الجن والملائكة في القرآن الكريم

الجن

أرسل إلينا فضيلة الشيخ أحمد المُهري رسائل احترت في وضع عنوان لها.  فالرسائل, أولاً, تتحدث عن الجن, والملائكة, والشياطين بطريقة علمية – وهذا شيء غير معهود – إن لم يكن غير موجود – في الدراسات الإسلامية في الثقافة العربية, كما أنها, ثانيًا, تتحدث عن الموضوع بطريقة موضوعية.  أي أن الكاتب لا يتناول “شخصية” من يختلف معه وإنما يلتزم بـ “موضوع النقاش” ولا يخرج عنه.  وهذا شيء, للحق, شيء نادر شديد الندرة لا وجود له تقريبًا إلا في حالات شديدة الشذوذ.  وعليه, فأنا أهنيء نفسي وإخوتي في مركز تطوير الفقه الإسلامي على وجود فضيلة الشيخ أحمد المُهري بيننا يفيض علينا بفيض علمه وحسن خلقه.  أدعو الله أن ينعم عليه بالصحة, والعافية, وراحة البال, وأن يطيل في عمره وينفعنا وينفع الناس بعلمه.  ويبقى موضوع الخلاف.

 

يخبرنا فضيلة الشيخ المُهري أنه

  1. لا يرى بيد الإنسان أية معلومات قابلة للاهتمام عن الكائنات الجنية وتوابعها مثل الشياطين, و

  2. أننا لم نر شيئا متحركا ذا أبعاد يقوم بعمل أمام عيوننا ولم نسمع أصواتا خاصة بتلك الكائنات, و

  3. أننا لا نملك أي جهاز تابع لأبداننا, أو جهاز ميكانيكي أو إلكتروني لترصد الجن والشياطين, و

  4. أن كل حواسنا عاجزة عن النظر, أو الاستماع إلى, أو اقتفاء أثر, أي من الجن والشياطين, و

  5.  أن كل ما نقرأه في كتب التراث إنما يمثل مجموعة ادعاءات بشرية غير مرتبطة بالوحي وغير قابلة للتحقق من أي منها, و

  6. أن بالنسبة لفضيلته شخصيًا فهو يرفض الحديث عن الجن, والشياطين, والملائكة عدا ما قرأه في كتاب الله تعالى, ولولا القرآن لكان أول من ينكر وجود تلك الكائنات الغيبية, إلا  

  7.  أن القرآن الكريم يقول في سورة الأنعام: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128).   كيف نفسر هذه الآية الكريمة وهي تنبئ عن أن بعضنا سيعترف يوم القيامة باستمتاع بعض البشر ببعض الجن والعكس؟

 

يخبرنا فضيلة الشيخ المُهري, إذن, بأننا

  1. لا توجد لدينا أية معلومات ذات أية أهمية عن الكائنات الجنية وتوابعها مثل الشياطين, و

  2. أننا لم نر جنا ولا سمعنا أصوات جن, و

  3. أننا لا نملك أي جهاز ميكانيكي أو إلكتروني لترصد الجن, و

  4. أن حواسنا عاجزة عن النظر إلى, أو الاستماع إلى, أو اقتفاء أثر, أي من الجن والشياطين, و

  5. أن كل ما نقرأه في كتب التراث إنما هو مجموعة ادعاءات بشرية لا علاقة لها بالوحي ولا يمكن  التحقق من أي منها, و

  6. أن فضيلته شخصيًا يرفض الحديث عن الجن, والشياطين, والملائكة إلا ما قرأه في كتاب الله تعالى, ولولا القرآن لكان أول من ينكر وجود تلك الكائنات الغيبية, إلا  

  7. أن القرآن الكريم يقول في سورة الأنعام: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128).   كيف نفسر هذه الآية الكريمة وهي تنبئ عن أن بعضنا سيعترف يوم القيامة باستمتاع بعض البشر ببعض الجن والعكس؟

 

المشكلة, إذن, هي أن القرآن الكريم ينبئنا عن أن بعضنا سيعترف يوم القيامة باستمتاع بعض البشر ببعض الجن والعكس.  والعجيب في الأمر أني لا أرى أي مشكلة فيما يقوله القرآن الكريم بخصوص الجن والملائكة. 

  • هل يعني قول القرآن الكريم أن أولياء الشياطين من البشر سيعترفون بأنهم استمتعوا بالشياطين كما استمتع الشياطين بهم أننا رأينا الجن أو سمعنا أصواتهم؟

  • أم يعني أننا نملك أجهزة ميكانيكية أو إلكترونية لترصد الجن؟ 

  • أم يعني أن حواسنا قادرة على النظر إلى الجن, أو الاستماع إلى الجن, أو اقتفاء أثر الجن؟ 

  • أم يعني أن كل ما قرأناه في كتب التراث له علاقة بالوحي  يمكن  التحقق من أي منها, و

 

باختصار, لا يتعارض اعتراف أولياء الشياطين يوم القيامة بأنهم بأنهم استمتعوا بالشياطين كما استمتع الشياطين بهم مع ما نعرفه من أننا لم نرهم يوما, ولم نسمع صوتهم يوما, ولا نملك أي جهاز ميكانيكي أو إلكتروني لترصدهم, ولا مع أن حواسنا عاجزة عن النظر إليهم, أو الاستماع إليهم, أو اقتفاء أثر أي منهم, ولا مع أن كل ما نقرأه في كتب التراث إنما هو مجموعة ادعاءات بشرية لا علاقة لها بالوحي ولا يمكن  التحقق من أي منها.  مرة أخرى, لا يتعارض ما جاء في كتاب الله مع ما نعرفه عن الجن من أننا لا نراهم, ولا نسمعهم, ولا نشمهم, ولا نلمسهم, وطبعًا, لا نذوقهم.  كيف يمكن لبشر أن يتحدث عما:

لا نراهم, و

لا نسمعهم, و

لا نشمهم, و

لا نلمسهم, بل و

لا نذوقهم.

 

من المستحسن أن يتذكر المرء أن الحديث يدور هنا عن إنس اعترفوا “يوم القيامة” بأنهم استمتعوا في “الحياة الدنيا” بجن استمتعوا بهم هم أيضا.  لا أحد يعلم كيف يتحدث الإنس يوم القيامة عما فعلوه في الحياة الدنيا. 

و المشكلة, إذن, هي أننا لا نعرف شيئًا عن الجن, ولايعرف أسلافنا شيئًا عن الجن, ولم ترَ عيوننا يومًا أحدًا من الجن, ولا سمعت آذاننا أبدًا صوتا من الجن, ولم نمتلك يومًا أجهزة ترصد الجن إلا أن الله يخبرنا بأننا سنعترف يوم القيامة بأننا استمتعنا في حياتنا الدنيا بالجن كما استمتع الجن بنا.  وكأن السؤال هنا هو كالتالي: كيف استمتعنا بمن لم نرهم, ولم نسمعهم, ولم نشمهم, ولم نلمسهم, وطبعًا, لم نذقهم؟  كيف يستمتع البشر بالجن وكيف يستمتع الجن بالبشر؟  

في محاولتنا لفهم “كيف يستمتع البشر بالجن وكيف يستمتع الجن بالبشر” سوف نفحص كيف رأى أهل العلم والنظر من أهل السنة والجماعة, رضي الله سبحانه وتعالى عنهم جميعًا وأرضاهم أجمعين, المقصود باستمتاع البشر بالجن واستمتاع الجن بالبشر.

 

موقف الطبري

يرى الطبري أن استمتاع الإنس بالجن هو استمتاع الإنس بالحماية التي يقدمها الجن لهم.  يظهر ذلك بوضوح فيما اعتاده الناس في الجاهلية من طلب الحماية من الجن إذا نزلوا بوادٍ غير واديهم حيث كان الرجل في الجاهلية حين ينزل الأرض يقول “أعوذ بكبير هذا الوادي”.  أما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم, فيقولون “قد سدنا الجِنّ والحِن”.

 

موقف ابن كثير

من ناحيته, يشير ابن كثير إلى أن ابن جريج قد قال إن استمتاع الإنس بالجن يتعلق بالحماية التي كان يقدمها الجن لهم حين نزولهم واديًا غير واديهم, أما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم فيقولون “قد سدنا الإنس والجن”.  كذلك يذكر ابن كثير أن محمّد بن كعب قد قال إن استمتاع الإنس بالجن والجن بالإنس هو “الصحابة في الدنيا”.  وأخيرًا, يذكر ابن كثير أن استمتاع الإنس بالجن واستمتاع الجن بالإنس هو أن الجن أمرت والإنس عملت.

 

موقف القرطبي

من ناحية أخرى, يرى القرطبي أن استمتاع الإنس من الجن هو أنهم زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم على حين كان استمتاع الجن من الإنس هو أنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم.  كذلك يذكر القرطبي أنه قد قيل إن الرجل كان إذا مر بواد في سفره وخاف على نفسه قال “أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر”.  أما استمتاع الجن بالإنس فهو اعتراف الإنس بأن الجن قادرون على أن يدفعوا عنهم ما يحذرون وكذلك ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف, والكهانة, والسحر.  

 

يمكن القول, إذن, أن أهل العلم والنظر من أهل السنة والجماعة, رضي الله سبحانه وتعالى عنهم جميعًا وأرضاهم أجمعين, قد ذهبوا, بشكل عام, إلى أن المقصود باستمتاع البشر بالجن هو استمتاعهم بالحماية التي يقدمها الجن لهم حين نزولهم بالوديان التي يسيطر عليها هؤلاء الجن, وكذلك الاستمتاع بشرب الخمور وممارسة الزنا الذي يغويهم به الجن. على حين أن المقصود باستمتاع الجن بالبشر هو استمتاعهم باعتراف الإنس بالحماية التي يقدمها الجن لهم إضافة إلى اتباعهم لغوايتهم وطاعتهم لإغراءاتهم. 

