الكاشف التعبدي العجيب

الكاشف التعبدي العجيب

أرسل إلينا منذ أيام الأخ العزيز سيادة الدكتور حازم العبيدي رسالة يحدثنا فيها عن أداة “عجيبة” يستطيع الواحد منا إذا استعملها أن تكشف له عما إذا كان المسلمون الذين يحتك بهم من المؤمنين أم من غير المؤمنين.  لم أستطع من ساعة وصلتني هذه الرسالة أن أكف عن التفكير فيها.  يعود ذلك إلى أني نشأت وسط قوم أدخلوا في رأسي أن هذه أمور لا يقوم بها إلا الله.  لم يخطر على بالي لحظة أني مخطيء.  لم أشك لحظة في أن هذا الكاشف التعبدي العجيب ما هو إلا “المعادل الموضوعي” للجهاز العجيب الذي اخترعه الجيش المصري العظيم الذي يمكنه تحويل الإيدز إلى “كفتة”.  المسألة, من أولها إلى آخرها “نصب”.  كيف بالله يمكن لمخلوق من مخلوقات الله أن يخترع جهازا يحول الإيدز إلى كفتة؟  ثم كيف, بالله, وتالله, يمكن لمخلوق أن يخترع أداة تستطيع الكشف عن إيمان الناس.  المسألة نصب.  تمامًا مثلما لا يمكن تحويل الإيدز إلى كفتة, فلا يمكن الكشف عن إيمان الناس.  الكاشف التعبدي العجيب هذا لا يختلف عن أخيه العجيب الآخر الذي اخترعه الجيش المصري العظيم.  المسألة نصب. 

 

لم يكن لدي, بهذا الشكل, شك “بتعريفة” أن المسألة نصب.  موضوع أن المسألة نصب كان أمرًا مفروغًا منه, إلا أن السؤال هنا كان كالتالي: كيف يمكن الكشف عن هذا النصب؟  خرج علينا اللواء, الطبيب, العالم, العلامة, المخترع الكبير يحيط به كبار القوم ليخبرنا عن جهازه العجيب.  كيف تثبت لخلق الله أن المسألة نصب؟  كيف تبين للناس أن التليفزيون المصري, والجيش المصري, والصحافة المصرية, والإعلام المصري, مشتركين في عملية نصب؟  ثم كيف تثبت لخلق الله أن هناك عملية نصب مماثلة فيما يتعلق بالكاشف التعبدي العجيب؟ 

 

كان هذا هو ما يشغل بالي.  كيف تبيِّن أن المسألة نصب؟  كيف “تبرهن” بهدوء, وبطريقة علمية, وبالدليل أن المسألة نصب؟   المسألة, في نهاية الأمر, ليست شتيمة.  قل ما شئت أن تقول إلا أن عليك, في نهاية الأمر, أن تقدم الدليل على صحة ما تقول.   المسألة ليست “أنا قلت الأول”.   العلم, كما اتفقنا, هو الحديث عما يقوم عليه دليل.  وعليه,

 

يخبرنا الدكتور حازم العبيدي في رسالته المنشورة تحت عنوان “الكاشف التعبدي, أو كيف تعرف ما في قلوب الناس” أن الكاشف التعبدي هذا هو أداة تحتوي على نوعين من العلامات يستطيع الواحد منا إذا التفت إليها أن يقيِّم المسلمين ويميِّز المؤمنين منهم من غير المؤمنين.  يشتمل النوع الأول على ما يسميه سيادته “العلامات القرآنية”.  يشتمل النوع الثاني على ما يسميه “العلامات الوضعية”.  دعنا نبدأ بالنوع الثاني أولاً.    

 

العلامات الوضعية

يخبرنا الدكتور حازم أن المقصود بمصطلح “علامات الإيمان الوضعية” هي تلك العلامات التي جاءت في الكتب البشرية.    تنقسم هذه العلامات, بدورها, إلى صنفين.  صنف لا يوجد له أي أثر في القرآن الكريم, وصنف لا يذكر القرآن أن له علاقة بالإيمان.   دعنا نبدأ بالعلامات التي لا يوجد لها أثر في القرآن الكريم أولاً.

