القسم الرابع من الأقسام الخمسة من “يوم القيامة”

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

Doomsday.jpg

القسم الرابع من الأقسام الخمسة من “يوم القيامة”

كيفية الوقوف أمام المحكمة والاهتمام بالقسط:

سيقف الجميع جنا وإنسا كيفما كانوا في الدنيا خالين من الأنساب والتفضيلات والمناصب الدنيوية برمتها على أرض مستوية دون تمييز. حتى الذكورة والأنوثة منتفية هناك ولا فرق أبدا بين الجن والإنس والسادة والعبيد والآباء والأبناء والسابقين والآخرين وأهل الشرق وأهل الغرب فكلهم جميعا أشبه بالحجيج يوم عرفات ولكن أغلب الظن أننا جميعا سنكون عراة بلا ملابس. ولا ننس بأن الجنسية تنتهي تماما بعد الموت في الدنيا فكل الناس جنس واحد وبما أن التكاثر ممنوع في العالم الآخر فلا ضرورة للعلاقات الجنسية المعروفة فهي أيضا غير موجود تماما في النشأة الآخرة.

قال تعالى في سورة طه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108). والسر في سؤال الكفار وبقية الذين يعيشون في ريب من الحساب عن الجبال، هو أنهم في حين كفرهم وشركهم يسعون لإيجاد مخرج من الحساب إن كان هناك حساب فعلا. فيسألون عن الجبال كمكان آمن للهروب إليها فيرد عليهم الرسول بأن الله تعالى سوف ينسف الجبال. هذه الجبال تواجدت عن طريق الطبيعة الجديدة كما تواجدت في النشأة الأولى التي نعيشها اليوم. والداعي الذي يتبعونه هو الذي يمثل مندوب المحكمة الذي ينادي بأسماء المتهمين ليُعرِّفوا أنفسهم أمام القاضي. فالداعي هناك أيضا يعطي الأوامر الأولية بأدوار الناس والجن وبوقت الدفاع وما شابه ذلك من الترتيبات الخاصة بالمحاكم. ولا دور إطلاقا لا للجن ولا للإنس، لأنهم جميعا متهمون حتى يصدر حكم الله تعالى فيهم.

وأما اللغة التي تسود المحكمة فهي لغة الهمس التي لا تمت إلى اللغات الأرضية بصلة. إن الناس مختلفون في لغاتهم وفي كيفية التواصل مع بعضهم البعض لأن الجن موجودون وهم دون شك لا يستعملون اللغة. ثم إن الملائكة موجودون كأشهاد على النفوس وهم لا يجيدون اللغات ولا يستعملونها لأنهم لا يعرفون الأسماءَ واللغاتُ تعتمد على الأسماء. ولغة الهمس تشابه لغة الوحي فهي لغة نفسية تتعامل مع القضايا بحقيقتها وتتحدث عن الأفعال النفسية أكثر من الحركات البدنية التي لا عبرة بها كثيرا يوم الحساب. إنه السبيل الوحيد للتفاهم في ذلك اليوم، ولازم ذلك أن يتوقف الاستفادة من الأبدان ويتم المحاكمة بين النفوس والملائكة أمام ربهم جل جلاله. والمحكمة ليست فقط منسوبة إلى الله تعالى بل هو الذي يديرها بنفسه مباشرة ويُصدر سبحانه بنفسه كل أحكامها.

وبما أنه سبحانه حريص على إقامة القسط وموازينها في يوم القيامة فإنه لا يمكن أن يسمح لأحد أن ينال من الذات القدسية في محكمته حظا أكبر من الآخرين. ولذلك فسوف يظهر سبحانه فوق رؤوس الناس الواقفين على أرض مستوية مع الجن جميعا بشكل واحد، سوف يظهر سبحانه بشكل غيم فوق رؤوسهم فكل شخص ينال من ربه ما يظلله الغيمة لا أكثر. هكذا يُزيل الله تعالى كل الفوارق بين الناس بأنبيائهم وملوكهم ورعاياهم وكل أصنافهم وألوانهم ومزاياهم الدنيوية الأخرى ليقفوا جميعا في صفوف موحدة تحت غطاء خالقهم يوم الحساب الأكبر ليحسم بينهم. قال تعالى في سورة البقرة: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210). وقال في سورة الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27).

معنى رؤية النفس للملائكة الكرام:

وهاهنا مسألة مهمة يجب توضيحها دفعا للشك. فالله تعالى ليس موجودا فيزيائيا يمكن أن يُرى بالعين المجردة إطلاقا، كما لا يمكن رؤيته كشكل أو هيولا بالنفس. إنه سبحانه يُري نفسه لعبيده بأن يقوي مقدار الطاقة التي يمد بها سبحانه كل شيء فعلا، بأن يقويها لتتحول تلك الطاقة الخطيرة إلى نار أو ضياء أو غيمة كما يشاء سبحانه. إن شواهد تلك التحولات موجودة في القرآن الكريم مثل النار التي رآها موسى في طور سيناء فهي كانت نور الله تعالى التي تجلت له بشكل نار. وكذلك الضوء الذي رآه رسولنا واقترب من شخصه فكان ذلك الضوء أو النور المهيب قاب قوسين أو أدنى من الرسول حتى لا يحترق نبينا.

فالمحكمة ليست على شكل محاكمنا كاملة. نحن هنا نقف في غرفة ويجلس القاضي أو القضاة أمامنا على كراسي وجها لوجه. لو فعل الله سبحانه شيئا مثل ذلك لما تحقق القسط. إن الله تعالى لو أرى نوره وطاقته الأصلية لموجود فإن ذلك الموجود سوف ينال اللهَ تعالى أكثر من الشخص البعيد عن ذلك النور فهو غير عادل حينئذ. ولذلك فإن الله تعالى سوف يُرسل نوره على شكل غمام على رؤوس الناس جميعا لينال كل شخص حظا متساويا مع خصمه في محكمة ربهم. وبما أن المحكمة لا تستعمل اللغة فلا مجال للوجوه الفيزيائية إطلاقا بل التعامل مع النفوس التي لا تملك وجها ولا معنى للجهات هناك. سوف يكون الناس والجن واقفين لأنهم في أبدان ولكن التعامل مع النفوس وليس مع الأبدان. دعنا نتصورهم في غفوة من النوم، ليسهل علينا فهم المشهد المهيب.