وبحث عن الجواب حدثنا الشيخ أنه لا علاقة بين فقهائنا الأجلاء وبين هذا العلم.  حيث يخبرنا : 

  • أن الفقهاء الكرام يتدخلون في كل شيء بما في ذلك الجن,والشياطين, والملائكة بل إن بعضهم يدعي بأن الجن تتزوج من الإنس والعكس, أو بأن هناك بشرًا من أصول جنية, أو بأن هناك أناسًا يرون الملائكة ويجلسون معهم, أو أن هناك ليلة يسمونها ليلة الجن لأن الرسول ذهب عندهم وشاهد الجن, وما شابه ذلك من ادعاءات باطلة.

 

  • يدين فضيلته حديث الفقهاء عن الجن مبيّنًا أنهم يجهلون مفاهيم القرآن ويأتون بقصص مختلقة من عندهم. 

 

  • ينبهنا فضيلته إلى أنه لا توجد آية واحدة في القرآن تبيّن أن الجن يمكنها أن تظهر أمام البشر متخذًة لنفسها جسمًا مثلنا.

 

  • كذلك ينبهنا فضيلته إلى أن لا دليل هناك على ما يذهب إليه الفلاسفة من فقهائنا الأجلاء من أن الملائكة قادرة على أن تتشكل بكل شكل عدا الكلب والخنزير وأن الجن قادرون على أن يتشكلوا بكل شكل حتى الكلب والخنزير.

 

  • وأخيرًا, ينبهنا فضيلته إلى أن الحديث البشري عاجز عن أن يدخل عالم الملائكة والجن وأن على الفقهاء الكرام أن يعرفوا, بداية, ما هي الجن, وما هي الملائكة, وما هي الشياطين ويأتوا بآيات قرآنية دليلا على ادعاءاتهم قبل أن يتحدثوا عنهم.  

 

وعودة إلى السؤال الذي أثاره فضيلة الشيخ أحمد المُهري والخاص بـ “كيف نستمتع بمن لم نرهم, ولم نسمعهم؟  كيف يستمتع البشر بالجن وكيف يستمتع الجن بالبشر؟  فالإجابة “الآن” سهلة:

 يستمتع البشر بالجن حين يشربون الخمور ويمارسون الزنا عملاً بغوايتهم, ويستمتع الجن بالبشر حين يتبعون غوايتهم ويطيعون إغراءاتهم.   

 

لا يحتاج البشر إلى رؤية الجن, ولا إلى سماع أصواتهم, من أجل الاستجابة إلى غواياتهم والاستمتاع بملذات الخمور والزنا, ولا يحتاج الجن إلى أصوات يخاطبوننا بها حتى نستمع إليهم.

 

لا يحتاج الجن – ولا الحن – إلى وجود مادي كي يستمتع البشر بهم.

ننقل اليكم في الآتي مقالات الشيخ المُهري عن الجن والملائكة في القرآن :

 

الجن والملائكة في القرآن الكريم (1)

أعترف على نفسي بأنني مع خالص حبي واحترامي لأخي الكريم سيادة الأستاذ الدكتور كمال شاهين حفظه الله تعالى، فإنني ألمس عنده بعض التجاوزات العلمية التي لا أتوقعها من شخص بقامته. فمنذ فترة غير قصيرة يتحدث عن العلم ويشرحه بأنه يمثل ما نعرفه وما يمكننا التحقق منه بالتجارب. يقوم بتعريفات مختلفة للعلم على هذا الأساس. هذا نوع من العلم طبعا ولكنه ليس كل العلم. الحكماء والفلاسفة السابقون لم يعيروا أي اهتمام بالعلوم التجريبية ويعتبرونها نتاج استقراء ناقص وليس نتاج تحليل علمي دقيق. إنهم ظنوا بأن العلم عقلي واستقرائي. (لعل تعابيرهم تختلف ولكنني أعرف ما يقولون إلى حدما). العلم العقلي هو ما توصلنا إليه بالتحليل العقلي ولو أننا تحدثنا عن مواد خارجية.

فمثلا قالوا بأن الإنسان حيوان ناطق. بالطبع أنا أعتبر هذا التعريف باطلا ولكنهم قالوا ولعل أول من قال ذلك هو المعلم أرسطو. ذلك تعريف لكائن مادي ذو أبعاد وهو الإنسان الذي اعتبروه فرعا من جنس الحيوان ولكنه مميز بالنطق. لكنهم يقولون بأن هذا تعريف عقلي للإنسان ويعتبرونه أصح تعريف. لم يقولوا بأنهم أخضعوا عددا من البشر للتجارب فرأوا بأنهم جميعا كائنات مميزة بالنطق ولذلك أقاموا ذلك التعريف. لو قالوا ذلك فهو تعريف غير دقيق لأن القائل لم يُخضع كل البشر لأية تجربة ليعلم بأنهم جميعا حيوانات ناطقة ولذلك عرفهم بذلك التعريف. فهم على ذلك الأساس كانوا يفضلون الاستنتاجات العقلية على الاستقراء أو تجربة النماذج.

ثم قالوا بأن هناك نوعا آخر من العلم ناتج من الاستقراء ولكن بصورة موسعة. الاستقراء الكامل يعني إجراء التجربة على كل أعضاء البشر أو أية مجموعة أخرى من الكائنات المماثلة؛ ولكن الاستقراء الموسع هو إجراء تجارب على عدد كبير من البشر مثلا. لكن البشرية من بعد جاليليو اقتنعت بأن التجربة الجزئية على بعض النماذج يكفي لحصول العلم بالكلية العلمية. ومنذ ذلك اليوم تطورت البشرية تطورا هائلا في كياناتها البدنية كما تطورت تطورا مذهلا في صناعاتها وفي معالجاتها المختلفة بما فيها المعالجات البدنية للإنسان وللحيوانات المنزلية. وفي كل فترة يشعر الناس بخطأ التجربة السابقة لأنهم لم يلتفتوا إلى خاصية مميزة تميز الشيء الموصوف عن غيره. لكنهم عاشوا على هذا المنوال وأخطأوا كثيرا وأنتجوا وعالجوا مرضاهم وقاموا باحتساب الفلكيات وغيرها. وكلما ثبت خطأ أساسي في فهم جزئية من جزئيات الحياة قاموا بتصحيحها.

مثالهم مثال النمط القديم لتعليم الأطفال مقارنة بالأساليب العصرية المتطورة. كانوا يبدؤون بتعليم الطفل حروف الهجاء وقوانين ربط الحروف ثم ربط الكلمات ثم صناعة الجمل المفيدة البسيطة ثم دراسة النحو والصرف والمعاني والبيان واللغة والمنطق والفلسفة وما شابه ذلك. لكن الأطفال اليوم يدخلون المدارس التحضيرية وهم يرددون الجمل الصحيحة ويستمرون في صناعة الجمل والمقطوعات الصغيرة قبل أن يتعلموا حروف الهجاء بدقة أو يفهموا شيئا عن اللغة والنحو والصرف وما شابه ذلك.

يعتبر سيادة الدكتور كمال شاهين كل المسائل التجريبية علوما. إنه مهتم جدا بعلم النفس الإدراكي وهو معترف بأن مؤسس العلم المرحوم جان بياجيه أخطأ حينما وضع العلم ظانا بأن السبب في تطور الإدراك لدى الطفل مرتبط بالبيولوجيا وبأن السبب الببولوجي يخضع لسن الطفل. ثم رأى تلاميذه بأن قوانين بياجيه العلمية تتفق مع أطفال أوروبا ولا تنطبق على أطفال السعودية. والواقع أنهم اختبروا عددا من أطفال أوروبا وعددا من أطفال السعودية فقط. ومن يدري لو أنهم قاموا بتجربة عدد أكبر فلعلهم كانوا يرون تغييرا في رأيهم بالعملية. كلياتنا التجريبية كليات مطاطية غير مستقرة وغير دقيقة وكلها علم. بل هي العلم لا غيرها كما نشمها من مقالات الأخ الكريم كمال شاهين.

ولذلك أظن بأننا نحتاج إلى بحث موسع عن الجن والشياطين أو بأنني أنا أحتاج إلى ذلك لأتغلب على كل الاستفهامات الإنكارية لأخي الكريم الدكتور كمال شاهين أعزه الله تعالى. لكنني أكتب ذلك للجميع لأن الأبحاث الناقصة نشرت بين الجميع من قراء مراكزنا العلمية ونسيها رئيس المركز كما أظن.

فمما لا ريب فيه بأننا لا نملك أي جهاز تابع لأبداننا أو جهاز ميكانيكي أو إلكتروني لترصد الجن والشياطين. كل حواسنا الخمس المعروفة وما يعبر عنه بالحس السادس عاجزة عن النظر أو الاستماع إلى أو اقتفاء أثر أي من الجن والشياطين. لكن القرآن الكريم يقول في سورة الأنعام: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128). كيف نفسر هذه الآية الكريمة وهي تنبئ عن أن بعضنا سيعترف يوم القيامة باستمتاع بعض البشر ببعض الجن والعكس؟ كما أننا لم نر شيئا متحركا ذا أبعاد يقوم بعمل أمام عيوننا ولم نسمع أصواتا خاصة بتلك الكائنات. لا أرى بيد الإنسان بقدر بحثي المتواضع أية معلومات قابلة للاهتمام عن الكائنات الجنية وتوابعها مثل الشياطين. كلما نقرأه في كتب التراث فهو يمثل مجموعة ادعاءات بشرية غير مرتبطة بالوحي وغير قابلة للتحقق من أي منها. بالنسبة لي شخصيا فأنا أرفض أي حديث عن الجن والشياطين والملائكة عدا ما قرأته في كتاب الله تعالى. ولولا القرآن لكنت أول من ينكر وجود تلك الكائنات الغيبية. ولذلك فأنا لا أدون أوصاف أو أعمال أو أية حقيقة عن تلك الكائنات عدا ما فهمته من القرآن الكريم ولو ظنا.