أ‌.        العلامات التي لا يوجد لها أثر في القرآن الكريم

يخبرنا الدكتور حازم هنا أن هناك كتب بشرية تضع اللحية, والسواك, وتقصير الثوب, والاكتحال من علامات الإيمان.  يبيِّن لنا سيادته, على أية حال, أنه لا يوجد أثر لهذه العلامات في القرآن الكريم.  حقيقة الأمر, “يؤكد” لنا سيادته أنه لا “الثوب القصير, ولا السواك, ولا إطالة اللحية, ولا التطيب بالعود, ولا الاكتحال, يعتبر من علامات الإيمان التي يذكرها ربّ العِزّة في كتابه الكريم.”   يضيف سيادته, على أية حال, أنه على الرغم من أن هذا العلامات لا تعتبر من علامات الإيمان التي يذكرها رب العزة في كتابه الكريم, فإن على المؤمن “أن يراعي العُرف, ولا يلبس, أو يأكل, أو يتزيّن بأشياء معيبة تتناقض مع العُرف”.  

ب‌.   العلامات التي لا يذكر القرآن أن لها علاقة بالإيمان

يخبرنا الدكتور حازم هنا بأن “بعض الكتب البشرية والتي يلتزم بها فرقة كبيرة من المؤمنين تضع خمسة علامات للإيمان (والقرآن لا يذكر أي من هذه العلامات الخمسة على أنّ لها علاقة بالإيمآن), وهذه العلامات هي:

  1. الجهر باسم الله الرحمن الرحيم, والمقصود الجهر في الصلاة عند قراءة سور القرآن, و

  2. تعفير الجبين, وربما ترون كثيرًا من أصحاب الجِباه السود بسبب ضغطهم أثناء السجود, و

  3. زيارة الأربعين, وتعني زيارة مرقد الإمام الحسين بن علي (حفيد النبي محمد (ص))     والموجود في كربلاء في اليوم الأربعين بعد استشهاده, و

  4. التختم باليمين, يعني وضع الخاتم في أحد أصابع اليد اليمنى (غالبًأ في إصبع البُنصُر) تمثلاً كما يقولون بالإمام علي بن أبي طالب عندما تصدّق بخاتمه (أعطى الزكاة) وهو أثناء الركوع كما في سورة المائدة “إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴿٥٥﴾”, و

  5. صلاة واحد وخمسين, وتعني 17 ركعة الصلوات اليومية الواجبة مضافًا إليها 34 ركعة عدد ركعات النوافل اليومية.”  انتهى الاقتباس 

 

تنقسم علامات الإيمان, إذن, إلى صنفين.  صنف يشتمل على ما يسميه سيادته “العلامات القرآنية” وصنف يشتمل على ما يسميه “العلامات الوضعية”.   تنقسم العلامات الوضعية بدورها قسمين.  قسم لا يوجد له أي أثر في القرآن الكريم, وقسم لا يذكر القرآن أن له علاقة بالإيمان.    يضم القسم الأول علامات مثل الثوب القصير, والسواك, وإطالة اللحية, والتطيب بالعود, والاكتحال.  يخبرنا الدكتور حازم أن هذه علامات لا تعتبر من علامات الإيمان التي يذكرها ربّ العِزّة.  يضم القسم الثاني علامات مثل الجهر باسم الله الرحمن الرحيم, وتعفير الجبين, وزيارة الأربعين, والتختم باليمين, وصلاة واحد وخمسين.  يخبرنا الدكتور حازم أن هذه علامات “لا يذكر القرآن أن أيًا منها له علاقة بالإيمان”.   هذه هي علامات الإيمان الوضعية التي إذا اتبعناها عرفنا الطريق إلى تقييم المسلمين وتمييز المؤمنين منهم من غير المؤمنين.

