بلا موضوعية بلا يحزنون, المسألة مسألة شخصية / منهج تفسير القرآن

 

بلا موضوعية بلا يحزنون, المسألة مسألة شخصية

منهج تفسير القرآن

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

هل هناك وعي في الثقافة العربية بالفرضيات التي تقوم عليها تفسيرات القرآن الكريم؟ 

 بلا.png

دار الحديث في مركزنا عبر الشهرين الماضيين حول مفهوم “الفطرة السليمة التي خلقنا الله عليها”.  تم تبادل عشرات الرسائل حول هذه النقطة بحيث فهم كل واحد منا وجهة نظر الآخر.  حقًا قد لا يكون الكثير منا قد غيروا موقفهم تجاه ما يفكرون أنه “الفطرة السليمة التي خلقنا الله عليها”, إلا أن هذا ليس بالأمر الهام.  المهم هو أن كل واحد منا أصبح على وعي تام بأن هناك وجهات نظر أخرى في هذا الموضوع.  أي أن وجهة نظره ليست هي وجهة النظر “الوحيدة” الممكنة.  وهذا يكفي.   

فيما يتعلق بي أنا شخصيا, كان ما خرجت به هو أن هناك عدد من النظريات تتنافس فيما بينها في “تفسير” السلوك البشري.  هذه النظريات هي “نظرية جهاز التوجيه وجهاز التعطيل”, و”نظرية الشريحة الطيبة والشريحة الشريرة”, “ونظرية الجي بي إس” و”نظرية الإرغام الإلهي”, وأخيرًا, “نظرية برنامج التشغيل”.   بين الحوار أن النظرية “الوحيدة” التي “تفسر” السلوك البشري هي نظرية برنامج التشغيل.  يعود ذلك إلى أن “النظريات” الأخرى لا تزود الباحث بالأدوات التي تمكنه من “التنبؤ” بالسلوك الذي ستسلكه أي مجموعة بشرية في موقف معين.   يستحيل على من يستخدم أي نظرية غير نظرية برنامج التشغيل أن “يفهم” السلوك البشري وبالتالي “يتنبأ” بالسلوك الذي ستسلكه مجموعة بشرية بعينها في موقف بعينه. 

في اللحظة التي اتضح فيها أن “برنامج التشغيل” المستخدم في أي مجتمع هو الذي يحدد سلوك الأفراد في ذاك المجتمع اتضح كذلك أن على من أراد إصلاح الناس في أي مجتمع أن يصلح برنامج التشغيل المستخدم في ذاك المجتمع.  أي أننا إذا أردنا تمكين الإنسان المسلم من العيش عيشة يرضى عنها الله يقوم فيها “بصالح الأعمال” فعلينا أولاً استبدال برنامج التشغيل المستخدم في مجتمعاتنا الإسلامية ببرنامج تشغيل إسلامي.   في اللحظ التي ظهر فيها مصطلح “برنامج التشغيل الإسلامي” ظهر كذلك التساؤل عما هو مقصود بهذا المصطلح.  لم يطل التساؤل, والحمد لله كثيرًا إذ كانت الإجابة حاضرة.  برنامج التشغيل الإسلامي هو ذلك البرنامج الذي ينفذ ما يطلبه منا الله في كتابه الكريم.    في اللحظة كذلك التي ظهرت فيها هذه الإجابة ظهر التساؤل :  حسب أي فهم ؟ 

يقوم السؤال هنا على خلفية الوعي بأن هناك أكثر من فهم للقرآن الكريم.  هناك من قرأ القرآن وفهم منه وجوب إكرام الأسرى بل وإطلاق سراحهم قبل أن تضع الحرب أوزارها.  هناك كذلك من قرأ نفس الآية الكريمة وفهم منها وجوب قتل الأسرى.  هناك كذلك من قرأ القرآن وفهم منه وجوب إكرام المرأة المطلقة طلاقًا بائنا وعدم مطالبتها بأي عمل مقابل بقائها في بيت طليقها إلى درجة أنه لو طلب منها إرضاع طفل من أطفال أسرة طليقها فعليهم الاتفاق أولاً على المبلغ الذي يرضيها فإن رفضت بحثوا عن مرضعة غيرها.  هناك أيضًا من قرأ نفس الآيات وفهم منها أن على الزوج أن يدفع “لزوجته” المبلغ الذي يرضيها مقابل إرضاع “ابنها”.  وكأن الأم المسلمة هي “الكائن الحي الوحيد” في المملكة الحيوانية الذي لا يرضع أطفاله إلا مقابل مكافأة.  وعليه, كان السؤال :  وما معيار قبول التفسير ؟   على أي أساس يمكنني قبول تفسير أحمد المُهري ورفض تفسير محيي الدين عبد الغني ؟

