طاقوية يطول ذكرها ولكننا يمكن أن نعتبرها ظلمات نسبية. يتم صناعة الموجود الجديد في تلك الأكياس أو الأجرام الثلاثة كما قال تعالى في آية الزمر الكريمة: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ. والله العالم.

تلك المضغة التي هي عبارة عن الجينات المختلطة كمقدمة للتكاثر الخلوي تتشكل من نسبة كبيرة من البروتينات والبروتين لم يكن معروفا يوم نزول القرآن الكريم. لكن الله تعالى استعمل اللحم باعتبار أن أكبر نسبة من البروتين موجودة في اللحوم كما أظن، فقال سبحانه ثم كسونا العظام لحما. العظام هي الفايبرات أو الألياف التي تظهر على شكل عظمة حين التكاثر الخلوي والتي تحمل الكروموزومات فالله تعالى قد وكل أو وظف تلك الألياف (Spindles) لجذب الكروموزومات المركبة من البروتين اللحمي وكذلك الـ DNA حول نفسها قبل أن يتم عملية تنصيف الخلية إلى خليتين ثم تختلط المكونات مرة أخرى كالمضغة وهلم جرا.

وبعد ذلك يتم صناعة الطفل داخل تلك الأكياس أو الطبقات الجرمية الثلاث حتى يتكامل فيقول سبحانه بعدها: ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين. الخلق الآخر هو الطفل الذي صنع من تلك الحركات الخلوية الكبرى. يمدح الله تعالى نفسه بأنه تمكن عن طريق الطبيعة أن يقدر خير ما يمكن من عمليات جوهرية كبرى ليخلق إنسانا خلقا بعد خلق. وقد أشار سبحانه إلى عظمة تلك العملية الكبرى في سورة المرسلات هكذا: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23). ونعم به قادرا مقتدرا عز اسمه.

وفي الختام أعتذر من الإخوة الكرام الثلاثة الذين ذكرت أسماءهم في هذه المقالة المختصرة فأنا دون مستوياتهم العلمية ولكنني فكرت كثيرا في القرآن وهو تخصصي الوحيد تقريبا. أتمنى أن يسعدوا بتحقيقاتي وأن يصححوا أخطائي فأنا متشوق للعلم ولست متعصبا لما توصلت إليه. نحن نتطور باستمرار والله تعالى هو الذي يوفقنا وعلينا بأن نكون دائما بانتظار المزيد من بركاته العلمية جل جلاله.

تحياتي ودعواتي للجميع

أحمد المُهري

29/8/2018

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.