علاقة المسلمين بالعلم الحديث

 

 

علاقة المسلمين بالعلم الحديث

 استمرارًا للحوار الدائر في مركزنا حول دور العلم في الثقافة العربية, أرسل إلينا سيادة الأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد رسالة يحدثنا فيها عن علاقة المسلمين بعلوم الطبيعة الحديثة.  لأهمية ما يقوله سيادته سوف أبدأ بتعليقي عليها أولاً. 

 علم.jpg

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

 

 

يذهب مفكرنا الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد إلى أن العلاقة بين المسلمين وبين العلوم الطبيعية الحديثة علاقة “فاسدة”.  يبين سيادته أن “أس الفساد” يعود إلى ما يسمي “بالعلوم الإسلامية”, مثل علوم القرآن, والحديث, والفقه, والعقيدة, التي أسسها المسلمون منذ أكثر من ألف سنة.”

 

يرى سيادته أن فساد هذه العلاقة يعود إلى التالي:

أولاً, أن هذه العلوم الإسلامية قد حكمت حكما نهائيا منذ تطويرها بأن أي تغيير يطرأ على فهمنا للعالم – كما حدده مطورو العلوم الإسلامية في عصر التدوين – هو تهديد لجوهر هويتنا, ومحاولة لتحطيم ديننا, وتشويه لعلاقتنا بالواحد الأحد.  

 

ثانيًا, أن واضعي العلوم الإسلامية حددوا لنا ما هو مسموح لنا بالتفكير فيه بما وافق آفاقهم المعرفية الضيقة منذ أكثر من ألف سنة, ولم يكتفوا بخنق عقولنا بما هو مسموح بالتفكير فيه, وما هو المتاح لدراسته, بل هددونا بالكفر والضلال إذا ما خرجنا عما سمحوا لنا بتعلمة ودراسته.    

 

ثالثـًا, أن هذه “العلوم” الإسلامية اختزلت السببية في أي حدث يحدث في الكون إلي سبب واحد فقط لا غير, هو وجود الله سبحانه وتعالى.  نفت هذه “العلوم الإسلامية” وجود أي مؤثرات أخرى في الكون غير هذا السبب, ولم تتوقف هذه العلوم عند هذا الحد بل جزمت بعدم وجود قوانين للطبيعة, وحكمت بالكفر على من يتطرق ذهنه إلي وجود هذه القوانين.  هذه هي العقيدة التي تحدد علاقتنا وفهمنا لله جل جلاله وقدرته والتي (صدق أو لا تصدق) يطالب الأزهر بتدريسها حتى في مدارسنا العامة.          

 

رابعـًا, أن هذه العلوم الإسلامية خلطت بدون تمييز بين ما هو وحي إلهي وما هو آراء ووجهات نظر لبشر, كما لم تميز بين ما هو إلهي ثابت, وبشري متغير يحتمل الصواب والخطأ.       

 

 

وأخيرًا, يبين سيادته أن ترسخ هذه “العلوم” الاسلامية في رؤوس المسلمين إلى اليوم قد أدى إلى أن علاقتهم بعلوم الطبيعة الحديثة وأخبار الاكتشافات العلمية الجديدة الدائم ظهورها قد أضحت علاقة سلبية.   وكيف لا تكون سلبية حين تهدم صباح كل يوم جديد ما وضعة مؤسسو “العلوم” الإسلامية في عقولنا من أن علوم الغيب والشهادة كليهما علوم لدنية ثابتة لا تتغير؟   كيف تكون علاقتنا كمسلمين بالعلوم الحديثة علاقة أقل من عدائية وهذه العلوم لا نراها موجودة في الوحي الإلهي كما أقنعنا علماء الإسلام بشموليته منذ القدم؟  كيف تكون علاقتنا نحن كمسلمين بالعلوم الحديثة علاقة لا يشوبها الشك والخوف على حين أقنعنا مؤسسو “علومنا الإسلامية” أن هناك سببية واحدة في الكون, وأن وجود قوانين الطبيعة يتعارض مع قدرة الله؟   كيف تكون علاقتنا بالعلوم الحديثة علاقة إيجابية في الوقت الذي تهدم فيه هذه العلوم الكافرة الأسس التي تقوم عليها كل الثوابت التي عرّفتها “علومنا” الإسلامية القديمة بأنها ثوابت لا تتغير؟   كيف تكون علاقتنا نحن المسلمين بالعلوم الحديثة علاقة غير دفاعية في الوقت الذي تقترب فيه هذه العلوم “الملعونة” من الكشف عن كيف ظهرت الحياة على ظهر الكرة الأرضية, بل وتقترب من الكشف عن عمر الكون وتستنتج أن له بداية محددة؟   وبالطبع, فإن هذه العلاقة التي يشوبها الشك, والشعور بالخوف والرهبة, تخلق نوعًا من الارتباك والإضطراب في عقل صاحبها, والشعور بأنه هو ودينه مستهدفان.  

 

 

المذهل في الأمر أن سيادته يخبرنا بعد ذلك بالتالي:

 

  1. أن هذه العلوم الإسلامية كانت في أوج مجدها منظومة من العلوم المتكاملة العبقرية الخلاقة الغير مسبوقه.

  

  1. أن واضعي “العلوم” الإسلامية في القرون الوسطي لم يرتكبوا جرمًا في تطوير مفاهيمهم المشار إليها بل علي العكس فقد كان تفكيرهم غاية في التقدم والتطور في وقتهم. 

 

  1. أن علاقة المسلمين مع العلوم بصفة عامة في وقت وضع وتطوير “العلوم” الإسلامية لم تمثل مشكلة لأن هذه العلوم الإسلامية المذكورة التي كانت قد طوٍرت تقريبا في نفس الوقت وفي نفس المكان وكذلك المحيط الذي كان فيه المسلمون روادا في علوم الطبيعة, والجبر, والرياضيات, والفلك, والمعمار, والطب, وخلافه.  