يسود في الثقافة العربية “وهم” أن فهم القرآن الكريم يعتمد في نهاية المطاف على حسن فهم القاريء للغة العربية الفصحى.  يغيب في الثقافة العربية أي وعي بأن النظام اللغوي (في جميع لغات البشر) هو نظام لا يوجد لأي جملة فيه معنى واحد.  أي أن كل جملة فيه لها أكثر من معنى.  يعني ذلك أن النظام اللغوي يقدم لنا في كل جملة منه عددًا من المعاني “الممكنة”.  يعني ذلك, كذلك, أن العوامل التي تحكم اختيار المعنى ليست عوامل لغوية وإنما عوامل تقع خارج نطاق اللغة.  في حالة ما نتحدث نحن عنه الآن, أي في حالة “فهم” القرآن الكريم, فإن هناك قائمة طويلة من العوامل التي تحكم “صحة الفهم”.  من ذلك, صلاح العمل, والعدل, والحرية, والكرامة الإنسانية.  مثال على ذلك, إذا كان العمل الصالح هو مراعاة مصالح خلق الله والشعور بشعورهم, فهل قتل الأسرى من صالح الأعمال ؟ هل مما يتفق مع الحرية قتل من لا يؤمن بالله إذا رفض الإيمان بالله ؟ 

وكأن المسألة, بهذا الشكل, أن ما يحكم فهمنا لكتاب الله ليس فهمنا لقواعد اللغة العربية الفصحى وإنما فهمنا لمعنى العمل الصالح, والعدل, والحرية, والكرامة الإنسانية.   يستحيل على من لا يفهم ما هو العدل أن يفهم كتاب الله.  كيف, بالله, لمن لا يفهم ما هو العدل أن يفهم كتاب الله ؟  كيف لمن لا يفهم الألف من كوز الذرة – كما نقول في كفر نفرة – أن يفهم ما جاء في كتاب “المطالعة الرشيدة” ؟ كيف لمن لا يعرف الفرق بين الجمع والضرب أن يحل معادلات الدرجة الثانية ؟  ثم كيف لمن لا يعرف استحالة أن تتعارض كلمات الله مع العمل الصالح, والعدل, والحرية, والكرامة الإنسانية, أن يفهم كتاب الله ؟   يستحيل أن يتعارض ما يقوله الله مع العمل الصالح, أو العدل, أو الحرية, أو الكرامة الإنسانية.   هذا هو “معيار قبول التفسير”.   ويستحيل ألا يحسن فهم كتاب الله من يحسن فهم العمل الصالح, والعدل, والحرية, والكرامة الإنسانية.  ما إن وصلت إلى هذه النقطة حتى تذكرت أن لدينا عددًا من الرسائل حول هذا الموضوع صدرت تحت عنوان “عدة المفسر”.  عدت إلى هذه الرسائل ووجدت واحدة منها – قد تكون أول واحدة – هي رسالة الأستاذ الدكتور محيي الدين عبد الغني, وهي رسالة رائعة تصلح تمامًا أن تكون المدخل لدراسة منهج تفسير القرآن.    لا يحتاج الأمر إلى التوكيد على أن كل الرسائل الصادرة في هذا الموضوع لا تحمل الرأي الأكيد وإنما هي دعوة للتفكير في كتاب الله.

 

 

الرسالة الأولى:  موضوع مَن

أرسل إلينا سيادة الأستاذ الدكتور محيي الدين عبد الغني رسالة عجيبة في جمالها تنتمي إلى عدد محدود من الرسائل التي هزتني من إعجابي بها.  لا يعني ذلك, بطبيعة الحال, أنها لا تحتوي على أجزاء أختلف معها, فهي, في حقيقة الأمر, تحتوي على أشياء أختلف معها بشدة.  تعود “الشدة” هنا إلى إدراكي لـ”صلابة” الأسس التي يقوم عليها عرض سيادته, وهي صلابة لا يمكن مواجهتها إلا بـ”الشدة”.  المشكلة هي أن أي محاولة لعرض وجه الاختلاف تتطلب وقتا لا أملكه, وعليه فلن أناقش أيًا مما جاء في رسالة سيادته وإنما سأكتفي بتسجيل خالص إعجابي, وتقديري, واحترامي لمفكرنا الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور محيي الدين عبد الغني.  ما كل هذا العلم؟  ما كل هذا التواضع؟   

 

 

قضية من يفسر القرآن

الرافضون للتفسير العلمي للقرآن فريقان منطلقهم ليس سواء. الفريق الأول يتكون من بعض قليل من الذين امتهنوا دراسة ما أسموه بعلوم الدين، والشريعة، واللغة العربية. يعتمد سبب رفضهم، من فهمهم: أن القرآن نزل على محمّد، وفى عصر محمّد، وبلسان محمّد، وأُمِر محمّد عليه الصلاة والسلام ببيانه للناس، وبالتالي فإن أي تفسير، أو تأويل؛ يخالف ما ورثناه من الرعيل الذي شهد الرسالة هو تفسير مرفوض.   والتفسير العلمي مرفوض، لأن العلم المكتشف حديثا، لم يكن متاحا للرسول الكريم. وبالتالي لم يكن الله تعالى يُحَدثُ الناس بما لا يعرفون. وبالتالي فإن أي تفسير بنى على علوم إنسانية حديثة؛ سوف يؤدى إلى “امتهان القرآن”، بتغير التفسير كلما تغيرت النظرية العلمية.

