الإنسان خلق متطور يبقى إنسانا إلى الأبد

تصحيح أخطائنا التراثية

الإنسان خلق متطور يبقى إنسانا إلى الأبد

أكتب هذا الموجز موضحا اشتباه بعض المفسرين الكرام في فهم موضوع قرآني مرتبط بالذين خالفوا قانونا وضعه الله تعالى لفرض عطلة أسبوعية لكل الناس. قالوا بأن بعض بني إسرائيل مسخوا قردة وخنازير.

المسخ في اللغة:

لنبدأ بفهم معنى المسخ لغويا. المسخ في اللغة تعني تغيير صورة الشيء إلى صورة أقبح. ثم ننظر إلى آراء قدماء اللغويين في معنى آية جعلهم قردة. قال الراغب في المفردات: قال بعض الحكماء: المسخ ضربان: مسخ خاص يحصل في الفينة بعد الفينة وهو مسخ الخَلق، ومسخ قد يحصل في كل زمان وهو مسخ الخُلُق، وذلك أن يصير الإنسان متخلقا بخلق ذميم من أخلاق بعض الحيوانات. نحو أن يصير في شدة الحرص كالكلب، وفي الشره كالخنزير، وفي الغمارة كالثور، قال: وعلى هذا أحد الوجهين في قوله تعالى: {وجعل منهم القردة والخنازير} [المائدة/60].   انتهى النقل.

والآن لندرس إمكانية مسخ الإنسان حيوانا. هناك الكثير من قليلي العلم في الكرة الأرضية في مختلف الأماكن والأزمنة القديمة والحديثة ومن معتنقي الأديان السماوية والبشرية يظنون بأن هناك إمكانية خلق أي شيء أو تحويل أي كائن إلى كائن آخر بمجرد وجود أو تحقق إرادة قوية حتى من غير الله تعالى. لكن العقل البشري لو استعملته استعمالا حسنا فسوف يرفض ذلك. ذلك أمر مستحيل لأن أي شيء له وجود خارجي مثل ما نراه بعيوننا من الكائنات ذوات الأبعاد الثلاثة بما فيها الفضاء فهي عبارة عن تفاعل كائنات صغيرة مع بعضها البعض ضمن فترات زمنية لا مناص منها ليتحقق ويتحصل شيء يُشار إليه.

هذا ما نراه بعيوننا ولا يحتاج إلى دليل باعتبار الوجدان. والذي يقول بأن هناك إمكانية خلق أو تغيير الأشياء دون الزمان ودون التفاعلات فهو ادعاء يجب أن يُشفع بالبينة. بمعنى أن من يدعي ذلك عليه أن يأتينا بدليل وليس من يرفض ذلك. وهذه المقالة ليست للبحث حول الخلق ولكنها للبحث حول التغيير أو التحويل. ادعاء جمع كبير من المفسرين بأن هناك بشراً من بني إسرائيل تحولوا إلى حيوانات من القردة ومن الخنازير باعتبار آية قرآنية لم يدركوا عمق معناها يعني بأن الله تعالى يقوم بإعادة الخلق إلى الوراء. هذا الكائن البشري كان دودة صغيرة ارتبطت ببويضة مماثله لها في التكوين ولكنها بلا حراك فصنع الله تعالى منهما إنسانا بهيا جميلا بعد أن تفاعلا مع بعض تفاعلات جينية معروفة.

كما نرى وجدانا بأن كل شيء يتطور ويتقدم إلى الأفضل وليس هناك شيء يعود إلى الوراء ما دام ذلك الشيء تحت قيادة ربها. لولا التحول الدائم إلى الأعلى لما كانت الطبيعة بشكلها البديع الحالي.

كل التراجعات التي نراها فهي بسبب الأخطاء البشرية أو الأخطاء التي لا مناص منها في سير الطبيعة وليست بإرادة الله تعالى وحده الجازمة. قال تعالى في سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7). فهو سبحانه يحول تركيبة طينية بسيطة إلى كائنات أطيب وأحسن لتصير إنسانا مثلا بعد مجموعة غير قليلة من الطفرات الجينية لتتغير جوهر الشيء على مر الزمن إلى الأفضل والأحسن. وقد سمى المرحوم صدر الدين الشيرازي تلك الحركة بالحركة الجوهرية. فكيف نقبل بأن يقوم الله تعالى نفسه إلى تبديل خلق إنسان ليعود إلى الوراء فيصير حيوانا مثل القرد أو الخنزير؟ فلنقرأ الآيات بتعمق أكبر لنرى هل يقول الله تعالى فعلا بأنه أعاد خلق بعض بني إسرائيل إلى الوراء.

