نقبل غيبا قاله الله فقط – القسم الثالث

نقبل غيبا قاله الله فقط – القسم الثالث

تفضل سيادة الأستاذ الدكتور محمد سلامه فأخبرنا عن مسائل غريبة عن الغيب وأنا مع إلمامي غير القليل بكتابنا السماوي المشترك لم أتمكن من العثور على هذه المعلومات الغيبية في كتاب الله تعالى. قال فضيلته:

إن منهج الدين منذ خلق الله البشر يدعوهم للتقيد بسنن الله الكونية والتي يدركونها

بحواسهم ويفهمونها بعقولهم ويخزنونها في ذاكرتهم, ولكنه يدعوهم مع ذلك للإيمان بغيب لا يدركونه, وهذا الإيمان يأمرهم أن يتيقنوا بقلوبهم أن ما يرونه في الواقع هو نتيجة عمل وتدبير وأمر الله في الكون, وأن الله قد علم كل شيء وكتب ذلك في كتاب, إذن فالإيمان يقصد به القلب, والعمل يقصد به العقل, والإيمان يمثل الغيب والعمل يمثل الواقع والشهادة, والإيمان لا يعمل به في جانب العقل والواقع والفعل, كما أن السنن الكونية لا تقارن بالغيب ولا تضرب إحداهما بالأخرى لإثبات صواب أحداهما وخطأ الأخرى, لأن لكل منهما مجال وجانب ومنظور مختلف     انتهى النقل.

هناك إشكالات كثيرة فيما قاله فضيلته أعلاه. وليكن معلوما للجميع بأنني شخصيا أثق في علم سيادة الطبيب ولم أر منه طيلة السنوات التي عملنا معا في مركز تطوير الفقه السني ثم الإسلامي وفي تجمع المودة أي سوء فمن الطبيعي أن أعترف بأنه بإذن ربه إنسان مؤمن ومحل ثقة. لكنه كما يبدو لي، يثق من حسن نيته ببعض المنقولات التي يظن الكثيرون بأنها صحيحة ولكنها غير صحيحة. فما أكتبه ردا عليه هو في الواقع رد لما نقله من الغير وليس ردا على فضيلته.

1. قوله: إن منهج الدين منذ خلق الله البشر. لا يوجد دين منذ خلق الله البشر بل جاء الدين بعد فترة طويلة من خلق البشر. قال تعالى في سورة البقرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38). فلا هدى يوم أن أنزل الله تعالى آدم وزوجه من جنة ربهم التي كانوا يسمعون فيها بعض مسائل الهدى وهي أوليات يمن الله تعالى بها على كل خلقه. ذلك لأنه سبحانه يهدي خلقه إلى الضروريات كما نقرأ من سورة طه: قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50). هذا الهدى ليس دينا بل هدى أولياً يمنحه الله تعالى حتى للحيوانات بل لكل الكائنات. قال تعال في سورة فصلت: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12).

جاء الدين كما نحتمل أيام موسى الكليم ولعل هناك أحكاما مختصرة أيام يعقوب أو يوسف. قال تعالى في سورة المائدة وهو يقص علينا قصة ولدي آدم: فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32). فلماذا لم يكتب الله تعالى على البشرية حكمه قبل ذلك بل أخر الحكم حتى ظهور بني إسرائيل؟ أليس هذا يعني عدم نزول الدين قبل ذلك. فأظن بأن قول فضيلة الدكتور “من يوم خلق الله البشر” ينطوي على مبالغة غير مناسبة.

2. كتب فضيلته تلك الجملة الأولى كمقدمة لإثبات أمر آخر أجهل مصدر علم الطبيب بذلك الأمر. يقول فضيلته:

إن منهج الدين منذ خلق الله البشر يدعوهم للتقيد بسنن الله الكونية والتي يدركونها بحواسهم ويفهمونها بعقولهم ويخزنونها في ذاكرتهم.    انتهى النقل.