وأما ما ينتظره أخي العزيز الدكتور كمال شاهين أن آتي بتصريحات قرآنية أو بتجارب عملية يمكن لكل شخص أن يقوم بها حينما أتحدث عن الغيبيات فهي ليست في متناول يدي. ذلك لأن الله تعالى لم يصرح بل لم يكن صحيحا أن يصرح بحقائق غيبية قبل 15 قرنا لأمة لم تتعرف على الكثير من الحقائق المادية الموجودة في عالم الطبيعة مثل الطاقة ومثل الوحدات الطاقوية كالإلكترونات والفوتونات والجسيمات الأولية مثل الكواركات والليبتونات وغيرها. كما أنها لم تكن لتعرف شيئا عن الإشعاعات ولا عن اختلاف درجات الحرارة في النار ولا عن العناصر الأولية ولا عن تأثير الرياح في لي أعناق المواد الصلبة ولا ولا.

ولقد كررت مرارا بأننا حينما نفسر القرآن فعلينا الانتباه إلى التالي:

  1. تصريحات القرآن منحصرة في آيات الأحكام التشريعية ومع صراحتها فإننا لن نستغني عن إعمال الفكر والخيال لفهمها. فمثلا كيف نتعرف على ما يورثه شخص مات عن ابنتين دون ولد؟ آيات الميراث لا تصرح بمقدار ميراثهما.

  2. آيات قصص الأنبياء وبعض الحكام والملوك القدامى لا تصرح بكل دقائق القضايا فنحن نحتاج إلى مزيد من التخيل لنتعرف على قميص يوسف أو النملة أو الهدهد مثلا. هنا أيضا بالنسبة لي لولا القرآن لكنت أول من ينكر تلك القضايا ولكن القرآن هو الذي أقنعني بتلك الحقائق ولذلك أعملت الفكر والخيال لتصور المواقف وقمت ببعض التفسير وأنا أقول دائما لزملائي بأن الذين يأتون بعدي قد يرون في تفسيري سذاجة مضحكة لأنهم سوف يكونون أكثر مني تقدما في فهم أعماق الطبيعة وفي تخيل تلك القضايا التاريخية.

  3. كل الحديث عن الجن بمختلف أنواعها مثل الشياطين وكذلك الحديث عن الملائكة بمختلف أنواعها مثل الأرواح القدسية وبقية الأنواع التي تعمل بصورة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية فهي كلها غيب ولكننا يمكن أن نعمل الخيال لنتعرف على بعض أسرار تلك الكائنات الغريبة. ولو تمكنا من أن نأتي بتفسير دقيق لكل نوع من تلك الأنواع بحيث تنطبق كاملة على كل موارد ذكر ذلك الكائن الغيبي في كتاب الله تعالى، فنكون قد أعملنا الفكر بصورة موسعة لفهم تلك الحقيقة وقد نكون قريبين من الصحة. بمعنى أننا نكون قريبين من تجاوز الاحتمال والوصول حد الظن العلمي. وهذا ما أسعى إليه حينما أفسر ظاهرة من تلك الظواهر بالحد التي يمكن لنا أن نلمس آثارها ولو في الخيال.

  4. لا يمكن أن نقوم بتفسير كل جزئيات تلك القضايا في كل مقالة نكتبها. كما لا يمكن لأي عالم أن يتحدث عن كل الجزئيات حينما يريد تحليل واقع طبيعي. هل يمكن للدكتور كمال وهو أستاذ علم النفس الإدراكي أن يتحدث في كل مقالة قصيرة عن كل جزئيات ذلك العلم؟ ولا ننس بأن الحديث عن الكائن الجني أو الملائكي أوسع بكثير عن الحديث عن الجزئيات التي يظن علماء النفس الإدراكي بأنها حقائق علمية. لقد جربوا الكثير من حقائق علم النفس الإدراكي بصورة موسعة نسبيا ولا يمكن لنا أو لا يمكن لنا حتى يومنا هذا أن نقوم بأية تجربة لترصد أي نوع من أنواع الجن. والواقع المؤلم بأننا أو بأنني حتى هذه اللحظة لا يمكنني إثبات أية حقيقة جنية أو ملائكية كما لا يمكنني حتى اليوم رفض أية حقيقة من تلك الحقائق. كلما أفعله أن أجد تفسيرا ينسجم مع كل موارد ذكر تلك الحقائق في القرآن فقط. وكلما توصلت إليه ظنيا فهو بعد جد وجهد كبيرين ومراجعة موسعة لكل الآيات القرآنية وسعي حثيث للتخلص من كل التراث الروائي والتفسيري لتلك الظواهر الحقيقية الغائبة عن مشاهدنا ومشاهداتنا.

غب هذه المقالة الموجزة أسمح لنفسي بأن أرد على بعض أسئلة وإشكالات الأخ الكريم الدكتور كمال شاهين حول حديثي عن الجن والملائكة في مقالة قادمة بإذن الله تعالى.

أحمد المُهري

8/7/2018

 

 

الجن والملائكة في القرآن الكريم (2)

الموجود بكل بساطة يعني الذي له وجود وكل ما له وجود فهو حقيقة لها ماهية. الماهية تعني ما يمكن أن نسأل عنه بـ ما هو أو ماهي. وليس الوجود محصورا فيما نراه أو نسمعه أو نشمه أو نتذوقه أو نلمسه أو نتأثر به بل هو وجود في مقابل العدم والعدم يعني ما ليس له وجود. أظن بأن هذه مقدمة ضرورية بسيطة جدا ولا تعقيد فيها.

الموجود بمعنى ما نتحدث عنه فهو إما يجب أن يكون أو يمكن أن يكون أو يستحيل أن يكون.

  1. الموجود الذي يجب أن يكون يعني الذي لا يمكن ألا يكون ولا يمكن أن ينعدم إطلاقا. هو وجود واجب لا يمكن تصور العدم أو الموت فيه إطلاقا.

  2. الموجود الذي يمكن أن يكون يعني الموجود الذي يتساوى فيه الوجود والعدم. بمعنى أنه لو لم يكن أبدا فهو ممكن أو لو كان أيضا فهو ممكن.

  3. الموجود المستحيل هو الذي لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال.

الموجود الواجب أو واجب الوجود:

كلما نتوسع في فكرنا ونسعى لنصل إلى بدايات الوجود فإننا نشعر وجدانا بأن كلما نراه أو نسمعه أو نسمع عنه أو نشمه أو نقرأ عنه أو نتخيله فهي كلها محتاجة إلى من يوجده. بمعنى أننا لا يمكن أن نتصور شيئا مما فكرنا فيه إلا أنه محتاج إلى من يوجده. لو كان هذا صحيحا بلا استثناء فهو يعني بأن كل الكائنات محتاجة إلى بعضها ولا يمكن تصور الأولية ولا الآخرية ولا الظاهرية ولا الباطنية ولا أي حد من الحدود. هذا فعلا غير معقول. فلا يمكن أن يقول أحد بأنك لو اتخذت طريقا باتجاه الشمال مثلا ثم سرت فيه فلن تصل إلى نهاية بل سترى الطريق غير متناه أمامك مهما أسرعت ومهما بقيت. فالعقل يرفض هذا الشيء.

إذن نحن نحتاج إلى من يوجِد هذه الموجودات. بمعنى عدم إمكانية أن يكون كل شيء ممكنا فقط بل نحتاج إلى أن نتصور واجبا لا يمكن ألا يكون وهو الذي أوجد كل شيء. نحن نعرف ذلك الواجب باسم: الله. ومعنى الكلمة أن كل ما دونه خاضع له فلا يمكن أن نتصور شيئا غيره إلا وهو سبحانه سبب وجود ذلك الشيء وأن ذلك الشيء فقير إلى ربه دائما وأبدا. نحتاج إلى أن نتصور واجبا واحدا هو سبب وجود كل شيء وهو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن. بمعنى أن كل شيء نراه وكل شيء نستيقن بوجوده ولا نراه غيره سبحانه فهو ظاهر باعتبار الوجود الواجب وباطن باعتبار أن واجب الوجود جل شأنه لم يشأ أن يجعله ظاهرا. لا نتكلم عن الأسباب بل نريد أن نميز بين الواجب والممكن فقط.

وأما المستحيل فهو كل شيء يتعارض مع الواجب والممكن. بمعنى أننا لا يمكن أن نتصور وجودا واجبا غير وجود واحد هو الله تعالى. فإذا خلق الله فلا يمكن أن نتصور مخلوقات لإله آخر غيره لأنه مارس الخلق فكيف يمكن لغيره أن يمارس الخلق من دونه. ذلك لأن الإيجاد لا يمكن أن يكون عملا آنيا يُخلق ثم يُترك فالممكن محتاج دائما لمن يمده بالطاقة والحياة والطاقة والحياة تأتينا من واجب الوجود جل جلاله بشكل خاص ممتاز بالرقة الكاملة حتى تتمكن من خرق كل شيء لتمسك به. فلو كان هناك إله آخر لاختلطت الطاقات الماسكة وانهار كل شيء. قال تعالى في سورة فاطر: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41). ووضح سبحانه قبلها بأن الشرك مع الله تعالى مستحيل لأن الكائنات يجب أن تبقى مرتبطة ممسوكة بخالقها فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إلاّ غُرُورًا (40).