 

  1. أن المشاكل بدأت في الظهور في علاقة المسلمين بعلوم الطبيعة الحديثة عندما انتقلت مراكز تطويرعلوم الطبيعة إلى الغرب وبدأت مشكلة هذه العلاقة في التزايد وبالذات عندما تقدمت علوم الطبيعة الحديثة إلى درجة أنها غيرت كثيرًا من المفاهيم المهمة, بل الأساسية, في عددٍ من المفاهيم التي أقنعتنا “العلوم” الإسلامية بأنها من ثوابت ديننا وجوهره.

 

 

لم تكن “العلوم الإسلامية” في أوج مجدها منظومة من العلوم المتكاملة, العبقرية, الخلاقة, الغير مسبوقة.  إذا كان مصطلح “العلوم الإسلامية” يشير إلى “علوم القرآن, والحديث, والفقه” فهذه علوم لا يجب, بداية, إطلاق اسم “علوم إسلامية” عليها.  هذه “علوم فارسية” لا تمثل بالمرة دين الله وإنما تمثل الرجال الذين أنتجوها, والثقافة التي أنتجت هؤلاء الرجال. 

 

بذل “مركز تطوير الفقه السني” أقصى جهده لبيان بدائية الفقه السني القديم, وبدائية علم الحديث.  لم يكن الفقه السني القديم لحظة واحدة “علمًا, عبقريا, خلاقا, غير مسبوق”, وإنما كان من لحظة ولادته علمـًا, شعبيا, بدائيا, مضطربًا, معاديا لدين الله.

 

لم يكن تفكير واضعي “العلوم الإسلامية” في القرون الوسطى غاية في التقدم والتطور في وقتهم.  الفقه السني القديم هو الفقه الوحيد في الديانات السماوية الذي يبيح أكل لحوم البشر.  يستحيل النظر إلى هذا الفقه على أنه يمثل غاية التقدم والتطور.  حتى في عصور الظلام (أي ما قبل القرون الوسطى) لم يكن الأمر على هذه الدرجة من السوء.  يظهر ذلك بوضوح تام في أحكام معاملة الأسرى.  مازال الفقه السني القديم إلى يوم الله هذا يبيح قتل الأسرى, وسبي النساء, واستعباد الأطفال.  راجع الكتب التي يدرسها الأزهر الشريف لأطفالنا, وشبابنا.

 

لم تبدأ المشاكل في علاقة المسلمين بعلوم الطبيعة الحديثة في الظهور عندما انتقلت مراكز تطوير العلوم الطبيعية إلى الغرب.   لم تفتح “مصانع العلم” في أوربا أبوابها إلا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي في بدايات عصر النهضة.  ولد الإمام الأعظم أبو حامد الغزالي رضي الله جل وعلا عنه وأرضاه في القرن الحادي عشر الميلادي, أي قبل ظهور علوم الطبيعة الحديثة بقرون.  لم يرفض الإمام الأعظم “علوم الطبيعة الحديثة”, وإنما رفض “علوم الطبيعة القديمة”.  حقيقة الأمر, القديمة جدًا.  لم يرفض الإمام الأعظم “الفلسفة” عندما كتب تهافت الفلاسفة, وإنما رفض “العلم”.  رجاء الانتباه إلى أن مصطلح “الفلسفة” في العصور القديمة كان يشير إلى ما نسميه نحن اليوم بـ”العلم”.  يعني ذلك أن كتاب الإمام الأعظم المسمى باسم “تهافت الفلاسفة” لا يشير إلى فلاسفة مثل جان بول سارتر, أو آلبير كامي, أو سقراط, أو أفلاطون, وإنما إلى علماء مثل إسحاق نيوتن, وجاليليو, وتوماس إديسون, وأحمد زويل, وأحمد عمر سعد. 

 

“توفر الإمام الأعظم أبو حامد الغزالي على دراسة العلوم الطبيعية والرياضية لمدة ثلاث سنوات فقط ثم تصدى للخطاب العلمي فقال عنه إنه خطاب متهافت متساقط متناقض لأنه حسب رؤيته عجز عن إثبات حدوث العالم ثم حذر من تعاطي العلم إلى درجة تحريم دراسة الرياضيات فهي حسب اعتقاده آفة عظيمة لأن المتعاطي بها قد يعجب بمنهجها ودقة براهينها فيحسن اعتقاده بالعلم, كما حرم دراسة الطبيعيات وقال إنها آفة أيضا لأنها مبنية على القول بالسببية والنتيجة وفي هذا إنكار للبعث الجسماني يوم القيامة وإبطال معجزات الأنبياء التي أيد الله بها الأنبياء مثل تحويل النار التي ستحرق إبراهيم إلى ماء باردة وتحويل العصا في يد موسى إلى أفعى.”

 

في دراستنا للعلوم الفارسية الشعبية يلزم الانتباه إلى أننا نتعامل مع علوم شعبية.  لم تكن العلوم الفارسية الشعبية علوما “إسلامية” وإنما كانت علومًا “فارسية شعبية”.

