الثقافة العربية ثقافة معادية للعلم

 

الثقافة العربية ثقافة معادية للعلم

 

 

العلم, إذن, هو أن نتحدث عما نعرف.  لا أعرف تعريفًا للعلم أبسط من هذا, ولا أقوى من هذا, ولا أوضح من هذا.  وكل خصائص العلم, والمنهج العلمي, والإحساس بالمشكلة, وتعريف المشكلة, وصياغة الفرضية, واختبار الفرضية, والإطار النظري, والوعي بالدراسات العلمية التي دارت في موضوع البحث, وقدرة النظرية العلمية على تفسير الظاهرة موضع البحث, وكافة الأبحاث المتعلقة بالمنهج العلمي, ما هي إلا امتداد لهذا المبدأ البسيط.  أن نتحدث عما نعرف. 

 

يعني ذلك أنه إذا كان لديك ما تقوله فقله واعطني الدليل على صحته.  والدليل هنا لا يمكن أن يكون أن أحدًا آخر عظيمًا في منتهى العظمة قد قاله.  نحن هنا لا نتحدث عن أشخاص.  نحن نتحدث عما تقول.  وعليه, اعطنا الدليل.  أما إذا لم يكن لديك دليل فرجاءً ألا تزعج رؤوسنا فنحن نفضل لعب كرة القدم في أوقات فراغنا أو مشاهدة التلفزيون.  ليس لدينا وقت نضيعه في “سماع” رجل لا يعرف عما يتحدث.

 

لا تطالبنا بأن نصدقك.  نحن لا نصدق أحدا.  كما أنا لا نكذب أحدا.  الله وحده يعلم من الصادق فينا ومن الكاذب.  رجاء ألا تحرجنا.  أعطنا الدليل على صحة ما تقول أو حدثنا عن أخبارك.  كيف حال الأسرة,  وكيف حال الأهل؟  كما حدثنا أستاذنا الكبير عبد الفتاح السيد “في العلم لا يوجد صداقة”.  فقط في الصداقة توجد صداقة.  نحن نصدقك فقط عندما تخبرنا عن صحتك وأحوالك, أما في العلم فلا بد من الدليل.  كيف لك أن تحدثنا في العلم بما لا يقوم على صحته دليل؟ 

 

العلم, إذن, هو أن نتحدث عما نعرف.  يعني أنك إذا أخبرتني بأن الماء يغلي عند درجة حرارة مئة حسب مقياس سلسيوس وأن الزيت يغلي عند درجة حرارة أعلى فإن عليك أن تأتي بمقياس سلسيوس وبإناء من الماء وآخر من الزيت وعليك أن تجعلني “أرى بأم عيني” ما تحدثنا عنه.  المسألة ليس فيها “صدِّقني” ولا يمكن أن يكون فيها حدثنا أبوك الحاج أحمد لاشين.  مع كامل الاحترام, بالطبع, للحاج أحمد لاشين, ومع كامل ثقتنا في شخصه الكريم, إلا أننا في العلم لابد أن “نتحقق”.  أرني!

أما إذا أخبرتك أنا بأن الإنسان يمر خلال سني حياته الأولى من لحظة ميلاده إلى سن الثامنة عشرة “تقريبًا” بأربع مراحل من مراحل الإدراك فأنا “لا أحلم” بأن تصدقني سيادتك لأني رجل ثقة, معروف بقوة الحفظ, فضلا عن أخذي العلم على يد أبيك الحاج جان بياجيه.  المسألة لا يوجد بها “ثقة” أصلا, وحتى لو كنت قد “نقلت الكلام” من شفاه أبيك الحاج جان بياجيه إلى أذني سيادتك مباشرة فهذا أيضًا لا علاقة له بموضوعنا.  مرة أخرى, وأيضًا مع كامل الاحترام لأبيك الحاج جان بياجيه, فالمسألة لا علاقة لها بسيادته (على الرغم من أنها نظريته), وإنما المسألة لها علاقة بالعلم.  يعني ذلك أني مطالب عند الحديث عن نظرية نمو الإدراك لدى الإنسان أن أبين عند كل خطوة أخطوها  الدليل على صحة ما أتحدث عنه, على أن يكون دليلاً يمكن لسيادتك التحقق منه.  مرة أخرى, المسألة ليست مسألة حدثنا أبوك الحاج جان بياجيه.  حتى لو حدثنا أبوك الحاج جان بياجيه شخصيًا عن هذه النظرية العظيمة فسوف نطالبه بالدليل.  كلي ثقة من أن جان بياجيه لم يكن ليدعنا “نطالبه” بتقديم الدليل, فالرجل عالم يتحدث إلى علماء ويعلم أنه إذا لم يقدم لنا الدليل على صحة ما يقول فإننا سوف نأخذ ذلك على أنه إهانة لنا.  كيف لجان بياجيه أن يحدثنا بهذه الطريقة.  لسنا أطفالأ ولسنا بدائيين.   نحن علماء لا “نستمع” إلا إلى ما يقوم على صحته دليل.