 

علامات الإيمان القرآنيّة

يبيِّن لنا الدكتور حازم العبيدي أن علامات الإيمان القرآنية هي علامات من وضع رب العالمين وهي علامات كثيرة جدًا ومتناثرة في القرآن الكريم.    يقدم الدكتور حازم ستًا من هذه العلامات كمثال لما يقصده.  هذه العلامات القرآنية الست هي:

  1. *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ *

  2. *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*  آل عمران: ٢٠٠

  3. *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ* الصف

  4. *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ*   البقرة: ١٧٢

  5. *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ*   ١٨٣  

  6. *يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * 278

 

يخبرنا الدكتور حازم أن هذه العلامات ليست هي العلامات الوحيدة التي جاءت في القرآن الكريم وإنما “هكذا هناك مئات الآيات التي تتحدث عن الذين آمنوا وكذلك المؤمنين, وآيات اُخرى ليس فيها تصريح “يا أيها الذين آمنوا” وفي هذه الآيات علامات ظاهرية ينصحنا ويأمرنا بها رب العالمين جلّ وعلا.

لا يكتفي الدكتور حازم بإيراد هذه العلامات وحسب, وإنما يبين لنا معناها.  يخبرنا سيادته مثلاً, في حالة العلامة الأولى بأن هناك أمرًا للمؤمنين أن ينفقوا مما رزقهم الله.  كما يبيِّن في حالة العلامة الثانية, أن هناك أمرًا بالصبر وأن مخالفة ذلك تعني قلة في درجات الإيمان.  كما يبيِّن في العلامة الثالثة أن هناك إرشاد للذين آمنوا أنْ لا يتناقض قولهم مع فعله, وإنْ تناقضا فإنّ الله يمقته مقتًا كبيرا.   أما في حالة العلامة الرابعة, فيبيِّن بالتفصيل أنواع الطيبات التي سمح الله جل ثناؤه لنا بأكلها, كما يبين ضرورة إعطاء قسم مما نأكل للجياع.  يقول الدكتور حازم إننا:

“لو أكلنا من غير الطيبات أو من الخبائث كالميتة, أو الخنزير, أو غير المُذكّى, وكذلك إذا لم نؤدّي حق نعمة الطيبات بأنْ مثلاً لم نعطِ قسمًا من الأكل للجياع (يعني لم نشكر الله) عندئذٍ نكون قد خالفنا أمر ربنا الموجّه للذين آمنوا, فلا ينسجم هذا العمل الظاهري مع إيماننا القلبي, وهو مخالفة ومعصيّة لرب السماوات والأرض.” انتهى   أما في حالة العلامة الخامسة, فيبيِّن الدكتور حازم أن “الذي يعصى الأمر الإلهي بالصيام بدون عذر شرعي يكون قد عصى جبار السماوات والأرض وهذا يخدش بإيمان الشخص ودرجته”.   

 

علامات الإيمان القرآنية, بهذا الشكل, هي علامات يصل عددها إلى المئات وضعها رب العالمين لمساعدتنا على تقييم المسلمين وتمييز المؤمنين منهم من غير المؤمنين.   قدم لنا الدكتور حازم ستًا من هذه العلامات وبيَّن لنا معناها وما تدل عليه.  فالأولى هي أمر بالإنفاق, والثانية أمر بالصبر, والثالثة أمر بتوافق القول مع العمل, والرابعة أمر بأكل الطيبات وإطعام الجياع, والخامسة أمر بالصيام, والسادسة أمر بتجنب الربا. 

 

الكاشف التعبدي, إذن, هو تلك الأداة التي تحتوي على صنفين من العلامات يستطيع الواحد منا إذا التفت إليهما أن يقيِّم المسلمين ويميِّز المؤمنين منهم من غير المؤمنين.  يشتمل الصنف الأول على تلك العلامات التي جاءتنا في كتاب الله لمساعدتنا على تقييم المسلمين وتمييز المؤمنين منهم من غير المؤمنين.   يشتمل الصنف الثاني على تلك العلامات التي جاءتنا في كتب بشرية لمساعدتنا على تحقيق نفس الغرض.  أي لمساعدتنا على تمييز المؤمنين الحقيقيين من أولئك الذين يدعون الإيمان بينما هم في حقيقة الأمر “شيء آخر”. 

 

فكرة أن يقوم بعض البشر بتأليف كتب يخبروننا فيها أن من علامات الإيمان:

  1. الجهر باسم الله الرحمن الرحيم, و

  2. تعفير الجبين, و

  3. زيارة الأربعين, و

  4. التختم باليمين,

  5. وصلاة واحد وخمسين. 