 

 

يقول سيادة الأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد:

“في هذا البحث سوف نلقي نظرة على العلاقة المعقدة بين المسلمين السّنة (وسوف نشير إليهم هنا بـ”المسلمين” للاختصار) في القرن الحادي والعشرين وعلوم الطبيعة الحديثة.   سوف نتطرق كذلك إلى ما يسمي “بالعلوم” الإسلامية, مثل علوم القرآن, والحديث, والفقه, والعقيدة, التي أسسها المسلمون منذ أكثر من ألف سنة.   كما سندرس أثر هذه العلوم على العلاقة المتزايدة في التعقيد بين المسلمين وبين علوم الطبيعة الحديثة.   من اللازم هنا, وقبل كل شيء, التمييز بكل وضوح, وبدون خلط بأي شكل من الأشكال, بين وحي الله سبحانه وتعالى إلي نبيه المصطفى – هذا الوحي الإلهي الموجه للبشرية كلها لهداها – وبين “العلوم” الإسلامية,  وهي  علوم لا تتعدى أن تكون مجموعة من الأفكار وطرق النظر إلي الأمور الدينية والدنيوية كان قد بدأ في تطويرها مجموعة من المفكرين المسلمين حوالي قرنين من الزمان بعد الهجرة. 

 

وللحق, فإن هذه العلاقة المتعددة الجوانب بين المسلمين وبين علوم الطبيعة الحديثة تزداد تعقيدا كلما زاد تقدم علوم الطبيعة الحديثة بصفة عامة وبالذات في بعض المجالات الحساسة مثل مجال دراسات الجينات وطرق التحكم في وظائفها وتأثير هذا علي مفهومنا لمعنى أن يكون كائن حيًا أم غير حي, أو كيف بدأت الحياة على الأرض، أو في مجال دراسات العلوم الكونية وتأثيرها على مفهومنا لعمر الكون, ونشأته, وتطوره, ومثل دراسات علوم المخ التي تهدف إلى فهم اللعقل البشري وكيف يعمل, وتأثير هذا على مفهومنا لمقدرة الإنسان على أن يكون مخيّرا أو مسيرّا.

 

والآن أصبح من الضروري طرح السؤال التالي: ما هي خصوصية  المسلمين التي  تجعل علاقتهم مع علوم الطبيعة الحديثة تختلف عن علاقة المسيحيين البروتستانت, مثلا, مع علوم الطبيعة الحديثة, أو علاقة الكنفوشيوسيين, مثلا, أو  اليابانيين, أيضًا مثلا, أو بقية أهل الأرض جميعا مع هذه العلوم؟    

 

في هذا المقال سوف نحاول طرح الفكرة التالية : أن هذه الخصوصية التي تشكل علاقة المسلمين السنة مع علوم الطبيعة الحديثة هي في الحقيقة مجموعة أخرى مختلفه من “العلوم” ألا وهي مجموعة ما يسمي “بالعلوم” الإسلامية المشار اليها سابقا.   وهذه “العلوم” الإسلامية تؤثر, بل تحدد وتشكل رؤية المسلم ليس فقط للوحي الإلهي والدين بل كذلك رؤيته للعالم الحسي الذي يعيش فيه (والذي تصفه العلوم الطبيعية الحديثة) وحتي علي علاقة المسلم بأسرته وبقية المسلمين وغير المسلمين.   لم يتوقف تأثير هذه العلوم الإسلامية عند هذا الحد بل حددت بالتفصيل علاقة المسلم بهذه “العلوم” الإسلامية نفسها.   يشمل ذلك تأطير عقل المسلم وطريقة تفكيره في هذه العلوم وتحديد منزلة العقل البشري بالنسبة لهذه العلوم وتحديد وظائف عقل المسلم وحتي طريقة تفكيره بشكل عام.

 

إن مشكلتنا الحقيقية هي أننا آمنا, وما زلنا نؤمن إلى الآن, بهذه “العلوم” الإسلامية أكثر من إيماننا بوحي الله جل جلالة علي رسوله الكريم, واتبعنا تعليماتها حرفيا مما تسبب في تحنيطنا وتجميدنا لهذه العلوم الإسلامية, وإعتقدنا خطئًا أنها هي (مع كونها أولا وأخيرا مجهودًا بشريا) قلب وقالب ديننا,  والأسوأ من هذا اننا ما زلنا نتوارثها إلى الآن.   وتحولت هذه المحنطات المتجمدات مع الوقت إلى مكون أساسي من مكونات ثقافتنا وأصبحت تؤثر تأثيرًا كبيرًا على رؤيتنا لأنفسنا وللعالم الذي نعيش فيه, وكذلك في علاقتنا بعلوم الطبيعة الحديثة.

 

وبالطبع لم تكن علاقة المسلمين مع العلوم بصفة عامة في وقت وضع وتطوير “العلوم” الإسلامية تمثل مشكلة لأن هذه العلوم الإسلامية المذكورة التي كانت قد طوٍرت تقريبا في نفس الوقت وفي نفس المكان وكذلك المحيط الذي كان فيه المسلمون روادا في علوم الطبيعة, والجبر, والرياضيات, والفلك, والمعمار, والطب, وخلافه.   إلا أن المشاكل بدأت في الظهور في علاقة المسلمين بعلوم الطبيعة الحديثة عندما عندما انتقلت مراكز تطوير علوم الطبيعة إلى الغرب وبدأت مشكلة هذه العلاقة في التزايد وبالذات عندما تقدمت علوم الطبيعة الحديثة إلى درجة أنها غيرت كثيرًا من المفاهيم المهمة, بل الأساسية, في عددٍ من المفاهيم التي أقنعتنا “العلوم” الإسلامية بأنها من ثوابت ديننا وجوهره.

 

 

وقبل أن نعرج إلى تفاصيل أسباب مشكلة العلاقة بين المسلمين وعلوم الطبيعة الحديثة سوف أوجز وصف تصور العلوم الإسلامية إلى وظيفة العقل البشري, وكيف حددت منزلته.

