أحاديث نبوية شريفة أم أحاديث إلهية كريمة؟

أحاديث نبوية شريفة أم أحاديث إلهية كريمة؟

HOLY

 

في حديثنا عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم, أشرنا إلى أن هناك ثلاث طرق للنظر إلى الأحاديث التي حدثنا بها الرسول الكريم.  في الطريقة الأولى, يتم النظر إلى أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام على أنها أحاديث صادرة عن رجل عربي كريم كان يحدثنا عما يشعر به, وعن رأيه فيما يدور حوله.  لا تزيد أحاديث الرسول, من هذا المنظور, عن كونها أحاديث نبوية كريمة حدثنا بها رجل كريم.  في الطريقة الثانية, يتم النظر إلى نفس هذه الأحاديث على أنها أحاديث صادرة عن الله تبارك وتعالى يحدثنا فيها عن أشياء لا دخل فيها لرسول الله على الإطلاق حيث لم تزد مشاركته عن تحريك لسانه الكريم بها.  لم يكن الكلام هنا كلام رسول الله, بل كان كلام الله.  لم تكن أحاديث الرسول هنا, إذن, أحاديثا نبوية شريفة, بل كانت أحاديثا إلهية شريفة.  في الطريقة الثالثة, يتم النظر إلى بعض هذه الأحاديث على أنها أحاديث نبوية شريفة, وإلى البعض الآخر على أنها أحاديث إلهية  كريمة.

 

بالنسبة لي أنا شخصيا, فأنا أرتاح إلى الطريقة الأولى حيث إنها تقصر الوحي على القرآن الكريم فضلا عن أنها تقدم لنا الجانب “البشري” من الرسول الكريم.  لم يكن الرسول هنا “إلها” بل كان واحدًا منا.  كان بشرًا.  بالإضافة إلى ذلك, فإنها تتجنب المشكلة الكبرى التي تثيرها الطريقة الثانية في النظر إلى أحاديث الرسول الكريم, ألا وهي مشكلة تحول الرسول من بشر إلى إله, أي مشكلة “تأليه” الرسول.  كما تتجنب المشاكل التي تثيرها الطريقة الثالثة والتي يتحول فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من “بشر” إلى “نصف إله”.  حقا ليس بإله, إلا أنه نصف إله.  هذا هو ما أرتاح أنا “شخصيا” إليه, ولدي أسباب قوية تفسر ارتياحي لهذا الموقف, إلا أني مدرك تمام الإدراك صعوبة اتخاذ موقفي هذا.

 

يحتاج اتخاذ موقفي هذا إلى إدراك أن النظر إلى أحاديث الرسول على أنها “أحاديث إلهية كريمة” إنما هو موقف يتناقض مع إيماننا بوحدانية الله, وهي فكرة ليست بالسهلة إذ تحتاج إلى بيان أن القول بأن الله كان هو المتحدث دائما إنما يعني “اختفاء” سيدنا محمّد من على الساحة.  إذا كان الله هو المتحدث, وإذا كان ما “نطق به لسان الرسول الكريم” لا يعبر بأي حال من الأحوال عن خبرات, وتجارب الرسول الكريم, ونظرته إلى الأمور, ومشاعره وانفعالاته, أفلا يعني ذلك أن الله هو المتحدث؟  أفلا يعني ذلك أن محمدًا بن عبد الله قد خرج من التاريخ؟   أفلا يعني ذلك أن من كان يمشي في شوارع مكة والمدينة متخذا “هيئة محمّد بن عبد الله” لم يكن سوى الله وقد اتخذ هيئة محمّد بن عبد الله؟  أفلا يعني ذلك “تأليه” محمّد بن عبد الله؟  أفلا يعني ذلك أن الله – تبارك وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا – كان معنا هنا على الأرض يسير في شوارع مكة والمدينة لمدة ثلاثة وعشرين عاما؟    المشكلة فيما أقول أنه يحتاج إلى تفكير.  المشكلة فيما أقول أنه يحتاج إلى القدرة على إدراك التناقض وهي قدرة غير متوافرة في الثقافات البدائية ومنها – بالطبع – الثقافة العربية.  هناك, بهذا الشكل, مشكلة.