ولكن الملائكة وهي كلها موجودات طاقوية مصنوعة من الطاقة ولا تملك وجها ولا بدنا ولكنها طاقة متحولة إلى موجود مدرك. هي شبيهة بالجن في الدنيا من حيث أنها نوع متطور من الطاقة وهي النار وقد تطورت بدورها ليتحول إلى موجود مدرك أيضا. وهما كلاهما يشبهان الإنس من حيث أننا أيضا تراب وماء تفاعلت بطريقة تطورية خاصة لنتحول إلى بدن نام وحساس ثم منحنا ربنا الإدراك أيضا. ونحن بنفوسنا أكثر شبها بالملائكة من حيث التجرد عن المادة وعدم الحاجة للتوجه الفيزيائي. فنحن في يوم الحساب بنفوسنا سوف نشاهد الملائكة إلى حد كبير. سوف نشاهدهم مشاهدة نفسية وليست بالعين الفيزيائي. ولكننا لا يمكن أن نرى الله تعالى بنفس الطريقة التي نرى بها الملائكة. ذلك لأن الملائكة موجودات ثنائية محدودة ممكنة وبما أنها محدودة فهي بحاجة إلى الزمان والمكان وذلك ثابت قرآنيا. والموجودات الممكنة يمكن تحسسها ولكن بالآلة والوسيلة المناسبة لها. وآلة تحسس الملائكة هي ماهية النفس بالنسبة لنا. هذه الآلة لا يمكن لها بأي شكل أن يتحسس الله تعالى بماهيته لأنه غير محدود وغير مستقر في مكان أو زمان فهو كان قبل أن يكون الزمان والمكان وقد خلقهما، وهو ليس ثنائيا مثلنا ومثل الجن والملائكة بل هو الأحد جل جلاله.

والغمام التي نراها هي ليست الله تعالى بالتأكيد ولكنها تمثل طاقة ربوبية مكثفة في الواقع وهي وسيلة التقديس في الحقيقة. ولذلك ذكر الله تعالى في الآيات السابقة من سورة الفرقان وفي الآية 21 منها بأن الذين لا يرجون لقاء الله تعالى فإنهم يرجون رؤية الذات القدسية، ولكنه سبحانه وفي الآية 22 ذكر رؤيتهم للملائكة ولم يذكر سبحانه شيئا عن رؤيتهم الله تعالى. ذلك لنعلم بأن رؤية الملائكة ممكنة خارج نطاق العين المجردة ومختلفة عن رؤية الله تعالى التي لا يمكن تحقُّقها خارجَ الإدراكِ الفكري والنفسي. فرؤية الملائكة تعني تحسس النفس شيئا طاقويا وهي غير رؤية الله تعالى. ولو ذكر من يعلم رؤية الله تعالى، فإنه يقصد المزيد من العلم به سبحانه وليس رؤية شبيهة برؤية الملائكة. وليكن واضحا بأن الملائكة الذين يعبر الله تعالى عنهم بــ مَن عنده، فهُم أيضا لا يمكنهم رؤيةَ اللهِ تعالى. وبتعبير آخر فإن كل الممكنات تتأثر بالذات القدسية فتشعر به سبحانه ولكنها لا تؤثر فيه تعالى فلا يمكن التعبير عن رؤية الله تعالى بالنسبة للمكنات جميعا عدا المعرفة القلبية والمزيد من اليقين بوجود السبوح القدوس جل جلاله. وببيان علمي أكثر دقة فإننا كمواد مركبة نرى الموجود المادي حين تسليط الضوء عليه وليس في عالم المادة ضوء يمكن تسليطه على الذات القدسية جل جلاله.  

وأما الذين رأوا الملائكة في الدنيا وهم محدودون جدا، إنهم إبراهيم ولوط وبعض قوم لوط الذين استقبلوا الملائكة بشكل الضيوف، إضافة إلى مريم التي رأت مثالا بشريا للروح القدس؛ فهم جميعا رأوا تماثيل بشرية للملائكة ولم يروا الملائكة بالعين المجردة. والروح القدس لم يتمثل لأي شخص آخر على وجه الأرض كما يبدو. وما يذكره المؤرخون من ظهور الملائكة أمام نبينا أو نزول الروح عليه لابسا ملابس سوداء أو على السامري على فرس أو نزول الملائكة بخيولهم على المؤمنين ليساعدوهم في القتال، كل ذلك أوهام غير حقيقية ولا تدل إلا على عدم دقة أولئك الإخوة في آيات الله تعالى ليعرفوا المعنى. وقد ذكر سبحانه في موارد كثير بأن نزول الملائكة يعني قيام القيامة. قال سبحانه في سورة الأنعام: وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8). وهناك بعض البسطاء يظنون بأن الملائكة سيخدمون أهل الجنة أو بأنهم خدم للنبي وهناك بعض الشعراء الجاهلين سردوا أشعارا في أن جبريل كان خادما لأبي فاطمة رضي الله عنها. معاذ الله من هذا الجهل المعيب.

وهكذا نفهم بأن المقصود من رؤية الملائكة هو رؤيتهم بالنفوس أو رؤية تماثيل لهم لهدف آخر وأما رؤية الله تعالى فسوف لن تتأتى لأحد أبدا ولكننا يمكن أن نتحدث عن رؤيتنا لله تعالى ونقصد بها رؤيته سبحانه معرفيا وعلميا أو رؤية النفس بوجودها لله تعالى وليس بماهيتها. والفرق بين الرؤيتين هو أن رؤية النفس بماهيتها تعني تشكُّل الذي يُرى في حوزة النفس. فالملائكة باعتبارها وجودات طاقوية فهي تتحرك وتستقر وتحتاج إلى الزمان بالطبع ولذلك يمكن رؤيتها بالوسائل. وأما الله تعالى فهو ليس وجودا طاقويا، لأن الموجود الطاقوي هو الموجود الذي يحمل الطاقة وقد خُلق بتطور الطاقة وتحوُّلِها إلى شكل وحالة أخرى. فالملائكة محدودة الطاقة ومحتاجة لها في وجودها وحادثةٌ غير قديمةٍ ومتطورةٌ غيرُ ثابتةٍ. ولكن الله تعالى هو القوةُ بنفسها وهو نور كل الوجود وهو غير متطور وغير متحول وغير حادث وغير مستقر في مكان أو زمان فهو وراء كل شيء غير ذاته القدسية، وهو يمد كل شيء بالوجود وبالبقاء والحياة ويغني كل شيء عن الحاجة إلى أي شيء غيره سبحانه، ذو الجلال والإكرام. ولذلك فنحن نرى الله تعالى بوجود نفسنا وليس بماهيتها. هذا يعني بأن النفس لا غيرها قادرة على أن يُدرك الله تعالى فوجود النفس يساعد المرء على معرفة الله تعالى ولكن النفس بحيثياتها التكوينية وبتركيبة ماهيتها غير قادرة على تصوير شكل للقادر المتعالي. كل الأشكال التي يتصورها الخيال فهي محض خيال وهي ليست الله تعالى رب العالمين.