1-    حدد فليسوف الإسلام وحجته, الإمام أبو حامد الغزالي, وظيفة العقل المسلم المؤمن بالعقيدة الأشعرية (الغالبية العظمي من المسلمين السنة)  “” العقل الأشعري هو العقل الذي وظيفته الأولي والأخيرة التيقن من صحة نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم يعزل أو يقيل نفسة””.  (هذا على عكس الآيات الكثيرة في القرآن الكريم التي تحض المسلم على الفهم). لم يكن هذا من شأنه وضع  العقل الإسلامي خارج نطاق الخدمة والحط من منزلته وحسب, بل أكد كذلك أن كل مايحتاجه المسلم من معلومات لحل مشاكل حياته في هذا العالم وكذلك عالم الغيب موجود في الوحي الإلهي,  وبالتالي فلا داعٍ للبحث عن مصادر أخرى.

2-     تعتقد وتجزم الغالبية الساحقة من مفكري ومؤسسي العلوم الإسلامية منذ قبل ألف عام أن وظيفة الدين هي تقويم العقل البشري, وعلى هذا فليس هناك مجال لأن ينتقد العقل أو يحكم على الدين بأي شكل من الأشكال, وعلى أية صورة من الصور,وهو ما يعني التقليل من منزلةالعقل الذي بدونه لا يكلف الإنسان.  

 3-     تؤمن جل مذاهب التصوف بالعرفان وهو أن العلم الإلهي ينتقل مباشرة من الله إلى قلب الصوفي الذي يكون قد وصل إلى مرحلة معينة من حب الله، وهذا يلغي العقل كاملا من معادلة الفهم والتفكير.

 

 

والآن نرجع مرجعنا إلى اعتبار وفهم السبب الأساسي لهذه العلاقة السلبية بين المسلمين وبين علوم الطبيعة الحديثة.  إن المحور الأساسي وأس الفساد في هذه العلاقة بين المسلمين وبين علوم الطبيعة الحديثة هي هذه “العلوم” الإسلامية المحنطة المجمدة التي استبدلنا وحي الله إلى رسوله بها وأصبحت  هي, في الحقيقة, ديننا ذاته في عقولنا ووجداننا.  حقيقة الأمر, أصبحت هذه العلوم, بدون أدنى شك, علة هذه العلاقة العليلة المتردية بعلوم الطبيعة (وحتي بالإسلام نفسه).   يمكن تعليل ذلك كالتالي:

 

1- أن العلوم الإسلامية قد حكمت حكما نهائيا منذ تطويرها بأن أي تغيير يطرأ على فهمنا للدين, وحتى للعالم – كما حدده مطورو العلوم الإسلامية في عصر التدوين – هو تهديد لجوهر هويتنا, ومحاولة لتحطيم ديننا, وتشويه لعلاقتنا بالواحد الأحد.   على عكس كلام الله في كتابه الكريم  “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” الآية ٤٨ من سورة المائدة

 

2- أن هذه العلوم الإسلامية التي تجاهلت الآيات القرآنية العديدة التي تحض المسلمين مرارا وتكرارا على التفكر, والتعقل, والفهم, في أكثر من مائة آية في القرآن الكريم (كل بقدر ما يستطيع), وبدلا من هذه الرخصة التي أعطاهنا الخالق وحثنا عليها مرارا وتكرارا، حدّد, وضيّق واضعو العلوم الإسلامية ما هو مسموح لنا التفكير فيه بما وافق آفاقهم المعرفية الضيقة منذ أكثر من ألف سنة, ولم يكتفوا بخنق عقولنا بما هو مسموح التفكير فيه, وما هو المتاح لدراسته, بل هددونا بالكفر والضلال إذا ما خرجنا عما سمحوا لنا بتعلمة ودراسته.    وكان أن أصدر فليسوف الإسلام وحجته, الإمام أبو حامد الغزالي, فرمانا إسلاميا أمر فيه المسلمين بنبذ دراسة العلوم الطبيعية, والرياضيات, والفلسفة (لم يستثنِ من ذلك المنع إلا دراسة الطب) ووصفها بأنها علوم “الكفر والزندقه”.   وللأسف, مازالت كتب الإمام الغزالي هي لليوم من أكثر الكتب شيوعًا  وقراءة.

 

3-  اختزلت هذه “العلوم” الإسلامية السببية في أي حدث يحدث في الكون إلي سبب واحد فقط لا غير, هو وجود الله سبحانه وتعالى.    نفت هذه “العلوم الإسلامية” وجود أي مؤثرات أخرى في الكون غير هذا السبب, ولم تتوقف هذه العلوم عند هذا الحد بل جزمت بعدم وجود قوانين للطبيعة, وحكمت بالكفر على من يتطرق ذهنه إلي وجود هذه القوانين.    طريقة التفكير هذه هي قلب عقيدتنا التي أسسها أبو الحسن الأشعري منذ أكثر من ألف عام مضى.   هذه هي العقيدة التي تحدد علاقتنا وفهمنا لله جل جلاله وقدرته والتي (صدق أو لا تصدق) يطالب الأزهر بدراستها حتى في مدارسنا العامة.            

 

4- أكدت العلوم الإسلامية, وأعادت التأكيد, علي أن أي أفكار قديمة أصح وأدق من أي أفكار جديدة لمجرد كونها جديدة, بصرف النظر عن صحتها أو خطئها, وهو ما تسبب في كره أي أفكار جديدة في أي مجال من المجالات مهما كانت طبيعته.

 

5- أكدت هذه العلوم الإسلامية أن حلول جميع المسائل التي يقابلها المسلم في حياته, وكل المشاكل الحياتية, وكذلك كل العلوم المتعلقه بالآخرة (والتي هي مصرح للبشر العلم بها) أكدت أن كل هذه المعلومات موجوده في الوحي الإلهي الي رسول الإسلام.   مثال على ذلك فقد فسروا خطئًا, واستشهدوا بـ ” وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ”” الآية ٨٩ من صورة النحل

 

6- خلطت العلوم الإسلامية, وفهمنا المرتبك لها, بدون تمييز, بين ما هو وحي إلهي وما هو آراء ووجهات نظر بشرا ماتوا منذ ألف عام, ولم تميز بين ما هو إلهي ثابت, وبشري متغير يحتمل الصواب والخطأ.