 

الفريق الأخر، يتكون من بعض الذين تأملوا في الحالة الحضارية، وتاريخ وكيفية تطور الأمم المختلفة. ونظروا إلى أسباب التخلف في الأمة الإسلامية، فتصوروا أن ما أدى إلى تخلف الأمة الإسلامية، هو نفسه ما أدى إلى تخلف الأمة المسيحية، الممثلة في أوربا. وهُيَّئ لهم أن (الدين)، يشكل العامل الأساسي في تخلف الأمم.   فهو الذي يوقف الزمن عند آلاف مضت من السنين. ولن يحدث تطوير حضاري؛ إلا باستبعاد هذا العائق. تماما كما حدث في الأمة المسيحية في أوربا، استبدلوا بـ(الدينِ) (العلمَ)  وأصبح الدينُ عندهم، عبارة عن طقوس، يجب ألا تخرج من البيوت، أو المساجد، أو الكنائس، واقترحوا نظاما لتوجيه الحياة، اتفقوا على وصفه بالسكيولارية (العلمانية).

 

الفريق الأول يخشى على القرآن من الامتهان والابتذال، ويطالبون بألا يقرب تفسير القرآن إلا من هم أهل لذلك. وهذا في حد ذاته فيه كثير من الصحة نظريا. ولكن لننظر ما هي شروط الأهلية التي يحددونها.    بنت الشاطئ، وغيرها كثيرون، تحدد الشروط ننقلها من كتابها المذكور(6)، فهي كما يلي:

كل الذين عرضوا لقضية إعجاز القرآن (ويدخل في ذلك التفسير أيضا، لأن بيان إعجاز القرآن يأتي من بيان تراكيبه ومعانيه)؛ أجمعوا على أن فقه اللغة العربية والدراية بها لغة وبيانا، هو أداة النظر في وجوه إعجاز القرآن.

 

وتأتى مع علوم العربية (وما أدراك ما علوم العربية) سائر علوم القرآن، مما لا يتصور أن يتصدى مفسر لتأويله، وهو يجهل مثلا (مجرد مثل):

1-          أسباب نزول القرآن.

2-          المحكم والمتشابه في القرآن.

3-          القراءات السبع للقرآن.

4-          طريقة رسم المصحف … إلى آخره.

 

  • ثم يحتاج المفسر كذلك إلى دراية بعلوم الحديث، من حيث كانت السُنة مفسرة للقرآن، ومفصلة لما أجمل منه.
  • الدراية كذلك بعلم التوحيد وأصول الدين.
  • العلم بأحكام الفقه المستنبطة من الكتاب والسنة.
  • ولا يستغنى المفسر بعد هذا كله عن معرفة بالفرق الإسلامية.
  • كذلك الاتصال بكتب الكلام (علم الكلام المقصود به كلام بعض المتأولين لآيات القرآن من بعض الفرق الإسلامية مثل المعتزلة، والاسم الدارج لعلم الكلام هو الفلسفة الإسلامية، ويشمل الأقوال الجدلية في تفسير بعض ما يبدو متناقضا في القرآن مثل قضايا الجبر والاختيار وتحديد ما إذا كان الإنسان “مسيرا” أم “مخيرا” في هذه الحياة مثلا).
  • كذلك العلم بتاريخ الإسلام (القرآن والتفسير العصري ص 34، 35)

 

وللأمانة نقول: إن السيدة الفاضلة – رحمها الله- فرقت بين محاولات قراءة القرآن وتفهُّمِه، وبين تفسير القرآن. فعندها: “القرآن نزل للعالمين، ولم ينزل للمتخصصين، لكن تفسيره ليس مباحا لكل الناس. والاجتهاد فيه محظور على غير العلماء. بل إن قراءته ليست مباحة للعالمين، يقرؤه كل فرد باجتهاده، وإنما اجتمعت الأمة على قراءات سبعة أئمة من المتخصصين، يفصلنا عنهم بضعة عشر قرنا. وعلى تتابع الأجيال يلتزم المسلمون هذه القراءات، ولا يحيدون عنها باسم الحرية، ولا يرفضونها بشعار [ يسقط الجمود والاحتكار] (ص 75 من الكتاب المذكور). وتقول: “يبدو أننا في حاجة إلى أن نضع الحدود الفاصلة، بين ما يباح، وما لا يباح من تأويل كلمات الله في كتاب الإسلام. بين حق كل إنسان في أن يفهم القرآن لنفسه، وبين حرمة تفسيره للناس لا تبيحه لغير ذوى الدراية به” (ص 46). “ومحاولة فهم القرآن لا يمكن أن تتعرض لإنكار أو رفض، إذا كانت من قبيل التماس عطائه المباح لخلق الله. على أن تبقى في نطاقها الخاص المحدود، فلا تتخذ ذريعة إلى احتمال التفسير بغير ضابط ولا قيد” (ص47).