1.

قال تعالى في سورة البقرة: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (66). الحكاية باختصار هي أن الله تعالى أراد أن يعلم البشرية بضرورة اتخاذ يوم واحد من أيام الأسبوع عطلة رسمية يرتاح فيها الناس. هذه العطلة الأسبوعية ضرورية ليفكر فيها الناس تفكيرا جمعيا فيعبدوا الله تعالى فيها بعلم ودراية وهو سر الخلق كله في الواقع. فالله تعالى خلق الكون ليخلق منها بشرا في مختلف كواكب الكون المهيب ليفكروا ويعبدوا الله تعالى بعلم واختيار لأنه سبحانه يستحق ذلك. وكل المدركين غير المختارين مثل الملائكة بأنواعها فهم لا يعبدون الله تعالى بل يسبحونه لأن العبادة تعني التسبيح الاختياري، لكنهم لو منحوا الاختيار مثلنا لعبدوا الله سبحانه. وقد عين الله تعالى السبت عطلة لليهود والجمعة عطلة للمسلمين؛ كما أظن أيضا بأنه سبحانه هو الذي عين الأحد عطلة رسمية للنصارى. ونعلم كل العلم بأن الإنسان يحتاج إلى الراحة والتواصل مع غيره ليمارس عملية التفكير الصحيح. ولعل السر في جعل العطل الأسبوعية مختلفة بين الأديان الثلاثة هو لئلا تتعطل الأعمال كلية يوما أسبوعيا وليستفيد كل معتنقي الأديان السماوية الثلاث من نفس التسهيلات الموجودة في ثلاثة أيام حتى لا يحتاجوا إلى تكثير المباني. فبناء واحد يصلي فيه المسلمون في الجمعة واليهود في السبت والمسيحيون في الأحد.

2.

وقال سبحانه في سورة المائدة: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60). هل هناك مثوبة للقردة والخنازير عند الله تعالى وهل تنتقل الحيوانات إلى ربها أو تُبعث يوم الحساب؟ هل يمكن أن نقول للقرد شر مكانا أو أنه ضال عن السبيل؟ ثم ما معنى أولئك شر مكانا؟ شر من أي شيء مكانا؟ أليس معناها بأنهم شر مكانا من القردة والخنازير؟ فهم لم يتحولوا خلقيا إلى قردة وخنازير ولكن لأنهم شر مكانا من القردة والخنازير فإن الله تعالى جعلهم قردة وخنازير بشريين. بمعنى أنهم بقوا بشرا يحملون صفات القردة والخنازير.

3.

وقال تعالى في سورة الأعراف مفصِّلا كامل الحكاية: واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167). ومما لاريب فيه بأن الذين قال لهم الله تعالى كونوا قردة خاسئين فهم مشمولون بالآية الأخيرة أعلاه. كيف يعاقب الله تعالى أقواما مسخوا إلى حيوانات؟ وهل يجوز استعمال ضمير “هم” لغير المدركين في اللغة العربية (عليهم، يسومهم)؟ أرجو ملاحظة أنه سبحانه يشير إليهم بعد أن جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.  

إذن ما قاله بعض المفسرين هراء باطل. والحق مع الذين قالوا بأن الله تعالى تركهم ليحملوا صفات القردة والخنازير. فما قاله الراغب وهو لغوي ومفسر في نفس الوقت؛ فهو كلام صحيح يمكن الاعتداد به.

نحن نرى اليوم بأن الكثير من بني إسرائيل يديرون الملاهي بأبشع أنواعها مثل ملاهي العراة كما أنهم يديرون الكثير من الحانات والبارات ومراكز الفاحشة في الأرض. إن أولئك بطبيعة عملهم لا يهتمون بالعطلة الأسبوعية بل هم يعملون في العطل أكثر من عملهم في أيام العمل. القردة والخنازير لا يهتمون بالتعامل الصحيح مع الجنس الآخر ومع تخصيص واحدة لكل واحد منهم كما هو الحال مع الأسود والفيلة وبعض الطيور. فالقردة والخنازير يمارسون الجنس بأقبح أشكاله: الذكور مع الإناث دون اهتمام بالتخصيص وكذلك الذكور مع الذكور وبعضها تمارس الجنس مع المماثلات لها.