الغرض من المحكمة والحساب:

والغرض من هذه المحكمة ليس للكشف عن حقيقة المتهمين فهي واضحة لرب العالمين ولكن الغرض هو إثبات أن ما حصل لهم إلى تلك الساعة الحاسمة كانت كلها حقا. فما رأوه في حياتهم الدنيا كان صحيحا ولمّا كان في الإمكان أن يُداروا بأحسن ما أُديروا به من حيث الحقوق التي أوجبها الله تعالى على نفسه لعبيده، وهي تفسير لمعاني الرحمة لا غير. ولقد رأى الكثيرون أو الغالبية مظاهرَ مفزعة في البرزخ فكان ذلك حقا وكانوا يستحقون ذلك وسوف يثبت الله تعالى لهم بأن المؤمنين الذين أُكرموا في البرزخ كانوا أيضا مستحقين للإكرام. سوف أشرح ما أعرفه عن الذين يرون المظاهر المفزعة في البرزخ وهكذا الذين يُمنحون الأمان في البرزخ قبل يوم القيامة وحدود ذلك في ملحق بهذا البحث إن شاء الله تعالى.

ثم إن الصناعة الجديدة للأبدان كانت صناعة مناسبة مع نفسيات أصحا ب تلك الأبدان وأخيرا يرون بالبرهان أن التقسيمات الملائكية لهم وتبويبهم في زمر كان حقا وصحيحاً أيضا. بالطبع لا يمكن أن يُفسح المجال للكاذبين ولكن الجميع يمكنهم الدفاع عن أنفسهم وقد مروا على مرحلة برزخية طويلة واستناروا فيها بكل ما يحتاجون إليه من معارف وعلوم للدفاع عن أنفسهم. إنهم هناك سوف يرون كل شيء بطبيعته وحقيقته دون غطاء. وبالطبع فإن بعض كبار المجرمين سوف لن يعترفوا بذنوبهم ولكن الله تعالى سوف يوظف حقيقتين أخريين لإبراز حقيقتهم. ولا ننس بأن محامي الدفاع من الملائكة يدافعون عن حقوق كل شخص كما سنعرف بعد قليل ولا مجال للشعور بالظلم أبدا.

هناك الملائكة الأشهاد الذين يشهدون على الذين كانوا تحت حيطتهم في الدنيا. قال سبحانه في سورة هود: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19).والافتراء على الله تعالى تتجلى في رد كتاب الله تعالى أو أن ينسب أحد كلاما بشريا إلى الله تعالى دون أن ينقله من كتابه الكريم أو أن يلعب في تفسير علامات الربوبية التي تتمثل في القرآن وحده في زماننا نحن. فهؤلاء هم أكثر الناس ظلما وهم مع الأسف كثيرون بين المسلمين واليهود والمسيحيين الذين يؤمنون جميعا بالله تعالى ولكن كُلا منهم ينسب ما يهواه إلى الساحة القدسية جل جلاله.

والحقيقة الثانية هي شهادة اللسان والسمع والبصر والجلود عليهم. قال تعالى في سورة هود: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25). فالأصوات والصور والمشاعر الجلدية برمتها كانت تنقل ما تتحسسها إلى المخ حيث يسجل بدوره كل ذلك وكانت النفس الإنسانية تراها أيضا فتسجلها لديها بأمر الله تعالى. وقد قال تعالى بأن الكافرين سوف يُحشرون عميا وبكما وصما، فالذي يشهد عليهم ليس مرتبطا بتلك الأعضاء المفقودة عمليا في الآخرة، ولكنه مرتبط بأسماعهم وأبصارهم وجلودهم الدنيوية. وسوف تقوم نفوسهم بإراءة تسجيلات الأصوات والصور وكذلك الاستشعارات العاطفية وغيرها للملإ في يوم الحساب ولحظة الحكم النهائي.

وكما قلنا بأن اللغة المتداولة في ذلك اليوم ليست اللغات اللسانية بل هي لغة النفس المعروفة بالهمس قرآنيا فإن الهمس لغة مفهومة لكل النفوس ولا علاقة لها بالأعضاء المادية. هناك بالطبع احتمال أن تكون تلك التسجيلات محفوظة عند الله تعالى ضمن الخلايا وهو غير ثابت علميا ولكن الثابت قرآنيا بأن النفس تحتفظ بكل أعمال وعلاقات صاحبها. ويقول سبحانه في سورة النور: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25). وهي تعني نفس الشيء حيث أن الألسن تشهد بما قاله صاحبه ولكن الأسماع تشهد بما سمعه صاحبه من كلام الغير واحتفظ به مذعنا معترفا بصحته. وأما الأيدي والأرجل هنا فهي تشمل الجلد المرتبط بالأيدي والأرجل حيث تقوم الجلد بالتحسسات المحرمة إضافة إلى نفس آثار الأيدي والأرجل من قتل وسرقة ودفع ومشي باتجاه المظالم وكلما أحاطت بالسيئات النفسية من آلات بدنية قامت بتنفيذ إرادة النفس وتفعيل السيئات. كل ذلك مسجلة في خزانة النفس وسوف تأمر النفسُ البدنَ الجديد بإظهار ذلك لأن النفس سوف تقدم صورة تلك الحركات للبدن حتى يتمثل بها البدن. هذا الأمر تقوم به النفس بماهيتها لا بوجودها وذلك بأمر الله تعالى لأنه سبحانه يحول بين المرء وقلبه. واعتراض الكفار على أعضائهم باعتبار أن نفوسَهم قد خلقت أعضاءهم وأشرفت على صناعتها داخل الخلايا النباتية الخاصة بالحياة الأخروية.

بالطبع أن كل ذلك سوف يكون مفاجئا للناس في الواقع لأن ما ذكره الله تعالى في كتابه اليوم غير مقروء بواسطة عامة الناس وغير معلوم إلا لعدد ضئيل من الخواص. والذين يحملون بعض العلم بهذه الحقائق ويؤمنون بها بكل قلوبهم فهم قلائل جدا وهم عادة مؤمنون ليسوا من أصحاب النار بإذن العزيز الجبار جل جلاله. ثم إن كل الذين لم يعترفوا بذنوبهم من المجرمين وهم الذين يحملون نفوسا غليظة وشديدة مثل الملوك والزعماء السياسيين وبعض الذين يقومون بالقتل العشوائي دون رحمة وكذلك الذين لا يرحمون الأطفال ويفسدون خيرات الأرض ويقتلون أنفسهم في الدنيا لعلهم يقتلوا مع نفوسهم نفوس أفراد من البشر. كل هؤلاء يحملون نفوسا في غاية الشراسة حتى الذين يتظاهرون بالإيمان والإسلام منهم فإنهم في الواقع كفار فاسدون.