 

الحقيقة أن لا أحد يجادل في مسألة أهمية المعرفة باللغة العربية.   معرفة العربية ضرورة منطقية؛ لكتاب استخدم اللسان العربي في صياغة آياته.   الجدال يدور حول من يقوم بالتفسير؟ هل هم ممن وصفتهم بنت الشاطئ أعلاه فحسب؟  لو كانت الإجابة عن هذا السؤال الأخير بنعم؛ لانتهينا إلى قضية خطيرة.   مثل هذا الفعل يعزل “الهداية” الإلهية عن البشرية. ويؤدى بالضرورة إلى الكهنوت، الذي نراه اليوم في الأمة الإسلامية. فهناك من يتحدث باسم الله، ورسوله، أو هم: “الموقعون عن رب العالمين”، أو هم: “الإمام الأكبر”، أو هم: “المرجعية” أو هم: “آيات الله العظمى” بدلا من”لا إله إلا الله”، و”الله أكبر”، و”إلى الله مرجعهم”. أي ببساطة؛ تُغير البوصلة اتجاهها، من سمو السماء إلى حضيض الأرض، وعلينا أن ننسى:

“ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ”               (6الانعام/164)،

“إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ”                        (45الجاثية/3)،

“وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”                                 (42الشورى/29)،

 “وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (30الروم/27).

 

 إن القرآن الكريم كتاب هداية لهذه الدنيا، وفهمه يتطلب يقينا – إلى جانب معرفة اللغة العربية- الإطلاع على علوم العصر، واتخاذها وسيلة لإرساء الحضارة الحق، والتمكين في الأرض، والاستخلاف فيها، وأداء الأمانة لله – سبحانه وتعالى، التي عرضها على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان.

 

هذا الكهنوت، هو الذي أوصل الأمة الإسلامية إلى الغثاء الذي هم فيه اليوم, وهو نفسه الذي رأيناه في أوربا بالأمس، حيث احتكر رجال الدين والكنيسة الحديث باسم السماء؛ فتجمد فكر الأمم، وحدث التخلف.    ولم يتقدم الغرب إلا بعد أن قضى نهائيا على هذا الاحتكار- احتكار الفكر والحديث باسم السماء.    نعم، لم يتقدم الغرب إلا بعد إبعاد رجال الدين عن السيطرة والتسلط على العقول. ولكنهم للأسف، تصوروا خطأ، أن رجال الدين هم “الموقعون عن رب العالمين”؛ فأبعدوا الدين، الذي هو هداية السماء، مع رجال الدين والكهنوت، عن الحياة. وأصبح الفكر الغربي، يبنى على نتائج التجارب الإنسانية، وعلى نتاج العقل البشرى فحسب. فكر إنساني يسأل فقط، ودائما، عن “كيفية الفعل”، ويترك وينسى السؤال عن “عِلّة الفعل”.  أو بتعبير آخر يسأل دائما، “كيف”، وينسى “لماذا”. هذا التفكير المادي البحت؛ يهبط بالإنسان بالتدريج، من الآفاق الرحبة، إلى مجرد إشباع شهوات. وهو أسلوب حياة؛ يُعمى الإنسانية عن رؤية غاية الخلق، ويريها فقط واقعها الدنيء الجسد والمادة. والإنسانية اليوم، ترى نتيجة ذلك، وترى نتيجة نسيان الهداية الإلهية:

“فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ”  (79 النازعات/37-41).

 

 نعم إن الغرب اليوم، بعدما بنى التقدم العلمي الهائل، بدأ في التعرف على نتيجة الانسياق وراء المادة فحسب. لقد بدءوا يتحسسون ظلم الإنسان لغيره، سواء كانوا من أبناء جلدتهم، أو من غيرهم من الأمم.  ويرى الحكماء منهم الآن كيف ستؤدى مادية الفكر إلى تناقص أعدادهم، وربما خلال قرون يختفي جنسهم. وهذه نهاية بشعة، لا يتمناها أحد للجنس الإنساني.

 

النزاع في قضية من يفسر القرآن، نزاع مفتعل، إنساني النزعة لأن تفسير القرآن عمل شريف يريد البعض احتكاره.  وهذه طبيعة النفس الأمارة بالسوء.    والحقيقة أن الجميع – وأقول الجميع بلا استثناء – مدعوون إلى التدبر، والتفكر في القرآن.   ومن يرى – أي منهم – انه قد عنّ له معنى جديد، وأراد أن يقوله لنفسه، أو لغيره، فلا جناح عليه.  فالقرآن نفسه يحض الجميع على ذلك, ولا خوف من “امتهان” القرآن.  الإنسان الكريم الذي اختاره الله، واعتمده؛ لم يترك لنا مشكلة حفظ القرآن.   لقد كُتب القرآن في حياة محمّد عليه الصلاة والسلام. ونُسخ في ستة مصاحف في عهد عثمان، رضي الله عنه.   وبين أيدينا الآن القرآن الذي كان يقرؤه محمّد، والذين معه.   وتم حفظه والحمد الله.   وأي مفسر يخطئ؛ فإليه يعود خطأ الفهم، والتفسير.    ويظل “الكتاب الحكيم” حكيما، مسئولا عن معانيه، ولا خوف.