ولمزيد من العلم أدعوكم لقراءة سورة القيامة والإمعان فيها قليلا بما عندكم من معلومات لتطمئنوا بأن الذي يُحشر من الكائنات التي نراها في الأرض هو الإنسان وحده دون غيره من الحيوانات. ليس هناك قرد ولا خنزير يُحشر للحساب. والأناسي جميعا يُحشرون ليواجهوا مصيرهم الأبدي العادل والمناسب لشخصياتهم. يتمنى المجرمون أن يُمسخوا قردة أو خنازير أو فئران حتى لا يُحشروا أمام ربهم وحتى لا يواجهوا القضاء السماوي بالقسط. بل يتمنون أن يكونوا ترابا لم يتطور إلى إنسان. قال تعالى في سورة النبأ: إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40).

وأما الذين ادعوا بأن هناك جنسا من بني إسرائيل تحولوا إلى فئران فهو ادعاء غير مشفوع بآية قرآنية فهو في واقعه هراء باطل. ولا يمكننا قبول الخبر واعتباره حقيقة لأن الكذابين نسبوا ما قالوا إلى الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام. كل إنسان يمكن أن يفعل ذلك فأنى لنا التأكد من النقل الصحيح؟

الذين كتبوا كتب الحديث هم بأنفسهم قالوا بأن غالبية الأحاديث كاذبة. هناك نزر يسير منها في حدود 1% تقريبا مقبولة لدى نفس أصحاب كتب الحديث. هذا هو حد فهمهم فنحن إذ نظن بأنهم نقلوا الحقيقة فنحن قد نجهل بأنهم نقلوا ما اعتبروه صحيحا حسب فهمهم وليس باعتبار النقل الصحيح عن رسول الله عليه السلام. معنى ذلك بأننا نفقد آلية دقيقة لنقل كلام الرسول الأمين خلال مدة زمنية طويلة حتى زماننا الفعلي الذي نعيشه. وأما القرآن الكريم فنحن نؤمن به وليس هناك أي ارتباط بين إيماننا بصحة القرآن وبين النقل الصحيح عن رسول الله عليه السلام. ولذلك لن تجد مسلما يقوم بتصحيح القرآن لكن سلفنا رحمهم الله تعالى قاموا بتصحيح الأحاديث ولا زالوا يفعلون. ذلك لأن كل الأحاديث حتى الصحاح منها مشكوكة وستبقى مشكوكة إلى يوم القيامة لأنها تمثل نمطا فكريا بشريا يمثل زمانا ومكانا معلومين ولا يمثل أية حقيقة. وبعض الأحاديث تتحدث عن أعراق بشرية بالمدح أو بالذم مثل العرب والكرد والفرس والترك والديلم وبني هاشم وبني العباس وغيرها. فهل الإسلام دين أراده الله تعالى الخالق لكل الناس أم أنه دين الأمم البشرية؟  

جذر المسخ في القرآن:

وجذر المسخ في القرآن لم يرد إلا مرة واحدة في سورة يس: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68). تتحدث الآيات الكريمة عن أحوال الذين خضعوا للشياطين واتبعوهم في الدنيا. في يوم القيامة تتوقف الأفواه عن الحديث. هو طبيعي لأن الحاضرين ليسوا جميعا أهل لغة واحدة كما أن هناك الجن والملائكة الذين لا يتحدثون باللسان لعدم وجود لسان فيزيائي لديهم. سوف تشهد الأعضاء بما عملوا باعتبار أن الله تعالى وعد في سورة ق أن يحتفظ بكل ما هو في الخلايا في كتاب حفيظ فلا يتلاشى مع تلاشي البدن. فالمعلومات الخلوية لكل الأعضاء محفوظة رقميا (Digital) احتمالا، كما أن الخلايا تحمل كل الصفات المكتسبة غير الوراثية أيضا كما نحتمل.

وأما قوله تعالى: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون؛ فإن الطمس لدى العرب تعني المسح الكامل بحيث تزول آثار الشيء. ولننظر إلى آية أخرى في سورة النساء لنعرف معنى الطمس في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47). نطمس وجوها فنردها على أدبارها لا تشير إلى حركة فيزيائية في البدن بل تشير إلى  إزالة أمر معنوي. فالوجه في القرآن تعني الكرامة أحيانا وطمس الكرامة تعني بأن الشخص المعروف بالكمال يفقد احترامه بين الناس بحيث ينظر إليه غيره وكأنه طفل أو مراهق لا يهتم بكرامته ووجاهته ويكتفي بما يتمتع به من لذائذ وقتية. هكذا يفقد كرامته واحترامه بين أقرانه ويُنظر إليه كطفل وهكذا يرده الله تعالى إلى أدباره. وأما اللعن فتعني توقيف الهدى ضده فيفعل ما يفعله المحرومون من الإنسانية ويضل في مسالك الحياة.