 

يحتاج اتخاذ موقفي هذا إلى إدراك أنه إذا كانت أحاديث الرسول, حقا, “أحاديثا إلهية كريمة” فهي بذلك لا تختلف عن القرآن في شئ.   المشكلة, أنه لا يوجد لدى البعض منا أي مشكلة في تقبل فكرة أن الأحاديث لا تختلف عن القرآن في شئ.  حقيقة الأمر, ذهب الفقه السني القديم إلى هذا الرأي إلى درجة أنهم لم يضعوا “الأحاديث” نفس موضع “القرآن” وحسب بل وضعوها موضعا أعلى من القرآن حين ذهبوا إلى أن “الحديث” يقضي على “القرآن” – أي أنه في حال تعارض الحديث مع القرآن يتم الأخذ بالحديث وليس بالقرآن.  يحتاج اتخاذ موقفي هذا, إذن, إلى إدراك أن هناك “فرق” بين القرآن والحديث.  قبل أن نتحدث عن “موقفي” هذا, على أية حال, لا بد من الاتفاق أولا على وضع القرآن في موضع أعلى من الأحاديث.   وهذا ليس بالشئ السهل, ودليلي في يدي.  يذهب الفقه السني القديم إلى أن الحديث يقضي على القرآن.  دليلي بيدي.  لا يمكن أن يقول بهذا القول إلا من يضع الحديث في موضع أعلى من القرآن.  المشكلة فيما أقوله, كما هو واضح, أن ما أقوله يحتاج إلى تفكير.  نحتاج, إذن, إلى الاتفاق على أن القرآن في موضع أعلى من الأحاديث.  نحتاج كذلك إلى الاتفاق على أن الله قد وعد بحفظ كلامه.    نعلم جميعا أن الله قد حفظ القرآن بين دفتي المصحف.  نعلم جميعا أن المصحف يضم بين دفتيه كل كلمة قالها الله ولا يضم كلمة واحدة لم يقلها الله.  إذا كان ذلك كذلك, فكيف حفظ الله “الأحاديث الإلهية الكريمة”؟  بل, إذا كنا نؤمن حقا بأن المصحف يضم بين دفتيه كل كلمة قالها الله, فكيف نجرؤ على القول بأن هناك كلام لله خارج المصحف؟  كيف نجرؤ على القول بأن هناك أحاديث إلهية كريمة؟

 

المشكلة فيما أقوله, مرة أخرى, أن ما أقوله يحتاج إلى القدرة على إدراك التناقض وهي قدرة غير متوافرة في الثقافات البدائية ومنها – بالطبع – الثقافة العربية.  يحتاج المرء لكي يتخذ موقفا مماثلا لموقفي لإدراك التالي:

1.     أن القول بأن الرسول لم ينطق بكلمة واحدة “على هواه” إذ كان كل ما نطق به “وحيا يوحى”, إنما يعني أن الرسول قد اختفى نهائيا بعد نزول الوحي وحل الله في جسده.

2.     أن القول بأن الله قد حل في الرسول إنما هو تأليه للرسول. 

3.     أن تأليه الرسول يتناقض مع عقيدة التوحيد.    

4.     أن الله حفظ كلام الله في كتاب الله. 

5.     أن الله لم يحفظ الأحاديث.

6.     أن عدم حفظ الأحاديث يدل على أنها ليست أحاديثا إلهية كريمة وإنما أحاديث نبوية شريفة.

 

لا بد من أن أعترف أني مدرك تمام الإدراك أن ما أتحدث عنه يحتاج إلى “عمليات عقليه” لا تتوفر في الثقافة العربية.  سوف أعطي مثالاً واحدًا على ذلك.  يتعلق هذا المثال بالقدرة على الاستنتاج.

