هل يعرف المسيحيون أم مريم؟

هل يعرف المسيحيون أم مريم؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ام مريم.jpg

لعل من الأفضل أن نوجه السؤال إلى المسلمين أيضا. فهل يعرف المسيحيون والمسلمون أم مريم؟

التاريخ البشري يضم شخصيات كبيرة مجهولة وأظن بأن أم مريم هي إحدى أولئك المجهولين. والغريب أن الله تعالى لا يتحدث عن أبي مريم إلا بأنها ابنة عمران وبأنه رجل معروف بالطيب بين الناس. لكنه سبحانه يهتم كثيرا بأم مريم. فكما أظن بأن أهمية أم مريم في صناعة مريم كبيرة جدا من قبل أن تأتي تلك المرأة العظيمة إلى الوجود. فكأن أم مريم سارت في مسار مجهول لها لإنشاء ولد يخدم معبد الرحمن، ولكن الله تعالى رآها جديرة بأن تأتي بفتاة يريد الله تعالى أن يري الناس بها قدرة المرأة المتفوقة على قدرة الرجل.

قال تعالى في سورة آل عمران:

إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿33

آدم هو أول البشر

نوح هو أول الأنبياء

إبراهيم هو أول من استلم الصحف السماوية

بنو إسرائيل هم أول من استلموا التشريعات السماوية العامة لكل البشر.

آل عمران هم ليسوا آل عمران أبي مريم لأنهم 3 أشخاص (أم مريم ومريم وأخا لها اسمه هارون) ولا يمكن أن يسمى هذا العدد الصغير آلا مقارنا لآل إبراهيم وهم غالبية العرب وكل بني إسرائيل. فالمقصود هم سلالة عمران أبي موسى لو كان اسم أبي موسى عمران كما نقرأ فيما كتبه البعض أو سلالة شخص آخر يمثل كل بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى ليستخرج منها الإسرائيليين الذين كانوا في قصر فرعون والذين ورثوا كنوز فرعون بعد غرقه. إن المؤمنين من بني إسرائيل كانوا قد عبروا البحر إلى جبال سيناء ولم يبقوا في مصر ليرثوا ملك فرعون.

قال سبحانه في سورة الشعراء: فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿57 وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ ﴿58 كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿59 فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ﴿60 فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴿61ونكمل قراءة حكاية أم مريم كما في سورة آل عمران:

 ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿34.

هناك غموض شديد في ترابط تلك الذرية التي بعضها من بعض وما تمكنتُ من أن أربط تاريخيا بين شخصيات تلك الذرية. ولعل هذه المقالة ليست مكانا مناسبا لذلك البحث. ولذلك نكتفي بعرض حكاية أم مريم. ولا أخفي على القارئ بأنني أعتقد بأن مريم هي أعظم امرأة في التاريخ البشري وهي نبية دون أدنى شك بتصريح القرآن الكريم. وأكرر القول بأننا بصدد فهم أمها من واقع القرآن فقط في هذه المقالة. فهن ذرية بعضها من بعض باعتبار أن شخصيات تلك الذرية لسن غرباء عن بعضهم البعض نسبيا.

والسمع والعلم في نهاية الآية الكريمة باعتبار أن الله تعالى لم يقم باصطفائهم ليفرض عليهم ما يريده هو سبحانه فقط بل ليستجيب لدعواتهم. وهذا دليل على أن الاصطفاء لا يعني بأن المصطفى مسير في عين الله تعالى دون أن يكون له اختيار كما يدعيه الذين يعتقدون بالعصمة للمصطفين. ثم تحدثنا السورة الكريمة عن نموذج لطلب من طلبات تلك الذرية الطيبة ليُعلمنا بأنه سبحانه سميع لدعوات خلقه ولكنه باعتبار علمه فإنه يستجيب لهم لو شاء بما يتناسب معه لا بالطريقة التي يدعو إليها الدعاة. فقال تعالى:

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿35

بالطبع ليس إذ باعتبار أن الله سميع عليم لها فقط بل باعتبار أن القصة شاهد فعلي من شواهد السميع والعليم والعلم عند المولى عز اسمه. فالسيدة الفاضلة نذرت من تلقاء نفسها وليس بتشجيع أو تقدير مسبق من الله تعالى.