كلما يمكنني أن أعرفه من سنن الله الكونية أن الجملة تشير إلى هندسة الرحمن في إبداع الكون وإدارته وإعداده ليتمتع به عبيده. هذه السنن الكونية لا يمكننا أن نعمل بها فلا أدري ما الذي يقصده فضيلته بأن ربنا يريد منا أن نتقيد بها؟ ثم حدد فضيلته تلك السنن بالتي ندركها بحواسنا ونفهمها بعقولنا ونخزنها في خلايا الذاكرة لدينا. لا أظن بأن أحدا منا قادر على أن يدرك سنن الله تعالى الكونية بالحواس الخمس لديه. ثم ما معنى نفهمها بعقولنا حينما أدركناه بحواسنا؟ فمثلا حينما نلمس ضياء الشمس وهي سنة كونية أن يجعل الله لكل مجموعة بشرية تسكن أرضا من أراضيها شمسا؛ فهل إدراك وجود الشمس أو تحسس حرارتها أو رؤية آثارها في عملية التصوير الضوئي في النباتات وما شابه ذلك؛ هل يمكن أن تساعدنا تلك الأنواع من الإدراك على تفهم حقيقة الشمس. لقد مر على البشرية بعد نزول أول دعوة سماوية من أيام نوح في حدود 6500 سنة حتى يومنا هذا ولم يتعقل أحد منا حقيقة الشمس حتى العصر الحالي أو خلال ال 200 سنة الحالية. في هذه الفترة تمكنت البشرية إلى حد ما أن يتصور لب الشمس ويتظنن بعض القشرات الشمسية ولا ندري بالضبط هل كانوا مصيبين أم خاطئين. لا أدري كيف أراد ربنا من أول يوم خلق أبوينا أو من يوم نزول أول تشريع أو من يوم نزول القرآن أن تتعقل البشرية حقيقة سننه الكونية؟ وكيف يأمرنا الله تعالى بأن نتقيد بسنن لا يمكننا أن نعمل بها؟ فهل أحد منا سيكون قادرا على إيجاد أي تغيير في الشمس العظمى؟

وما هي ارتباط سنن الله تعالى الكونية بموضوع علمه تعالى بما سنعمله من قبل أن يخلق الخلق؟

3. والمصيبة الكبرى في الجمل التالية من مقال فضيلته:

ولكنه يدعوهم مع ذلك للإيمان بغيب لا يدركونه, وهذا الإيمان يأمرهم أن يتيقنوا بقلوبهم أن ما يرونه في الواقع هو نتيجة عمل وتدبير وأمر الله في الكون, وأن الله قد علم كل شيء وكتب ذلك في كتاب,.

من أين لنا أن ندعي بأن الله تعالى كتب في كتاب كل ما أفعله اليوم في كمبيوتري وكل ما أكتبه لأرسله إلى إخواني وأخواتي؟ هل قال الله ذلك؟ هل العلم بسنن الله الكونية التي خلق بها الكون وما يتفرع من الكون يعني بأن الله تعالى قد كتب في كتاب من يوم خلق الكون جزئيات حركاتنا اليومية؟ رحم الله شاعر العرب المعاصر إيليا أبو ماضي حيث وصف حالي أنا اليوم:

ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا    لست أدري ولماذا لست أدري

لست أدري

يدعي فضيلته بأن هذا الإيمان (بالغيب) يأمرهم أن يتيقنوا بقلوبهم أن ما يرونه في الواقع هو نتيجة عمل وتدبير وأمر الله. معاذ الله. يعني ما أراه من الدواعش وهو واقع نراه كل يوم من قتل وتدمير وفساد في الأرض هو نتيجة أمر الله تعالى!! قال تعالى في سورة النحل: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90). كيف يمكن القول بأن الله تعالى يأمر بالزنا وبالقتل وبالسرقة وهو يعلن المنع من كل ذلك؟ ليس من حقي أن أعاتب أخي الطبيب سلامه لأنه ناقل لجهالات سلفنا مع الأسف. لكنني أتوقع من سيادته أن يضرب كل ما قاله السلف الفقيه والمحدث والفيلسوف والمتكلم عرض الحائط. نحن قادرون بفضل الله تعالى أن نعرف الحقائق الضرورية لنا من القرآن ولا يجوز لنا اتباع غير القرآن في المسائل الغيبية وفي تشريعات الله تعالى.