 

في إحدى تجارب علم النفس الإدراكي يقوم الباحث بوضع ثلاث عصي في أحد أدراج المكتب الذي يجلس عليه.  يأتي الباحث بعد ذلك بطفل في التاسعة من العمر – أي في المرحلة الثالثة من نمو الإدراك – ويقوم بفتح الدرج وأخذ عصوين منه, واحدة حمراء والأخرى بيضاء.  يطلب الباحث من الطفل أن يخبره بأيهما أطول.  يضع الطفل العصوين بجوار بعض ويرى أن البيضاء أطول بكثير من الحمراء.  عليه يقول إن البيضاء أطول.  يعيد الباحث العصا الحمراء إلى الدرج ويخرج عصا سوداء.  يطلب الباحث من الطفل أن يخبره بما إذا كانت العصا السوداء أطول أو أقصر من البيضاء.  يضع الطفل العصوين بجوار بعض حيث يرى بوضوح أن العصا السوداء أطول من البيضاء, وعليه يخبر الباحث أن السوداء أطول.  يضع الباحث العصوين في الدرج, ويغلق الدرج, ثم يتحدث مع الطفل عما قاما به.  يسأل الباحث الطفل عن العصا الحمراء والبيضاء, وأيهما كانت أطول.  يجيب الطفل بأنها كانت العصا البيضاء.  يسأل الباحث, مرة أخرى, عن أيهما كانت أطول من الأخرى, البيضاء أم السوداء؟  يجيب الطفل بأنها كانت السوداء.  يلخص الباحث الموضوع بقوله, إذن, فالعصا البيضاء أطول من الحمراء, فيجيب الطفل بالموافقة.  والعصا السوداء أطول من البيضاء, فيجيب الطفل أيضًا بالموافقة.  إذن, فالبيضاء أطول من الحمراء, والسوداء أطول من البيضاء.  ويجيب الطفل أيضا بالموافقة.  هنا يسأل الباحث, وعليه, أي من العصوين أطول من الأخرى؟  هل الحمراء أطول من السوداء, أم أن السوداء أطول من الحمراء؟  ينظر الطفل ببراءة في عيني الباحث, مجيبا بأنه لا يعرف.  هو يعرف أن البيضاء أطول من الحمراء, كما يعرف أن السوداء أطول من البيضاء, إلا أنه لا يعرف ما إذا كانت السوداء أطول من الحمراء أم لا.  هو لا يعرف لأنه لم “يرَ” الحمراء بجوار السوداء.  هو رأى فقط الحمراء بجوار البيضاء, والبيضاء بجوار السوداء, إلا أنه لم يرَ الحمراء بجوار السوداء.  في المرحلة الثالثة, لا يستطيع الكائن البشري أن يربط بين “معلومتين” معروفتين لديه من أجل الخروج بمعلومة جديدة.

 

في حالة ما نتحدث عنه هنا, يحتاج المرء, لكي يتخذ موقفا مثل موقفي, إلى إدراك التالي:

1.     أن القول بأن الرسول لم ينطق بكلمة واحدة تعكس رأية, وتعبر عن خبراته, وتجاربه في الحياة, وطبقته الاجتماعية, والمعلومات السائدة في عصره, والأعراف الاجتماعية, والميول الشخصية, إنما يعني أن الرسول قد “اختفى” بعد نزول الوحي.

2.     أن اختفاء محمّد بن عبد الله بعد نزول الوحي إنما يعني أن من كان يسير في شوارع مكة والمدينة لمدة ثلاثة وعشرين عاما لم يكن محمدًا بن عبد الله وإنما كان الله الذي اتخذ جسد محمّد بن عبد الله مسكنا له.

3.     أن القول بأن الله قد سكن جسد محمّد بن عبد الله إنما يعني أن محمدًا قد تحول إلى إله.

4.     أن القول بأن محمدًا قد تحول إلى إله إنما هو قول يتناقض مع عقيدة التوحيد.

يحتاج إدراك كل نقطة من هذه النقاط الأربعة إلى عمليات عقلية عليا على درجة بالغة التعقيد.  لاحظ أننا هنا نتحدث عن “أفكار مجردة” وليس عن “أشياء محسوسة”.  يحتاج إدراك أن القول بأن هناك أحاديث إلهية كريمة هو قول يتناقض مع عقيدة التوحيد إلى إدراك كل نقطة من هذه النقاط الأربعة ثم إلى “الربط” بينها.  المسألة, إذن, هي أنه ليس من السهل إدراك أن القول بوجود أحاديث إلهيه كريمة إنما هو قول يتناقض مع عقيدة التوحيد. 