المرأة كيف تنذر بدون الأب حتى لو كان الأب متوفيا فليس لها أن تنذر ولدها للمعبد. وهذا يدل على أنهم كانوا متحضرين بحيث كانوا يمنحون هذا الحق لنسائهم دون أن يتدخلوا فيه. وقولها إني شاهد على أنها هي التي نذرت وحررت وليدها من كل التزام تجاهها. ولعل المقصود الالتزام تجاه البشر لأنها لم تقل محررا مني.

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿36 

الهاء في وضعتها تعود إلى ما في بطنها وكان يكفي أن يقول سبحانه: وضعته، ولكنه اختار المرجع المؤنت باعتبار أن الله تعالى كان على علم بما ستضع فأشار سبحانه إلى ما كان ينتظره منها. وأما أم مريم التي اختارت نفس المرجع المؤنث، فهي بالتأكيد لم تتحدث العربية والكلام المترجم يختلف عن الكلام الأصلي من حيث مراعاة القواعد. فإذا سبقتها كلمة وضعتها لا يجوز حينئذ أن يشير إلى نفس الشيء ثانية بلفظ المذكر ولو أن القائل مختلف، والعلم عند الله تعالى. وههنا مجموعة مسائل تدل جميعها على أدب العالمة الفاضلة أمام ربها العظيم وعلى عمق معرفتها بالحقائق وهي هدف مقالتنا. وسأذكر ما أعرفه من تلك المسائل:

1.            تعرف المؤمنة الفاضلة بأن الله تعالى هو الذي أنعم عليها بالمولود وتعرف بأن الله تعالى كان على علم بأنها كانت تنوي مثل ذلك النذر قبل أي ارتباط بزوجها وكان ممكنا له سبحانه أن يقدر جنسا مناسبا لنوع النذر ولكن الله تعالى لم يفعل ذلك. فنحن لا نحتاج أن نعرف بأنها كانت على دراية علمية بزمان تقدير نوع الجنين أم لم تكن؟ إنما تريد أمُّ مريم بخطابها لربها أن تنسب الخلل إلى نفسها لا إلى الله تعالى ولذلك تؤكد بأنها هي التي وضعتها أنثى. وهذا لا يعني بأن الله تعالى لم يُقدِّر أن تكون أنثى ولكنه يعني بأن الله تعالى يُقدِّر كل أمر بما يتناسب مع الشأن فتعترف المؤمنة الطيبة بأن ليس هناك أي احتمال لأي نقص في كرم الباري ولطفه ومَنِّه ورحمته فهو أرحم الراحمين وهو اللطيف وهو المنان وهو الكريم دون منازع. كل ما في الأمر أن ما يرتبط بها من أسباب تحريك الرحمة غير كاملة فالسبب منها وليس من الله تعالى. ولذلك تقول بكل خضوع: رب إني وضعتها أنثى.

2.            ثم إن الله تعالي يستدرك مقولتها حين نقل القصة ليروي لنا نحن وليس لها بأن الله تعالى أعلم بما وضعت. هذا يعني بأنه سبحانه يؤكد ما توصلت إليه أم مريم من أن الله تعالى لا يمكن أن يقلل من شأن هدية تُقدم إلى وجهه الكريم وبكل إخلاص. ولكنه سبحانه ينوي مسألة خافية على الأم المثالية وأن لمريم شأنا كبيراً جدا بحيث يمكن نسبتها إلى الله تعالى نفسه. وهكذا فإن الله تعالى يبرر عدم تقديره لأن يكون ما في بطنها ذكرا بغض النظر عن أنها تستحق استكمال هديتها بما يتناسب مع النذر أم لا تستحق. وبذلك كشف الله تعالى الستار عن عدم وجود أي خلل في أم مريم ولكن الله تعالى هو الذي أراد ذلك لغرض خاف عليها.