 

والقرآن ليس كأي كتاب آخر، من وضع الإنسان.  إنه كتاب جميع علوم الدنيا. ولا يستطيع استنباط بعض معانيه إلا ذوو الحكمة، والعلم، في جميع تخصصات العلوم: الاقتصادية، والزراعية، والصناعية، والتجارية، والتربوية، والطب، وعلوم النفس الإنسانية، وغيرهم من آلاف التخصصات.   وليس صحيحا أن كل من تخصص في فقه اللغة العربية، أو حفظ القرآن، أو أجاد تلاوته، أو حفظ كتب السنة جميعها، ونقل ما قاله من سبق من اتُفق على تسميتهم الأئمة (أربعة + واحد) قادر على الوصول إلى مراد القرآن كله. فكلٌّ يستطيع؛ بما يفيض الله عليه من خير. ويظل القرآن هو القاضي بين البشر، يحكم، ويقضي فيما كانوا فيه يختلفون. وربما؛ يكون ذلك هو المقصود، من الآية الكريمة:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً”    (4النساء/59)

 

إن في القرآن؛ بعض الآيات الكريمة، التي يتذرع بها البعض، من راغبى احتكار تفسير القرآن. وهم للأسف يسيئون فهمها، ويسيئون استخدامها للسيطرة على عقول ووجدان الناس. الآيات هي:

“وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً”  (4النساء/83)،

 

“وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ”            (16النحل/43،44)،

 

“وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ”     (21الانبياء/7، 8)،

 

والمصطلحات التي وردت في الآيات الكريمة أعلاه، هي: “الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ”، و”أَهْلَ الذِّكْرِ”. وهم يتصورون أنه؛ عندما يقول القرآن “أَهْلَ الذِّكْرِ”، أو “الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ”، فهم وحدهم المعنيون بذلك. فهل هذا صحيح؟  الصحيح أن “الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ” هم أهل العلم والتخصص في هذا المجال (الأمر) أو ذاك. ولو أعدنا القول بألفاظ عصرية مألوفة الاستخدام في واقعنا المعاصر، لقلنا: إن “الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ” (وأهل الذكر، كما سوف يتضح بعد قليل) المقصودين في الآية، هم “مراكز البحوث”.   والحافظون للقرآن، والعالمون باللغة العربية، هم ضمن هؤلاء الباحثين، يُرجع إليهم، عندما يعّن أمر مُختلف فيه، من أمور تفسير لغة القرآن.

 

معنى الاستنباط، كما قال اللغويون، هو: “الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ” أي الذين يستخرجونه منهم، والاستنباط مأخوذ من: استنبطت الماء، إذا استخرجته من البئر. والنبط: هو الماء المستنبط (المستخرج)، أول ما يخرج من ماء البئر، أول ما تحفر. وسمي النبط نبطا؛ لأنهم يستخرجون ما في الأرض. والاستنباط في اللغة: الاستخراج، وهو يدل على الاجتهاد (القرطبي في تفسير آية النساء).    والأمور التي تحتاج إلى استنباط حلول لها، في عصرنا الحالي، أصبحت كثيرة، ومعقدة، شديدة التعقيد.   ولا يكفى، بأي حال من الأحوال؛ الاكتفاء بمن تخصصوا في اللغة العربية، أو حفظوا القرآن، أو حفظوا كتب السنة. هؤلاء الذين يلقبون أنفسهم الآن بعلماء الشرع والدين، واختصارا بالعلماء، وبهذا نفوا كل علم عما عداهم.   وكما سبق أن قلنا فإن الفقه في الدين يستلزم ويستوجب معرفة سنن الله في الكون، وأهل التخصص في العلوم الكونية، كل في تخصصه، هم – مع معرفة مناسبة بلغة القرآن – أقدر الناس على تقديم الإجابة الصحيحة، وحل المشاكل، التي تعن للسائلين في المجتمعات المختلفة، عن سنن الله في كونه.

 

وفي آية الأنبياء جاء مصطلح “أَهْلَ الذِّكْرِ”، فمن هم هؤلاء؟ اختلفوا في تعيينهم. ذكر الماوردي هذه الاختلافات، فقال:

القول الأول: أهل الذكر هم العلماء بأخبار من سَلَفَ، من القرون الخالية، الذين يعلمون أن الله تعالى، ما بعث رسولا إلا من رجال (البشر)، وما بعث إليهم ملكا (من الملائكة الذين لا يأكلون الطعام، ولا يمشون في الأسواق).

القول الثاني: أنه عنى أهل الكتاب خاصة (في الآية الكريمة) وهذا قول ابن عباس.

القول الثالث: أهل الذكر “هم أهل القرآن [وردت الذكر بمعنى القرآن في آيات أخرى منها: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (15الحجر/9)] وهذا قول ابن زيد.

ونضيف، قول ابن عباس صحيح لكنه مرتبط بالزمان. فقد كان العلماء من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، هم العالمون بمجيء الرسل من البشر الذين أرسلهم الله إلينا، قبل محمّد عليهم جميعا الصلاة والسلام. و قول ابن زيد صحيح أيضا، بشرط أن نتفق على أن القرآن كتاب هداية وعلم، ذكر الله فيه علومًا عن الأمم السابقة، وأن محمدًا عليه الصلاة والسلام لم يكن بدعا من الرسل، وبذلك فمن يعلم القرآن يكون من أهل الذكر.