قال تعالى في سورة الأنعام: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155).

ويختم فضيلته هذا المقطع الغريب بالجملة التالية: وأن الله قد علم كل شيء وكتب ذلك في كتاب. ربنا يقول بأنه يريد أن يعلم والطبيب سلامه يقول بأن الله كان يعلم فمن هو أحق أن يُتبع؟ قال تعالى في سورة الحديد: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25).

ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب؛ هذا ما يقول الله تعالى.

إن الله قد علم كل شيء وكتب ذلك في كتاب؛ هذا ما يقوله عبد الله، الأستاذ سلامه.

ثم تطرق فضيلته إلى مسائل عدة لا علاقة لها بموضوعنا إطلاقا. كما أتى بمجموعات من الآيات الكريمة لإثبات رأيه. لكنني أكتفي بذكر بعض أقواله هنا مع تعليقات بسيطة.

ولقد بين القرآن الهدف من الإيمان, وهو أمر متعلق بالقلوب.

لا أرى ضرورة للتعليق على الموضوع.

وقال أيضا: إن الله يبين للمؤمنين بأنه هو الذي يقاتل الكفار ويهزمهم وينصر المؤمنين, ولكن هذا في منظور الغيب, وعليهم أن يؤمنوا بهذا رغم ما يدركونه في الواقع من وجوب الاستعداد والإعداد.

نتحدث عن علم الله المسبق بأفعال العباد من الأزل حسب تعبيركم. ما علاقة هذا العلم المسبق بما يمن الله تعالى على صحابة خاتم النبيين من تأييد غيبي لينصرهم على عدوهم؟ لم يقل الله تعالى في الآيات التي ذكرتموها بأن سبحانه من الأزل قدر تلك المعارك فلا جدوى للاستدلال بتلك المساعدات الغيبية ونحن لا ننكر بأن الله تعالى يعز من يشاء ويذل من يشاء وينصر رسله بالغيب وينصر المؤمنين على الكافرين إن شاء ووو. هذا أمر غيبي حصل حين كان المسلمون في حرب مع المشركين. لكن بحثنا حول أمر غيبي بشأن نوايانا وأفعالنا التي يختبرنا الله تعالى بها قبل ملايين الملايين من السنين. تقولون بأن الله تعالى من قبل تحقق الزمان حين الانفجار الكوني حسب تعبيرنا المعاصر، قد علم أفعال الأفراد بالكامل وهم غير مخلوقين وحينما جاء الخلق وأراد الله تعالى أن يختبرهم فعلوا كل ما علمه الله من الأزل! هذا ادعاء لم يقل به الله تعالى بل هو محض قول البشر. وهذا ادعاء لا يمكن تحققه في الخارج لأن الاختبار في تقابل التضاد مع التسيير. والذي يقوم بعمل علم به ربه قبل ملايين السنين وانطبق عمله مع علم ربه فهذا يعني بأن ربه قد وجه كل الحركات باتجاه أن يقوم الشخص بتحقيق ما علمه ربه من الأزل.

وقد وضح سبحانه كيفية الإمدادات الغيبية بتفصيل كامل ولكن في عدة سور ولا يوجد لدى زملائي في التفسير أي غموض في تلك الإمدادات الغيبيةِ طبيعتُها والموضحة بالتمام والكمال قرآنيا. وأما قول فضيلته: وعليهم أن يؤمنوا بها؛ فهو قول فضيلته وليس قول الله تعالى.

كما أضاف أيضا قوله التالي:

إن الأمن والأمان والسلام والألفة هي منة من الله, وهو وحده القادر على أن ينزعها من الناس, هذا ما يجب الاعتقاد به.

