تصحيح اخطاءنا التراثية – الحج واهله 1/3

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

pilgrimage1.jpg

بسم الله الرحمن الرحيم

تصحيح أخطائنا التراثية

الحج وأهميته – الفصل 1 من 3

 

 

 

 

 

 

 

 

الحج وأهميته وما يقارنه من أفكار وأعمال يمثل أحد أهم المسائل التي كان يجهلها الذين أورثونا الكتب المعروفة بالتراث الإسلامي. وقد فكرت كثيرا في أن أكتب ما أعرفه عن الحج أو أصبر. هو معلوم لدى تلاميذ القرآن في لندن ولكن هل بإمكان عامة الناس أن يستوعبوا مفاهيم الحج؟ وأخيرا قررت أن أكتب وأترك الأمر للناس ليطلبوا من ربهم معرفة حقيقة هذا العمل الإسلامي العظيم. وحتى أشعر القارئ الكريم وهو يبدأ قراءة هذه المقالة، أشعره ببعض المسائل الغامضة التي عجزت العقول العربية والإسلامية المعروفة عن فهمها. بالطبع أن هناك من يعرفها فلسنا نحن في بريطانيا نستلم الوحي من الله تعالى ولسنا نحن الوحيدين في فهم ما يتيسر لنا من أعماق كتاب الله تعالى المنزل على البشرية جمعاء.

 

أسئلة تحتاج إلى جواب:

 

  1. قال تعالى في سورة الحج: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34). وقال أيضا: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28). فما هو ارتباط بهيمة الأنعام وهي الأنعام المعروفة بالصغيرة (البقر والمعز والضأن) بالحج؟

 

  1. قال تعالى في نفس الحج: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29). فما معنى التفث وما هو ارتباط ذلك التفث بالطواف حول البيت العتيق؟

 

  1. لماذا دعا الله تعالى الناس جميعا للحج ولم يكتف بدعوة المسلمين فقط؟ وهل ما قامت وتقوم به الحكومات من منع غير المسلمين من دخول مكة مرفوض أم مقبول قرآنيا؟ ولماذا لم يدع ربنا الجن للحج وهم مكلفون مثلنا؟

 

  1. لم يسم الله تعالى أي مكان في الأرض بيتا له عدا مكة. فما هو السبب في ذلك وما معنى قيام إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت؟

 

  1. قالوا بأن إبراهيم وضع القواعد لإقامة الجدران مكان الكعبة والله تعالى لم يقل ذلك، بل قال في سورة البقرة: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(127). رفع القواعد غير وضع القواعد فما معنى الآية إذن؟ ولم يقل الله تعالى بأنهما بنيا الكعبة ولم يقل أحد بأنهما فعلا ذلك. بل قالوا بأن جُرهم ومن بعدهم قريش هم الذين بنوا الكعبة وليس إبراهيم.

 

  1. ما معنى الكفر في الآية التالية من سورة آل عمران: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97). وهل من لا يحج كافر مثلا؟

 

  1. ما هي أهمية مكة عند الله تعالى ولماذا لم يعتبرها القرآن أرضا مقدسة بل اعتبرها أرضا محرمة؟

 

  1. نحن ورثنا السعي بين الصفا والمروة عمليا ممن سبقونا من المسلمين ونعتبرها جزءا واجبا من أعمال الحج وهو بالطبع صحيح لا إشكال فيه. فلماذا يقول سبحانه بأن لا جناح على الذي يطوف بهما في سورة البقرة: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴿158﴾. فهل يجوز أن نترك السعي بين الصفا والمروة؟

 

  1. يقول سبحانه في سورة الحج: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33). الحديث حول البهم الثلاثة فما معنى قوله تعالى بأن محلها إلى البيت العتيق؟

 

  1. قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124). فما هي إمامة إبراهيم وهل هي خاصة به أم مشتركة مع غيره؟

 

نسعى في هذا البحث أن نرد على الأسئلة المذكورة أعلاه مستعينين بالكتاب العظيم نفسه. ونتمنى أن تتبلور للقارئ الكريم أهمية الحج وفوائده ونسعى لبيان الأخطاء الكبرى التي وقع فيها مفسرونا الكرام رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

 