 

والقول الأول، هو الذي يتفق مع سياق وألفاظ الآيات الكريمة التي ورد بها مصطلح “أهل الذكر”.  ولو استعملنا المصطلحات العصرية؛ للتعريف بمعنى أهل الذكر، في هذه القضية التاريخية، يكون (أَهْلَ الذِّكْرِ) المقصودون في الآيات، هم الدارسون، المتخصصون في علوم التاريخ، خاصة تاريخ الأديان.  ويؤكد ذلك الزجاج في تفسيره يقول: “أهل الذكر” عام في من يعزى إليه علم.  ونود أن نضيف ما ذكره الراغب الأصفهاني في شرح معنى الذكر، يقول: الذكر تارة يقال به هيئة للنفس (يقصد فطرة، فطرها الله في نفس الإنسان) بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة. وهو كالحفظ، إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحراز العلم والمعرفة. والذكر يقال اعتبارًا باستحضار هذا العلم.   وهذا يؤكد أن المقصود بأهل الذكر في أي قضية، هم: العالمون، المتخصصون، بجميع أبعاد هذه القضية. وليسوا هم – بأي حال من الأحوال- المتخصصين في علوم تاريخ الرسالة، واللغة.   هؤلاء يكونون ” أَهْلَ الذِّكْرِ “؛ عندما تعّن مشكلة تختص بلغة القرآن، أو بسؤال عن تاريخ يظهور الإسلام، وأخبار تطور نشأة الدولة الإسلامية، وهكذا. وليسوا كالملح نضيفه في كل طبخة، ولا يصلح الطعام إلا بهم.”  انتهى كلام سيادته

من كتاب “والذاريات ذروا”

 

 

 خالص الشكر للأستاذ الدكتور محيي الدين عبد الغني على كريم رسالته.  ولي تعليق.

مرة أخرى, لن أناقش في تعليقي هذا أيًا من النقاط التي تعرض لها سيادة الأستاذ الدكتور وإنما سأعرض للإطار العام الذي يدور فيه حديثه وذلك من خلال الإطار العام الذي أتناول فيه الثقافة العربية, ومنتجات الثقافة العربية, أي من خلال الإطار الذي ينظر إلى مجمل الثقافة العربية على أنها ثقافة من ثقافات المرحلة الثانية.  والمقصود هنا من مصطلح “ثقافات المرحلة الثانية” هو تلك الثقافات التي تستخدم نوع التفكير الذي وصفه جان بياجيه في المرحلة الثانية من مراحل النمو الإدراكي.

 

يتميز التفكير المستخدم في المرحلة الثانية بعدد من الخصائص الأساسية التي تحدد الطريقة التي ينظر بها الإنسان إلى العالم حوله –  مثال على ذلك, مركزية الذات والنظرة الجزئية.  في حالة مركزية الذات, مثلا, يضفي الإنسان خصائصة على كل “الأشياء” المحيطة به.  أنا أفكر, إذن الأشياء تفكر.  أنا أشعر, إذن الأشياء تشعر. أنا أقصد ما أفعل, إذن الأشياء تقصد ما تفعل.  يتم هنا فرض صورة الإنسان على العالم وتحويل الظواهر إلى “أشخاص” أو إلى فرض أشخاص تقف وراء الظواهر.  لا يسقط المطر هنا لالتقاء كتلة من الهواء محملة ببخار الماء مع كتلة من الهواء البارد فيتحول بخار الماء إلى ماء ثم يسقط, وإنما يسقط المطر لأن السحاب “الطيب” شعر بأن النباتات “عطشانة” وعليه قرر أن “يسقط” هنا من أجل أن “يسقيها”, أو يسقط المطر لأن هناك رجلا في السماء يمسك بخرطوم كبير “يرش” به الأرض.  تفسير المطر عن طريق عملية “تحول بخار الماء إلى ماء” تفسير موضوعي يعتمد على “خصائص الأشياء في العالم الذي نعيش فيه”.  تفسير عملية المطر عن طريق “السحاب الطيب” تفسير تتحول فيه الظاهرة إلى “شخص”.  تفسير “خرطوم الرش” تفسير يفرض “شخصًا” وراء الظاهرة. 

 

في المرحلة الثانية, بهذا الشكل, عندما يقع جسر بمن عليه من الناس, فإن السبب في ذلك ليس أن الجسر “متهالك” وإنما لأنه “شرير”, ولا تقع حوادث السيارات لأن تصميم الطرق “متخلف” وإنما لأن السائق “متخلف” (طريق الصعيد الغربي نموذج مذهل لسوء التصميم).  أيضًا, يتم اختصار “العملية التعليمية” في شخص المدرس.  يدور الحديث, دوما, عن الإخلاص, وحسن النية, وحسن الفهم, والضمير, وقائمة طويلة من “الصفات الشخصية”, مع غياب كامل للعناصر الأخرى مثل المباني, والأجهزة والمناهج.  هذه “أشياء” وبالتالي ليست مهمة.  المهم هو “الأشخاص”.  المدرس, الناظر, الطالب, الوزير.  أعطني شخصا أفسر به الظاهرة.  ينطبق ذلك كذلك على “العملية السياسية”.  يدور النقاش هنا, دوما عن شخصية الحاكم.  عادل, مستبد, مخلص, ذكي, غبي, نظيف اليد, يسهر على رعاية مصالح رعاياه, لص.  لا يتم النظر إلى النظام السياسي على أنه نظام يتألف من عدة نظم: من نظام تعليم, إلى نظام أمن, إلى نظام علاج, إلى نظام قضاء, إلى نظام تشريع.   لا يعتمد حسن إدارة المجتمع على “حسن النظام المستخدم” وإنما – دائما وأبدا – على حسن “شخصية الحاكم”.   ونأتي إلى “موضوع” تفسير القرآن الكريم.