وقال أيضا:

إن إرادة البشر التي يدركونها عقلاً ومنطقاً وحقيقة يجب أن تقترن في نفوس المؤمنين بإيمان واعتقاد أن هناك إرادة ومشيئة من الله تسبقها ولكنهم لا يدركونها.

لا أدري لماذا الإصرار على وجوب الاعتقاد بأن الأمن والأمان والسلام من الله تعالى أو وجوب الاعتقاد بمشيئة الله تعالى وإرادته قبل أن نعمل؟ لم يوجب الله تعالى علينا الاعتقاد بهذه المسائل فهو تضييق كبير للأمة التي تعرف الصلاة والصيام والزكاة والحج والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحن محققون ويجب علينا دراسة هذه المسائل لأنها ضمن عملنا ولكنها ليست الجزء الواجب من العقائد بنظري المتواضع. أين قال الله تعالى ذلك؟

وأما قوله الكريم التالي فهو من أغرب الأقوال:

إن السعي للرزق سنة كونية لا يختلف عليها البشر ولكن المطلوب من المؤمنين أن يعتقدوا بقلوبهم أن من يرزقهم هو الله وحده.

السعي للرزق سنة بشرية باعتبار الحاجة للطعام والكساء وغيرها وليست سنة كونية. أين قال الله تعالى بوجوب الاعتقاد بأن الرزاق هو الله تعالى. بالطبع فإن كل أصحاب الرسل من أيام نوح حتى ظهور رسولنا كانوا يعتقدون تقريبا بأن الرازق هو الله تعالى. والله تعالى اكتفى بأن أمرهم بأن لا يخضعوا باختيارهم لغير الله تعالى الذي يستحق أن يُعبد وحده. قد يكون ما تفضل به الأخ الطبيب صحيحا ولكن الله تعالى لم يقل ذلك بقدر اطلاعي فلو يأت فضيلته بآية توجب مثل ذلك الاعتقاد جاز لنا أن نؤمن به وإلا فهو وجوب بشري برأي البعض ولا علاقة لهذا الحكم بالرحمن عز اسمه.

أما القول التالي لفضيلته فلا يلام عليه طبعا لأنه قول خاطئ عام مع الأسف:

إن الموت الذي يعني مفارقة الروح والنفس للجسد يحدث من خلال السنن الكونية من الأمراض والحوادث، ولكن المؤمن يجب أن يعتقد أن الموت يحدث بأمر الله وتبعاً لأجل محدد لا تقديم فيه ولا تأخير.

لم يقل الله تعالى ذلك للأفراد بل قال للأمم فقط. كما لم يقل سبحانه بأن الموت يعني مفارقة الروح للجسد بل يمكن استنتاج أن النفس تفارق الجسد حين الموت من مجموعة من الآيات الكريمة وأما الروح فهو الطاقة الربانية لخلق النفس والعلم عند المولى. قال تعالى في سورة المؤمنون: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لاّ يُؤْمِنُونَ (44). نعرف من آيتي “المؤمنون” بأن الأمة تعني المجموعة البشرية القوية التي تُقصد ولكل أمة رسول حسب تعريف القرآن فهو تعبير قرآني خاص. ولكن ليس كل الأمم حسب تعاريفنا استضافت الرسل. فلا رسول في الصين ولا رسول في أفريقيا غير العربية. والأمة في الواقع تأتي عادة في نهايات القرون البشرية. القرن تعبير عن مجموعة الأمم البشرية المتكاملة التي تتمكن من استضافة الغير وتتمتع بنوع من الاكتفاء الذاتي. والأمة في القرآن هي الجزء المتنعم بنعمة الرسالة من القرن. ولذلك يقول سبحانه كلما جاء أمة رسولها؛ بمعنى أن لكل أمة رسول يذهب إليهم.