 المؤمن هو الذي يخاف والذي لا يخاف فهو شرير فاسد دون أدنى شك. ألم يخف موسى وهارون من فرعون؟ ألم يقل ربنا في بداية سورة طه: إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3)؟ ذلك يعني أن القرآن يفيد الذي يخاف بطبيعته وأما الذي يُخالف غريزته فلا يخاف فهو يحمل قلبا قاسيا كالحجارة ولا يتأثر بالحقائق. والذين يظنون بأن قلوبهم القاسية سوف تُدخلهم الجنة لأنهم يذكرون اسم الله تعالى دائما على لسانهم ويقتلون الناس باسمه الكريم أو ينتحرون ليقتلوا الناس فليعلموا بأنهم سوف يخيبوا جميعا. ليس في دين الله ما يُشرع لهم هذه الأعمال الهمجية البربرية وكل هؤلاء الذين يفتون لهم فسيدخلون معهم النار بإذن الله تعالى. ليس من حق النبي أن يفتي لأحد فكيف بالناس العاديين؟ ليست العمامة ولا اللقب الديني ولا تلاوة الآيات القرآنية ولا التمسك بغير الله تعالى وبغير كتابه الكريم الذي لم يتمكن المجرمون من تغييره وهو كتاب واحد في كل الكرة الأرضية، وليست الشهادات العلمية الزائفة ولا القوميات ولا الأنساب النبوية ولا أهل بيت النبوة ولا النبوة نفسها تغني أحدا يوم الحساب أو تحول دون وقوفه ذليلا أمام الله تعالى بانتظار حكمه فيه. إن محمدا وأباه إبراهيم وبقية الأنبياء يقفون مع أبي جهل وأبي لهب ونمرود وفرعون وكل الفاسدين والفاسقين وكل المؤمنين والصادقين مع بعض أمام المحكمة الكبرى والله تعالى وحده سوف يحكم هناك. قال تعالى في سورة طه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112).

رفض الشفاعة المفيدة للظالمين يوم الحساب:

والآية 109 أعلاه تدل دلالة واضحة على وجود الشفاعة كما تدل دلالة واضحة بأن تلك الشفاعة لا تفيد أحدا سبق له الإتيان بمطلق الظلم في الدنيا، أو الذي يحمل معه ظلما يوم الحساب. والثاني باعتبار الذين يستغفرون في الدنيا فيغفر الله تعالى لهم ذنبهم قبل موتهم فلا يحملون يوم القيامة ظلما. وقد شرحت مفاد الآيات في بحث الشفاعة لأثبت أن هذه الشفاعة هي ليست ما ينتظره الناس فعلا بتوجيه من علمائهم الذين أخطأوا في الحقيقة، وأنا لا أشك أبدا في خطإهم. سوف يخيب كل الذين اتبعوهم كما يخيبون هم بأنفسهم أيضا. وأنا أفضل أن أشرح الآية في التفسير وقد فعلت ذلك شفهيا لتلاميذ القرآن في كنجزبري وأقول باختصار. إن المحكمة الكبرى مشابهة لمحاكمنا من بعض الحيثيات. إن قضاة محاكمنا يستندون على عنصرين أصليين للتأكد من سلاسة المحكمة، هما المدعي العام والمحامي أو المحامي العام. فالمدعي هو الذي ينوب عن الشاكي المظلوم لينسق المطالبة والشكوى فيجعلها في صف الشكاوى المشابهة التي سبقت والتي ستأتي فيما بعد لئلا يصدر من المحكمة حكمان مختلفان في قضيتين متشابهتين تماما.

وأما المحامي فهو ضروري لأنه يعرف القانون الذي سوف يُصدر القاضي حكمَه على أساسه فيتناول القضية بجوانبه التي تتأثر بالقانون ليسهل تداولها في المحكمة. والإخوة المفسرون يقبلون ذلك ويسمونهما المنكر والنكير. وهما ملكان يقوم أحدهما بالدفاع عن المتهم والآخر بتوجيه التهمة إليه. لكنهم ظنوا بأنهما يدخلان على الميت في قبره. إنهم يجهلون كما يبدو بأن الذي في القبر الدنيوي ليس هو الميت فعلا بل هو جسده. لكن الميت بنفسه سوف ينتقل إلى مكان آخر وإلى عالم آخر هو عالم المجردات. ولا معنى للمنكر والنكير دون وجود المحكمة. هؤلاء المحدثون سمعوا شيئا عن رسول الله عليه السلام وهو يوضح القرآن في الواقع وقد حرفوا الكلم عن مواضعه كما فعله اليهود والنصارى. ولكن الله تعالى لم يَعِد بحفظ التوراة والإنجيل من اللعب فيهما فقام أولئك بتغيير أصل الكتابين القدسيين. وبما أنه سبحانه وعد بصيانة القرآن فلم يقوَ أمثالهم من المسلمين على تحريف القرآن فلعبوا في تفسير هذا الكتاب المبين. وسوف يجازي الله تعالى الذين لعبوا في كتابه من قبل، وإني كمفسر أستغفر لزملائي الذين سبقوني لأنهم ذكروا هذه التأويلات غير الصحيحة عن جهل على ما أظن.

والخلاصة أن الشفيع هو مَلَكٌ يقوم بالدفاع عن المتهم بموجب قوانين رب العالمين جل جلاله وهو دور مشابه لدور المحامي في محاكم الدنيا. ولذلك يقول تعالى بأن شفاعة هذا الشافع لا يُجدي نفعا لمن ظلم. فأعقبها بأن الله تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. هذا هو تعبير يخص ارتباط الملائكة بالرحمن سبحانه. قال تعالى في آية الكرسي: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء. وقال في سورة الأنبياء: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28). وكل هؤلاء هم من الملائكة المكرمين.  و قال أيضا في سورة الحج: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76). وأما هذه الآية التي تتحدث عن الرسل الإنسيين والملائكيين فإنهم أيضا تحت رصد رب العالمين الذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم. والله بالطبع يعلم ما بين أيدي كل الموجودات وما خلفهم ولكن القرآن الكريم يؤكد هذا العلم بالنسبة للملائكة باعتبارهم رسلا وبالنسبة للرسل الإنسيين في رسالتهم طبعا. والمقصود من ذكر هذه الجزئية هو أن يثق المؤمنون بأن الله تعالى لا يعطي الاختيار لرسله ليقولوا على الله ما يحبون ويشاؤون،  بل إنهم يبلغون رسالة ربهم ويقولون للناس ما يشاؤه الله تعالى. فدورهم جميعا في رسالتهم دور أدوات التنفيذ لا غير.

المرحلة السادسة

ليس لأهل النار في حياتهم الأبدية إلا العذاب والحصار والأكل الرديء والشرب التعس وكل ما يزعج وينفر النفس اللطيفة. فالحديث عنهم غير موسع في القرآن الذي يهتم ببيان نعم رب العالمين ويكتفي بالتهديد بالعذاب وما يجره المذنبون من ويلات على أنفسهم. ولكن الكتاب الكريم يصف أحوال أهل الجنة ويوضح نعيمهم كثيرا. ونحن هنا نبدأ ببيان أهل الجنة الذين ينفردون بشتى أنواع النعم من ربهم في النشأة الثانية التي تبقى إلى الأبد بإذن الله تعالى.