 

آمل أن “يدرك” القاريء مدى “ثورية” هذه الفكرة.  ألا نتكلم إلا بما يقوم عليه دليل.  تخيل أن يطالب أحد منا, أو مجموعة منا, الحكومة المصرية أيام جمال عبد الناصر (رحمه الله) أن تقدم لنا “الدليل” على صحة ما تذهب إليه في موضوع كذا أو كذا.  تخيل “الدهشة” التي كانت ستعلو وجه أي مسؤول في الحكم وقتها لمدى “الجرأة” على مطالبة الحكومة المصرية بتقديم الدليل.  أيضًا, تخيّل “المفاجأة” التي ستكون بانتظار هذا الفرد أو هذه المجموعة في هذا المعتقل أو ذاك من معتقلات ذلك العهد.  لا أعرف مجنونًا واحدًا طالب الحكومة المصرية أيامها بالعمل على إصدار “قانون إتاحة المعلومات”. 

 

تخيًل أننا ما زلنا في مصر إلى الآن وبعد ثورة 25 يناير مازلنا نطالب الحكومة المصرية بإصدار قانون إتاحة المعلومات الذي يتيح (كما في الولايات المتحدة الأمريكية) للفرد منا أن يذهب إلى “المخابرات العامة” ويطلب النظر في المعلومات الموجودة في ملفه “للتحقق” من مدى صحتها.  تخيّل! 

 

تخيل كذلك مدى الدهشة التي لا بد وأنها تعلو وجه فضيلة الشيخ الطحاينة عندما يقرأ هذا الكلام الذي يطالب – وهو يطالب – بإعادة فتح التحقيق فيما أخبرنا به البخاري ومسلم وغيرهما وعدم رد أي حديث على الإطلاق – إطلاقا على الإطلاق المطلق –  وإنما جمع كل الأحاديث من كل المصادر ثم بدأ البحث في احتمال صدور أي منها عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام فإذا وجدناه متفقا مع “معايير صحة الحديث” قبلناه, أما إذا لم نجده متفقا معها استبعدناه. 

 

أعلم أن هذا أمر جد عسير.  أعلم كذلك أن هناك ألوفًا مؤلفة من الأحاديث النبوية الشريفة منتشرة في ألوف الكتب.  إلا أني أعلم كذلك أن لدينا كليات, وجامعات, ومعاهد علم على امتداد العالم الإسلامي.  كما أن لدينا آلات حاسبة وشبكة معلومات عالمية تربطنا جميعا.  أعلم كذلك أن هذا جهد قام به رجال بمفردهم منذ أكثر من ألف عام.  إذا كان بضعة رجال من فارس قد قدموا لنا كتب الأحاديث معتمدين على ذاكرتهم فقط, فكيف لا نستطيع نحن ونحن لدينا كل هذه الإمكانيات أن “نعيد فتح التحقيق” في أحاديث الرسول الكريم.  كيف لا نعمل على “الكشف” عن الأحاديث – كل الأحاديث – التي صدرت عن الرسول الكريم.  

 

تخيًل مدى المعارضة والرفض الذي سوف يقابل به اقتراحي هذا بإعادة فتح باب التحقيق في أحاديث الرسول الكريم.  كل ما أقوله هو أن من واجبنا أن “نتأكد” أن كتابي البخاري ومسلم يضمان “كل الأحاديث” التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما أنهما لا يضمان إلا تلك الأحاديث التي لا يوجد لدينا شك على الإطلاق في صدورها عن الرسول الكريم.  يستحيل ألا يكون هناك خطأ واحد في هذين الكتابين.  لم يكن الإمام البخاري معصومًا من الخطأ.  ولا كان الإمام مسلم.  لا بد أن هناك خطًئًا في هذا أو في ذاك.   مرة أخرى, تخيل مدى الرفض الذي سوف يقابل به طلبي بإعادة فتح باب التحقيق.   

 

فكرة أن نتحدث فقط عما نعرف فكرة قد تبدو بسيطة للغاية, ومقبولة للغاية, إلا أنها, للحق, غير مقبولة بالمرة.  قد تكون بسيطة, إلا أنها غير مقبولة.  يعود ذلك إلى أنها تتطلب منا أن نقدم دومًا الدليل على صحة ما نقول.  في ثقافة مثل الثقافة العربية هذا الطلب سوف يعني الصمت.  يعود ذلك إلى أننا في العادة نتحدث عما لا نعرف.  أبسط مثال على ذلك هو أننا كنا نعيش حتى وقت صدور هذا الكتاب “وهمًا” جميلاً اسمه “الإسهام الحضاري العربي في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة”.  تخيل ثقافة خرجت من ميدان إنتاج أي شيء منذ أكثر من ألفين وخمسمئة عام تتخيل أنها ساهمت في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية.  على أي أساس؟  ما هو الدليل؟  الإجابة: أي أساس تتحدث عنه, وأي دليل؟  المسألة أن الفكرة “حلوة”.  وفي هذا خير, كل الخير.  في ثقافة من مثل هذا النوع فكرة أنك مطالب بتقديم دليل على صحة ما تقول هي فكرة مرفوضة, وغير مقبولة, ومكانها الصحيح في صفيحة الزبالة.  الثقافة العربية ثقافة معادية للعلم.

 

كتاب نظرية ظهور العلم

نظرية ظهور العلم – عاصمة الامبراطورية

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

Advertisements

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.