الأجل بالنسبة للأمة لا تعني الموت بل تعني مدة الرسالة التي تنتهي تبعا لتطور الأمة البشرية التي اختارها الله تعالى للاختبار ولتكون شهيدة على غيرها من الأمم البشرية المرتبطة بها. فالرسول يعلن دعوته داخل الأمة في وقت محدد ولا يمكن لأحد أن يطلب تمديد أجل الرسالة كما لا يمكن لها قطع الأجل. لكنهم بالطبع لو سعوا للقضاء على الرسول واضطر الرسول لتركهم فإنهم في تلك الحالة ليسوا أمة مختارة. هذا ما حصل لأمة إبراهيم وكما نظن بأنهم العراقيون حيث سعوا للقضاء عليه فنجاه الله تعالى من النار ونقله إلى مكان آخر. وبما أنه لم يكن من أهل المكان الثاني خسر رسالته وبقي نبيا فقط. لكنه نبي وأي نبي عليه سلام الله تعالى. أمر الله تعالى كل من جاء بعده من الرسل أن يسيروا على منهج إبراهيم وأن يتبعوا ملة إبراهيم.

فلو أن الله تعالى أبقى نبيا بين أمة أكثر من وقتها فهي أمة غير قابلة للشهادة لأنها مع نسبة تطورها استضافت الرسول أكثر من الوقت اللازم. ويُقال بأن الصحابة وبعد نزول سورة النصر في أواخر العهد الرسالي المجيد عرفوا منها بأنها تخبرهم عن قرب أجل الرسول عليه السلام. فقد دخل الناس في دين الله أفواجا وهذا يعني بأن الرسالة قد كملت فلو يبقى الرسول أكثر من ذلك فلعل الذين لا يستحقون الهدى يهتدون أيضا والله يكرههم لأنهم لم يستحقوا التشرف بنصرة رسول الله عليه السلام. ثم إنه سبحانه حريص على أن يعامل كل الأمم بمنحهم فرصا متكافئة. ولذلك فهو سبحانه منح أمة نوح 950 سنة دون ريب لأنهم لم يكونوا بتطور أمة رسولنا التي أتت بعد آلاف السنين وتمتعت بالتطور البشري العام طيلة فترة كبيرة. ولا ننس بأن رسولنا جاء في أمة وسط من حيث الجغرافيا الكوكبية أيضا كما أنها في وسط التطور البشري الذي وصل قمته من حيث السرعة. أظن بأن التطور البشري أخذ منحى مستقيما من ذلك اليوم وتوقف عن الصعود السريع ولذلك توقفت الرسالات السماوية والعلم عند المولى عز اسمه. قال تعالى في سورة البقرة مخاطبا حاضري الرسالة الختامية: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143).

وأما قول فضيلته بأن على المؤمنين أن يعتقدوا بأن الموت لا تقديم فيه ولا تأخير فهو قول غير دقيق ولم يفرض الله تعالى وجوب الاعتقاد بمثل هذه الحقائق. هناك أجل مسمى وهو الأجل الطبيعي لكل كائن باعتبار إمكاناته البدنية للبقاء وهناك أجل معلق غير مسمى. قال تعالى على لسان نوح في سورة نوح: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4). هذا الأجل هو أجل البقاء في الدنيا لكل فرد وليس أجل الرسالة لقوله عليه السلام لهم: يؤخركم ولم يقل يؤخرني مثلا. ومعنى الآيات هو أنهم لو يطيعوا رسولهم فسوف يؤخرهم ربهم إلى الأجل المسمى المناسب لأبدانهم. بمعنى أنه سبحانه سوف لا يبليهم بالأمراض والحروب وكل ما يسبب الموت قبل الأجل المسمى. فحينما يقول الرسول: يؤخركم فهو يعني بأن الفرد قد يموت قبل أجله المسمى. هذا يعني بأن الإنسان يمكن أن يموت قبله أجله المسمى ولكن لا يمكنه أن يعيش أكثر من أجله المسمى.