 

7- أحد الأحاديث التي فسرتها خطئًا هذه العلوم الإسلامية, والتي تحولت على مدى القرون إلى قاعدة تسيطر علينا بصفة عامه, وتحكم علاقتنا بأي جديد من العلم هي أن أي جديد هو فتنة في حياة المسلمين وأن مآله إلى النار.

 

لقد تحولت هذه العلوم الإسلامية التي كانت في أوج مجدها منظومة من العلوم المتكاملة العبقرية الخلاقة الغير مسبوقه بعد تجميدها وتحنيطها لمدة أكثر من ألف عام إلى سجن لتفكيرنا, وحمل ثقيل على عاتقنا يجرنا للخلف, ويمنعنا من الاقتراب من الآخر ومن ثم اللحاق بركب الحضارة البشرية التي تعدو عدوا متسارعا للأمام وتتركنا لا نستطيع النظر إلا إلى الخلف, بل وتجعلنا نركز أبصارنا على الماضي السحيق.   لقد غدونا نعبد هذه الأفكار المجمدة التي أصبح جزء كبير منها متعفنا ومع ذلك نتكالب عليه, ولا نتذوق إلا هو, وحدنا في أعماق زنزانتنا المظلمة التي تعودت أنوفنا على نتانتها لدرجة أننا اصبحنا غير قادرين على استنشاق الهواء النقي الطازج الذي تتمتع به بقية البشرية  ونتمتع بنسمات الحرية الفكرية كبقية خلق الله.

 

 

تجب الإشاره هنا إلى أن واضعي “العلوم” الإسلامية في القرون الوسطي لم يرتكبوا جرمًا  في تطوير مفاهيمهم المشار إليها بل علي العكس فقد كان تفكيرهم غاية في التقدم والتطور في وقتهم.   الجرم كل الجرم هو ما يقترفه ورثتهم, من يسمون أنفسهم “علماء الإسلام” اليوم في القرن الحادي والعشرين, الذين غاية إنجازاتهم هو استرجاع واجترار ما وضعه أسلافهم في القدم.   لم يجرؤ أحد من “علماء” المسلمين حتي على لمس السياجات والتحصينات التي شيدها واضعو هذه “العلوم” الإسلامية حول فكرهم العتيق لعدم قدرتهم الذهنية على رؤية أو تخطي هذه الأسوار المنيعة التي أحاط بها القدماء ما اقنعونا به على أنه من صلب الدين ومعناه الحقيقي. 

 

 

ونتيجة ترسخ هذه “العلوم” الاسلامية في رؤوس المسلمين إلى اليوم أضحت علاقتهم بعلوم الطبيعة الحديثة وأخبار الاكتشافات العلمية الجديدة الدائم ظهورها علاقة سلبية.   وكيف لا تكون سلبية حين تهدم صباح كل يوم جديد ما وضعة مؤسسو “العلوم” الإسلامية في عقولنا من أن علوم الغيب والشهادة كليهما علوم لدنية ثابتة لا تتغير؟   كيف تكون علاقتنا كمسلمين بالعلوم الحديثة علاقة أقل من عدائية وهذه العلوم لا نراها موجودة في الوحي الإلهي كما أقنعنا علماء الإسلام بشموليته منذ القدم؟  كيف تكون علاقتنا نحن كمسلمين بالعلوم الحديثة علاقة لا يشوبها الشك والخوف على حين أقنعنا مؤسسو “علومنا الإسلامية” أن هناك سببية واحدة في الكون, وأن وجود قوانين الطبيعة يتعارض مع قدرة الله؟   كيف تكون علاقتنا بالعلوم الحديثة علاقة إيجابية في الوقت الذي تهدم فيه هذه العلوم الكافرة الأسس التي تقوم عليها كل الثوابت التي عرّفتها “علومنا” الإسلامية القديمة بأنها ثوابت لا تتغير؟   كيف تكون علاقتنا نحن المسلمين بالعلوم الحديثة علاقة غير دفاعية في الوقت الذي تقترب فيه هذه العلوم “الملعونة” من الكشف عن كيف ظهرت الحياة على ظهر الكرة الأرضية, بل وتقترب من الكشف عن عمر الكون وتستنتج أن له بداية محددة؟   وبالطبع, فإن هذه العلاقة التي يشوبها الشك, والشعور بالخوف والرهبة, تخلق نوعًا من الارتباك والإضطراب في عقل صاحبها, والشعور بأنه هو ودينه مستهدفان.  

 

 

هذا من ناحية علاقة المسلمين بعلوم الطبيعة الحديثة.  أما من ناحية علاقة نفس هؤلاء الناس بـ |منتجات” هذه العلوم الحديثة, فهي علاقة احترام وحب.   من منا لا يحب أو يحترم الأدوية الحديثة التي طورت نتيجة فهمنا للجينات, مثل أدوية علاج بعض أنواع السرطان, أو تعطيل تقدم مرض الزهايمر في عقول المسنين؟   من منا لا يقف مبهورًا أمام شبكة الإنترنت, أو أمام قدرات الكمبيوتر, أو وسائل الاتصال المتقدمة؟  من منا لا يحترم التكنولوجيات التي طورت التيلفون المحمول, أو برنامج أرض جوجل؟

 

 

في هذا المقال تعرضنا لما يسمى العلوم الإسلامية, وإلى ما أشرنا إليه باسم علوم الطبيعة الحديثة.   في التالي مقدمة قصيرة لهذين المسميين, وطرقهما, واساليبهما المختلفة.