فالمستحيل بالدرجة الأولى هو الإله الثاني أو الإله الآخر. وبتعبير أكثر دقة فإن الله تعالى الذي يأمر بالخلق فهو فاعل الخلق أيضا. هذا يعني بأن هناك فعلا يفعله الله تعالى ليأتي شيء إلى الوجود. هناك إضافات يضيفها الله تعالى إلى ما يريد أن يخلقه لتتكون ماهية ذلك الشيء. فأمر الله تعالى مقرون بفعله وفعله مقرون بمنح كل ما يحتاج إليه المأمور ليأتي إلى الوجود. فلو بدأ الله تعالى الخلق فإن أي إله فرضي آخر سوف يزاحم الإله الواجب لأن المخلوق يحتاج إلى ما يضاف إليه لتكوين ماهيته.

وهناك الكثير من المستحيلات التي لا يمكن لنا أن نحصرها عدديا.

أنواع الموجودات الممكنة:

يمكن أن نحدد للمكنات نوعين أساسيين بالنسبة لنا نحن البشر. فهناك ممكنات نشعر بها بحواسنا المعروفة وممكنات لا نشعر بها بحواسنا المعروفة. هذا التقسيم أبسط تقسيم للمكنات. ونحن في بحثنا نريد أن نتحدث عن ممكنات لا نشعر بها بحواسنا المعروفة ولكننا نعلم بوجودها. وقبل أن نتحدث عن الممكنات التي لا نشعر بها دعنا ننظر إلى القرآن الكريم لنكتشف حاجة تلك الممكنات غير الملموسة إلى المكان.

لعلنا نلاحظ بأن الله تعالى يذكر دائما مسألة الخلق الأول أو ما رافق الخلق الأول بأنه خلق السماوات والأرض ولم يذكر بأنه خلق خلقا قبل خلق السماوات والأرض. وقال تعالى في سورة فاطر: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1). الملائكة كلهم رسل والرسول يعني الذي ينتقل من مكان إلى مكان آخر لتبليغ رسالة أو للقيام بعمل بأمر الذي أرسله. وقد وضح سبحانه في الآية الكريمة بأن الملائكة ذوي قدرات وهم يُرسلون مثاني أو ثلاثيين أو رباعيين. بمعنى أن الملك لا يقوم بتنفيذ عمل رسالي لوحده. فهم بحاجة إلى السماوات والأرض ومستقرون في مكان وبحاجة إلى من يساعدهم منهم ليقوموا بأعمالهم.

الملأ الأعلى:

والملائكة والجن هم الملأ الأعلى بالنسبة لنا. قال تعالى في سورة ص: مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلا الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69). الآية الكريمة تشير إلى اختصام الملائكة مع إبليس وتسميهم جميعا بالملإ الأعلى. ذلك لأن الملائكة لا يختصمون والحكاية حكاية خلق آدم وسعي الشيطان الجني ألاّ ينصاع لأمر الله تعالى بأن يكمش نفسه حين المرور على الخلية التي قدر الله تعالى أن يصنع فيها آدم.

ولكن الملائكة ملأ أعلى بالنسبة للشياطين. قال تعالى في سورة الصافات: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلا الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8).

الشياطين مخلوقون من الطاقة ولذلك هم ملأ أعلى بالنسبة لنا نحن المخلوقين من التراب. قال تعالى في سورة ص على لسان إبليس: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76). والجن جميعا مخلوقات طاقوية لأنهم جميعا خلق ناري والنار طاقة معروفة. قال تعالى في سورة الحجر: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27). والخلق الأعلى كما أظن باعتبار سيطرتهم علينا فهم يروننا ونحن لا نراهم. قال تعالى في سورة الأعراف: يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27).

لكن هذه السيطرة لا تتجاوز الاستحواذ ولن يصل حد المساس الفيزيائي القريب بنا. قال تعالى في سورة إبراهيم: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).

حدود سيطرة الجن على الإنس:

قال تعالى في سورة مريم: وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83). الأزيز هو صوت غليان الماء. هذه الآيات الكريمة تفسر لنا آيات أخرى من سورة الإسراء: قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65).

ليس للشيطان صوت لأنه ليس جسما فيزيائيا مثلنا ليصدر الأصوات التي يمكننا أن نسمعها فالصوت الذي تتحدث عنه آية الإسراء ليس صوته الشخصي ولكنه الصوت الذي يصدر من أتباعه. فالذي يفعله الشيطان هو أنه يقترب منهم حد المسموح له ليسلط عليهم الحرارة التي تنبعث منه باعتباره كائنا طاقويا مصنوعا من النار. هذا الاقتراب يغلي الدم في جسم المقرب منه فيثور ويصدر صوتا ضد من يخالفه. وهذا هو صوت المستفَزّ، ولذلك قال تعالى: واستفزز من استطعت منهم بصوتك.

وهكذا الخيل والرجالة فالشيطان لا يركب خيلا وليس له جنود من المشاة ولكنه يتحكم في أتباعه من الإنس. هؤلاء الأتباع بأصواتهم وخيولهم ومشاتهم يؤذون بقية الناس. إنهم جنود الشيطان من الإنس. ومسألة اقتراب الشيطان من بعض الناس حد الغليان هي أعلى وأكبر تأثير ممكن ضدنا من الشياطين وتحتاج إلى إذن من الله تعالى ولذلك نسب الله تعالى العملية إلى نظامه (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا).

بالنسبة لي فهذه الحالة هي أشد حالات تأثير الشيطان في الإنسان.

وأبسط ارتباط للشيطان بالإنسان كما أظن هو ما نقرأه في الآية التالية من سورة الحج: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52). نلاحظ بأن الشيطان الذي لا يسمعنا ولا نسمعه ينظر إلى نفوسنا ويشعر متى نتمنى. التمني تعني طلب شيء لا تملكه لنفسك أو لغيرك. كل إنسان يتمنى بمن فيهم الأنبياء والرسل. فهذا الارتباط الشيطاني مشترك بين جميع الناس رسولهم وبقية مؤمنيهم وهكذا فاسقيهم.

وهناك فرق بسيط بين رسولنا ومن سبقه وهو أن الرسل عادة ما يستلمون النبوة وهي علم سماوي يساعدهم على إدراك الحقائق، قبل أن يرسلهم الله تعالى إلى أقوامهم. ولكن رسولنا صار رسولا من قبل أن تتكامل نبوته فهو تعلم النبوة من كتاب سماوي أنزل عليه شيئا فشيئا ولكنه بلّغ الرسالة بمجرد استلامه للوحي القرآني. ولعل السبب هو أن القرآن بنفسه رسول علمي كامل لا خطأ فيه ورسولنا لم يقم بأي عمل علمي قبل القرآن. بمعنى أن ذهنه كان صافيا من كل معلومات علمية بما فيها القدرة على الكتابة فكان الذهن مستعدا كامل الاستعداد ليفكر في القرآن المنزل عليه شيئا فشيئا بكل حرية. بمعنى أن موسى مثلا استلم التوراة مرة واحدة ولكن بعد فترة طويلة من كونه نبيا ورسولا ولكن نبينا استلم القرآن على مكث ليتعلم مع القرآن.

لنتصور عالما مسيحيا أو يهوديا يستلم وحي القرآن من السماء فيرى بأن الوحي الجديد لا ينطبق مع ما ورثه من معلومات دينية. هكذا سوف يرتبك ذلك العالم ولذلك لم يقدر الله تعالى لنبينا أن يتعلم علوم أهل الأرض من قبل القرآن. قال تعالى في سورة يونس: قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16). وهكذا الحال مع الحائزين على درجات علمية أخرى مثل الأطباء والمهندسين والزراعيين والأدباء وكل أصناف المعارف فهم أيضا ينظرون إلى أي وحي أو كتاب نظرة مشوبة بما فهموه من العلوم الإنسانية واكتسبوه من الحرف والمهارات والفنون.

فرسولنا لم يكن عالما بأي علم سماوي أو أرضي هام من قبل القرآن ولذلك بدأت تمنياته بعد استلام الوحي السماوي الصحيح. هذا يعني بأنه لم يحتج لما احتاج إليه سلفه من أن يصحح الله تعالى كل مرة ما يلقي الشيطان في قلوبهم من أمنيات. وضح الله تعالى هذه الجزئية بعد الآية 52 من سورة الحج: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (54). تخبت قلوبهم تعني بأن تتفتح قلوبهم النفسية على علم كامل وسيع سعة الخبت في بطون الأرض. لاحظوا معنى الخبت في الشعر التالي من امرئ القيس:

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى       بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

تعاون الجن والإنس في إغواء الإنس:

هناك أنواع أخرى من العمليات الشيطانية التي تقوم بها الشياطين بالاستعانة بأوليائهم من الإنس. قال تعالى في سورة الناس: مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاس (6). وقال تعالى في سورة الجن: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6). في هذا التعاون الخطير بين الفاسقين من الجن والفاسقين من الإنس فإن الإنس هم الخاسرون علميا أيضا وليس فقط إيمانيا. بمعنى أن الشياطين يغوون أولياءهم من الإنس أيضا لأنهم سلبيون بالطبع.