ألا نرى بأن متوسط العمر البشري قد ارتفع نسبيا في الدول المهتمة بالشؤون الصحية؟ ألا يعني ذلك بأن الأجل المعلق بالأمراض قد تأخر ولعل البعض أو الأكثرية بلغوا أجلهم البدني المسمى ثم ماتوا والعلم عند الله تعالى. وأخيرا ما الفائدة من هذه المعلومات لإثبات علم الله المسبق بأفعال العباد من الأزل؟

وأضاف فضيلة الأخ الطبيب محمد سلامه:

إن الهداية تأتي بعرض الأمور على الناس، فيقتنع من يقتنع ويرفض من يرفض ولكن المطلوب من المؤمن أن يعتقد أن الهداية بيد الله وبأمره.

لا علاقة لهذا الموضوع بعلم الله المسبق بأفعال العباد قبل الخلق الأول. فمن الخير ألا نناقشه.

وهكذا القول التالي لفضيلته:

إن البشر يجتهدون للرقي والتحضر والاختراعات والاكتشافات, والمؤمن يطلب منه أن يعتقد أن البشر لا يمكن أن يحصلوا على علم أو يزدادوا علماً إلا بما يأذن الله به.

وأما القول التالي لفضيلته:

إن المؤمن يطلب منه الاطمئنان والاعتقاد أن الأمور مقدرة.

ظن فضيلته بأن الله تعالى قدر حركاتنا الاختيارية من الأزل باعتبار الآيات التالية:

ألف: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (50) سورة طـه

طبعا هذه الآية تدل على أن الله هدى خلقه بعد خلقهم لوجود أداة التراخي “ثم”. فهذه الآية تقول بأن الله تعالى بعد أن يخلق أي شيء وبالطبع ينظر إلى التجاوبات المختلفة هناك يهدي. فالهدى وهو ليس عملنا بل هو عمل الله تعالى لم يكن مقدرا من حيث النوع من قبل أن يخلق الخلق.

ب: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (22) سورة الذاريات.

نحن نتحدث عن الأعمال الفردية التي نثاب بها أو نعاقب ولا نتحدث عن التقديرات العامة لله تعالى لإعداد الرزق لعبيده الذين سيخلقهم وهكذا خلق السماوات والأرض بحيث يمكن تبديلها في المستقبل بسماوات وأراضي قابلة للبقاء الأبدي ثم خلق الجنة والنار في كل كوكب مسكون. كل ذلك لا علاقة لها بأعمالنا الفردية الاختيارية. ومثل ذلك الآيتان 10 و 12 من سورة فصلت اللتين استعان بهما فضيلته.

ج: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (22) سورة الحديد.

هذه الآية تدل دلالة واضحة بأن الله تعالى وضع لكل كوكب كتابا ينظم فيه التطورات والحركات وكل ما سيأتي كما ينظم العلاقات بين الكائنات وبين أعمالها. ولنكن واقعيين فلولا هذا النظام لاختلت الحياة كلية في كوكبنا. فمثلا لو أن الله تعالى كان قد سمح للأولين أو علمهم بأن يكتشفوا النفط قبل خمسة آلاف سنة وهم لم يكونوا محتاجين للنفط المحدود في بطن الأرض؛ فلم يكن اليوم ومع التكاثر البشري قطرة نفط موجودة لنسير بها مركباتنا بل كنا ميتين. وهكذا الحروب وخاصة الحروب الكبرى التي تؤثر في كل الأرض. فالآية تدل على أن الله تعالى لم يفتح باب الخيار بلا حساب للناس كما لم يقدر المعلومات الضرورية والإمكانيات اللازمة للأعمال المختلفة بلا حساب. بل هناك حساب عند ربنا وعلى أساسه يسمح للمصائب بأن تتحقق لغرض الاختبار طبعا. وقوله الكريم: من قبل أن نبرأها؛ دليل واضح بعدم وجود تقدير مسبق لكل الأعمال لا من الأزل ولا من بداية الخلق ولا من يوم خلق كل شخص بل قبل أن يأذن الله تعالى لكل أمر. هي مسألة لحظات أو أيام وليست قرونا أو ملايين من السنين.