 

لا يوجد لدي أي شك, بطبيعة الحال, في أن القول بأن هناك أحاديث إلهية كريمة إنما هو قول يتناقض مع عقيدة التوحيد.  لا يوجد لدي أي شك, كذلك, في أن إدراك هذا التناقض هو أمر صعب للغاية في ثقافة بدائية مثل الثقافة العربية.   يحتاج إدراك التناقض إلى عمليات عقلية عليا لا تتوافر إلا في المرحلة الرابعة, وهي عمليات لا تتوفر في ثقافات المرحلة الثانية. 

 

لا يوجد لدي أدني شك, على أية حال, في أن طريق العمليات العقلية العليا ليس هو الطريق الوحيد لإدراك أن من المستحيل أن يكون الوحي قد سكن جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال الوقت, أو نصف الوقت, أو حتى ساعة من الوقت.  هناك “طريق القلب” وهو طريق لا يحتاج إلى عمليات عقلية من المستوى الرابع, أو الثالث, وإنما يحتاج إلى أن ننظر في قلوبنا.  يحتاج إلى أن يسأل الواحد منا نفسه عما إذا كان “يحب” سيدنا محمّد حقا, وهل يمكن لمن يحب سيدنا محمّد أن يقصيه هكذا من حياتنا.  أن يحرمنا من أن نفرح معه, وأن نبكي معه.  أن نرى جلده عند الشدائد, ورحمته حين النصر.  

 

من منا في قراءته للسيرة النبوية لم يبكِ مع النبي عند وفاة ابنه إبراهيم؟  ومن منا لم يضحك مع النبي عندما جاءته تلك المرأة تطلب الطلاق من زوجها لأنها رأت أن آلته صغيرة وكيف ضحك صلى الله عليه وسلم مما قالته وأخبرها, ضاحكا, أنه لن يسمح بطلاقها حتى “تذوق عسيلته”؟  من منا لم يهتز ألمًا عندما توجه الرسول إلى الله شاكيا ضعف قوته, وقلة حيلته, وهوانه على الناس بعدما قذفه الصبية في الطائف بالطوب حتى دميت قدماه؟    من منا لم يُصدم للطريقة التي خاطبه بها عمه حمزة عندما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى منزله ليتحرى شكوى علي بن أبي طالب من تصرفاته؟    ومن منا لم يهتز لقدرة رسول الله الفائقة على التحكم في مشاعره؟  لم يوجه الرسول الكريم كلمة واحدة إلى عمه.   ومن منا “تخيل” للحظة أن ما تحدث به رسول الله لم يكن المتحدث به هو رسول الله؟  لم يكن رسول الله هو الذي بكى عند وفاة ابنه إبراهيم, وإنما كان الوحي.  لم يكن رسول الله هو الذي “ضحك” عندما جاءته تلك المرأة تشكو صغر آلة زوجها وإنما كان “الوحي”.  لم يكن رسول الله هو الذي شكا ضعف قوته, وقلة حيلته, وهوانه على الناس, وإنما كان “الوحي”.  دعك من أن القول بأن “الوحي” كان “يبكي” و”يشكو”, و”يضحك”, هو قول عجيب.  دعك من هذا, واسأل “قلبك”.   مرة أخرى, اسأل قلبك: هل شعرت مرة, ولو لثانية واحدة, أن المتحدث لم يكن محمدًا بن عبد الله؟  هل شعرت مرة أن الوحي, حقا, هو الذي كان يتحدث وليس محمدًا بن عبد الله؟  من الذي كان يحب عائشة؟  من الذي كان يقدر صداقة أبي بكر؟ من الذي كان يدعو الله أن يرزقه بأحد العمرين؟  من الذي كان يتشاور مع صهيب في حفر الخندق؟ من الذي عاتبه الله على توليه عن الأعمى؟  ومن الذي عاتبه على تحريمة على نفسه ما أحل الله له؟   دعك من أنه من المستحيل أن يعاتب الله رسول الله على قول أوحى به الله إلى رسول الله.  دعك من هذا واسأل نفسك: هل شعرت يوما بأن المتحدث لم يكن هو محمّد بن عبد الله وإنما كان “الوحى”؟