فعلى الإنسان العاقل أن ينتبه كثيرا لما يجول في خاطره من سلبيات أحيانا فلعلها تكون من وساوس الشياطين. ولنفس السبب يستعيذ المؤمنون من الشياطين كما أظن. قال تعالى في سورة الأعراف: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201). أعتذر من القارئ الكريم بأن المقالة لا تسع لبيان معاني هذه الآيات العلمية العميقة فأرجو منه أن يمعن بنفسه وسيفتح الله تعالى له إن أخلص في طلب العلم من ربه. فقط لاحظوا أمرا واحدا مهما جدا وهو أن المتقين يستفيدون من تطواف الشياطين عليهم فيشعرون بأن ما يجول في نفوسهم من أفكار سلبية هي مقصودة من أعدائهم الشياطين ولذلك فهم ينتبهون مبصرين ولا يقعون في الضلال والعمى من إبليس وأعوانه لعنهم الله تعالى.

وأظن بأن الكل يعلمون بأن الوحي العام الذي نستلمه من الملائكة لا يختلف من حيث الشكل عن وحي الشياطين ويمكنكم تحسس ذلك ولكن الاختلاف في ماهية الوحي. فالشياطين يمنعون من الخير ويأمرون بالشر وكلاهما سلبيان والملائكة تأمر بالخير ومساعدة والغير وتمنع من الشر وإيذاء الغير وكلاهما إيجابيان.

الشياطين لا يسمعون أصواتنا:

وحتى يعلم الإخوة بأن الشياطين وكذلك بقية الموجودات الطاقوية لا يقومون بأعمال فيزيائية نتلو الآيات التالية من سورة الشعراء: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212). فكما يبدو من كتاب الله تعالى بأن المشركين حاولوا مواجهة رسول الله بمسألتين: الأولى قالوا بأن ما أتيتنا به من كتاب قد يكون من قول الشياطين. قالوا ذلك لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله فأرادوا أن ينسبوا القرآن إلى كائنات غير بشرية بمكرهم. فالآيات التالية من سورة التكوير ترد عليهم: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27). فما فائدة القرآن للشيطان الذي يتحدث عن الشيطان بأنه رجيم؟

ومن غريب الصدف بأنني جربت مقولة آيات التكوير مع أخ بريطاني مسيحي بعد أن أعطيته القرآن المترجم بالإنجليزية. عاد الصديق بعد أسابيع ليقول لي بأن الكتاب فعلا غير بشري فليس للبشر أن يعرفوا هذه المسائل التي لم تتضح الكثير منها بعد. قلت إذا من الذي كتبه؟ سكت ولم يجب. قلت له أتقصد بأن الشيطان كتب القرآن؟ قال نعم على استحياء طبعا. قلت له لا تخف من حقك أن تقول ما تشاء ولكن ما فائدة القرآن للشيطان الذي يتحدث عنه بأنه رجيم وبأن عليه اللعنة إلى يوم الدين؟ ثم قلت له دعنا نقارن بين الكتاب المقدس والقرآن لنرى بأن القرآن يؤكد رفض السلبيات كاملة والكتاب المقدس يمدح بعضها وينسب الكثير من المعاصي إلى أنبياء الله تعالى.

والمسألة الثانية كما أظن هي أن الذي رفضوا رسالة رسولنا عليه السلام قالوا بأن الكتاب السماوي وحي من الله تعالى وأنت لست قادرا على استلام الوحي فما أدراك بأن الشياطين هم الذين استلموا الوحي فقاموا باللعب والتغيير فيه ثم أبلغوك وأنت تظن بأنه من الله تعالى لأنك استلمت القرآن ولم تر أحدا. وللرد على هذا الإشكال نزلت آيات سورة الشعراء لتقول للمشركين بأن الشياطين لا آذان لهم حتى يسمعوا. إنهم عن السمع لمعزولون. والقرآن ليس وحيا موضوعيا بحتا بل هو وحي ضمن جمل عربية لا يمكن للشيطان الذي لا يسمع أن يعرفها. الذين يعرفون اللغة هم الذين يسمعون الناس ويتعلمون منهم الكلام اللغوي. وإذا كانت الشياطين لا تسمع باعتبار طاقيتها فإن كل الجن وكل الملائكة لا يسمعون. إنهم جميعا خارجون عن عالم الفيزياء ثلاثي الأبعاد.

والذين تحدثوا بلغة البشر من الملائكة فهم لم يتحدثوا بحديث مقصود من عندهم بل خلق الله تعالى جملا لهم يتراءى لمن أرسلوا إليهم بأنهم ينطقون بها كما خلق لهم أصواتا مسموعة للبشر أيضا. والعلم عند الله تعالى.

التحدث مع الشيطان:

ليس هناك إمكانية تبادل الحديث مع الشيطان دون شك. ذلك لأننا نستعمل اللغة والشياطين لا يمكنهم أن يتعلموا اللغات البشرية إطلاقا. كل ما يمكن للشيطان فعله هو أنه يغوي الإنسان عن طريق النفس فقط. لكن الإنسان وخاصة الفاسق والمنافق يعود أحيانا إلى نفسه ليحدث نفسه بالهمس النفسي وليس بالحديث الشفهي. هناك ينتبه القرين الشيطاني له فيعبر الله تعالى ذلك التعامل النفسي مع الشيطان بأنه خلوة مع الشياطين. حتى نعلم ذلك نعود إلى الآية التالية من سورة البقرة وهي تتحدث عن المنافقين: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14). يظن المنافق بأنه يحدث نفسه عن مكره ضد المؤمنين ليستمتع بانتصاره على الذين آمنوا وهو لا يدري بأنه يتحدث إلى قرينه الشيطاني. ولذلك قال تعالى بعدها: اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15). وأما عن اقتران الشياطين بهم فقال تعالى في سورة فصلت: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25). وقال سبحانه في سورة النساء: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا (38). وقال تعالى في سورة الزخرف: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38). وآيتا الزخرف تشمل المنافقين والمشركين والكافرين جميعا والعلم عند المولى عز اسمه.

فأتمنى أن يوفق الله تعالى المؤمنين الصالحين لأن ينتبهوا جديا إلى الشياطين الموجودين فعلا معنا وفي نفوسنا حتى لا ينخرطوا معهم ولا يصبحوا لهم قرناء فيسمح الله تعالى لهم بالمزيد من الإغواء والتضليل ضدهم. ولو ننتبه إلى آية سورة فصلت المذكورة أعلاه لنعلم بأن الشياطين قد يكونوا إنسا وجنا وقد يكون المتعرضون للضلال إنسا وجنا أيضا. بمعنى أن هناك شياطين يغوون أمثالهم من الجن أيضا. هكذا يتعاون أئمة الضلال مع بعض جنا وإنسا ضد المؤمنين جنا وإنسا.

كما وأرجو أن ينتبه المؤمنون الصالحون بأن تراثنا ليس تراثا مرتبطا بالنبي والوحي بل هو تراث بشري لا يستحق الاهتمام. ومن المخجل أن نرى اليوم بعض أئمة المساجد بل أكثرهم يكررون تعبيرا سخيفا حين إقامة الصلاة مثل: سدوا الخلل والفرج بين صفوفكم حتى لا يدخل الشيطان بينكم وما شابه ذلك من تعابير غير صحيحة. ليس الشيطان كائنا فيزيائيا يتخلل صفوف المصلين وإلا رأيناه أو شعرنا به. كما أسمع بعضهم يتحدث عن أن الملائكة يقتدون بالمؤمنين في الصلاة. هذا كلام في غاية السخافة فالملائكة لا يصلون بل يسبحون الله تعالى. إنهم لا يعبدون الله لأن العبادة تمثل الخضوع الاختياري للقدوس العزيز جل جلاله والملائكة لا خيار لها. لكنهم لو منحوا الاختيار فسوف يعبدون الله تعالى لأنهم مؤمنون بربهم.

قال تعالى في سورة الرعد: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13). وقال سبحانه في سورة الأنبياء: وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20). مَن عند الله إشارة إلى الذين لا يملكون الخيار وهم اليوم من نسميهم الملائكة بكل أنواعها. وقال تعالى في سورة الإسراء: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً (95).

العلامة الفاصلة بين الضلال والهدى:

الضلال عمل سلبي بمعني عدم الرضوخ إلى الهدى أو رفضه أو عدم السعي للتعرف على الهدى. والهدى عمل إيجابي يعني رفض الضلال والسعي للكشف عن الطريق الصحيحة للوصول إلى الحق بقصد العمل بالحق والاهتمام به والتضحية في سبيله. فالعلامة الفاصلة بينهما هي السلب بالنسبة للضلال والإيجاب بالنسبة للهدى. فلو ننظر إلى الذي يبحث عن المسلك ولا يتقبل أي طريق دون أن يتعرف عليها ليطمئن بصحتها وبحقه في أن يسلكها فهو إيجابي في سعيه لكشف الحقيقة. والذي ينظر إلى ما تقتضيه شهواته بغض النظر عن حقه فيها أو عن الطريق التي يسلكها في سبيلها فهو سلبي لأنه لم يبحث عن الطريق الصحيحة ولم يكن مستعدا لترك ما هو محرم عليه وما يكون فيه ظلم للآخرين أو اتباع للهوى المحض بدون ملاحظة الخالق ومسموحاته. إنه سلبي بالنسبة للحقيقة ولو كان إيجابيا بالنسبة لمتعه النفسية.