 

العلوم الإسلامية

بعد تمام نزول الوحي إلى رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم في القرن السابع الميلادي بدأت بعد ذلك بحوالي قرن من الزمان, أي في القرن الثامن الميلادي, فترة كتابة السيره النبوية والتاريخ. فدون ابن اسحق, وابن هشام, والواقدي, كتبهم التي ما زالت أساس كتب السيرة النبوية والتاريخ, وبعد حوالي قرن آخر من الزمان بدأ فعلا ما يسمى بعصر التدوين في القرن التاسع الميلادي, وبدأت في نفس الوقت تقريبًا واستمرت إلى القرن الثاني عشر فترة تأسيس وتطوير ما يسمي بـ”العلوم” الإسلامية بمشاركة عددٍ كبيرٍ من المجتهدين النوابغ الذين كتبوا آلاف الكتب التي أسست “العلوم” الإسلامية.

 

تشمل هذه الكتب كتب المدارس الفقهية الرئيسة للأئمة أبو حنيفة, ومالك, والشافعي, وابن حنبل, ووضع الإمام الشافعي بذكائه الثاقب أسس علم الفقه, وطورت علوم الحديث المختلفة, وجمعت المجاميع المختلفة للأحاديث النبوية, ومنها الكتب السبعة المشهورة,  وطورت علوم العقيدة ومدارسها المختلفة, ومنها العقيدة الأشعرية (التي ألف مؤسسها أكثر من ٣٠٠ كتاب) والتي مازالت إلى اليوم تشكل العقيدة السنية, وكتب محمد بن جرير الطبري كتابه في تفسير القرآن (نالذي أصبح عمدة كتب التفسير) والتاريخ وبعد ذلك وضع فليسوف الإسلام وصاحب العلم الغزير الإمام أبو حامد الغزالي كتبه (يقال إنه الّف أكثر من ٤٠٠ كتاب) التي أثرت, وما زالت تؤثر, تاثيرا كبيرا في العقلية العربية الإسلامية إلى اليوم.

 

 

كان هدف واضعي هذه العلوم المختلفة الأول والأخير هو تفسير وتفعيل كلام الله كإله واحد خالق كل شيئ، في حياة وتفكير المؤمنين.   وهذا التفعيل كانت طريقته هي الشرح, وتفسير الوحي الإلهي,      والترهيب بالعذاب لمن لا يستمع الي تفسيراتهم للوحي الإلهي, وتحبيبهم للأعمال الصالحة, وحثهم على طاعة الأوامر الإلهية, أو يمكن القول الترسيخ في عقول الناس بما اعتبر واضعو هذه “العلوم” أنه قواعد الملة, وتبيان وعد الله ووعيده, وتطبيق حدود الله على من يتعداها.    وعلى عكس جميع الحقائق العلمية الطبيعية التي تُعتبر نسبية قابلة للتغيير, فإن المعلومات الدينية الغيبية, وحتي غير الغيبية علي حسب مفهوم هذه “العلوم” الإسلامية, هي معلومات جزموا أنها مطلقة لا تتغير وأن تفسيراتهم لهذا الوحيالإلهي هي التفسيرات الصحيحة.

 

 

يتضح من ذلك أن أساس جميع “العلوم” الإسلامية ومصدرها الأصلي الوحيد, ومبدأها ومعادها, منذ ظهور الإسلام إلى اليوم هو الوحي الإلهي المباشر لرسول الإسلام محمد صلي الله عليه وسلم وما تلازم معه من أفعاله.   وفي الحقيقة فإن كل ما كتب من “العلوم” الإسلامية بعد استكمال نزول الوحي على رسول الله وفترة الخلفاء الراشدين لا يتعدى آراء بشر مثلنا, في فهم, أو شرح, أو تأويل, أو استنباط, بعض الأحكام من النص المؤسس, أو وضع بعض الآراء الفلسفية, أو وضع مفاهيم ما سمّوه بالعقيده الإسلامية لا غير.    ولا يزيد ذلك على مر العصور عن شرح الشرح, أو تأويل التأويل, لما كان قد كتب من قبل.   وقد طور علماء الإسلام قديما آليات ذهنية على مستوي عالٍ من الحنكة, والذكاء, والفعالية, لحماية تفسيراتهم, وكذلك مفاهيمهم أو تأويلاتهم, كما كانت قد سطرت في القرون الأولي بعد ظهور الإسلام, من التغيير أو حتى طرح الشبهات عليها.   وبالطبع, كانت النتيجة الحتمية لثبوت النص المؤسس واختلاف طرق التفكير المختلفة وتباين الشروح والتأويل لهذا النص هو ظهور عدد كبير من الملل والنحل ومدارس التفكير الإسلامية.   وعلي حسب أحد احاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم كان قد توقع ان يوجد بعد حياته عدد كبير من الفرق الإسلامية.

 

 

علوم الطبيعة الحديثة

لن اتطرق هنا الي تفصيل تاريخ العلوم الطبيعية الحديثة الذي قد بدأ فعلا عدة قرون قبل الميلاد مرورا بزمن ازدهار علوم الطبيعة المسلمين ممن ساهموا في وضع او تطوير اجزاء من العلوم الطبيعية في وقتها مثل جابر بن حيان, والخوارزمي, وابن الهيثم.   وسوف أقتصر هنا على توضيح بعض من جوانب العلم الحديث الذي كان قد وضعت لبناته في القرون السابع والثامن والتاسع عشرالميلادية (وظهور من أسسوا العلم الحديث مثل  نيوتن, وديكارت, و اويلر, و داروين) و انفجار مجالات العلوم الحديثة وعلو انجازاتها في القرن العشرين الي الآن.  وهنا يجب الإشارة السريعة الي إنجازات العلماء اينشتين وبلانك وكريك وواتسن وتورينج ممن طوروا علوم الفيزياء وفكوا بناء الحامض النووي وطوروا أسس علوم الكمبيوتر, وغيرهم من آلاف العلماء الذين طوروا مختلف العلوم الطبيعية الحديثة وما نتج من فهم هذه العلوم من تطورات تكنولوجية في مختلف المجالات والتي تشكل حياتنا الحاضرة.