ينطوي هذا البحث على مسائل تشريعية فهي كالعادة واضحة وضوح الشمس في الكتاب كما ينطوي على مسائل غير تشريعية فهي كالعادة ليست بوضوح التشريعات. والبحث يتضمن بعض الشيء عن بداية خلق الإنسان وهو مسألة غير ضرورية للجميع بل مجرد معلومة تفيد المحققين والذين يطلبون المزيد مما قاله ربهم ليزدادوا ثقة بحقيقة كتابهم السماوي. مثل هذه المسائل مشار إليها في القرآن وليست موضحة تماما فهي من المتشابهات فعلا. ولعل السبب هو أن البشرية لم تكن عالمة بالكثير من حقائق الكون والوجود يوم نزول القرآن العظيم فلم يرد ربنا أن يربكهم. وما نقوله نحن بعد التطور العلمي المشهود قد لا يكون صحيحا أيضا ولكنه يعطي معنى لمجموعة الآيات التي نتناولها حول موضوع الحج. وأعتذر مسبقا من التكرار المشهود للآيات الكريمة في هذه المقالة بسبب تعرضنا لمسائل متعددة في هذا المقال وكلها مستفادة من نفس الآيات. ولا ننس بأن آيات الحج لم توضح بالدقة المطلوبة من قبل من سبقنا من مفسرينا الكرام رضي الله عنهم وعنا.

 

السبب في عدم بيان كل أعمال الحج في القرآن:

 

من الطبيعي أن يوضح الله تعالى في الكتاب ما لم يعلمه الناس ومن غير المعهود أن يبين لهم ما يعرفونه بأنفسهم فهو تكرار لا يناسب القدوس العزيز جل جلاله. ولعل هذا هو السبب في أنه تعالى لم يوضح لنا كيفية الصلاة التقليدية أيضا. ذلك لأن الصلاة في واقعها إبراهيمية وليست محمدية في الأساس. فالمؤمنون بالله كانوا يصلون من قبل ظهور الإسلام حتى الذين لم يتشرفوا بالديانتين السماويتين السابقتين. وكانوا يؤدون فريضة الحج من أيام إبراهيم أيضا فلم يوضح الله تعالى المناسك كلها بل وضح ما كان معتما عليهم وبيَّن أهمية الحج وفلسفته باعتبار التطور العلمي الذي سمح لهم أن يتعرفوا أكثر ممن سبقهم على معرفة بعض أسرار الحج.

 

قال تعالى في سورة البقرة: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(199). فالناس المقيمون في مكة والزائرون لها كانوا يفيضون فاكتفى ربنا بالإشارة إلى تلك الإفاضة وقبولها والأمر بها بدون توضيح الكيفية أو مسار الإفاضة. لكنه تعالى وضح فيها بأن هناك مجال مناسب للاستغفار والاستنجاد بمغفرة ربهم ورحمته. تلك مسألة لم تكن مفهومة لهم كثيرا كما يبدو.

 

هل الحج واجب لأداء المناسك فقط؟

 

بالطبع أن وجوبه لا يقتصر على المناسك ولذلك قال سبحانه في سورة البقرة مخاطبا إبراهيم: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29). فلم يحدد الحج للمؤمنين بل دعا الناس جميعا. الحج واجب على المقتدر طبعا ولكنه ليس للمناسك بل للتالي:

 

  1. ليشهدوا منافع لهم بداية.

 

  1. وليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.

 

  1. ليأكلوا من بهيمة الأنعام ويطعموا الفقراء منها أيضا.

 

  1. ليقضوا تفثهم، وليوفوا نذورهم.

 

  1. وأخيرا يطوفوا بالبيت العتيق.

 

لننظر إلى السياحة في مختلف بقاع الأرض فهي مطلوبة وبكل إصرار للمقتدرين طبعا ليسافروا إلى المنتجعات السياحية وتشجعها الدول لأنها تجلب لهم أموال الغير فيبرمجون للسائح:

 

  1. أن يرى الزائر بأن زيارته لتلك الأرض تجلب له الخير والمنافع وبأن ذلك المزار يساعده على كسب المزيد ويرفع عنه بعض المصروفات.

 

  1. أن يهتم الزائر بالعدالة والرخاء والحياة الطيبة والحكم السليم في المكان السياحي فيعود إلى بلده وهو مُبلِّغ ومدافع عن النظام السائد في البلد السياحي.