وبما أن الله تعالى خلق النفس بما يتناسب مع البدن الذي قدره هو بالكامل فإن النفس في بدايتها نفس طيبة لأن الله تعالى خلق كل شيء فأحسن خلقه. إنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة بأن يعطي كل نفس هداها أيضا من البداية. قال تعالى في سورة طه موضحا جواب موسى لاستفسارات فرعون: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50). لكنه سبحانه في سورة السجدة وبعد أن يتحدث عن أنه أحسن كل شيء خلقه فإنه يصرح بأنه لم يعط كل نفس هداها ولكن بصيغة أخرى:وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي َلأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13). الهدى المذكور في هذه الآية هدى استحقاقي وليس هدى أوليا. ولذلك قال تعالى بعدها: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (14). فمشيئته اقتضت توقيف الهدى عن الشخص لأنه تعمد أن ينسي نفسه اللقاء مع ربه. يجب العلم بأن الله تعالى ليس من جنسنا بل نحن من خلقه فقط ولذلك ليس لأحد من خلقه أية قرابة مع الله تعالى فهو سبحانه لا يمكن أن يظلم أحدا وإنما نحن الذين نظلم أنفسنا. كل ما يفعله الله تعالى فينا هو بمقتضى مشيئته وهو سبحانه يراعي القسط ما أمكن أو العدل ثم ينصفنا بعد الحياة الدنيا ومشيئة ليست نابعة من الشهوات ولا من الضعف ولا من الحاجة ولا من القرابة بل هو الحق ولا يعمل غير الحق ولا يشاء غير الحق ولا يريد غير الحق ولكنه يرحم في إرادته تبعا لضعف المخلوق والعلم عنده سبحانه.

والخلاصة أن الذي يوحي إليك بالعمل الإيجابي المفيد هو الله تعالى وملائكته بأمره والذي يوحي إليك بالعمل السلبي الضار هو إبليس ومن يرسلهم من الشياطين لإغواء الإنس والجن. فالعلامة الفاصلة بين الهدى والضلال هي الإيجاب والسلب لا غيرهما والله العالم.

يتبع.

أحمد المُهري

13/7/2018

الجن والملائكة في القرآن الكريم (3)

يُقال بأن النحوي المعروف عمرو بن عيسى كان مارا في أحد شوارع بغداد فهاج به المرض وسقط عن دابته مغشيا عليه. تجمع عليه المارة يرشون عليه الماء ويحاولون إفاقته فلما أفاق صاح بهم:

مالكم قد تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة؟ افرنقعوا عني.

فقال الذين التموا حوله: دعوه، فإن جنيته تتكلم بالهندية!

هذه قصة قد سمعناها كثيرا وهي ضمن مئات بل آلاف القصص التي تدل على أن آباءنا الأقدمين كانوا يظنون بأن لكل شاعر جني أو جنية تلقنه الشعر. ذلك لأنهم كانوا مشغوفين بالشعر، عاجزين عن الإتيان بمثله ولذلك فكروا بأن الشاعر لا بد أن يكون له ارتباط بالغيب والجن من الغيب فالجن هم الذين يعلمونهم الشعر. والقصة أعلاه جمع ما يشبه الشعر مع كلمات عربية لم يألفها الناس فأضافوا إلى الجن صفة الهندية لأنهم كانوا لا يجيدون اللغات الهندية أيضا. فكل كلام غريب عندهم إما من جني وإما من هندي وإما جن هندي أوجني يتكلم الهندية!

والواقع أن هناك تدخلات جنية وشيطانية في حركات ومقولات البشر ولكن ليس بالطريقة التي تظننها جدودنا الأقدمون. كما أن الهنود بشر مثلنا ولغاتهم مثل لغاتنا موضوعة لتفاهم الإنسان مع الإنسان. كما لا يوجد جني يتحدث العربية أو الهندية أو غيرهما من اللغات لأنهم لا يملكون آذانا فيزيائية يسمعون بها أحاديث العرب وغير العرب ليتعلموا لغات البشر.

فأظن بأن من الضروري أن نتعرف على حدود ارتباط الجن بالإنس لعلنا نتمكن من رفض وساوس الفاسدين من الجن. ونبدأ بالآيات التالية من سورة الشعراء:

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226). سوف أقدم تفسيري المتواضع لهذه الآيات ليتجلى للقارئ حقيقة تدخل الشياطين في أفكار وآراء بعض الضالين المضلين من بيننا نحن البشر.

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ ﴿221 تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴿222.

وهذه الآية الكريمة تمثل ردا آخر على الذين شككوا في رسالة الرسول عليه السلام بأن الشياطين يستمعون إلى وحي السماء فما أدراه بأنهم هم الذين نقلوا إليه الوحي السماوي بعد أن لعبوا فيه فما هو دليله على أن الروح القدس هو المبلغ وليس الشياطين؟ كان الرد الأول بأن الشياطين ليست كائنات فيزيائية ولا تملك آذانا تسمع لتتعلم اللغة العربية والقرآن تركيبة من المفاهيم المغلفة باللغة العربية فلا ينبغي للشياطين أن يقوموا بتغيير شيء منها. يعني ذلك أن الشياطين لو أتوا بها فهم عاجزون عن تغييرها فسيكون الوحي نفسه كما جاء به الروح القدس. لكن هاتين الآيتين تعالجان الموضوع من زاوية أخرى. نبدأ بفهم معنى الإفك.

شرحت الإفك في سورة الفرقان كما يلي: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إلاّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) الإفك تعني برأي علماء اللغة الذين سبقونا، صرفَ الشيء عن وجهه. وفي الأحقاف آية تؤيدهم كثيرا. قال سبحانه فيها: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22). فأظن بأنهم أصابوا في فهمهم رحمهم الله تعالى وإيانا.

وأحب أن أضيف هنا بأن هناك شرطا آخر لتحقق الإفك وهو أن يخلقوا أمرا لا أصل له فهو ليس كالكذب الذي يدل على تبديل حقيقة موجودة وتغييره إلى أكذوبة. فالكذابون يتحدثون عن شيء له وجود في الخارج ولكنهم يغيرون الحقيقة سواء كان حديثهم عن فعل أو جثة. فمثلا إذا رأى الكذاب أحدا يصلي فيأتي ويقول بأني رأيته يتظاهر بالصلاة أو يلفق أذكار الصلاة. ومثال الكذب في الجثة أن يرى رجلا يصلي فيقول رأيت امرأة تصلي. وأما مثال الإفك هو أن يخلق للناس إلها موهوما ليصرفهم عن عبادة الله تعالى. وهذا يشمل المخلوقين كعجل السامري أو الموجودين فعلا كعبيد مؤمنين مثل قبور الأنبياء والصالحين. كل ذلك إفك ودليلي على هذا المعنى هو الآية التالية من سورة العنكبوت: إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17).

ولنمعن في قوله تعالى في سورة الجاثية: وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (9). فالأفاك هنا هو الذي يصر على آلهة أخرى لا قدرة لها ولا ألوهية ليستكبر على الرسول أو على من يتلو عليه كتاب الله تعالى. فهو أيضا يخلق لنفسه ويتظاهر بوجود آلهة خيالية تحل محل الله تعالى، سواء كانوا مجرد خيال أو كانوا أشخاصا موجودين ولكن لم يكونوا آلهة فخلق منهم آلهة. فهو أفاك إذ ليس لدى من يدعو إليهم أي شيء من مقومات الألوهية خاصة لو كانوا ميتين. وبعد فهم الإفك نسعى لفهم معنى التنزل.

يعوزنا معرفة معنى التنزل والفرق بينها وبين التركيبات الأخرى لفعل نزل. تنزل على كل أفاك أثيم: بمعنى أن الشيطان يتنزل أولا ثم إنه لا يتنزل إلا على كل أفاك أثيم. فلنقم ببحث بسيط لمعرفة معنى التنزل. ورَدَ جذرُ نزل في القرآن بصورة مجردة كما قرأنا في نفس سورة الشعراء وورد أيضا في نفس المكان بصورة المزيد فيه من باب التفعيل:

وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195).

كما ورد بصورة المزيد فيه أيضا من باب التفعل كما في الآيتين التي نريد فهمهما: تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم.

النزول:

تعني النزول من أعلى فيزيائي أو مرتبي إلى أسفل فيزيائي أو مرتبي. وقد ورد فعل النزول هنا في الشعراء وفي الإسراء: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105). وفي سورة الحديد: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16). ولم أجد في القرآن فعل نزل المجرد للنزول الفيزيائي بل مرتبي فقط.

ومن الغريب أن يعزو ربنا نزول القرآن إلى القرآن نفسه. نزل من الحق؛ وبالحق نزل. مما يدل بظني على أن القرآن بنفسه كتاب ناطق متحرك دون الحاجة إلى من يحركه غير الله تعالى نفسه. فكأنه سبحانه أودع في القرآن القدرة على النزول إلى مصاف الأفكار الإنسانية دون الحاجة إلى من يساعده. ولذلك كنت ولا زلت أقول بأن العاقل يجب أن ينظر إلى القرآن بنفسه وبما أوتي من الإمكانات البسيطة ليعرف معناه. هكذا سوف يعرف المعنى الصحيح ولو بقدر متواضع لكن التقليد قد يؤدي إلى فهم خاطئ للقرآن. ونرى ربنا يأمر المسلمين الأوائل وفي حضور رسولهم الأمين أن يتبعوا بأنفسهم القرآن ولا يأمرهم بأن يقلدوا الرسول كما قال تعالى في سورة الأعراف:

كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3).