 

لم يحدث أن دار في ثقافتنا العربية السعيدة حوار حول “منهج تفسير القرآن”, وإنما كان الحوار دوما حول “َِِشخصيةالمفسر”.  أنظر إلى العلوم التي يحتاجها المفسر.  أنظر إلى شروط الأهلية.

 

  1. الدراية باللغة العربية,
  2. أسباب نزول القرآن 
  3. المحكم والمتشابه في القرآن
  4. القراءات السبع للقرآن
  5. طريقة رسم المصحف,
  6. علوم الحديث،
  7. علم التوحيد وأصول الدين,
  8. علم بأحكام الفقه المستنبطة من الكتاب والسنة,
  9. معرفة بالفرق الإسلامية,
  10. علم الكلام, 
  11. تاريخ الإسلام

 

أعطتنا الدكتورة بنت الشاطئ إحدى عشر شرطا يلزم توفرها جميعا – طبعا – كي يباح للمفسر أن يفسر.  وهناك نقطتان في هذا الأمر.  الأولى أن هذا ما هو إلا غيض من فيض, والثانية هو أن هذا هو عين المهيصة.   ودعنا نبدأ بالأولى أولا.

 

كلي ثقة من أن شروط الأهلية لا تقف عند حدود العلم بكل هذه العلوم وإنما تتعداها إلى شخص العالم.  إذ يجب أن يكون حليما, صبورا, خلوقا, متواضعا, كريما, شفيقا, هادئا, نظيف الثياب, حسن المعشر, طيب السيرة, شريفا, نبيها, ذكورًا, حافظا, عفيفا, لطيفا.  لن أطيل الحديث ولكني سأذكر ما قاله أينشتاين في معرض حديثه عن سعة الكون.  يقول أينشتاين: إذا أردت أن تدرك مدى سعة هذا الكون الذي نعيش فيه, فتخيل أقصى نقطة ممكنة في هذا الكون, أي تخيل آخر نقطة في أقصى طرف, وعندئذ مد يدك وستجد أنه ما زال هناك مزيد.  وعليه, ضع قائمة بكل الشروط المطلوب توافرها في “شخص المفسر”, وعندما تنتهي منها أرسلها إليّ, وبعون الله سوف أعيد إرسالها إليك وبها مزيد.  هناك دوما مزيد.   هذا فيما يتعلق بالنقطة الأولى. 

 

أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية, أي بالمهيصة, فهو أن هذا الكلام هو مهيصة.  يعلم كل عالم أن كل عالم منا لا يعلم, ولا يمكن أن يعلم, ولا أمل في أن يعلم, أكثر من “قشرة” في موضوع تخصصه.  اسأل في ذلك علماءنا الكبار أمثال الأستاذ الدكتور عبد الفتاح السيد (خبير على مستوى العالم في نوع “واحد” من الأحياء المائية) والأستاذ الدكتور محمد الحمومي (خبير على مستوى العالم في نقطة “واحدة” من علم النفس الإدراكي) والأستاذ الدكتور محمد جنيد ( الوحيد الذي أعرفه الحاصل على دكتوراة العلوم).  إسأل أي واحد منهم عما إذا كان يستطيع أن يُلِمّ أي منهم بكل جوانب تخصصه “الضيق”, وستأتيك الإجابة بأن هذا سؤال مضحك. 

 

ما تحدثنا عنه بنت الشاطيء هو ما كان يحدثنا عنه أئمتنا العظام أيام لم يكن هناك كتب, ولا علم, ولا يحزنون.  أيام كان عدد الكتب المتوافرة في الثقافة العربية هو كتاب واحد اسمه “الكتاب” (القرن الثاني الهجري) أو عشرون كتابا (القرن الثالث الهجري) أو خمسون كتابا (القرن الرابع الهجري).  (راجع في ذلك البحث الذي أجراه المهندس محمد خليفة عن المخطوطات العربية في القرون الأولى من الهجرة)  في مثل هذا الوضع يمكن الحديث بالطريقة التي تتحدث بها بنت الشاطئ.  المسألة لا تحتاج إلى أكثر من قراءة كتاب كل أسبوع, وبذلك لا يأخذ الأمر أكثر من سنة, أو سنة ونصف على أكثر تقدير.  نحن, إذن, أمام “فكرة” تناقلها السلف الصالح حتى وصلت إلينا وما زلنا نرددها, كما هي العادة, بدون تفكير.  هذا من ناحية.  من ناحية أخرى, لا بد من الانتباه هنا إلى “نوع” هذه المعلومات التي يشترط امتلاكها من أجل استكمال شروط الأهلية.