فكرة مقبولة.  نحن نتحدث, في نهاية الأمر, عن الموروث الشعبي لثقافة بدائية ومن الطبيعي للغاية أن تصدر مثل هذه التأليفات عن مثل هذه الثقافات.  الثقافة العربية القديمة ليست بدعًا بين الثقافات.  تبين دراسة الثقافات البدائية عبر الكرة الأرضية تماثل تفكير جميع الثقافات البدائية.

 

فكرة أن يقوم بعض الناس أيضًا بتأليف كتب يبينون فيها أن من علامات الإيمان إطالة اللحية, وتقصير الثوب, والتطيب بالعود, والاكتحال, والاختضاب, والاستياك هي أيضًا فكرة مقبولة.  مرة أخرى نحن نتحدث عن “المنتج الثقافي” لثقافة بدائية.  حقيقة الأمر, صدرت في القرن الماضي كتب يؤكد مؤلفوها أن الساعات التي تبين الوقت هي من عمل الشيطان ( راجع كتاب “الساعة, سحر هي أم صناعة؟”).  راجع أيضًا السجال الطويل الذي دار في مصر في أوائل القرن الماضي حول لبس “الحذاء الأسود”.  مرة أخرى, كان هناك من يؤكد أن لبس الحذاء الأسود من عمل الشيطان.  من المفيد أيضًا مراجعة الأزمة التي تسبب فيها الشيخ محمد عبده شيخ الأزهر عندما قرر إدخال “المياه الجارية” في ميضة الأزهر.  كانت مصيبة. 

 

فكرة التأليفات البشرية في الثقافات البدائية فكرة مفهومة ومقبولة.  هذا هو تفكير الثقافات البدائية عبر الكرة الآرضية.  نحن لسنا بدعًا بين الأمم.  أن يقوم بعض الناس بتأليف كتب تحدثنا عن “علامات الإيمان” أمر عادي.  الأمر غير العادي هو ما يخبرنا به الدكتور حازم العبيدي من أن الله جل ثناؤه قد أنزل لنا في كتابه آيات يحدثنا فيها خالق الكون عن العلامات التي تمكننا من تقييم المسلمين وتمييز المؤمنين منهم من غير المؤمنين.    لم تكن الفكرة فاسدة وحسب وإنما كانت “بينة الفساد لا يحتاج فسادها إلى بيان”.  حاشا لله أن يكشف لنا الله عما لا يعلمه إلا هو.  من أين لنا بعلم علام الغيوب؟   إلا أنه كان عليّ أن “أفهم” من أين أتى الدكتور حازم العبيدي بفكرة العلامات التي أنزلها الله من أجل مساعدتنا على تقييم المسلمين وتمييز المؤمنين منهم من غير المؤمنين.  أين قال الله هذا الكلام؟   كان واضحًا تماما أن الله لم يقل هذا الكلام.  حقًا, قال بعض الناس إن إطالة اللحية هي من علامات الإيمان, إلا أن الله لم يقل إن الإنفاق من علامات الإيمان, أو أن أكل الطيبات من علامات الإيمان.

 

الإيمان هو الإيمان بالله, وبأن محمدًا رسول الله, وبأن القرآن كلام الله.  البخل لا يعني أن البخلاء لا يؤمنون بالله, ولا بأن محمدًا رسول الله, ولا بأن القرآن كلام الله.  البخل لا يعني الكفر.  عدم أكل الطيبات لا يعني عدم الإيمان بالله, ولا بأن محمدًا رسول الله, ولا بأن القرآن كتاب الله.  عدم أكل الطيبات لا يعني الكفر. 

الإنفاق, والصبر, وتوافق القول مع العمل, وأكل الطيبات وإطعام الجياع, والصيام, وتجنب الربا ليست “علامات” وإنما أوامر.  عدم طاعة هذه الأوامر ليس “كفرًا” وإنما هو “عصيان”.  وما أبعد الفرق بين الكفر والعصيان.  عندما لا يطيع الأبناء أوامر والدهم فهم لا يعلنون أنه ليس والدهم وأنهم ليسوا أبناءه وإنما يعلنون عصيانهم لأوامره.  وما أبعد الفرق بين أن يعلن الأولاد أن والدهم ليس والدهم وأنهم ليسوا أبناءه وإنما هم أبناء رجل آخر أو أن أمهم حملت بهم كما حملت مريم عليها السلام بعيسى عليه السلام.  