التنزيل وكذلك الإنزال:

هناك جدل بين أرباب اللغة في وجود الفرق بينهما وما هو ذلك الفرق على فرض وجوده. وأنا شخصيا حاولت كثيرا أن أعرف الفرق بينهما ولكنني فشلت على أني اطلعت على الكثير من الآراء المتقدمة والمتأخرة ومن بعض زملائي لكنني لم أقتنع بأي منها. أشعر بالفرق وأشعر بنوع من الفرق ولكنني لا أبوح به لعدم اطمئناني. فسوف أعتبرهما مترادفين حتى يثبت العكس لدي. المهم بأن النزول ليس متعديا ولذلك قال تعالى: نزل به الروح الأمين؛ فعدى الفعل بالباء لينسبه إلى الروح الأمين. والروح الأمين ليس أصيلا بل هو ناقل أمين لرسالة الله تعالى إلى قلب الرسول. والتنزيل وهو من باب التفعيل الذي يُستعمل لعدة أهداف منها التعدية إلى المفعول تماما مثل باب الإفعال كالإنزال.

التنزل:

هذه الصيغة تأتي غالبا لمطاوعة الأفعال مضعفة العين كما يقوله أهل الصرف. فالتنزل هو مطاوعة التنزيل. مما يعني بأن تنزّل مطاوع لنزّل. والمطاوع يعني تقبل الفعل فالتنزل يعني بأن هناك تنزيلا قام بإكماله شخص ثالث. فالملائكة تتنزل بمعنى أن هناك أمرا سماويا لهم بالتنزيل وهم أطاعوا وقاموا بعملية التنزيل أو بإكمال العملية أو بتنفيذ الجزء المخصص لهم من العملية. قال تعالى في سورة مريم على لسان الملائكة: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64). ولعل القائل هو الروح القدس وبما أنه ملك والملائكة كلها موجودات غير فيزيائية بل طاقوية فإنها لا يمكن أن تقوم بعمل تجاه الغير إلا بمساعدة ملك آخر ولذلك استعمل الروح القدس لفظ المتكلم مع الغير (نتنزل) ولم يقل: أتنزل؛ والعلم عند المولى. وبقدر معرفتي البسيطة فإن جبريل يتعاون مع ميكال للقيام بعمل.

هذا التنزل في الواقع مطاوع للتنزيل الذي أمر به الله تعالى. فالله تعالى قام بعملية التنزيل وأمر الروح بالقيام بالجانب المرتبط بالبشر منه لأن البدن الإنساني عاجز عن استقبال الإشعاعات الربوبية القوية والعلم عند المولى. ويمكننا أن نلاحظ بأن سورة مريم تنطوي على أوامر تنزيلية من قبل الآية 64:

  1. قوله تعالى: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا (7). هذا القول الكريم الذي نسبه الله تعالى إلى نفسه في هذه السورة فإن زكريا سمع نداء الروح القدس أو أي ملك عظيم آخر في الصلاة. قال تعالى في سورة آل عمران: فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39). فعملية إبلاغ يحيى عليه السلام هو إكمال لعملية إلهية تولتها الملائكة بأمر ربها.

  2. قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ِلأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19). عملية إلهية أخرى تمثل إرادته الكريمة وقد قام الروح القدس بإكمال العملية في الجانب المرتبط بمريم عليها السلام. وهكذا بقية الحكاية فهناك أعمال ووحي قام به الروح بأمر الله تعالى.

  3. حكاية إبراهيم عليه السلام كلها مرتبط بوحي كان يسمعه إبراهيم وهو أيضا عمل ملائكي بأمر الله تعالى.

  4. حكاية هارون الذي جعله الله تعالى نبيا يساعد أخاه موسى عليهما السلام. فموسى لوحده وهو الوحيد الذي صرح القرآن الكريم بأنه كليم الله ولكن هارون لم يكن كذلك فهو أيضا عملية ملائكية بأمر الله تعالى.

  5. رسالات إسماعيل وإدريس عليهما السلام كلها رسالات سماوية أبلغتها الملائكة ولعل الروح القدس قام بها بمساعدة ميكال. لم يقل الله تعالى بأنه كلمهما مباشرة كما هو الحال مع موسى.

  6. الإشارات المذكورة لبقية الرسل الكرام بمن فيهم نبينا عليهم السلام فهي كلها تمت عن طريق الملائكة ولعلها جميعا تمت بواسطة الروح القدس ومساعده ميكال. ولذلك تحدث القرآن مع رسولنا بلسان الروح القدس في نفس سورة مريم: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64). جبريل هو الذي أبلغ رسولنا بكل ما قاله القرآن في سورة مريم وهو تنزل ملائكي بأمر الله تعالى.

فمعنى، وما نتنزل إلا بأمر ربك: هو أن الروح القدس يقوم بطاعة ربه في إكمال عملية تنزيل سماوي للرسل الكرام في كوكبنا الأرضي. العملية التي قام بها الروح القدس هي عملية تكميلية لتنزيل رب العالمين باعتبار أن الرسل البشريين عاجزون عن استقبال وحي السماء بصورة مباشرة. هناك طرق أخرى للوحي المباشر وهي عمليات صعبة جدا على الرسل ولكن الله تعالى قام بها مباشرة مرتين لموسى ومرتين لنبينا؛ وكلها مذكورة في القرآن. كل ظني بأن تلك العملية القاسية إنسانيا كانت ضرورية للرسولين الكريمين الذين استلما وحيا تشريعيا سماويا للإنس والجن. كانا محتاجين للوحي المباشر سواء بالتكليم مع موسى أو بدون التكليم مع محمد عليهما السلام. هكذا حصل لهما اليقين بأن الذي يوحي إليهما هو الله تعالى نفسه وهو سبحانه الذي خلق الكلام لعبده موسى الذي سمع صوتا يتحدث إليه فعلا. وحينما ندرس حكايتيهما نشعر بأن المرتين ضروريتان لأنهما كليهما في المرة الأولى كما أظن فقدا بعض مشاعرهما فلم تتكامل كل حيثيات الوحي المباشر بالنسبة لهما.

يجب استشعار مهابة رب الكون العظيم الذي يُرعب كل إنسان مفكر عاقل بل كل عاقل إنسانا أو جنا أو ملكا. قال تعالى في نفس سورة مريم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58). وقال تعالى في سورة الإسراء: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109). أولئك النفر الطيب والمهذب والعالم يستشعرون عظمة رب العالمين فتستولي عليهم الخشية فيبكون خشوعا.

وهكذا نصل إلى فهم معنى الآية الكريمة: وما تنزلت به الشياطين. كما نفهم أيضا معنى تنزل الشياطين على الأفاكين دون الأنبياء. ذلك لأن التنزل عملية مكملة لتنزيل رب العالمين ولا يمكن للشيطان أن يقوم بها. لكن الشياطين تقوم بعملية التنزل السلبي ضد غير الأنبياء. تلك العملية يسمح بها الله تعالى فقط تنكيلا بالأفاكين الآثمين كما أظن. فما سر هذا التنكيل وما طبيعته وما هو سر أولئك الأفاكين؟

عرفنا بأن الشياطين والجن عموما بل الملائكة أيضا لا يمكنهم أن يتعلموا اللغات البشرية لأنهم جميعا فاقدون لحاسة السمع الفيزيائية. إنهم جميعا عاجزون عن التواصل اللغوي معنا. ناهيك عن أنهم لا يملكون اللسان أيضا فلا يمكنهم النطق كما ننطق نحن البشر. إذن كيف يعرف الشيطان بأن شخصا ما أفاك أثيم إذا كان عاجزا عن تبادل الحديث مع ضحيته؟ قال تعالى في سورة الحج: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52). فالشيطان يشعر بالهواجس والذبذبات النفسية احتمالا ولذلك يشعر ببعض الحالات النفسية ومنها التمني. نحن نجهل الكثير من الذبذبات النفسية في مركزها المسمى بالقلب وما يحيط به من فؤاد وصدر. أقول هذا لأنني لا أظن بأن الشياطين قرناء لكل البشر حتى ينتبهوا للحركة النفسية باتجاه الخيال وبعيدا عن الحقيقة.

إنهم قرناء للمجرمين وليس لعامة الناس ولا للأنبياء. قال تعالى في سورة فصلت: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25). أولئك هم أعداء الله تعالى الذين وضحهم قبل عدة آيات بقوله الكريم:وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19). ولذلك أحتمل بأن هناك آثار طاقية أو إشعاعات بسيطة تصدر من كل إنسان وتدل على نوع الحركة النفسية لديه ولذلك يعلم الشياطين بأنه قد يتأثر بالتزيين والوسوسة فيتنشطون للقيام بعملهم السلبي.

من هذه التفاصيل بمكننا معرفة أن الشياطين عاجزون عن خلق السيئات ولكنهم حينما يشعرون بوجود مثل هذا التحرك السلبي لدى شخص فإنهم يقومون بالتزيين ليشجعوه على العمل السلبي. فالشيطان ينشط حينما:

  1. يخلق شخص سيئة جديدة ليضل نفسه والآخرين. وهو الأفاك الآثم.

  2. يأتي شخص بالسيئات ليعصي ربه فيأثم. والإثم تعني إبطاء رحمة الله تعالى. وهو الآثم فقط.

هذا باختصار هو كل ما يمكن أن تقوم به الشياطين ضد البشر. لكننا لو شاهدنا حركة إيجابية لصالح الإنسان ولصالح المجتمع الإنساني فلا يمكن أن ننسبها إلى الشياطين.

فمثلا:

  1. حينما تتنشط ذاكرتنا فهو نشاط إيجابي لا دور فيه للشيطان ولكن حينما ننسى فهو حركة سلبية يقوم بها الشيطان.

  2. وحينما تتأثر قلوبنا لنجدة المحتاج فهو تأثر إيجابي لا دور فيه للشياطين ولكن حينما نتوقف عن مساعدة من يحتاج إلينا فهي حركة سلبية يدعونا إليه الشيطان ونحن نطيعه مع الأسف.