 

  1. يهيؤون للزائر زيارة الأماكن الأثرية والمتاحف وما تدل على أن المكان الذي يزوره ليس جديدا بل هو عتيق وقديم وقد مر بمظاهر حضارية مختلفة طيلة القرون الخالية.

 

  1. أن يشعر بالراحة والابتعاد عن الواجبات العملية اليومية ولا سيما واجب الوظيفة التي تدر عليه بالدخل. وهكذا يشعر بأنه يصرف جناة يده في الطريق الصحيحة والمفيدة له ولأهله.

 

  1. وأخيرا يهتم الزائر بالفقراء والمعوزين في ذلك البلد فيبذل لهم ما بوسعه لتعميم الراحة والطمأنينة والشبع وكل مظاهر الرخاء.

 

أرجو من القارئ الكريم أن يلاحظ وجوه الشبه بين الحج وبين السياحة العامة لعله يقبل بأن الحج بصورة عامة يمثل السياحة وزيارة الآثار القديمة ويؤكد أن الذين بنوا ذلك المكان وأقاموا تلك الطقوس كانوا أناسا حضاريين قاموا قبل آلاف السنين بما هو صحيح وملائم للنفس الإنسانية. ولقد سمى الله تعالى نساء النبي اللائي هاجرن معه من مكة بالسائحات في سورة التحريم: عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5). وقال تعالى في سورة التوبة: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112). السائحون هم الحجاج.

 

فالحج في واقعه سياحة إسلامية ولذلك فهو واجب على المقتدر وليس واجبا على من لا يتحمل نفقات السفر إلى الحج.

 

السر في التوقيت:

 

هناك شبه بين الحج والصلاة والصيام. كل تلك الأعمال موقوتة. ولو نمعن في السياحة العامة لنراها هي أيضا موقوتة. هناك سياحة صيفية وهناك سياحة شتوية كما أن هناك مصايف وهناك مشاتي. لعلنا نعلم بأن التوقيت يجمع الناس وبدونه لا يمكن تجميعهم أو ليس هناك ما يشجعهم على التجمع. تجميع البشر في مكان معين وزمان معين ينظم المصروفات ويجعلها أكثر انسجاما مع الصرف الصحيح للمال. كما أن التجميع يقوي المجموعة ويوقفهم على مشاكلهم ليسعوا لحلها. والتجميع يزيل الفروق بين الفقراء والأغنياء وبين الحكام والمحكومين وبين الأقوياء والضعفاء. الغنى والفقر وعامة القدرات هي مظاهر دنيوية لا علاقة لها بالآخرة. إنها تتعلق بالحظوظ ولا يمكن ربطها بالعدالة. الدنيا مكان الحظوظ والآخرة مكان العدالة ولذلك فإن الحظوظ لا يمكن أن تجتمع دائما مع العدالة حتى لو اجتمع الحظ والعدالة في شخص معين.

 

ولقد أوجب الله تعالى على المحظوظ أن يسعى للتوازن بينه وبين غير المحظوظ لأن العدالة هي التي تناسب الله تعالى والحظ لا يناسبه ولكنه ضرورة دنيوية لا يمكن تجاهله. وأما الصيام فهو نوع حج عام يمكن للجميع أن يطلبه ونرى بأن هناك عيد في نهايته كما أن هناك عيد في الحج. وكلا العيدين مرتبطان بالطعام. ذلك لأن العيد في القرآن الكريم يمثل اليوم الذي يستمتع فيه الكثيرون من عبيد الله تعالى بما خلقه الله من طعام لهم في الأرض. كما نرى بأن كلمة العيد لم ترد أكثر من مرة في كتاب الله تعالى وهي في سورة المائدة حول الطعام أيضا. قال تعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً ِلأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114). والصيام والحج موقوتان بزمان معين في السنة.

 

وأما الصلاة فقد قال تعالى في سورة النساء: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103). ولم يذكر الله تعالى أي قضاء للصلاة باعتبار أنها موقوتة يوميا. كما أنه سبحانه لم يأمر بأن يُنيب المستطيع العاصي شخصا آخر ليحج مكانه أو يكتري الورثة شخصا ليصلي بدل الميت أو ليصوم بدل الذي لم يصم مع الاستطاعة. كل تلك الأحكام غير دقيقة وغير صحيحة وتدل على أن الإخوة الفقهاء لم يعلموا الكثير عن أسرار الصلاة والصوم والحج. كما أنهم علموا وعملوا قليلا بالقرآن الكريم بل استندوا إلى أحاديثهم التي فرقت بين المسلمين وجعلتهم أحزابا وشيعا مع الأسف.