الجنس وبقية المتع في الجنة:

مما لا شك فيه أن المرأة الدنيوية والرجل الدنيوي يُحشران في بدن آخر في الأرض الجديدة. إنهما يفقدان كل مظاهر الأنوثة أو الذكورة حين الممات. وبالنظر إلى منطق القسط الذي وعد الله تعالى به يومَ القيامة فإن ذلك لا يتناغم مع حشرِ من كنّ في الأرض نساء بمثل ما كنَّ عليه من قبل. فلا يوجد إناث هناك كما لا يوجد ذكور، والكل إخوان في الواقع أو أعداء إن كانوا من أهل النار. وأما زواج النفوس التي يذكرها الله تعالى في سورة التكوير فهي في مقابل الفردية التي يذكرها في مكان آخر عند لقائنا معه سبحانه. حينما نخرج من الأرض الجديدة سنكون قد ارتبطنا بأبدان جديدة ارتباطا تُخرجنا من فردية النفس وتُدخلنا في زوجية البدن مع النفس. والحديث في سورة التكوير عن زواج كل النفوس وليس زواج المؤمنين فقط، فأرجو أن يتفطن القارئ الكريم لموضوع الزواج النفسي.

وأما الحور العين فهي مخلوقات فردوسية معدة لأهل الجنة. إنهن يمثلن الإناث التي يستمتع بها أهل الجنة على السوية. يمكن أن نعتبر أهلَ الجنة كلَّهم ذكورا والحورَ العين كلهم إناثا وذلك لما في لغتنا من نقص لا تتجاوب مع مفاهيم الآخرة تجاوبا كاملا. ولذلك فأهل الجنة الذين انتقلوا من الدنيا برمتهم إخوان على سرر متقابلون. والسرر هو جمع سرير بمعنى التخت أو المتكأ المرتفع الذي يسر الجالسين عليه وليس بمعنى المضطجع. ليس هناك أي ذكر للنوم إطلاقا، ولكن هناك ذكر للفتيات الأبكار. فلو كان البكر بمعنى البكر الدنيوي فسيكون الارتباط الجنسي مشابها لما هو عليه في هذه الدنيا ولو أني أستبعد ذلك بل لا أحتمله أصلا كما سيأتي. إنما نعرف تماما بألا مجال للتكاثر في الجنة لمخالفتها مع العقل وقد اعتبر اللهُ تعالى المالَ والبنين زينةً للحياة الدنيا.

وإذا نسبر في أغوار الكتاب الكريم لنجمع مفهوما متكاملا للتمتع في الجنة فسوف نجد بأن سهم التمتع الجنسي المتعارف في الدنيا قليل جدا وهناك أنواع أخرى من التمتع التي يهتم بها القرآن العظيم. تلك المتع حاصلة من اجتماع أهل الجنة مع أهل الجنة الذين استحقوا ذلك النعيم الخالد الذي يفوق تصورنا في الدنيا. ولو ننظر إلى التمتع المشترك بين الذكور والإناث في الدنيا ونقيّمها لنرى بأن القسط الأكبر هو التمتع بالتفاهم والتوافق النفسي والتحادث أو ما هو معروف عندنا بالمغازلة. كل ذلك مرتبط بالمتع النفسية ولا دخل لها بالتمتع الحيواني المعروف. فذلك تمتع ناتج عن الشعور بالحاجة لدى الجنسين. وقد أودعت الطبيعة بأمر ربها هذا الشعور في أعماق الكيان البشري بغية تشجيعهم على التكاثر في الواقع. بالطبع أن الله تعالى يستفيد منها للاختبار أيضا. وكلا الأمرين منفيان في الدار الآخرة، حيث لا تكاثر ولا اختبار.

أما التمتع البشع الموجود لدى بعض المترفين والذي لا يتعدى اللقاءات الجنسية فإنه يتسم بمظهر الكبرياء التي يتفاخر بها أحد الجنسين والغالب تواجدها في الرجال. هناك بعض الرجال في الدنيا يظنون بأن الرجولة تعني القدرة على إخضاع الإناث تحت سيطرة القوة البدنية أو المالية أو السياسية أو بالإغراء والخداع. وكل ذلك ليست من نزعات المؤمنين من أهل الجنة. تلك نزعة شيطانية تتفاعل مع إغواء الشيطان الذي يرى في الحركات الجنسية مناخا ملائما لإبعاد أعدائه البشر عن ربهم وزرع الفتنة والشعور بالعظمة الزائفة في قلوبهم لتميل إلى الفساد والخراب. وما يذكره كتب الحديث عن اهتمام النبي العربي بالإكثار من التمتع بالإناث مثل طوافه على كل نسائه كل ليلة والتحايل على حكم الله تعالى في اللقاء مع الحائضات منهن بالإزار وما شابه ذلك فمجرد كذب وافتراء على الرسول. هذا من صنع الملوك والخلفاء المولعين بالنساء ليبرروا الاحتفاظ بآلاف الجواري في قصورهم القيصرية الفاسدة. إنهم أرادوا إخفاء فساد نفوسهم بتحويل هذا الفساد الخلقي الزنخ إلى رسول الله ليخلقوا منه صورة قبيحة لإنسان مغرم بالجنس ومهتم بالعبث بالجنس الآخر لأجل المتعة والدعة. لو كان محمد هكذا فإن القرآن والعياذ بالله غير صادق حينما يصف قيامه بالليل ومناجاته مع ربه.

هذه الليلة المحدودة لا تكفي للطواف على ثمانية نساء والقيام بالصلاة وصرف وقت كبير في تلاوة القرآن وفي التفكر بالآيات العظيمة وأخذ قسط من النوم. هؤلاء خدعوا المسلمين بافتراءاتهم وقالوا بأن الرسول مُلهم ولا يحتاج إلى أن يتعلم فلا يصرف وقتا لكسب العلم وهو كذب ومخالف للقرآن. وقال بعضهم بأن الرسول كان مهتما بالإناث من أسرى الحروب فكان يرمي عباءته على الفاتنات منهن فيعرف المسلمون بأنه اختارها فلا يقتربون منها وهذا أيضا يخالف حكاية الرسول في القرآن. وقال بعضهم من الصوفية بأنه لم يكن محتاجا للمزيد من الصلاة باعتبار وصوله إلى عين اليقين فلم تكن الصلوات والذكر ضرورية لاستكمال النظافة والطهارة في قلبه. وذلك أيضا لا ينسجم مع اهتمامه بالصلاة والتهجد بشهادة القرآن الكريم.

فالتمتع الجنسي لا يمكن تجاهله في الآخرة لأن الله تعالى ذكره في القرآن بصورة من الصور، ولا يمكن حصر الحور العين في المتع الجنسية لأن الحياة المشتركة بين رجال المؤمنين وإناثهم لا يشابه تلك التي لدى المترفين الجاهلين الذين يموتون على الجنس. المؤمنون يستمتعون كثيرا بكشف الكنوز العلمية والتباحث الفكري مع بعضهم البعض حتى في خلواتهم مع حلائلهم ولا يتجاهلون المتع البدنية أيضا. وسيكونون هكذا في الجنة أو هم يمثلون أصحاب الدرجات العليا في جنات النعيم. ستكون حياتهم مليئة بالعلم والكمال والعبادة الخالصة الممتعة لربهم الكريم وسوف يهتمون بالجلسات والندوات العلمية ويمتعون أبدانهم بالكثير من الفواكه والقليل من اللحوم كما يمتعون أسماعهم وأبصارهم بالمناظر الجميلة الخلابة والأصوات الناعمة المغردة. في هذا الخضم المليء بأنواع المتع، سوف لا يبقى الكثير من المجال للتمتع الجنسي بالشكل الدنيوي وخاصة بعد أن يفقدوا الشعور بأية حاجة لذلك. الطبيعة المنسوبة إلى الملك الحكيم سبحانه وتعالى لن تشعر بالحاجة للتكاثر فلا يحرك الناس للجن

س والشياطينُ سيكونون مبتلين بنيران جهنم فلا إغراء ولا خداع في الجنة. ولا أعضاء تناسلية في الجنة.