 

 

ومع أن الهدف الأول والأخير في العلم الحديث هو فهم الكون المحسوس فإن جميع التطورات التكنولوجية بدون استثناء (من الطائرة إلى الشبكة العنكبوتية إلى فك رموز الحامض النووي للإنسان) أساسها هو معرفة قوانين الطبيعة, واستخدام هذه القوانين في تطوير هذه التقنيات. وهذه العلوم الطبيعية الحديثه لا تُعني بالأخلاق الإنسانية والعواطف (هذا مجالة نوع آخر من العلوم و هي العلوم الإنسانية) او بعقيدة الإنسان او الحياة الآخرة او الملائكة او الشياطين او الجان او الحسد ( وهذا مجاله العلوم اللاهوتية للأديان المختلفه) لان ادوات ووسائل العلوم الحديثة لا يمكنها التعامل مع الغير ممكن احساسة او رؤيته او ما لا تؤثر فيه قوانين الطبيعة. اذا نظرنا الي قلب العلوم الحديثة لوجدنا ان حجر الزاوية والآلية الأصيلة المستخدمة في جميع نواحيه هو المنطق او لغة المعادلات الرياضية بصفة مجردة بعيدا عن ثقافة العامل بالعلم او ميوله او جنسيته او دينه.   ومن أحد القواعد الأساسية في العلوم الحديثة أن من المستحيل إثبات وجود إله من عدمه, حيث لا توجد أي وسائل أو آليات لتكوين نظرية لهذا الأمر لأن مجال العلم الحديث هو الكون الحسي بالمشاهدة والتجربة وليس له علاقة قريبة أو بعيدة بعالم الغيب والغيبيات.

 

 

وطريقة تطوير العلوم الطبيعية الحديثة في العادة تشمل بعد دراسة مستفيضة لأمر ما تطوير نظرية تحكم علاقات النواحي والمكونات الاساسية المختلفة في هذا الأمر او موضوع البحث واثبات هذه النظرية باستخدام لغة المعادلات الرياضية والإستنتاجات المنطقية ويمكن في هذا المجال ان يستخدم باحث ما الحقائق العلمية المثبتة سابقا في سياق بحثه وبعد اثبات الناحية النظرية تصمم تجارب معملية لتجربة هذه النظرية من الناحية العملية  وبعد اعادة التجارب ومقارنة النتائج واثبات النتائج العملية يقوم الباحث بكتابة ورقة علمية يراجعها عدد من العلماء المختصين في هذا المجال للتأكد من ان هذا العمل جديد وصحيح من الناحية النظرية والعملية واذا تخطت الورقة العلمية هذه المراحل تنشر الورقة العلمية في احد المجلات العلمية المتخصصة حتي يستطيع جمهور العلماء في هذا المجال الإطلاع عليها واذا لزم الامر يمكن احد العلماء المتخصصين التعقيب علي هذا العمل او مراجعته وبعد اجتياز هذه المراحل جميعا يعتبر ما توصل له الباحث  كحقيقة علمية جديدة.

 

وأحد أمثلة هذه الطريقة العلمية هو اكتشاف ما يعتقد أنه جسيم الهيجز بوزون الذي كان قد نظّر له الدكتور هيجز وثلاتة من زملائه في بريطانيا عام ١٩٦٤.   وقد صمم العلماء والتقنيون في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية جهازًا علميًا لأبحاث مكونات المادة متناهية الصغر تحت الأرض على الحدود بين فرنسا وسويسرا وتكلف بناء هذا الجهاز العلمي العظيم ١٣،٢٥ بليون دولار (ثلاتة عشر وربع بليون دولار أمريكي) واستغرق بناؤه ١٠ سنوات من ١٩٩٨ الي ٢٠٠٨ وفي نوفمبر ٢٠١٢ اكتشف العلماء بمساعدة هذا الجهاز العملاق جسيمًا جديدًا لم يشاهد من قبل ويعتقد أن هذا  الجسيم هو جسيم الهيجز بوزون.    وما زال العمل جاريًا للتأكد من أن هذا الجسيم الجديد بالفعل هو الهيجز بوزون والذي من طبيعته أن يعطي سمة الكتلة لكل الجسيمات في الكون التي لها كتلة.   لابد من التأكيد هنا على أن كل الحقائق العلمية التي اكتشفت أو طورت حتى الآن منذ بداية تطوير العلوم الحديثة (والتي بنيت علي أساسها كل الإنجازات التكنولوجية التي تعرفها البشرية) هي حقائق يمكن أن تتغير في المستقبل مع التطور العلمي وزيادة فهمنا لقوانين الطبيعة المتسارع.

 

    