 

كل ذلك لأن الصلاة والصوم والحج أعمال دنيوية تفيد الدنيا ولكن الامتناع عنها يستوجب دخول النار لا سمح الله تعالى. فقد وضح سبحانه بالنسبة للحج بأن أول فائدة هي أن يشهدوا منافع لهم. وأما الصيام فهو سبحانه لم يعد أحدا من الصائمين بالجنة بل ذكر احتمال تحقق التقوى واحتمال تحقق الشكر لنا إن صمنا ولنكبر الله تعالى على ما هدانا. فلو تحقق التقوى فعلا أو تحقق الشكر فعلا فجزاؤنا الجنة. فالصوم في واقعه عمل دنيوي لتزكية النفس ويساعدنا على مزيد من التفكير ومزيد من كسب المعرفة بالله تعالى وهكذا يمكن أن نصير من المتقين والشاكرين وندخل جنات النعيم. كما أن الصوم يُشعرنا مرارة الجوع والعطش فنهرع لمساعدة من نظن فيه عدم القدرة على جلب الخير لنفسه.

 

وأما الحج فهو في واقعه تذكير للنفس بما قام به ربنا من تقديرات لصناعة الإنسان والأنعام الثلاثة الصغيرة في مكة المكرمة. قال تعالى في سورة الحج: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34).

 

نظرة سريعة إلى الآيات الكريمة تشعرنا بأنها تتحدث عن خلق الأنعام الثلاثة الصغيرة التي تسمى بهيمة الأنعام. وما يؤيد ذلك هو أنه تعالى بعد بيان أهمية بهيمة الأنعام نبهنا إلى أنه سبحانه جعل البدن (الجمال) من شعائره وجعلها لنا أيضا فقال عز من قائل: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36). ولم يقل سبحانه بأن نسافر إلى مكة لنشكر الله تعالى على نعمة البدن أو الجِمال.

 

وتوقيت الحج كما أرى مقصود ليجتمع الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين في مكان واحد ليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. يمكنكم ملاحظة أن الدعوة الربانية التي أعلنها أنبياؤه المكرمون لا تنطوي إلا على المشتركات بين المؤمنين بالله تعالى ولا ذكر للديانات التي انتشرت باسم الرسل الكرام. كما أنه لا ذكر للمؤمنين كاسم علم لمعتنقي الديانات السماوية الثلاث.

 

بكة أم مكة:

 

وأما السر في وجه تسمية المكان ببكة فليس كما قالوا بأن البك هو الازدحام وقد قيل ذلك باعتبار تزاحم الناس عليه في الحج. لقد قال علماؤنا اللغويون ذلك تأييدا للمفسرين الذين لا يُلامون على تفسيرهم بهذا الشكل باعتبار عدم ظهور الحقائق الجيولوجية آنذاك، رضي الله تعالى عنهم جميعا من مفسرين ولُغَويين ورضي عنا. وبالعودة إلى علماء اللغة أنفسهم فنرى ابن منظور يقول في لسان العرب مبينا أول معاني “بكَّ”:

 

البَكُّ: دق العنق. بَكَّ الشيءَ يَبُكُّه بَكاً: خرقه أو فرقه.    انتهى النقل

 

وحينما نسأل الجيولوجيين لينقلوا لنا تأملاتهم في الصفائح التحتية وخاصة في صفيحة الدرع العربي بعد انفصاله عن الدرع النوبي قبل حوالي بليون سنة وكثرة البراكين الأرضية في هذا الدرع الذي يقع أسفل منطقة تزيد على ثلث الجزيرة العربية فسنعرف المقصود. لقد دكت الحجارة دكا دكا يوما ما وخرق الصفائح كثيرا وفرقت القطع كثيرا حتى تكونت كومة من الصخور محاطا بجبال بركانية لتشكل وادي مكة. والسر في أن الله تعالى يقول بعد تسميتها ببكة بأن فيها مقام إبراهيم، فلعله سبحانه يعني بأن هذا المكان الصخري المتفتت أصبحت بأمر الله الرؤوف الرحيم ناعما ليقيم فيه إبراهيم بيته آنذاك. فالسر في الآية نفسها ولا نحتاج إلى قصص وتأويلات السلف رحمهم الله تعالى. كما لا يجوز لنا اتباع السلف ونحن قادرون على التفكير لنفهم كتاب مولانا العزيز جل جلاله بما وهبنا هو نفسه من قوة عقلية وفكرية تكفينا لنعرف الكثير من الحقائق بدون العودة إلى الوراء ومراجعة مقولات السلف الذين كانوا أقل تطورا منا بالطبع.