وأخيرا لا نوم في الجنة ولا حاجة إلى النوم. إن النوم حالة من الموت فلا يمكن تصوُّرُ الموت في جنات النعيم كما أن الحاجة إلى النوم تابع للشعور بالضعف والهوان وهما يختفيان في الجنة أيضا. ولم يذكر الله تعالى أَسِرَّة النوم ولا غرف النوم بل اكتفى بذكر غرف الاستقبال الجميلة والحدائق المطلة على الأنهار ونوافير المياه النضاخة وكذلك الخمور والكؤوس وما شابه ذلك. وأجمل شيء في العلاقات البشرية أنهم إخوان على سرر متقابلون وقد أخرج الله تعالى من قلوبهم كل الأغلال فلا يشعرون بغير السلام والحب والطمأنينة بينهم. هناك بالتأكيد حركات رياضية ممتعة مثل السباحة والسونا وحمامات الشمس وحمامات السباحة المتعرجة وركوب الخيل والجيمناستيك والكرة بأنواعها والرحلات في البر والجو وكذلك القوارب النهرية. وبما أن الجنة خالية من البحار والمحيطات والجبال والثلوج فلا يمكن أن نتصور الرياضات التي تتعلق بها مثل الغوص على كنوز البحار والتزلج على الجليد وركوب البحر عامة وتسلق الجبال والصعود بالتلفريك وما شابهها. إن كل الرياضات التي تتسم بالمغامرة مفقودة في الجنة لعدم توافقها مع السلام. ولكننا يمكن أن نتصور بكل قوّةٍ السفرَ في الفضاء والانتقالَ إلى الكواكب الأخرى التي تحتوي على البحار والجبال ويمكن ممارسة المتع التي تناسبها هناك وليس في جنات النعيم حيث مساكن ومآوي أصحاب الجنة التي تتسم بالهدوء والنعومة. تلك مغامرات يمكن أن يطلبها بعض أهل الجنة وقد يسمح الله تعالى بها بصورة مؤقتة والعلم عنده وحده.

بحث الموضوع قرآنيا:

نسعى في هذا المقطع للاستدلال قرآنيا وبالآيات الكريمة على ما كتبناه حول التمتع الجنسي في العالم الآخر والمتع التي تجاري الجنس من حيث اللذة وانبساط النفس. وليكن واضحا بأن الله تعالى غير مهتم بالتمتع الجنسي كسبب لخلق الناس أزواجا حتى في الدنيا. قال تعالى في سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21). فجعل سبحانه آية الألوهية أن خلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها وعمم بيننا المودة والرحمة. فالإناث والذكور مفطورون على الحب والتودد والتراحم وفقدانُ ذلك دليلٌ على محاربتهم مع الفطرة في الواقع. ولكن الجنس في الدنيا هو ضرورة التكاثر والتخلص من أعباء بعض التبعات البدنية الملازمة للتكاثر وخاصة بالنسبة للذكور.

1.            وكمقدمة فإننا نمد الطرف قليلا إلى قصة أبينا آدم في الكتاب الكريم ونمعن في توصيف القرآن الجنةَ والعنايةَ الخاصة لأبوينا آدم وحواء رحمهما الله تعالى. كما ننظر إلى النبي الكبير عيسى بن مريم عليه وعلى أمه السلام، وما صاحبَ حياتَه من تكريم خاص به كما سوف نشرحهما بعد تحليل الآيات التالية. سوف نرى بأن الجنة الدنيوية الخاصة بآدم تنطوي على حياة جميلة هادئة خالية من المتع الجنسية التي ألفها البشر وبمجرد أن يفيق الأبوان على ما ووري عنهما من سوآتهما فإن الله تعالى يطردهما من تلك الجنة كما طرد الشيطان من قبل ولكنهما والشيطان بقوا في الكرة الأرضية كما كانوا ولعل آدم وحواء لم يخرجا فعليا من جنتهما التي عاشا فيها قبل الأمر بالطرد. وسوف نرى تكريما غريبا للمسيح لأنه وكما يبدو لم يمارس الجنس بل بقي حصورا مثل يحيى. وسوف نشرح موضوع آدم وعيسى في الفصل التالي تحت عنوان: شواهد قرآنية أخرى على حالات الجنة وأهلها.

2.            قال تعالى في سورة الدخان: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55). المقام هو المسكن الذي يقيم فيه الإنسان بأمان وسلام وقد أكد الله تعالى على أمانه وبأنه تمثل الجنات وتعني الحدائق كما تمثل العيون والملابس الناعمة والجلوس قبالة بعضهم البعض وكذلك الزواج بالحور العين والتمتع بالفواكه في أمان أيضا. وقبل أن نشرح الأمان هنا فيجدر بنا أن نقرأ الآية التالية التي تعقب ذلك وهي: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56). عدم تذوق الموت ليس بيانا للدعوة بالفواكه بالطبع بل هو أمان آخر وإلا كان يقول: فلا يذوقون الموت. والأمان الأول في الآية 51 هو البيت الآمن من خطر اللصوص والفضوليين وكذلك السباع التي تكون منقرضة تماما وغائبة عن الجنة. والأمان الثاني هو الأمان من العيوب التي تساوق المشاهد المشابهة في الدنيا. فنحن هنا نخجل من أن نمارس المتع الجنسية بين ضيوفنا ولكن الحال مختلف في الجنة كما سنعرف.

3.            قال تعالى في سورة الطور: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (20). ولقد ذكر الله تعالى الفواكه مع الأزواج والسرر التي يجلس فيها أهل الجنة معاً طيّات هذه الآيات الكريمة أيضا.