3.            ثم يؤكد سبحانه من بعد، أن الهدف الذي يقصده سبحانه بشأن الوليد لا يتناسب مع كونه ذكرا. ليس الذكر قادرا على الإنجاب بمفرده ولكنها هي الأنثى القادرة على ذلك كما سنعرف. فقال سبحانه وليس الذكر كالأنثى. وهذا يعني بأن الأنثى أهم بكثير من الذكر في تمكنها من الاستجابة لرغبة رب العالمين جل جلاله دون الذكر. ولو كان الاهتمام بالذكر والمولود هو أنثى لقال سبحانه وليس الأنثى كالذكر. ولذلك فهي مقولة رب العالمين وليست مقولة أم العذراء سلام الله تعالى عليها وعلى ابنتها وحفيدها الكرماء. وبذلك أبان لنا سبحانه بأن هناك غاية أكثر بُعدا مما استهدفته الصالحة أم مريم.

4.            وحينما تعترف الوالدة الكريمة بأنها لا تستحق أكثر مما قدر الله تعالى لها فإن هناك جانبا آخر غير قابل للتجاهل في القضية. فالمولود الجديد كائنا ما كان يمثل نعمة ورحمة من الله تعالى على من وهبه إياه ومن حق المنعم أن يُشكر. ومن أجلى مراتب الشكر في النعمة أن تقدر النعمة وتفتخر وتزهو بها. ولذلك قالت: وإني سميتها مريم. وكما نعرف بأن الاسم هو ما يسمو به الشخص وليس ما يُعلم به من العلامة (لا من العلم طبعاً). ولذلك يسعى الآباء والأمهات لتسمية أولادهم بما يتلاءم مع ما يصبون إليه بشأن الوليد وليست التسميات تعاريف حقيقية للمواليد. لا يمكن أن يسمي أحد وليده المريض مثلا باسم المرض الذي جاء به فلا يسمي أحد الوليد الأعمى -لا سمح الله تعالى- بالأعمى بل يسميه بصيرا أو جميلا أو حكيما. فقبولها للتسمية دليل على تقبلها هدية ربها ولذلك تعتز بها قائلة: وإني، والتركيز على لفظة “إني” للتأكيد على اعتزازها بمُنحة ربها. ومن حق الأم أن تختار اسما لوليدها كما أن من حق الأب أن تختار اسما آخر بالطبع.

5.            ونحن لا نعرف وجه تسميتها بمريم وقد نقل الزمخشري في الكشاف بأن مريم في العبرية تعني العابدة، فلو كان ذلك صحيحا فإن التسمية تدل على أمل أم مريم أن تتمثل ابنتها بالعبودية والخضوع لرب العالمين وهي الهدف الغائي لخلق الإنسان حيث قال سبحانه في سورة الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ﴿56. وبالمناسبة ودفعا لتبادر أي اشكال في الأذهان، فإن الغاية من الأمر بالعبادة لا تعني مصلحة شخصية لرب العالمين ولكنها تعني هدفا مناسبا لما يروم الله تعالى منحه للمؤمنين في الحياة الأبدية والذي لا يتناسب مع شأن الجبار دون أن يمر الممنوح باختبار يعين وضعه النفسي ويبلور حقيقة عبوديته وخضوعه لربه، فيكون من الشاكرين أو من الناكرين والعياذ بالله.