 

الأسواق السياحية في الحج:

 

وحينما نلاحظ سياحة الحج نرى بأن الله تعالى مهتم بالأسواق السياحية فيه كما يتراءى لي. وهكذا فسرت الآية التالية من سورة التوبة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28). النجس لا تعني القذر كما تراءى لقليلي العلم طبعا. ليس لدي مانع أن نستعمل الكلمة اليوم للقذر باعتبار تغير بعض المفاهيم اللغوية. هناك بعض الكلمات تتغير معانيها مع الزمان والمكان ومنها كلمة النجس. ولكنها لم تكن كذلك يوم تنزيل القرآن الكريم من عند رب العالمين.

 

الرجس تعني توقف الحركة التطورية ولا تعني القذارة والنجس تعني توقف الحركة التطورية مع ملاحظة آثارها السلبية. سوف أشرح الكلمتين ضمن تصحيح الأخطاء التراثية مستقبلا بإذن الرحمن عز اسمه. لو كان المشركون نجسين بمعنى القذارة فكيف جاز لهم أن يدخلوا المسجد الحرام في عامهم ذلك؟ يجب إبعاد القذر فورا من المسجد ولا يجوز إبقاؤه لحظة في أعظم مسجد يخص المسلمين كما ظنوا. ولو كانوا كذلك فما هي علاقة نجاسة المشركين بالخوف من العيلة وهي تعني الفقر وندرة البضائع. لا علاقة بين الفقر والقذارة. وكيف نجمع بين دعوة الله تعالى للناس جميعا بأن يحجوا وبين منع مشركي مكة أو عامة المشركين من الدخول في مكة؟ المشكلة أن الإخوة الكرام لا يفهمون القرآن الكريم مع بالغ الأسف.

 

ولو أراد الله تعالى منع المشركين من دخول المسجد لقال: فلا يدخلوا المسجد الحرام ولكنه قال فلا يقربوا المسجد الحرام. ولأن الإخوة لا يعرفون لغة القرآن فإنهم ظنوا بأن لا يقرب من المسجد يحول دون دخولهم المسجد. والمسجد الحرام عندهم لا يتجاوز المسجد الذي نصلي فيه ولا يعني مكة كلها. والواقع أن المشركين كانوا يعرضون بضائعهم وتحفهم السياحية حول المسجد الحرام كما هو الحال اليوم أيضا. فكانوا يعدون تحفا تناسب أصنامهم وعقائدهم كما هو الحال اليوم أيضا. نرى الأسواق المحيطة بالمسجد الحرام اليوم تعرض السجادات والسبحات والمصاحف المزينة والمزخرفة وتصاوير الحج وكثيرا من ألعاب خاصة بالأطفال ولكنها توضح بعض أعمال الحج لدى المسلمين اليوم.

 

فسمح الله تعالى للمشركين أن يعرضوا بضائعهم حول المسجد خلال ذلك العام ليتخلصوا منها ولا يمنوا بالخسارة كما أن السواح المسلمين يعودوا إلى بلدانهم مع بعض الهدايا ولو كانت شركية لكنها تعني مكة. وخلال السنة يقوم المسلمون بالإعداد لهدايا تناسب المسلمين فيبدؤوا بعرض بضائعهم من الحج المقبل. فالاقتراب التجاري من المسجد ممنوع على التجار المشركين وليس دخول المسجد. وهذه العملية تحول دون توقف التجارة وتعطي فرصة للمسلمين ليحتلوا تجارة مكة مستقبلا. فالآية الكريمة تسعى لمنع الدعايات الشركية حول المسجد الحرام مستقبلا وتتحدث عن التجارة السياحية لا غيرها، والعلم عند المولى عز اسمه.