 

الفرق هائل بين أن تعصى الله وبين أن تكفر بالله.  القول بأن عصيان البشر لأوامر الله هو كفر بالله هو قول غير مقبول.  أين قال الله هذا الكلام؟  ما يخبرنا به الدكتور حازم العبيدي هو قول لم يقله الله.  ما يخبرنا به الدكتور حازم العبيدي هو “ما فهمه” الدكتور حازم العبيدي من كلام الله.  هناك فرق بين ما فهمه الدكتور حازم العبيدي وبين ما قاله الله.  لا يحق للدكتور حازم العبيدي أن يقدم لنا فهمه لكلام الله على أنه كلام الله.  هذا فهم الدكتور حازم العبيدي لكلام الله وهو فهم خاطيء.  عندما نرد كلام الدكتور حازم العبيدي فإننا لا نرد كلام الله وإنما نرد كلام حازم العبيدي.   تخيل المصيبة لو كان الدكتور حازم العبيدي يتخيل أن كلام حازم العبيدي ليس كلام حازم العبيدي وإنما كلام الله.

 

هل المسألة واضحة؟  حقيقة الأمر, أفكر أن المسألة واضحة.  فكرة أن هناك علامات أنزلها الله في كتابه الكريم لمساعدة المؤمنين منا على التعرف على غير المؤمنين منا فكرة فاسدة بينة الفساد لا يحتاج فسادها إلى تبيان.    ومع ذلك, ظل السؤال يدور في ذهني.  أتفق معك في أن فكرة الدكتور حازم العبيدي فكرة خاطئة, إلا أن السؤال الآن هو من أين جاء بها.  من أين جاء الدكتور حازم العبيدي بفكرة أن هناك علامات في القرآن الكريم لتساعد المؤمنين من المسلمين على التعرف على غير المؤمنين من المسلمين؟  من أين جاء بهذه الفكرة العجيبة؟  وفجأة – هذا ما حدث فعلاً – أضاءت أسطر كتبها الدكتور حازم في ذهني وعرفت من أين جاءته الفكرة.

 

حدثنا الدكتور حازم في معرض حديثه عن العلامات القرآنية أن المسألة ليست قاصرة على العلامات الست التي أوردها وإنما هناك المئات من هذه العلامات تتناثر في القرآن الكريم.  يستطيع المؤمنون أن يتعرفوا على هذه العلامات من تلك الآيات التي يخاطب فيها خالق الكون المؤمنين.  تبدأ هذه الآيات بقوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا”.  يبيِّن الدكتور حازم, على أية حال, أن العلامات ليست مقصورة على الآيات التي تبدأ بـ”يا أيها الذين آمنوا”, وإنما هناك آيات أخرى يخاطب الله فيها المؤمنين وإن لم تبدأ بـ”يا أيها الذين آمنوا”.  هذه هي العلامات, وهذا هو مفتاح اللغز.

 

يتخيل الدكتور حازم, إذن, أن الآيات التي يخاطب فيها الله سبحانه وتعالى المؤمنين هي العلامات.  وهنا تبدأ المشاكل.

أولاً, عدم طاعة “المؤمنين” – رجاء تذكر أن الله هنا لا يخاطب الكفار وإنما المؤمنين – لخطاب الله لهم لا يعني أنهم “كفرة” وإنما أنهم “عصاة”.  مرة أخرى, شتان ما بين الكفر والمعصية.

ثانيًا, فكرة أن المؤمنين مطالبون – فقط – بطاعة الأوامر التي أتت في آيات بعينها هي فكرة خاطئة.  المؤمنون مطالبون بطاعة كل ما أمرهم الله به في كتابه الكريم.