 

لا يحتاج الأمر في حالة الشرط الأول, أي في حالة شرط الدراية باللغة العربية, إلى أكثر من الإشارة إلى أنه إذا كان المقصود بـ”الدراية باللغة العربية” الدراية بصرف, ونحو, وأصوات, ودلالات, واستعمالات اللغة العربية, فإن معلوماتنا عن اللغة العربية الآن لا تزيد عما أخبرنا به سيبويه في كتابه منذ حوالي 1300 عام (ألف وثلاثمائة عام).  كما يعلم كل من له علم بالنحو والصرف لم يكن كتاب سيبويه أول كتاب في النحو وحسب, بل كان آخر كتاب أيضا.  يعني ذلك أن معلوماتنا عن النظام اللغوي العربي تعكس ما كان الجنس البشري يعرفه عن الأنظمة اللغوية منذ حوالي ألف وثلاثمائة عام.  الفرق بين ما يعرفه الجنس البشري عن الأنظمة اللغوية الآن, وما كان يعرفه عنها منذ أكثر من ألف وثلاثمئة عام لا يختلف عن الفرق بين ما يعرفه الجنس البشري الآن عن المركبات الفضائية وما كان يعرفه عن المركبات الحربية منذ ألف وثلاثمئة عام (مركبات الهكسوس أو الرومان).   ما تحدثنا عنه العالمة الجليلة بنت الشاطئ, بهذا الشكل, هو حديث نستمع إليه ثم نقول عنه: هذا حديث أئمتنا العظام في القرون الأولى من الهجرة.  لا تعلم سيادتها, مثلها في ذلك مثل أغلبية المتحدثين باللغة العربية, أن العالم قد تغير عما كان الأمر عليه منذ حوالي ألف وثلاثمئة عام.

 

عند الحديث عن “تفسير القرآن”, دار الحوار دوما, كما رأينا, حول “شخصية المفسر” وعن العلوم التي يحتاجها, والصفات التي يجب توافرها فيه, إلا أنه لم يدُر أبدًا حول “منهج تفسير القرآن”.  لم يحدث أن دار الحوار حول “الإطار النظري” الذي يقوم عليه التفسير.  أي نوع النظرية اللغوية المستخدمة في التفسير – خاصة نوع النظرية “الدلالية” – فضلا عن نوع النظرية التاريخية التي تقود البحث, والنظرية الأخلاقية, والنظرية الاجتماعية, والنظرية السايكولوجية.  كل هذا على المستوى “الضيق”.  لم يدر الحوار أبدا حول ما إذا كان من الضروري التصريح بالفرضيات التي يقوم عليها التفسير (وهو أمر أراه أنا أمرًا ضروريا حيث يدل على الوعي بالفرضيات التي يقوم عليها التفسير).  لم يدر الحوار كذلك حول الاتساق الداخلي, والخلو من التناقض.  كل ذلك أيضا على المستوى الضيق.  أما على المستوى الأعلى, فلم يدُر الحوار حول ما إذا كانت النظرية “الكونية” التي يقوم عليها التفسير ترى أن العالم يسير حسب سنن إلهية ثابتة بحيث يمكن لنا (نحن أعضاء الجنس البشري) أن نكتشف هذه السنن ونفهم طريقة عمل دنيا الله التي نعيش فيها, أم أننا نعيش في عالم لا يخضع لأي نظام, ولا لأي قانون, وإنما هو عالم كل شئ ممكن فيه, أم أننا نعيش في عالم منضبط في جانب منه وغير منضبط في جانب آخر, أو منضبط أحيانا وغير منضبط أحيانا أخرى.  ما نوع العالم الذي نعيش فيه؟ 

 

كأن السؤال هنا هو كالتالي:

هل هناك وعي في الثقافة العربية بالطريقة المستخدمة في تفسير القرآن الكريم وبالفرضيات التي تقوم عليها تفسيرات القرآن الكريم؟  هل يوجد هناك وعي, أصلا, بأن هناك شئ اسمه “منهج تفسير القرآن الكريم”؟  حقًا, هناك عشرات التفاسير, إن لم يكن مئات التفاسير للقرآن الكريم في الثقافة العربية, إلا أن أن السؤال هنا هو كالتالي:  هل تساءل أحد عن “منهج تفسير القرآن الكريم”؟  

 

لم يحدث.  لم يحدث أن دار في ثقافتنا العربية السعيدة حوار حول “منهج تفسير القرآن”, وإنما كان الحوار دوما حول “ِشخصية المفسر”.  المسألة دائما شخصية.  عند الكلام في السياسة يدور الكلام حول شخصية الحاكم, وعند الكلام في موضوع التعليم يدور الكلام حول شخصية المعلم, وعند الكلام عن الأدب يدور الكلام عن شخصية الأديب, وعند الكلام عن التاريخ يدور الكلام عن الشخصيات التاريخية, وعند الكلام عن التفسير يدور الكلام حول شخصية المفسر.  موضوع أن هناك “عوامل موضوعية” تحكم الظاهرة موضع الكلام هو موضوع خارج نطاق الوعي.  في ثقافات المرحلة الثانية يتم تفسير الظاهرة إما عن طريق تحويلها إلى شخص (السحاب الطيب) أو عن طريق اختراع شخص يديرها (الرجل الممسك بالخرطوم).   ينطبق ذلك على تفسير القرآن الكريم, كما ينطبق على سقوط الأمطار.

 

في الثقافة العربية “السعيدة”, مثلها في ذلك مثل كل ثقافات المرحلة الثانية, لا يدور الحديث أبدا, أو تقريبا أبدا, عن متى, وكيف, ولماذا, وأين, وإنما يدور دائمًا وأبدًا, أو تقريبًا دائمًا وأبدًا, عن من.  من؟

 

كمال شاهين

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.