 

وقوله تعالى في نهاية الآية: وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله؛ يعني بأن الله سبحانه سوف يساعد المسلمين على التغلب على مشكلة الهزة التجارية العنيفة إثر إبعاد مستوردي البضائع المشركين من السيطرة على التجارة السياحية في مكة المكرمة. ويمكنكم ملاحظة هذه الآية التي سبقت آية طرد المشركين من حول المسجد: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24). أموال اقترفتموها، تجارة تخشون كسادها. فالآيات من قبلها لم تنس التجارة والمكاسب التي كانوا يجنونها من علاقاتهم بأهليهم في مكة.

 

بيت الله:

 

يظن الكثيرون بأن المساجد هي بيوت الله تعالى ولم يقل الله ذلك أبدا وليس لهم دليل على ادعائهم. نحن نقلد اليهود والمسيحيين في بعض أعمالنا وتسمياتنا مع الأسف دون أن ندري. إن بيت الله تعالى في الكرة الأرضية يعني مكة ولا غير. وهي نفسها أول بيت وضع للناس. وهي في بكة. وبكة أوسع من مكة كما أظن. وهي المنطقة التي تلاقت فيها الدرع النوبي بالدرع العربي قبل أقل من بليون (ألف مليون) سنة حيث تهشمت مقاطع من طرفي الدرعين وشكلت الجبال المحيطة بمكة الفعلية. فتات هذه الصخور هي القواعد التي قام إبراهيم برفعها من الأرض بمساعدة إسماعيل. فهما اللذان بنيا مكة بأمر الله تعالى وهو أمر كبير ولذلك مدحهما الله تعالى على تعبهما المضني الذي طال فترة طويلة من الزمان وهم يسوون أرض مكة أو أرض بكة كما أظن.

 

قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127). سوف أسعى لشرح الآيات باختصار نظرا لأهميتها:

 

وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات:

 

الكلمات تمثل الأوامر الكاملة التي تأتي من الله تعالى فابتلى الله تعالى باعتبار ربوبيته إبراهيم ببعض الأوامر. والفرق بين الربوبية والألوهية هو أن الأول غير مرتبط بالنظام العام بل تمثل الأوامر والتقديرات الخاصة بإدارة شؤون بعض عبيده كما ترتبط بتسهيل حركة النظام العام بالنسبة لكل الكائنات. ولكن نظام الألوهية هو النظام الشمولي الذي لا يمكن تجاوزه. بالطبع لا يمكن لا يعني بأن الله تعالى غير قادر على تجاوزه. إنه سبحانه سوف يتجاوز القانون العام فعلا حينما يأمر الكون بالزوال السريع ضمن إرادة خاصة وليس ضمن قانون المشيئة العام. وهنا أمر خاص بإيجاد مدينة مكة ليختم فيها أديانه السماوية جل جلاله.

 

فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماما:

 

فأتمهن الله تعالى بأن عين إبراهيم إماما للحج ليدعو الناس جميعا دون استثناء. فصار إبراهيم من ذلك اليوم وبعد أن اجتاز مراحل اختبارية كبيرة، صار إماما لكل الناس. هذه الإمامة نوع خاص لا تشابه الإمامة الممنوحة للأنبياء ليدعوا إلى الله تعالى وليقوموا بإمامة أقوامهم وأهليهم. فلم يقل الله تعالى بأنه جعل أحدا إماما للناس لا من قبل ولا من بعد إبراهيم. وبما إن الحكم إتمام للكلمات فيعني بأنه ليس منصبا تشريفيا محضا كما ظن القليلون بل هو منصب عملي ينطوي على أوامر يجب أن يقوم بها إبراهيم.

 

قال ومن ذريتي؟ قال لا ينال عهدي الظالمين (124):

 

قال إبراهيم وهل أولئك الناس من ذريته؟ بمعنى أن الله تعالى جعله إماما لذريته أو أن ربه جعله إماما للناس، وذريته من أولئك الناس. بأي شكل نظرنا إلى سؤال إبراهيم وجواب ربنا فإننا نعرف منها بأن إبراهيم سيقوم بعمل خاص ليصبح ذلك العمل منهجا عاما لكل من تمكن من تلبية الدعوة. ويتراءى لي بأن إبراهيم عرف من أمر الله تعالى بأن ما يفعله هناك لا يمكن تعميمه على أفراد الناس باعتبار أن مأموريته محصورة في مكان معين وزمان خاص ولا يمكن أن يجتمع كل البشر في ذلك الزمان والمكان حتى لمرة واحدة. هناك إرادة ربانية جازمة لعمل جمعي خاص ببعض فئات المجتمع وكما يبدو لمرة واحدة في عمر كل فرد بشري اكتمل فيه الشروط. قال تعالى في سورة البقرة: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197).