ثالثًا, فكرة أن الله أنزل كتابه الكريم لكي يستخدمه المؤمنون للتعرف على غير المؤمنين فكرة خاطئة.  أين قال الله هذا الكلام؟  أنزل الله كتابه الكريم لكي نتبعه لا لكي نستخدمه في التعرف على غير المؤمنين.     هل هناك من هو أعرف بالكتاب الكريم من الرسول الكريم؟  حتى رسول الله لم يكن يعرف المنافقين.  هل كان رسول الله “يمحص” المسلمين ليميِّز المؤمنين منهم من غير المؤمنين؟

 

فكرة الكاشف التعبدي العجيب, بهذا الشكل, هي فكرة وهمية.  موضوع أن هناك “علامات قرآنية” أنزلها الله تعالى في كتابه الكريم من أجل مساعدة المسلمين على تمحيص المسلمين فكرة خاطئة, وخطيرة, ووهمية.  أين قال الله هذا الكلام؟  أنظر أعلاه.  أما موضوع أن هناك شيء اسمه “العلامات الموضوعية” فهو, والحق يقال, ليس فقط فكرة وهمية, وإنما فكرة كوميدية, والأسوء من ذلك أنها فكرة خطأ وخاطئة.  نحن لا نتحدث هنا عن الخطأ فقط, وإنما عن الخطيئة كذلك.  دعني أتحدث عن الخطأ فقط.

حدثنا الدكتور حازم عما يسميه “العلامات الموضوعية”.  أخبرنا سيادته أنها من تأليف البشر ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بكتاب الله.  أي لا علاقة لها أصلاً بدين الله.  المذهل في الأمر أنه يخبرنا بعد ذلك بأن على المؤمن “أن يراعي العُرف, ولا يلبس, أو يأكل, أو يتزيّن بأشياء معيبة تتناقض مع العُرف”.   وتخيل المهزلة.

 

من الضروري أن أؤكد هنا أني لن آخذ هذا الكلام على محمل الجد.   نحن أمام كلام لا يمكن أخذه على محمل الجد, وعليه سآخذه على محمل أنه “أي كلام”.  تخيل فكرة أن على المؤمن ألا يلبس أو يأكل أشياء تتناقض مع العرف.  وتخيل مصيبة أن الله يأمر بأن نتبع العرف.  وتخيل أن اتباع العرف هو “العلامة” على الإيمان بالله.    بل وتخيل أن الله يأمر باتباع العرف.

 

تخيل.  فقط تخيل أن أكل الفطير المشلتت في المنوفية من الإيمان تمامًا مثلما أن أكل الكسكس في إجدابيا من الإيمان.  (العرف في إجدابيا الجميلة هو أكل الكسكس يوم الجمعة.  عشت في إجدابيا وتعلمت أكل الكسكس.  يمكن للقاريء أن يطمئن إلى أن كل بيت في إجدابيا يأكل الكسكس بعد صلاة الجمعة).   ثم تخيل أن لبس الجلابية في المنوفية من الإيمان تمامًا مثلما أن لبس العباية في إجدابيا من الإيمان.  (العرف في إجدابيا هو ارتداء الملابس الأوربية خلال ساعات العمل الرسمية وارتداء العباية باقي اليوم.  عشت في إجدابيا وتعلمت لبس العبايات الليبية رائعة الجمال وتوجد لدي مجموعة كاملة منها).   أحب أكل الكسكس وأحب لبس العباية.  لا مشكلة في ذلك على الإطلاق.  إلا أنه يبقى أن حب الكسكس شيء والقول بأن أكل الكسكس يوم الجمعة في إجدابيا هو من علامات الإيمان شيء آخر.  الكسكس حلو إلا أنه ليس من علامات الإيمان. 

 

يمكن طبعًا استمرار التهكم حتى يصيح الديك, إلا أن ذلك ليس أمرًا مطلوبا.  كل المطلوب هو بيان أن موضوع “علامات الإيمان” هذا هو موضوع هزلي.  وهذا ما تم بيانه.  ويبقى هناك سؤال أخير.  كيف وقع الدكتور حازم العبيدي في قصة الكاشف التعبدي العجيب هذا؟   والإجابة حاضرة.