إن علوم الطبيعة الحديثة التي كانت الأساس لكل التطورات التكنولوجية التي غيرت حياة الإنسان هي نفس العلوم التي حسبت أن عمر الكون هو حوالي ١٤ بليون سنة وأن الكون في اتساع مستمر, سواء رضينا نحن المسلمون أو لم نرضَ, وأن الجسم البشري يحتوي على مكونات مثل الكربون, والنيتروجين, والفوسفات, والصوديوم, التي كانت قد تكونت من بلايين السنين في الماضي السحيق في مجموعات نجوم أخرى على بعد بلايين السنين الضوئية عن مجموعتنا الشمسية.  إنها نفس العلوم التي أثبتت أن جو الكرة الأرضية بعد ان تكونت لم يكن فيه أي أوكسيجين حتى حوالي ٢،٣ بليون سنة مضت.   وهي نفس العلوم التي أثبتت أن كل خلية في جسم الإنسان فيها ٣ بليون زوج من الحمض النووي التي لو وضعت في خط مستقيم لبلغ طوله مترين وأن الحمض النووي هو البرنامج الذي يؤدي تنفيذه إلى تكوين كل خلايا الجسم وتطويرها إلى أعضاء الجسم المختلفه, وأن هذه البرامج هي التي تتحكم في أنواع كل المخلوقات وطبائعها سواء رضينا أم لم نرضَ.    وهي نفس العلوم التي  أثبتت أن أنواع المخلوقات تتطور من نوع إلى آخر نتيجة الأخطاء التي قد تشوب عملية نسخ الحمض النووي, هذه الأخطاء التي ترثها الأجيال الجديدة لهذه الخلوقات, والتي تصبح بها أنواعًا جديدة, مختلفة, من المخلوقات.    وهذه الحقيقة العلمية موجودة, سواء شعرنا نحن المسلمون ناحيتها بالارتياح أم لم نشعر.   (أحد الأدلة على هذا الذي نراه بأعيننا بدون شك هو التطور الذي يطرأ عنه ميكروبات ذات مناعة ضد المضادات الحيوية التي بدأت تظهر حتى في أكثر المستشفيات نظافة نتيجة تأقلم هذه الميكروبات علي أنواع المضادات الحيوية التي تستخدم في المستشفيات).   وهي نفس العلوم التي مكنت أحد مراكز الأبحاث الجينية من تحضير حمض نووي من مكوناته الكيميائية الأولية في المعمل, وتفريغ الحمض النووي في أحد الميكروبات, واستبدالها بالحمض النووي الصناعي الذي نتج عنه نوع جديد لم يكن موجودًا من قبل في العالم, يعيش ويتكاثر.   وهذة تجربة علمية ثابته سواء قمنا بتجاهلها أو نفيها أو لم نفعل.    وهي نفس العلوم التي اكتشفت أن العقل البشري يغير شكله وحتي مراكز وظائفه من خلال  التجارب والتفكير الذاتية.  وهي نفس العلوم التي ألقت الضوء على المكونات متناهية الصغر الأساسية (الجسيمات) لجوهر المادة المكونة للكون (٦١ نوعًا من الجسيمات على حسب ما وصل إليه العلم حتى الآن) واكتشاف القوى المختلفة التي تؤثر في هذه المكونات المادية وتطوير النظريات التي تشرح التفاعلات بين القوى المختلفة الموجودة في الكون (هي على حسب ما توصل إليه العلم “حتى اليوم” أربع قوى فقط لا غير.   القوي الكهرومغناطيسية التي تؤثر على أي من مكونات الكون التي من سماتها وجود شحن كهرومغنطيسية مثل الإليكترونات والبروتونات.  والقوةالثانية هي القوة القوية التي تجذب الكواركات إلى بعضها – وهي الجسيمات التي تتكون منها البروتونات والنيوترونات التي توجد داخل النواة في الذرة, وهي المكون الأساسي للمادة في الكون.  والقوه الثالثة هي القوه الضعيفة التي تسبب Radioactive decay.   والقوة الرابعة هي قوة الجاذبية بين الأجسام المختلفة.  وغير هذه القوى الأربعة لا يعرف العلم الحديث قوى أخرى ويمكن بسهولة إرجاع أي قوي حسية مكتشفة في الكون إلي أصل أحد هذه القوى الأربعة.   وهذه الإكتشافات, والآلاف أمثالها في مجالات علوم الطبيعة, لا تنتظر دار إفتاء للإفتاء بصحتها, كما لا تنتظر فقيها مسلما لتبيان أسسها الفقهية,  ولا داعية من دعاة الفضائيات للتصديق على شرعيتها.

 

لا بد من الإشاره هنا إلى بعض الممارسات الحديثة التي يقوم بها عدد من المسلمين ممن يمارس بعض المهن العلمية والذين يلهثون خلف بعض الاكتشافات العلمية الحديثة ويستخرجون لفظًا, أو الفاظًا, أو آيات قرآنية, ويحملونها ما يريدون من معانٍ, ويربطونها بهذه الاكتشافات العلمية, ويستخدمونها فيما يدعون بأنه الإعجاز العلمي للقرآن, مشيرين إلى أن هذه الحقيقة العلمية المكتشفه حديثا كانت قد ذكرت في القرآن الذي بين يدينا, كدليل على أن القرآن يشمل العلوم الحديثة.   وهنا فيلزم القول أن   من ناحية العلم فهذا ليس بعلم لأنة لم يأتِ بجديد في العلم.  أما من الناحية الدينية فهو يمثل  خطرًا لأن الحقائق العلمية, كما بينا سابقا, تتغير والنص القرآني ثابت.  ولا يسعني هنا إلا أن أطرح السؤال التالي: هل يحتاج القرآن الكريم إلى هولاء المدّعين لإثبات صحتة وشموليته؟    وما بال آلاف الحقائق العلمية الأخري التي لا نستطيع العثور عليها – علي حسب فهمنا اليوم – في القرآن؟   لا, وألف لا, إننا لا نعرف, ولا يمكننا أن نعرف, المستوي المعرفي الذي حدده الله من خلال شمولية كلامه لعبيده, ولا يحتاج الخالق الأحد إلى أمثال هؤلاء الذين يمكن اعتبارهم ليس فقط مراهقي علوم الطبيعة الحديثة بل كذلك – وعلى أحسن تقدير – أرزقية  الدين.   لا وألف لا, لا يحتاج الواحد الأحد أحدًا من بشره للدفاع عن وحيه إلى نبينا صلى الله عليه وسلم.”  انتهى كلام سيادته

 

خالص الشكر لسيادة الأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد على كريم رسالته. 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.