6.            تشعر الوالدة الكريمة بأن الله تعالى لا يمكن أن يقدر لها غير الطيب الجميل فهي تريد أن تشكر ربها بالدعاء. إنها في نفس الوقت تعرف بأن الله تعالى يستجيب الدعاء بعد ما يقوم الشخص بعمل شاق كما هو الحال للصائمين في نهاية الصوم وللحجاج بعد أداء الفريضة وهكذا للحامل بعد وضع حملها. ها هي وضعت حملها فآن لها أوان الدعاء وما عليها إلا أن تختار أحسن دعاء لأن احتمال عدم القبول غير وارد قطعيا. تعلم المرأة الصالحة أن أخطر شيء يتعرض للإنسان فيحرمه من غفران ربه ومن شتى أنواع رحمته هو الشيطان. إنها تعرف بأن الشيطان هو العدو اللدود الوحيد للإنسان ولا يمكن أن يتجنب المرء شر هذا الموجود الخبيث دون أن يستعيذ بالله منه. ثم إنها تعرف بأن الله تعالى لو أزاح عنها خطر الشيطان فإن أبواب الرحمة والمغفرة لا يمكن أن تقفل على وجهها. ذلك لأن الله تعالى حرم الشيطان من الرحمة حينما لعنه وأخرجه من جنة الغفران والرضوان فاعتبره رجيما. ثم إنها تتوجه إلى أعمق أعماق الطلب لتقدمه إلى الله تعالى طويلا بالغا أكبر مقدار ممكن من الشمول ولذلك عممت الدعاء لها ولذريتها. ولم تطلب شيئا غيرها من الله تعالى كما يبدو لأنها تعرف بأن إبعاد الشيطان عن ابنتها وأحفادها هو أكثر شيء قبولا إلى قلبها، فقالت: وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.

7.            ويكفي لمعرفة العمق العلمي والإنساني لهذه المرأة المثالية التي يندر مثالها في الكرة الأرضية، أنها في أهم مرحلة لاستجابة الدعاء، فهي لم تدع بشيء لنفسها ولم تدع بأمر دنيوي لابنتها لأنها تعلم علما دقيقا بأن الدنيا لا قيمة لها فحرام أن يستغل العاقلُ فرصةَ استجابة الدعاء لأمر دنيوي محض. إن الله تعالى قد وعد بتوفير الأمان والطعام لعبيده ويكفيها ذلك كما يكفي ابنتها ذلك. ثم إنها لم تطلب شيئا أخرويا لنفسها، ذلك لأنها قد قدمت هدية لربها، فليس جميلا أن يطلب العوض من الله تعالى. لكن ما تطلبه لابنتها فهي تمثل في نفس الوقت اعتزازها بما أكرمها الله تعالى به لئلا تتوهم في نفسها أي نوع من أنواع عدم الرضا بتقدير رب العالمين، فاستغلت كل الفرصة للشكر والدعاء للمولود وذريتها دون نفسها. والعلم عند الله تعالى.

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿37

 حينما يتقبل الله تعالى عمل أحد أو هديته فحسبه دليلاً باهراً على صحة عمله وأهمية الهدية عند ربه سبحانه بالمقارنة مع ما يقدمه بقية عبيده بالطبع وليس بالمقارنة مع شأن الجبار العظيم جل جلاله فأنى لنا نحن البشر ولكل الموجودات أن نؤثر في الذات القدسية مقدار ذرة؟ والتقبل في اللغة العربية تعني حسن القبول في الواقع ولعلها بالنسبة لله تعني قبول العمل والعامل معا. ذلك لأننا جميعاً عبيد، وكلُّ ما نملكه ظاهرا فهي ليست ملكا حقيقياً لنا ولكن الله تعالى أباح لنا أن نفعل بعض ما نشاء مختارين؛ فلو قدمنا فعلنا الاختياري الممنوح لنا من الله تعالى إليه سبحانه وكان عملنا صحيحا فإن الله تعالى يقبل العمل فيثيبنا عليه ويقبلنا نحن فيزيد من العطاء الكيفي لا الكمي طبعا وهكذا يتم التقبل. والقبول الحسن بيان للتقبل حيث يكون القبول وهو بمعنى الرضا متكاملا بإزالة كل السلبيات عنه باعتباره صادرا من نفس طيبة راضية شاكرة لله تعالى. وعلامة حسن القبول أن يزيد الله تعالى فيما يليق بما قُدِّم إليه كرما منه وفضلا.