 

عند حديثه عن الكاشف التعبدي العجيب, لا يخبرنا الدكتور حازم العبيدي عما توصل إليه سيادته وإنما عما “سمعه”. لم يحدث أن فكر الدكتور حازم العبيدي في موضوع الإيمان وأعمل فكره, ودرس الموضوع من أكثر من جانب, وكتب فيه, وتحدث  مع الناس عنه, واستمع إلى آرائهم فيه, وإنما “نقله”.  الدكتور حازم العبيدي – مثله في ذلك مثل مئات الملايين منا, ومثله في ذلك مثلي من سنوات قلائل – مجرد “ناقل”.   قرأ سيادته هذه القصة اللذيذة عن هذا الكاشف العجيب ونقلها إلينا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.  وكما نعلم جميعا فناقل الكفر ليس بكافر.

 

ويبقى سؤال أخير.  ما الفرق بين الدكتور حازم العبيدي وبيني؟  ومرة أخرى, فالسؤال سهل والإجابة حاضرة.  أنا أعبر – حرفيًا – عن وجهة نظري, وأعلم أني أعبر عن وجهة نظري, وأعلم, طبعًا, أني بشر, وأن من طبيعة البشر أن تخطيء, وأن موضوع أني “أصبت كبد الحقيقة” موضوع هزلي.  وعليه فأنا دوما أنتظر أن يكشف الناس لي عن خطأ ما ذهبت إليه, ويقدموا لي الدليل على خطئي, فأتفحصه فإذا وجدت صوابه صار ملكي, وأمسكت بتصوري القديم وألقيت به في أقرب صفيحة زبالة.  وهذا شيء لا يستطيع أن يفعله الدكتور حازم العبيدي, فالدكتور حازم العبيدي لا يحدثنا عما “يفهمه”  وإنما عما “سمعه” إذ هو مجرد ناقل.  هذا هو السبب في أني أشعر بالشكر لكل من بيِّن لي خطئي.  هذا هو السبب في حبي لفضيلة الشيخ الطحاينة, فالرجل بين لي خطئي أكثر من مرة, وسأبقى له دومًا من الشاكرين.  المشكلة في حالة الدكتور حازم العبيدي هي أنه لا يحتمل النقد لأنه يتخيل أن ما “نقله” هو الحق الذي لا يأتيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه.  الدكتور حازم العبيدي يتخيل أن تلك الأشياء العجيبة التي يحدثنا عنها هي أشياء حقيقية.  المسألة, باختصار مخل, أن الدكتور حازم العبيدي وقع ضحية نصابي الفقه القديم مثله في ذلك مثل عشرات الملايين من المصريين الذين وقعوا ضحايا جهاز الكفتة الذي اخترعه الجيش المصري العظيم.  هذا نصب وهذا نصب.  هنا ضحايا وهناك ضحايا.    الدكتور حازم العبيدي مجرد ضحية لعملية نصب. 

 

هل انتهى الموضوع؟  للحق لا, فهناك أسئلة أخرى مثل كيف حدث هذا؟  كيف قام القائمون على أمر الفقه القديم بهذه العملية؟  وهل يمكن النظر إلى ما قاموا به على أنه عملية نصب فعلاً.  العجيب في الموضوع أن علم النفس الإدراكي يبين لنا أنه لم يكن هناك نصب ولا يحزنون.  الأخ اللواء الطبيب وإخوانه في الجيش المصري العظيم هم النصابون لأنهم يعلمون ما يفعلون.  في حالة الفقه القديم المسألة مختلفة.  لم يكن قدماء الفقهاء “يدركون” ما يفعلون.  في المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك كما حددها بياجيه يخلط البشر بين الحقيقة والخيال.  هذا ما حدث, إلا أن هذه قصة أخرى أدعو الله أن يوفقني يومًا إلى كتابتها.  

 

ويتبقى التوكيد على استعدادي لإلقاء كل كلمة في هذا المقال في أقرب صفيحة زبالة بمجرد بيان خطئها.    أنا لست معصومًا ولا يأتيني الوحي, ولا أتحدث إلا عما أعرف وما أعرف إلا القليل.  تلزم الإشارة كذلك إلى أن فكرة “علامات الإيمان” هذه هي فكرة هزلية لا يمكن أخذها على محمل الجد.   اللهم إنك أنت علام الغيوب.

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.