  3. وحينما نفكر في خالق الكون وفيما فعله لنا من قبل أن نأتي فهو حركة إيجابية تؤدي في النهاية إلى تقديم الشكر والخضوع للخالق العظيم. تلك حركة إيجابية لا يقوم بها الشيطان. ولكن حينما نغفل عن ذلك ولا نبدي اهتماما بالخالق والخلق وما فعله ويفعله ربنا فتلك حركة سلبية من عمل الشيطان.

  4. وحينما ننتبه للآثار الأخروية من مثوبة وجزاء فنسعى لإرضاء ربنا ونتجنب كل ما يغضبه سبحانه فهو نشاط إيجابي لا يساعدنا عليه الشيطان. ولكن حينما نقول اليوم خمر وغدا أمر لننسي أنفسنا ما سيحل بنا غدا فتلك حركة سلبية تدمر آخرتنا أمام ربنا وهو غاية ما يريده الشيطان ولذلك ينشط كثيرا لإغفالنا.

فالآيتان 221 و222 الكريمتان من سورة الشعراء تعلمنا بأن الذي يتعرض لتضليل الشيطان فهو مستعد نفسيا لاستقباله وإلا فليس للشيطان أن يوثر فيه. ولذلك ليس للشيطان أن يؤثر فيمن يقدم للناس كتابا سماويا يتحدث عن الله تعالى وعن اللقاء به ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. هذا الشخص ناصح أمين لا يدعي شيئا ولا يخلق إفكا ولا يشجع الناس على الإثم فليس للشيطان دور في نشاطه. ثم يوضح سبحانه تفاعل الناس مع دعوات الشياطين بقوله:

يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ﴿223. الذي يخلق الإفك فهو يمارس أعلى درجات الكذب وهو خلقُ أمرٍ لا وجود له إطلاقا وهو الإفك. هذا الشخص يمثل أعلى درجات الإثم الذي يبعد رحمة الهدى السماوي عن نفسه. إنه يتعمد التضليل وليس جاهلا ولا ناسيا ولا مخدوعا. هذا الشخص يستقبل من يسنده وأول من يسنده هو الشيطان الذي يرى فيه أوضح أمارات الضلال وأعم وأخطر أنواع السلبيات القابلة للانتشار بين الضعفاء. الشيطان عاجز عن أن يأتي بمثل ذلك ولكنه على أتم الاستعداد لتزيين العمل السلبي وحينما يرى النفسَ الفاسدة المستعدة فإنه ينشط. إذن يلقي الأفاكُ الأثيمُ سمعَه النفسي للشيطان ليزين له سوء عمله ويوسوس في قلبه النفسي. هكذا يستمتع المجرم بالشيطان كما يستمتع الشيطان به لأنه يراه مستعدا لاستقبال وساوسه.

ولكن هل الأفاك يتبع الشيطان اتباعا كاملا؟

كلا، فالأفاك يبحث عن مصالحه ويطور أفكاره بما يتناسب مع مصالحه الآنية المؤقتة. وهكذا أتباع الضالين فهم أيضا ليسوا أتباعا مؤمنين بمن يتبعونه بل يتبعون مصالحهم وأهواءهم. دعني أعطي مثلا واضحا لهذه الحالة المذكورة في القرآن الكريم.

يدعو القرآن إلى خط مستقيم لا يتغير إطلاقا. إنه يتحدث عن الخالق بكل دقة ولا يسمح تعاريفُ القرآن للعب والتفسير الخطأ. سوف يواجه المفسر الكثير من التناقض إذا ما سمع أقوال الضالين المضلين لتغيير مفاهيم القرآن الكريم ولذلك يمكن لكل مفكر أن يكتشف الإرادات الفاسدة لمن أراد اللعب في كتابنا السماوي العظيم.

لكن الحديث المنسوب إلى الرسول الأمين كذبا وزورا فإنه إفك بدأ بعد قرن من وفاة الرسول. هذا الإفك المضلل تنامى فيما بعد فازداد الأحاديث بدلا من أن تتناقص وينساها الناس. ازداد لأن الذين خلقوا هذا الإفك الظالم نظروا إلى مصالحهم الزمانية والمكانية ثم جاء بعدهم من تغيرت مصالحه مع مصالح من سبقه. ولذلك اضطروا لخلق أحاديث جديدة تغير مفاهيم الأحاديث القديمة. فهل الذين يتبعون الأحاديث صادقون؟ كلا، إن أكثرهم كاذبون لا يتبعون الحديث كأساس لهم بل يتبعون الحديث المناسب مع إراداتهم الفاسدة الشريرة. فلا الشياطين ولا خالقو الإفك قادرون على تثبيت أمر لدى الذين يتبعونهم. أولئك الأتباع مجرد أتباع لأهوائهم يحوطون الحديث ما فادتهم فإذا ضرتهم تركوها وانتقلوا إلى مجموعة أخرى من الأحاديث. تراهم يوما ما يدعون للإرهاب وللقتل والسفك وحينما تنتهي مصالح زعمائهم فإنهم يتحولون فورا إلى المنع من الإرهاب ومن الفوضى. وسرعان ما يتغير أتباعهم من مدافعين عن القتل والسلب والنهب إلى مانعين من القتل والسلب والنهب.

فأكثرهم كاذبون فعلا. ولذلك فإن الله تعالى يعطينا مثلا واضحا للنشاطات الشيطانية التي يتبعها الغاوون فيما بعدها من آيات فيقول عز من قائل:

وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴿224 أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ﴿225 وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ ﴿226.

إن عمل الشيطان يقتصر على التزيين وتحريك الأوتار العصبية للمجرم حتى يقنعه للاستمرار في أعماله السلبية. لا يعرف الشيطان حقيقة عمل المجرمين ولكنه يعرف فقط بأنهم يمارسون حركة سلبية تخدم مصالحه في عداءه الطبيعي للبشر. وهكذا الشعراء فإنهم يزينون عملا ويحركون مشاعر الناس لتقبل ذلك العمل. وأجلى دليل على ذلك هو أنهم جميعا بلا استثناء تقريبا لا يبدؤون موضوعا في أشعارهم ليبدوا جميع جوانبه ويناقشوه بل يكتفون بتحريك المشاعر وإذا بهم قد انتهوا من مقطوعتهم الشعرية دون التركيز الدقيق والمنطقي والعلمي على أمر معين من الألف إلى الياء. إنهم فعلا يتدخلون في كل أمر ولكنهم لجهلهم بالحقائق أو تضليلا منهم يهيمون ويضيعون وهكذا يضيعون الناس. بالطبع أنهم يرسمون صورا بديعة وجميلة وفتانة لأبطالهم ولكنهم يتجنبون الدخول في الحقائق. والشيطان يفعل نفس الشيء في مشاعر الناس.

والأمر الثاني هو أنهم فعلا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. إنهم فعلا يقولون ما لا يفعلون. وفيما عدا القليل منهم فإن بأيدينا حكايات غير قليلة من شعراء العرب والغرب وغيرهما الذين يقدمون أجمل النصائح للناس وهم من أقبح الناس سيرة. لو نحاول أن ندقق في أشعار كبار شعراء الجاهلية فمن الصعب أن نجد بينهم شخصا سليما من حيث العمل عدا المرحوم زهير بن أبي سلمى. أما الذين لقوا رسول الله عليه السلام وآمنوا به فهم تركوا الشعر بمجرد دخولهم في دين الله.

أنا أجهل موقع الشيطان من هذا المثال ولكنني أعرف بأنه لعنه الله عدو لنا فلعله ينصحنا بقصد الإساءة كما فعل مع أبوينا الأولين. لقد نصحهما نصيحة طيبة في الظاهر ولكنه خدعهما. قال لهما كما في سورة الأعراف: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21). لم يكذب عليهما الشيطان فحينما أكلا من الشجرة تحركت القوة الجنسية لديهما وشعرا بأن العضوين الذين يقذفان بهما المياه الزائدة من البدن يقومان بعمل آخر غير التبول. أراد الشيطان بقوله الصادق أن يريهما ما أخفاه الله تعالى عنهما من عمل سوأتيهما. قال الشيطان إن استماعكما لنصيحة ربكما سيؤدي إلى أن تكونا خالدين في الأرض عفيفين مثل الملائكة ولكنني أنصحكما بما يكثر عددكما. هذا كلام صحيح ولكنه خداع لأنه مخالفة صريحة لأمر الله تعالى. أكمل سبحانه الآيات هكذا:

فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27).

كان أبوانا عاريين طبيعيا ولكنهما بعد الشعور بالجنس شعرا بالخجل من البقاء عريانين وهكذا بدأت حركة التناسل بين البشر على أساس اتباع الشيطان لا الرحمن. وأظن بأن هذا هو السبب في أننا خلقنا ضعفاء أمام شهواتنا والعلم عند المولى. قال تعالى في سورة النساء: يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا (28). حكم الله تعالى في جواز نكاح الإماء بالنسبة للعاجز عن الزواج مع الحرة هو بهذا السبب. لعله تعالى كان سيبدأ عملية التكاثر بطريقة أخرى أو يؤجل التحرك الجنسي لحين تكامل العقل البشري ليبدأ مرحلة قوية من عمره بتكثير نسله. أجهل حكمة ربنا ولكنني أعرف بأن خداع الشيطان الرجيم أثر في النوع الإنساني تأثيرا سلبيا حتى انتهاء الحياة الإنسانية في هذا الكوكب والعلم عند الله تعالى.

يتبع 4

أحمد المُهري

27/7/2018

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

 

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.