ولنعلم حسن قبول الله تعالى دون المساس بعدله وقسطه فإن ما يتفضل به سبحانه من مزيد من العطاء الدنيوي سيكون مصحوبا دائما بمزيد من الاختبار والبلاء في الواقع. وهكذا فإن ما منحه سبحانه لمريم لا يزيد إلا من مسؤوليتها فلو لم تكن أهلا لمِا مُنحت به لما نالت شيئا في الآخرة دون شك. ويمكننا أن نعرف ذلك حينما تعود السورة الكريمة إلى ذكر خصوصيات مريم وتجاوبها مع اختبار الله تعالى لها وامتثالها الخاضع لأوامر رب العزة جل جلاله بإخلاص ومعرفة مصحوبة بالجهد الشخصي وبالسعي قدر الإمكان لأن تكون واحدة من سلسلة العابدين المخلصين وحسبها ذلك.

ولقد تقبَّل اللهُ تعالى هدية امرأة عمران المتمثلة في الطفلة مريم، وتولى إنباتها إنباتا حسنا. هذا أول إضافة من العطاء الدنيوي. إن العقل السليم في الجسم السليم وقد قدر الله تعالى لها إنباتا حسنا تمنع عنها الكثير من الأمراض البدنية لئلا يتأثر عقلها وفكرها بالبدن المريض أو الهزيل أو الناقص. ولنعلم بأن الله تعالى يمنح البصر والسمع الإنساني بعد الولادة وليس قبلها لئلا يتأثر المرء بطباع أمه فلا يكون له حجة على الله تعالى يوم الحساب. فالإنبات الحسن مقدمة لحسن البصر وحسن السمع وهما مقدمتان لحسن الفهم والتدبر.

قال تعالى في سورة المائدة: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ َلأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿27.

فحينما يتقبل الله شيئا دل على أن الفاعل من المتقين وليس من غير المتقين. هذا دليل على أن التقبل يدل على الرضا بالعمل والعامل. ولعل الله تعالى أن يقبل من العامل شيئا هو في ذاته غير مقبول وغير مرضي عنه ولكن الفاعل مخلص وأظن بأن هذا لا يسمى في واقع الأمر تقبلا بل هو قبول فقط، والعامل سوف يأخذ النتيجة الكاملة احتمالا. ويقول سبحانه في سورة الأحقاف:

 أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴿16.

وأما قصة تكفل زكريا وتقدير الله تعالى لقلمه أن يعلو على بقية الأقلام كما نعرفه من الآية 44 من هذه السورة، فهي فضل آخر باعتبار أن زكريا قريب عائلي للأسرة الكريمة ويُقال بأنه زوج خالة مريم وهو نبي وكبير في السن فسيكون لولايته على مريم أهمية كبيرة عند أم مريم وعند بقية الأهل لتبقى العذراء الكريمة بعيدة عن التهم والافتراءات خاصة وأن شأنها سوف يكون كبيرا وغريبا في المستقبل.

والمكرمة الثالثة هي الفيض المعرفي الممنوح لمريم. بالطبع أن للإنبات الكريم دورا كبيرا في ذلك وكله في الواقع فضل من الله تعالى ولكن مريم تستحق ذلك دون شك. ومن الطبيعي أن نعرف بأن المحراب ليس مكانا للأكل وليست مريم تلك الفتاة المهتمة بالغذاء حتى يجد زكريا لديها غذاء جديدا كلما دخل عليها المحراب. والإخوة المفسرون تسرعوا في التفسير دون الرجوع إلى عقولهم وأفكارهم رحمهم الله تعالى وإياي. والرزق بالنسبة لكل فرد يتناسب مع شخصيته، فرزق البطين هو الأكل ورزق التاجر هو المال ورزق الصناعي هو المواد الأولية والطاقة ورزق الأنبياء هو العلم والمعرفة. قال تعالى في سورة هود على لسان شعيب نبي المَدْيَنيين:

 قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴿88.

لا يمكن القول بأن الرسول شعيبا عليه السلام استند إلى ما منحه ربه من طعام أو أية نعمة مادية أخرى ليطلب من قومه اتباعه.

