والآن ماذا يفعل العبيد؟

 

والآن ماذا يفعل العبيد؟

 

لم أكن أحلم “على الإطلاق” أن يأتي يوم أصارح فيه أهلي بحقيقة أمرهم.  لم أكن أحلم “على الإطلاق” أن يأتي يوم أصارح فيه عموم “الشعب” بأمر لم أصارح به إلا أخلص أصدقائي.  إذ كيف لك أن تصرح لشعب بأكمله بأنهم شعب من العبيد؟  إلا أن هذا اليوم قد جاء أخيرًا, والآن, فقط, يمكنني أن أقول للشعب المصري بأنهم شعب من العبيد.

 

لم يكن إحجامي عن التصريح ناتجا عن “خوف” وحسب وإنما كان نتيجة إدراكي أن القيام بمثل هذا العمل هو “حماقة” لأن التصريح بمثل هذا الأمر هو أمر يؤذيني ويؤذيهم.  هو أمر يؤذيني لأن رد فعل “أولياء الأمور” سوف يكون عنيفا حيث من غير المسموح به أن يكاشف العبيدُ العبيدَ.  كما أنه أمر يؤذي العبيد لأنه سيكشف لهم عن أمر لا يستطيعون حياله شيئا.  اليوم فقط بعد أن تحرر العبيد أستطيع أن أصارحهم بحقيقة أمرهم – أي أنهم “كانوا” عبيدا.  ويبقى السؤال : ماذا يفعل العبيد الآن وقد تحرروا؟

 SLAVE1.jpg

بعد سقوط الخلافة العثمانية في أوائل القرن الماضي صدرت الأوامر بتحرير العبيد, كل العبيد.  وخرج الأغوات كما خرجت الجواري من قصور السلطان العثماني لأول مرة في حياتهم لينطلقوا في كافة أنحاء اسطمبول.  لم يطل الأمر كثيرا, على أية, حيث سرعان ما عادوا إلى قصر السلطان بعد أن تبينوا أن لا عمل هناك يمكن أن يؤدوه حيث لم يعد هناك من يمكنه أن يقتني العبيد.  عاد الأغوات, وعادت الجواري, إلى قصر السلطان, إلا أن السلطان كان قد غادر.  خرج الأغوات, وخرجت الجواري إلى بوابات القصر في انتظار السلطان.  مات الأغوات والجواري أمام أبواب القصر في انتظار السلطان الذي لم يعد أبدا.

 

في منتصف القرن الماضي قام الملك فيصل, رحمه الله, بإصدار قرار بتحرير العبيد في المملكة العربية السعودية.  خرج “الأحرار” إلى فضاء السعودية الواسع بل غيروا اسم “الحِلًة” التي كانوا يقيمون بها في “بطحاء” الرياض من “حلة العبيد” إلى “حلة الأحرار”. رفض الكثير من “الأحرار”, على أية حال, أن يتركوا بيوت سادتهم وينطلقوا إلى أرض الله الواسعة حيث لم يكن لديهم ما يمكن أن يقدموه إلى أي إنسان مقابل قوتهم سوى أن يكونوا عبيده وجواريه – وهو ما لم يعد مباحًا بل أصبح ممنوعًا ومحرما.  بقي “الأحرار” في بيوت سادتهم الذين شعروا – أي السادة – بأن عليهم التزام أخلاقي برعاية عبيدهم السابقين غير المؤهلين لرعاية أنفسهم.  مات “الأحرار” “عبيدًا” في بيوت سادتهم.  كان على السادة أن ينتظروا جيلاً, وأحيانًا جيلين, حتي يتم تأهيل “الأحرار” على مواجهة الحياة بأنفسهم من غير سادة “يرعونهم”.