لو عرفنا معنى الطمس فإن فهم آية سورة يس يحتاج إلى أن ننظر إلى السورة الكريمة لنرى موقعها من القرآن ونستشعر رسالة السورة. إنها تبدأ هكذا: يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5). فالياء حرف تشير إلى اليقين بأن يستيقن المؤمن بأن القرآن تنزيل من الله تعالى والسين تشير إلى السمع والمقصود السمع النفسي وليس بالأذن. والسمع النفسي مقدمة للإدراك بل هو الإدراك بعينه. والآية الثانية تشير إلى حكمة القرآن. والقرآن الحكيم لا يمكن إدراكه إلا بأن يسير الطالب مع القرآن من ألفه إلى يائه. بمعنى أن يبدأ بدراسة أول سورة ثم ينتهي إلى آخر سورة من القرآن الكريم. هذا هو الصراط المستقيم في فهم القرآن وبه يمكن استشعار حكم القرآن الكريم.

فالآية 66 تشير إلى الصراط المذكور في بداية السورة وبأن الذي طمس الله تعالى على عينه المدركة فإنه سوف لا يسير في نفس صراط الكتاب الحكيم بل يتخذ لنفسه مسلكا آخر فسوف لا يفهم القرآن. على كل من يريد فهم القرآن ألا يقطعه لا بآياته ولا بسوره ولا بترتيبه الذي نراه اليوم في الكتاب الكريم. فيسير في خط القرآن ممعنا مفكرا من بداية القرآن ليصل إلى الآية التي يريد فهمها. لكنه لو يستبق ذلك الصراط فيسعى لفهم القرآن ولا سيما الآيات العلمية والكونية فيه دون السير الطبيعي مع الكتاب الحكيم فسوف لا يبصر ولا يدرك عمق المعاني الخفية في القرآن الكريم.

وأما الآية 67 المقصودة في هذه المقالة وهي: وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67). فهي تشير بأن الله تعالى قد يوقف الشخص على الحالة التي هو فيها فلا يمكنه أن يتقدم في السير العلمي مع القرآن ولا يرضى بأن يرجع إلى الوراء فيلاحظ الحركة التطورية التي سار عليها المحققون مع كتاب ربهم. هذه العملية سماها ربنا مسخا للشخص أي توقيفا له في مكانه وحالته التي هو عليها وغالبا ما تكون الحالة التي ورثها من سلفه. والمسخ هنا تماما بمعنى الرجس التي تعني توقف الحركة التطورية. لكن التوقف هنا يمثل توقفا على حالة وصفية والرجس تعني التوقف عن التطور العقلي والفكري والنجس تعني التوقف عن الحركة التطورية مع الآثار السلبية الكبرى مثل الحفاظ على العادات القديمة ولو كانت ضارة بالناس.

فعملية المسخ لا تصيب الحركة التطورية بل تصيب الشخص الذي يرى التطور ولكن لا يمكنه التفريق بين الماضي والحاضر. والعلم عند المولى عز اسمه.

كل الذين ينظرون إلى كتب السماء نظرتهم إلى علوم البشر الذين رافقوا الكتب أو أتوا بعدها بقليل فهم ممسوخون علميا. إنهم يعيشون التطور العام في الأرض ولكنهم يعتقدون بفهم غير مساير للتطور في كتب السماء. والكتب السماوية باعتبارها منزلة من الذي يعلم السر في السماوات والأرض جل جلاله فهي تنظر إلى الحقيقة نظرة صائبة ويحتاج معها الناس في كل زمان ومكان أن يستعملوا قدراتهم الإدراكية التي يتمتعون بها في زمانهم ومكانهم ليدركوا ما يمكنهم إدراكه من أعماق القرآن الكريم أو الإنجيل المنزل أو التوراة المنزلة. فهذا مسخ فكري لا علاقة له بمسخ خلقي كما ظن البعض. قال تعالى في سورة الأنعام: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154). فالله تعالى ينزل علم التوراة على الذي أحسن استعمال قدراته الفكرية وليس على الذي يمر على الكتاب العظيم وكأنه يقرأ الجرائد أو الكتب البشرية. هو الذي ينتبه إلى التفاصيل الموجودة في التوراة وهو الذي يهتدي ويتمتع برحمة الهدى الكاملة من ربه.