4.            أما سورة الرحمن وهي التي تتولى توصيف الحالات المشتركة بين الجن والإنس في الآخرة بما يتناسب مع المَعشَرَين في المفاهيم الدنيوية، فهي تعطي بيانا واضحا لحالة الناس مع أزواجهم في خيام التنزه في جنات النعيم. قال تعالى: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77). الطمث معناه المس الباكر. وقد ذكر صاحب لسان العرب مثلين لبيان المعنى، وهما: ما طمثه (أي ما طمث المرتعَ) قبلنا أحد وما طمَّث هذه الناقةَ حبلٌ قط. وذكر بأن العرب كانت تسمي الحيض الأول طمثا. وللجن لقاء جنسيٌ لا يمكن أن يكون على غرار الإنس لأنهم ليسوا في الفيزياء. ولكنهم في عالم الموجودات الطاقوية يمسُّ بعضُهم البعضَ. وأما المقصورات فليست بمعنى المحبوسات كما تصور المفسرون فلا سجن في الآخرة وليست الخيام مناسبا للحبس. لكنها تعني بأن عيونهن مقتصرة على رؤية أهل الجنة فلا يعرفون شيئا عن صفاتنا نحن والجن في الدنيا. والسبب في ذلك هو أن الإنس ممنوع تشريعيا من التلاقي الجنسي مع غير الإنس ولعل الجن كذلك، فكيف يجتمعان معا في الجنة ويتزوجان موجودا واحدا؟ فتعالج هذه السورة المسألة بأنهن لسن على غرار نساء الأرض وليست العملية عملية مشابهة لما نحن عليه في الأرض.

5.            ويقول سبحانه في نفس سورة الرحمن: فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58). ونلاحظ بأن مسألة يطمثهن مذكورة مرتين في كل القرآن وكلاهما في هذه السورة الكريمة.  وفي هذه الآيات جاءت {لم يطمثهن} كمعنى لقاصرات الطرف للتأكيد على ما وضحته قبل هذا احتمالا. ونلاحظ الاتكاء والجلوس في كلتا الآيتين الكريمتين. وأما التفكه دون الأكل قد ذكر في هذه الآية لأن الجن كما يبدو يشمون الفواكه ولا يأكلونها لأنهم ليسوا في عالم الأبعاد الثلاثة. وسنعرف في التفسير كثيرا من خصائص الجن التي تشترك مع الإنس بطريقتهم الخاصة بإذن الله تعالى. وقد شبه الله تعالى الحور العين اللائي يمثلن دور الشريكات لأهل الجنة ومخصصات للتمتع وليس للعمل، شبههن باللؤلؤ والياقوت والمرجان كما شبه الولدان المخلدين الذين يمثلون دور المضيفين أو الخدم المباشر لأهل الجنة باللؤلؤ وكلها مجوهرات كريمة ثمينة غير متوفرة بكثرة في الدنيا لأسباب ترتبط ببقائهم وخلودهم على شكل وعمر واحد دون تغيير. ولم يشبه الله تعالى أهل الجنة أنفسهم بهذه المجوهرات الثمينة لأننا نحن بأنفسنا سوف نصنع أبدانَنا بإذن الله تعالى ولكن الله تعالى بتقديره هو دون تدَخُّلٍ مِنّا سوف يصنع الحور والخدم ليكونوا زينةً لمن يدخل الفردوس منا ومن الجن. ولو كان الخدم هم نفس أهل الدنيا حسب احتمال نذكره في التفسير فسيكونون بأبدانهم زينةً لأهل جنات النعيم.

6.            وأما سورة الواقعة فإنها وعند بيان ارتباطهم بالفردوسيات، توضح بشكل أكثر نشأتهن الأخروية وأنهن غرباء عن نشأتنا الفعلية. يقول الحكيم سبحانه: وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37). والإنشاء تعبير عربي وقرآني بمعنى الخلق ولكن حينما تتدخل فيه الهندسة والتصميم أكثر من المواد المكونة. فتعني هنا الخلق البدائي أو كامل الخلق. والأبكار جمع للبكر وهو كلمة مشتقة من معنى البُكرة وهي أول النهار ويستعار بها لما يقابل الثيب باعتبار أن الثانية قد لامست رجلا. وهي هنا ليست بنفس المعنى المتداول عندنا فهي هناك ليست في مقابل الثيب ولكنها تعني باكورة حياتها التي تبقى عليها إلى الأبد. فهن بكيانهن تعُرِبْنَ عن أنهن أبكار غير ممسوسات مسا دنيويا كما هي عليه الناس كما أنهن مماثلات من حيث تفاعل خلقهن داخل أرض واحدة ومن تراب واحد. فالأتراب مشابه لقولنا: فلان وفلان من طينة واحدة، ونقصد بها وحدة الصفات أو وحدة الكيان أو وحدة اللون وما شابه ذلك. وفي ذكر الأتراب إشارة واضحة بأنهن مخلوقات من تراب الجنة كما أن البشر سوف يُخلقون من نفس التراب أيضا ولكن قبل أن تتحول إلى جنة نعيم والعلم عند الله تعالى.

7.            وأما الآيات التالية من سورة الواقعة فقد نقلناها كاملة في وصف جزاء السابقين وهم خلاصة أهل اليمين المقدمون على غيرهم في الجنة: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25) إِلاّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا (26). ونلاحظ عدم وجود أي ذكر لنساء أهل الجنة كما تصوره المفسرون الكرام ولا النوم ولا العلاقات الخاصة بين الجنسين. وقد تكلف بعضهم لبيان سبب الرفع في الحور العين فقدَّرَ مثلا: لهم حور عين. والواقع أن الحور العين معطوف على الولدان ويعني: تطوف عليهم حور عين. وهكذا كل القرآن يتحدث عما ظنناه نساء أهل الجنة بأنهن مع أهل الجنة في جلساتهم المشتركة مع بعض وهن يمتعنهم وهم جالسون بين أحبابهم وإخوانهم. ومما لا شك فيه عدم وجود الحجاب على مفاتنهن لأنه يتنافى مع التمتع. وقد زوج الله تعالى أهل الجنة بالحور العين ولم يقل بالنساء. وأما استعمال صيغة الأنثى فليس للمؤنث الحقيقي حسب تعبير النحاة بل لأسباب أخرى أهمها قصور لغتنا نحن عن التعبير الكامل الشامل لنعيم الجنة. ونعرف أن معنى المؤنث الحقيقي حسب تعبير اللغويين هي من كانت له آلة الأنوثة المعروفة. ولكننا نعتبر الشمس مؤنثة ونعتبر العين والأذن واليد مؤنثة أيضا.

8.            وجاءت سورة يس الكريمة وهي السورة التي يوضح الله تعالى فيها جزاء الأنبياء الكرام على يقينهم بالله وبالآخرة وعلى سمعهم لربهم وبأنهم أنذروا الناس بالحق فكانوا يسيرون في مسار العهد الطبيعي بين الله تعالى وعبيده ألا يعبدوا إلا الله تعالى. هذه السورة توضح جزاء الرسل ومن اتبعهم هكذا: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58). فلا نوم ولا نساء ولا أماكن للنوم بل جالسون في ظلال متكئين على الأرائك مع أزواجهم فاكهين. فلا خبر عن علاقة خاصة يتستر بها كل إنسان ولا يبوح بها أمام أقرانه كما هو الحال في دنيانا.