 

أيضًا, ما الذي يمكن أن يدفعنا إلى القول بأن محمدًا بن عبد الله لم يقل شيئا وإنما القائل هو الله؟  هل هي “بلاغة” الأحاديث؟  طبعا, لا.  لا أعلم حديثا واحدًا يضاهي آية واحدة في كتاب الله, ولا أعلم عن مسلم واحد يعلم عن حديث واحد يضاهي آية واحدة في كتاب الله.  ما الذي حدثنا به محمّد بحيث دفعنا إلى القطع بأن المتحدث لم يكن محمدًا وإنما كان “الوحي”؟  لا أعلم عن حديث واحد يحدثنا عن أمر من أمور دنيانا لا يستطيع بشر أن يحدثنا به.  على العكس, حدثنا الرسول الكريم بأننا أدرى بشؤون دنيانا.  نحن أدرى بشؤون دنيانا.  لا أعلم عن حديث حدثنا به رسول الله بشئ لا يعلمه بشر سوى تلك الأحاديث التي تتحدث عن الغيب.  وهنا سؤالان.

 

السؤال الأول هو التالي: ألم يخبرنا الله في كتابه الكريم بأن لا أحد يعلم الغيب سوى الله؟  أعلم أن الله أخبرنا بأن لا أحد يعلم الغيب سوى الله “ومن ارتضى من رسله” وهو ما يعني أن الله يخبر من ارتضى من رسله بالغيب.  أعلم ذلك.  ولكن ألا يعني ذلك, كذلك, أن على الرسول البلاغ؟  ألم يخبر الله رسوله فعلا بما شاء أن يخبره به من أمور الغيب, من جنة, ونار, وحساب, ووصف للجنة, ووصف للنار؟ ألا يفيض القرآن الكريم بأخبار الغيب؟  ألا يكفي ذلك؟  أم أن من الضروري أن يخبر الله رسوله الكريم بأخبار أكثر عن الغيب؟  وإذا فرضنا أنه فعل ذلك – وهو على كل شئ قدير – فهل فعل ذلك من أجل إخبار الرسول “بصفة شخصية” بهذه الأمور الغيبية, أم من أجل إخبار الرسول والصحابة فقط, أم من أجل إخبار أهل الحجاز فقط, أم من أجل إبلاغ البشرية جمعاء؟  وإذا اتفقنا على أن الله ما أبلغ الرسول بما أبلغه به إلا من أجل تبليغ الرسالة إلى البشرية جمعاء فلما لم “تحفظ” بحيث تستطيع البشرية جمعاء أن تعلم بها؟  لماذا لم تحفظ هذه الأحاديث مثلما حفظ القرآن؟  بل ما الفرق بينها وبين القرآن أصلا؟  وإذا لم تكن هذه الأحاديث صادرة عن محمّد بن عبد الله, ولا عن الوحي الذي أوحى بالقرآن إلى رسول الله (فلو أنها كانت صادرة من نفس المصدر الذي جاء منه القرآن لعوملت معاملة القرآن), أفلا يدلنا ذلك على أنها أحاديث لم تصدر عن محمّد بن عبد الله ولا عن الوحي وإنما هي أحاديث موضوعة مثلها في ذلك مثل آلاف الأحاديث الموضوعة, إن لم يكن عشرات الآلاف, إن لم يكن مئات الآلاف, من الأحاديث الموضوعة؟

 

السؤال الثاني هو التالي: إذا كان عليك أن تختار إما (1) أو (2), فأيهما تختار؟

1.     أحاديث الغيبيات أحاديث موضوعة. 

2.     خرج محمّد بن عبد الله من التاريخ بشكل نهائي بعد نزول الوحي عليه وحل الله في جسده.