فالقرآن لا يتحدث عن المسخ الخلقي إطلاقا لأنه يخالف كرامة الله تعالى الذي يأبى إعادة خلقه إلى الوراء. والمسخ الفكري هو ما يسمح به الله تعالى أحيانا لينتقم من المجرم وليس عملا يقوم به الله تعالى مباشرة. إنه سبحانه لا يمكن أن يأتي بأي عمل سلبي بل كل أعماله إيجابية. إنه الخالق والبارئ والملك والقدوس والله وليس هو الضار والقاتل والمدمر كما يظن الجاهلون. إنه يأذن بالسلبيات حينما يرى عدم الاستحقاق لدى بعض عبيده الذين لم يحترموا شرف الانتساب إلى يده الخلاقة وروحه المانحة للإدراك. إنه يميتنا ليحيينا حياة أفضل وأسعد وأدوم من حياتنا الفعلية ويدمر الكون ليبني كونا أقوى وأمتن وأكثر قابلية للبقاء الأبدي. السلبيات من المدركين من خلقه مع الأسف وليس من القدوس العزيز جل جلاله.

استحالة تحويل الإنسان إلى قرد:

ولو ندرس الموضوع بعمق أكثر فنعلم بأن تحويل إنسان إلى قرد يحتاج إلى إزالة الكثير من المقومات الحيوانية الموجودة في حيازة الإنسان وتبديلها إلى مقومات غير إنسانية. السلاميات والقدرة على الانحناء النصفي أو الركوع والمشي على رجلين وتبديل جهاز هضمي تتقبل اللحم إلى آخر وتغيير الجلد كاملة وتقليص مقدار المخ وتغيير خلاياه ووو. ثم إن كل الخلايا يجب تغييرها كاملة لأن كروموزومات القرد غير متوافقة مع كروموزومات البشر ويعرف علماء هندسة الجينات بأن التغيير الجيني غير ممكن ولا سيما لو كان تغييرا كاملا.

ثم نأتي إلى النفس الإنسانية الموجودة لدى الإنسان والمسيطرة على كل البدن. هذه النفس تبتعد عن البدن فور الموت وتغيير البدن الإنساني إلى بدن آخر هو أشد من الموت فإن النفس لا محالة تفارق البدن ويموت البدن فورا. هذه النفس تفارق الإنسان حتى عند النوم بنص القرآن الكريم فكيف نتصور بقاءها داخل بدن قرد؟

والروح وهو قوة إلهية موجودة في كل الخلايا والروح هو الذي يصنع النفس الإنسانية. لولا وجود الروح الإلهية داخل الكيان الإنساني لما أمكن التكاثر البشري. بمعنى أن البشر كانوا يتكاثرون كالحيوانات دون أن ينجبوا بشرا مثلهم. كيف نتصور روح الله تعالى داخل خلايا قرد أو خنزير. هل فكر الذين افتروا على الله تعالى تلك الفرية الكبرى في الآية التالية:

قال تعالى في سورة الإسراء: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70). أنى للقرد والخنزير أن تقود السيارة أو تبحر الباخرة أو تطير الطائرة في جو السماء؟ أنى للقرد أن تكون ابنا لآدم؟ أليس ذلك تذليلا لآدم وأولاده؟ نحن البشر إخوان فكيف نتصور القردة والخنازير إخوانا لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام؟ كنت أتألم حينما كنت أقرأ توصيف المفسرين لطعام أهل النار وأقول في نفسي هل هذا الطعام بهذا الشكل يتناسب مع القدوس العزيز جلاله؟ وتبديل الإنسان المكرم قردا أو خنزيرا أشد بعدا من أطعمة أهل النار بحسب تفسير قليلي العلم.  ما ذنب آباء الممسوخين قردة وما إثم أمهاتهم ليروا أبناءهم من البشر تحولوا إلى قردة وخنازير؟

هناك الكثير من التساؤلات التي تكفي واحدة منها ليعلم الذي يفكر بأن ما قالوه غير ممكن وعيب على الرحمن عز اسمه وتنقيص لشأن الإنسان الذي يضم خلقا شريفا فاضلا طيبا مثل الأنبياء والرسل والصالحين عموما. كل بني إسرائيل هم أولاد إبراهيم وإسحاق ويعقوب فكيف يمكن أن يرضى الله تعالى بتحويل ذلك النسب الشريف والطيب إلى قردة وخنازير؟ هل انتبه المفسرون إلى أن القرآن يمدح بني إسرائيل مدحا كبيرا في القرآن الكريم؟ ولم يكتفوا بذلك الخطأ فأضافوا الفئران إليهم أيضا!! هذه مصيبة فكرية تجعل الغريب يتنصل من أولئك النفر من المفسرين. أتمنى أن يترك أهلنا تلك الخزعبلات ويبتعدوا عنها ويفكروا بأنفسهم في كتاب ربهم ويمقتوا السلفية الحمقاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

أحمد المُهري

30/4/2018

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.