9.            وفي سورتي الصافات وص يتبين لنا أن العلاقات ليست سرية وهم يتنَعمون ويتلذذون علنا على الأرائك. ولننظر إلى الصافات بداية: أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ (45) بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ (46) لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ (49). فنرى أن الخمور متاحة لأهل الجنة بشكل واسع فهم لا يُنزفون عنها كما أن مفاجئات الخمور التي تحيق بالإنسان الدنيوي أحيانا مثل فقدان العقل أو أي مقوم إنساني آخر فهي غير حاصلة في الجنة. والغول يعني الإهلاك دون أن يحس به الذي ابتلي به كما يستفاد من كلام الراغب في المفردات ومنها الاغتيال المعروف. وبالنسبة للخمور الفردوسية فسيكون معنى الغول هو إهلاكُ الخمرِ لِعقلِ الشاربِ دون مقدمات أو بوادر، فهو غير حاصل في الآخرة ولكنه يحصل لمن يكتسح الخمرة في الدنيا. فأهل الجنة يُكثرون من الخمور حين جلوسهم متقابلين على السرر وقد رافقتهم قاصرات الطرف الحسناوات. ولو أن الخمرة لم تسبب إزالة العقل فإنها بالتأكيد تزيد من نشوة الشاربين وغرامهم، فلو حصل ذلك في حالاتنا الدنيوية فالجنسان يلجئان إلى غرف النوم وليس الأمر كذلك في الآخرة. إنهم يمارسون المتع المشتركة بين الجنسين على الأرائك ودون التستر. فالعملية الجنسية المعروفة غير واردة هنا وليست من عمليات أهل الجنة.

10.       وأما سورة ص فإنها تزيد على أختها الصافات بأن الأبواب ستكون مفتحة: هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ(54). ولا ضير في أن تبقى الأبواب مفتحة مادام التمتع خاليا من فضائح الجنس الدنيوي. ولو ننظر إلى الذين لا يحملون مواريث دينية مثل المتزمتين من أهل الديانات وكذلك الذين لا يخافون من التشريعات مثلنا نحن المؤمنین بربنا وبأحكامه؛ فالذين يتخلون عنا فهم يتبعون الطبيعة دون رادع. نراهم في الغرب يصرفون وقتا كثيرا في البارات والحانات والمطاعم الخمرية مع عشيقاتهم يفعلون كل شيء عدا ممارسة العمل الخاص. لو تأتى لهم أن يبقوا خمسين ساعة لبقوا دون أن يلجئوا إلى نهاية المطاف الجنسي. وحينما نسألهم فإنهم يتحدثون عن نشوةٍ ولذةٍ فوق الوصف وكثير منهم يكتفون بها ولا يسعون للمزيد من الاستنزاف الجنسي. وفتح الباب هنا على أنه يشير إلى إذن الدخول في الجنة ولكنه ينبئ عن الأمان والسلام الذي يحصنهم من كل خطر فلا يخافون أن يدخل عليهم عدو من الإنس والحيوان وكذلك الجن كما لا يخجلون مما يفعلون بأزواجهم أمام بعضهم البعض وبمرأى من كل الناس.

11.       ويؤكد سبحانه وتعالى في سورة الزخرف: الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73).  هذه الآيات الكريمة تؤكد بأن أهل الجنة يتلذذون بالأكل والشرب مع أزواجهم وهم يتعرضون للطواف عليهم بصحاف الذهب والأكواب المليئة بالخمور. هي هذه التي تلذ الأعين وتشتهيها الأنفس وهم فيها خالدون. إنها جنات النعيم التي يورث الله تعالى بها عباده المسلمين الذين آمنوا بآياته.

12.       ونختم هذا الفصل بآيات من سورة آل عمران التي تعطي أمثلة ونماذج بشرية للذين آمنوا بما وضحه الله تعالى في سورة البقرة السابقة لهامن الإيمان بالله وباللقاء به والتمسك بهما: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15). في هذه الآيات نرى بوضوح أن ما وصفناه للمتع في النعيم الأخروي هي التي تحل محل ما يقابلها من المتع الدنيوية. هذه المتع التي تنتهي بزوال الدنيا. فمتع الجنة المعبرة عنها في الآية الثانية خير من المتع التي زُينت للناس في الحياة الدنيا. فالأزواج المطهرة مقابل الشهوات من النساء والجنات المفتوحة على ضفاف الأنهار مقابل الأموال التي يجمعها ويكدسها الدنيويون من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. وآخر الآيتين تبين بأن الله تعالى بصير بعباده ويعلم كيف يمنحهم المتعة والنعمة. وطهارة الأزواج لا تعني أنهن لا يزنين، لأن الزنا محرمة في الدنيا صونا للعائلات ووقاية للنسل ولا نسل ولا عائلات في الآخرة. ولكنها مطهرة بأنها تمتع أهل الجنة بغير ما اعتادوا عليه من عضوي التبول لدى الجنسين في الواقع. فكل ما يخرج منهما سواء في التبول أو اللقاء الجنسي تمثل الأوساخ المقززة التي لا يرتاح إليها أصحابها ويسعون أن ينظفوا أنفسهم منها بأسرع وقت. ولا أوساخ في الجنة.

لاحظنا في الآيات السابقة بأن الحديث يكثر عن الأكل ويقل عن التمتع بالنساء وهناك المزيد من الحديث عن الأكل والشرب في الجنة ولكننا لم نر حاجة في ذكرها بهذا البحث المختصر. والسبب في ذلك بأن الأكل والشرب في الدنيا يتعلقان بمجموعة من أنواع الطعم المحسوس بواسطة اللسان والأسنان وما رافقهما ولكن التمتع الجنسي متعلق بحركة واحدة وطعم واحد ولو أنه لوحده كبير وممتع جدا. فنحن نشعر بالحموضة والملوحة والحلاوة والمرارة والحرارة الفلفلية بأفواهنا. ومآكلنا ومشاربنا التي تأخذ كل منها قسطا مما ذكرنا أو مزيجا منها بدرجات متفاوتة ويضاف إليها الحرارة والبرودة والسيولة والجفاف أو قسط متشكل من كل ذلك، فهي كثيرة الأنواع متضاربة في الطعم والرائحة وسهولة البلع والامتصاص وبقية الصفات. وفي الجنة كما يبدو حالات وصفات أكثر من الحموضة وأخواتها وأكثر من السيولة وأخواتها. والتفسير كفيل بشرح مبسط ومفصل لها عند بيان الآية 25 من سورة البقرة بإذن الله تعالى. وسوف نقوم بتحليل التمتع الجنسي بعد ذكر الشواهد القرآنية في الفصل التالي فسوف يقتنع المؤمنون بأن خُلُوَّ الجنة من اللقاء الجنسي الدنيوي حسنة تفوق لذة ما في الدنيا كلها.

نهاية القسم الرابع من الأقسام الخمسة ليوم القيامة ويليه القسم الخامس ويبدأ بشواهد قرآنية  على حالات الجنة وأهلها.

احمد المُهري

14/10/2017

كتبت الأصل في أبريل 2007 احتمالا

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.