 

أعلم أن كل مسلم يتحرج تحرجًا كبيرًا من رفض أي حديث مهما كان ضعيفا, ودعك من القطع بأن الحديث موضوع.  أعلم ذلك تماما.  إلا أن السؤال واضح تماما: إذا كان عليك أن تختار بين رفض أحاديث الغيبيات أو رفض ألوهية الرسول فأيهما تختار؟  العائق الوحيد أمام فكرة “بشرية الرسول” هو تلك الأحاديث التي لا يمكن أن يقول بها بشر.  قبول هذه الأحاديث معناه أن ذلك الرجل الذي رضعنا حبه من صدور أمهاتنا لم يكن ذلك الرجل الذي كنا نتخيله, وإنما كان الله.  لم يكن محمّد بن عبد الله هو الذي قال لعمه “والله, يا عم, لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي لما رضيت عن هذا الدين بديلا”.  لم يكن محمّد بن عبد الله هو الذي شكى ضعف قوته, وقلة حيلته, وهوانه على الناس, وإنما كان “الله”.  لم يكن محمّد بن عبد الله هو من خاطبته قريش على أنه أخ كريم, وابن أخ كريم, وإنما كان الله.  لم يكن محمّد بن عبد الله هو من سابق عائشة في الركض, وإنما كان الله.   لم يكن محمّد بن عبد الله, باختصار, هو محمّد بن عبد الله, وإنما كان الله.

 

علينا, إذن, في حال قبولنا لفكرة أن محمدًا بن عبد الله لم يكن محمدًا بن عبد الله, أن نعيد قراءتنا للأحاديث, وللسنة الشريفة.  علينا أن نقتدي بـ”الله” لا بـ”رسول الله”, فالرسول قد خرج من التاريخ من لحظة نزول الرسالة عليه.  علينا أن نكف عن مدح محمّد بن عبد الله, وعن كيف كان خلقه القرآن, وكيف كان صادقا, أمينا.  علينا كذلك أن نعيد فهم ما حدثنا به الله عنه.  يخبرنا الله سبحانه وتعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على خلق كريم.  يخبرنا كذلك أنه حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم.  وأنه ما جاء إلا رحمة للعالمين.  كما يخبرنا بأنه جاءنا شاهدًا, ومبشرًا, ونذيرًا, وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا.  يخبرنا الله أنه أرسل لنا رجلا على خلق كريم, حريص علينا بالمؤمنين رؤوف رحيم, جاءنا رحمة للعالمين, شاهدًا, ومبشرًا, ونذيرًا, وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرا, ونأبى نحن إلا أن نطفئ سراجًا منيرًا.  ألا بئس ما يفعلون.  ويحدثوننا عن حب محمّد.  ألا بئس ما يحدثون.  كيف لمن يحب محمدًا أن يخرج محمدًا من التاريخ؟   كيف لمن يحب محمدًا أن يخبرنا بأن محمدًا لم يكن له رأي واحد في كلمة قالها, بل لم ينطق بكلمة واحدة من عنده أصلا؟  إذا كان هذا هو ما يفعله من يحب محمدًا فما الذي يمكن أن يفعله من لا يحب محمًدا؟

 

وأخيرًا, دعك من كل ما قلتُ, واسأل نفسك سؤالا واحدا: هل أحسست يوما بأن ذلك الرجل العربيّ القرشيّ الهاشميّ الذي ولد في بيت كريم من بيوت مكة ومات في بيت كريم من بيوت المدينة لم يكن حقا محمدًا بن عبد الله وإنما كان مجرد جسد حل فيه الله؟  هل كانت كل هذه الأحاديث التي قرأناها وحفظناها هي أحاديث “الله” لا أحاديث محمّد بن عبد الله؟  ولا حديث؟  هل يعقل أن السيرة النبوية التي قرأناها أطفالا وأضاءت حياتنا كبارًا لم تكن سيرة رسول الله وإنما كانت سيرة الله؟  هل كنا نتخيل؟  هل ما زلنا نتخيل؟   هل يعقل أن يقول بذلك إنسان ثم يخبرنا بأنه يحب محمّدا؟    هل يمكن أن يقول ذلك من يحب محمّدا؟

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.