 

في عام 1835, خرج تشارلز داروين في رحلة نظمتها البحرية البريطانية بهدف دراسة نباتات وحيوانات أمريكا الجنوبية.  رست السفينة به على مجموعة من الجزر تدعى باسم “الجالاباجوس”.  فوجئ داروين بحيوانات “قديمة” ذات أجهزة هضمية “بدائية”, وأجهزة تنفسية “بدائية” – حيوانات لا مثيل لها في أي مكان آخر في العالم.  حيوانات عجز العلم عن تفسير وجودها إلا بعد أن تبين أن هذه الجزر كانت قد انفصلت عن الكتلة القارية لأمريكا الجنوبية منذ حوالي ثلاثمئة مليون عام.  سبحت جزر الجالاباجوس بعيدا عن أمريكا الجنوبية بحيواناتها ونباتاتها تاركة بقية حيوانات أمريكا الجنوبية والشمالية, وآسيا, وأوروبا, وأفريقيا مشتبكة في التنافس حول البقاء.  “تتطور” عامًا بعد عام, بل يومًا بعد يوم.  بقيت حيوانات الجالاباجوس منعزلة عن العالم, لا تنافس بينها وبين بقية حيوانات العالم.  بقيت “بدائية”.

 

في 25 يناير 2011 خرجت مجموعة من الشبان والشابات في شوارع القاهرة تطالب بحقها في الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية.  كان المشهد عجيبًا في مدينة لم تسمع منذ أن أنشأها المعز لدين الله الفاطمي سوى صياح الجياع طلبًا للخبز.  كان المشهد عجيبًا في الاسكندرية, والسويس, والمنصورة, والاسماعيلية, وعشرات المدن الأخرى في مصر.  كيف للعبيد أن يطالبوا بالكرامة؟  كلنا كنا نتوقع ثورة “الجياع”.  في بلد العبيد يخرج العبيد يطالبون بالخبز.  الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية لا تهم العبيد.  الأحرار فقط هم الذين تهمهم الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية.

 

كان يوم 25 يناير هو اليوم الذي أعلن ميلاد “المصريين الجدد” وهو يوم استقبله “قدامى المصريين” بمشاعر مختلطة حيث رأوا فيه وعدًا بخبز أكثر في قابل الأيام كما رأوا فيه تهديدًا لخبز يومهم.  خرج الجميع – أي الجميع من قدامى المصريين – كل يبحث عن رغيفه.  هناك من قبل على الفور برغيفين من الخبز وكيلو أو اثنين من “اللحمة” مقابل القضاء على “المصريين الجدد”, وهناك من “يتفاوض” من أجل عدد أكبر من الأرغفة مقابل خدماته كخبير دستوري, أو سياسي, أو إعلامي, أو عسكري.  كلهم عبيد لا يهمهم إلا عدد الأرغفة التي سيحصلون عليها في نهاية الأمر.  أما موقف الأغلبية العظمى الذين لم يعلنوا موقفهم – فالعبيد ليس لهم مواقف – فهو الانتظار حتى يسفر الأمر إما عن انتصار “المصريين الجدد” أو انتصار “أولياء أمورنا” وعندئذ سوف يخرجون لتأييد المنتصر أيا من كان.  كل ما يهم قدامي المصريين هو خبز يومهم.

 

أشكر أبنائي الذين ضحوا بحياتهم من أجل حقهم في العيش بكرامة.  أشكر كل شاب وشابة سارت أقدامهم الطاهرة في شوارع وميادين مصر طلبًا للكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية.  أشكر الملائكة الذين ذهبوا إلى لقاء خالقهم كما أشكر الملائكة الذين يعيشون بيننا في شوارع وميادين مصر. لم أكن أتخيل في يوم من الأيام أن أرى مصريّة أو مصريًا يفضل أن يموت على أن يعيش عيشة الذل التي نحياها.  كنت أظن أن الأوربيين فقط هم الذين تهمهم الكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية.  أعتذر لمصر لأني كنت أنظر إليها دومًا على أنها أرض الذل, والاستبداد, والخنوع.  لم أكن أتصور, ولو للحظة, أن هذه الأرض يمكن أن تنجب نساءً ورجالاً أحرارا.  كم أنا سعيد بأن الأيام أثبتت خطئي.  كم أحب شباب 25 يناير.  كم أحب المصريين الجدد.

 

#كمال_شاهين

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

التعليقات مغلقة.