 فالعلم مناسب للمحراب وليس الأكل والغذاء. ولو كان الغذاء مقصودا من الآية لكانت مريم أكثر حاجة للغذاء لحظة الولادة حيث لم تأتها أية مائدة من السماء بل أمرها الله تعالى بأن تقدم بعض النشاط العملي فتهز بجذع النخلة حتى يقدر الله تعالى لها تساقط الثمر، ثم تتوجه إلى الساقية القريبة منها للتروي من عطاء ربها، فلا مائدة للطعام ولا كوبا من الماء وهي في أمس الحاجة إليهما.

وجواب مريم: قالت هو من عند الله، جواب معرفي نجد له تفسيرا في القرآن حيث يقول سبحانه في سورة القصص: 

وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴿60.

فليس متاع الحياة الدنيا وطعامها موصوفا بما عند الله تعالى وليست مريم بذلك الزهد فيما تطلبه من ربها لتكتفي بقليل من الطعام في الدنيا هدية من ربها كما أن متاع الدنيا ليست باقية والأكل والطعام من أسرع الزوائل. إن العاقل يطلب من ربه الحكمة والعقل والعلم والمعرفة وليس الأكل والمال وما شابه ذلك فقد تكفل الله تعالى كل ذلك لمن يقنع بالمعقول. ليس الغذاء قادرا على أن يُشبع طموح امرأة عالمة مثل أم المسيح عليهما سلام الله تعالى. فكان زكريا يجد لدى مريم كل مرة مزيدا من العلم والعرفان ويلمس منها تحقيقا علميا جديدا. وأهل العلم الإلهي يسعون دائما لتحصيل العلم ويطلبون من ربهم أن يفتح عليهم أبوابه وهو ليس على الغيب بضنين، سبحانه وتعالى عن ذلك.

فهل عرفتم بأن أم مريم ليست امرأة عادية بل هي على قدر النعمة العظمى التي وهبها الله تعالى إياها بأن تكون أما لأعظم امرأة في الكرة الأرضية على الإطلاق؟ ليست أم مريم نبية مثل ابنتها ولكنها أم مثالية لأم مثالية أخرى. نحتاج إلى المزيد من البحث والتحري لنتمكن من التعرف على حقيقة مريم ولماذا اختارها الله تعالى هي لا غيرها ليرينا حقيقة المرأة وعدم حاجتها إلى الرجل للإنجاب ولكن الإنجاب المشترك هو لغرض آخر ولنكون جميعا أسرة واحدة يمكننا الوقوف في صف واحد يوم القيامة مع كل من سبقنا من البشر. حتى المسيح فهو منا باعتبار أمه ولكنها غيرنا باعتبار خصوصيته النفسية فقط.

وليكن واضحا بأن من الصعب التفكير في أشخاص يأتون بعد موسى الكليم ومريم ابنة عمران وهم بمرتبة ذان العظيمين. إن أهمية موسى عليه السلام بأنه جاء فترة طويلة من قبل أن يصل الكائن البشري حد التطور الكامل تقريبا كما حصل أيام نبينا عليه السلام؛ كما أن أهمية مريم وأمها بأنهما جاءا فترة عدة قرون قبل وصول الإنسان إلى قمة التطور أيضا. نحن حتى يومنا هذا لم نسمع عن امرأة تقارن مريم في علمها وخلوصها للرحمن ولكن قد تأت في المستقبل. ولو جاءت فهي ستبقى دون مستوى مريم باعتبار أنها كسبت ذلك المجد العظيم قبل وصول البشرية إلى أعماق المعارف الطبيعية وغير الطبيعية.

وأرجو أن يكف أهلنا عن القول بأن مريم ستكون زوجة لنبينا يوم القيامة فهو كلام سخيف يدل على قلة عقل قائله. ليتعلم أهلنا القرآن قبل أن يأتونا بأخبار الآخرة التي لا يعلم البشر عنها شيئا خارج نطاق القرآن الكريم. سلام على الذين مضوا من عظمائنا وسلام على الذين ساروا على درب الأنبياء وسلام على من يكمل مسيرة المعرفة اليوم ومستقبلا.

أحمد المُهري

10/6/2018

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.