وأما خاتمة هذه المقالة التي أجاد بها فضيلة الطبيب يوم 24 الجاري فهي تمثل استنتاجا مزاجيا ولا تمثل استنتاجا علميا برأيي القاصر. ولا سيما بعد أن وضحت وفصلت كل استدلالاته القرآنية التي لا تحمي رأيه وفكره في هذا المضمار. قال فضيلته:

بعد أن بينا الفرق بين الغيب والإيمان من جانب والعلم والعمل والواقع والحقائق المادية في الجانب الآخر, فهل يمكن أن يفهم أحد هذا الأمر بدون تطبيق قاعدة المنظور, هل يقبل أن يخلط أحد بين ما هو غيب وإيمان وبين ما هو عقل ومنطق وعلم وواقع؟, إنني أتحدث من خلال الآيات القرآنية إلى الذين يرون أن ما سيفعله كل إنسان في مستقبله ليس هو الغيب الذي يعلمه الله, أو أن هذا النوع من الغيب ليس مما ذكر الله بأنه يعلمه.

لا أظن بأن هناك ضرورة لأعلق على ختام رسالته ولكنني أوضح بعض الشيء فقط.

أنا أخوه الصغير أحمد المُهري لم أطبق قاعدة المنظور السلاميه لفهم الفروق التي ذكرها. لكنني وضحت ما لم يوضحه فضيلته بتفصيل أكبر منه. يريد فضيلته بصورة جدلية من كل من يقرأ مقالته بأن يتقبل بأن كل ما سيفعله كل إنسان فهو من الغيب الذي يعلمه الله. أنا شخص محقق أنظر إلى المسائل القرآنية بجدية وأستعمل كل إمكاناتي العلمية لاستكشاف ما يريده ربي؛ فإني أشهد على نفسي بأنني قرأت كل ما تفضل به بكل دقة وصرفت عليها وقتا غير قليل دون أن أرى في كل ما كتبه أي دليل قرآني على ادعاء فضيلته. بالطبع أن سلفنا من الفلاسفة والمحدثين والفقهاء كلهم تقريبا قالوا ما قاله الطبيب بلا دليل ولا برهان مع الأسف.

لم يقل الله تعالى في كتابه بأنه كان يعلم ما سنفعله باختيارنا من الأزل والعقل يحكم بأنه سبحانه لو علم ما سنفعله من الأزل أو من يوم الانفجار الكوني أو من يوم خلق الإنسان أو من يوم خلق كل فرد منا فسنفقد الخيار ونسير وفق إرادته المسبقة. لو صح ذلك فإن الدواعش والقاعديون وكل الوهابيين القتلة وكل الصهاينة وكل السفاكين من مختلف القوميات القديمة والحديثة ليسوا مذنبين كما أن الرسل الكرام ومن ورائهم كل الطيبين الذين اتبعوا رسالات السماء بمن فيهم صحابة الرسل الذين أطاعوا الرسل فإنهم جميعا لا يستحقون الجنة لأنهم فعلوا ما علمه ربهم من قبل ولم يفعلوا ما اختاروه بأنفسهم. يقول الطبيب ومن قبله سلفنا بأن الله تعالى قد اختار لهم أعمالهم بعلمه فلا الجنة حق ولا النار حق بل كلها مكرمات من الله تعالى أو غضب منه سبحانه دون أن يستحق أحد.

والله تعالى أجل وأرفع من أن يظلم أحدا أو يختص أحدا بفضله دون أن يستحق. إنه العادل الذي يستعمل العدالة الكاملة في الدنيا وقد وعد ووعده الحق بأن يضع الموازين القسط ليوم القيامة. فسلفنا ومن بعدهم الطبيب سلامه يؤمنون بما لم يعلمه الله تعالى والله تعالى لم يقل ذلك.

انتهى القسم الثالث ويتلوه القسم الرابع بإذن الرحمن عز اسمه.

أحمد المُهري

29/3/2018

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.