 

ونيل عهد الله تعالى يعني الفوز بنتائج ذلك العهد. مثال ذلك قوله تعالى في سورة الحج: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37). وتعني الآية بأن مجرد نحر إبل وتوزيع لحمه لن ينال اللهَ تعالى. ولكن الذي يستوجب الفوز بمكارم الله تعالى وفضله الشامل في الدنيا والآخرة هو التقوى من الناس. ذلك يعني بأن المزية التي تتراءى لنا للحجاج هي باعتبار أنهم يملكون مالا زائدا فعليهم حج بيت الله تعالى. فلو قاموا بالواجب فقد استجابوا للتقوى من الله تعالى. والذين لا تتوفر لديهم الشروط ومن أهمها الشروط المالية فهم أيضا ينالون الله تعالى بالتقوى. فالمستطيع للحج يخسر ربه لو لم يحج ولكن غير المستطيع فهو لن يخسر شيئا لأنه غير مستطيع. يكفي لغير المستطيع أن يكون مستعدا للعمل بأمر ربه لو تسنت له الظروف. فغير المستطيع لن يخسر شيئا والمستطيع لن يكسب أكثر من غير المستطيع لمجرد أنه كان قادرا وعمل بما يوجبه إمكاناتُه وقدراته الممنوحة له من ربه. يجب أن نلاحظ العدالة دائما حينما ننظر إلى المزايا الإسلامية أو الدينية مطلقا. فظن البعض بأن الإمامة ليست خاصة بإبراهيم بل هو مشتركة بينه وبين أناس آخرين لهو قول لا يستند إلى القرآن الكريم.

 

وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا:

 

البيت بصورة عامة مكان للتزود بالثواب ومكان للشعور بالأمان. ولكن بيت الله تعالى هو بالطبع أكثر مثابة من بيوتنا العادية وأكثر إشعارا بالأمان والطمأنينة. ولكن كيف نكسب الثواب وكيف نستفيد من أمان الله تعالى؟ نتحدث هنا فقط عن حج بيت الله تعالى ونترك أمر البيت العادي لمقالة أخرى.

 

واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى:

 

هناك خطأ كبير وقع فيه سلفنا وليس بيدي أن أكتشف زمان وقوعهم في ذلك الخطأ لأنني لست عالما بالتاريخ. لكنني أعرف بأن الذي يدعو كل من استطاع من الناس أن يحجوا البيت الحرام لا يمكن أن يأمر الناس بأن يصلوا في المكان الصغير الذي أسموه مقام إبراهيم حول الكعبة، أو يصلوا في حجر إسماعيل بجوار الكعبة. كيف يمكن لأكثر من مليوني حاج يزورون مكة ويتركونها خلال أربعة أيام أن يصلوا ركعتين في مقام إبراهيم؟ 4 أيام تساوي (4×24×60=) 5760 دقيقة فقط. فأنى للملايين أن يصلوا ركعتين في ذلك المكان الصغير خلال تلك الدقائق القليلة؟!

 

ثم إنني لا أظن بأن المقصود من المصلى هو للصلاة الدائمة بل أظن بأنها الصلاة التقليدية المعروفة. لكن مقام إبراهيم لا يعني ذلك المكان الصغير بجوار النصب الذي وضعوه. المقام يعني مكان الإقامة وهو المسجد الحرام بكامله. فإبراهيم أقام في ذلك المكان مدة طويلة ليعمل على تنظيف مكة من القواعد الثابتة على ظاهر أرضها. وأظن بأن توسيع المسجد صحيح ولا يضر بكون المكان الموسع كله المسجد الحرام إذ لا يمكن لنا أن نحدد مقام إبراهيم ومسكنه هناك.

 

ولا يخفى بأنني أظن بأن أم إسماعيل وإسحق واحدة وأرفض ارتباط إبراهيم عليه السلام بأَمَة اسمها هاجر كما قال أعداؤنا من اليهود. وقد حضر إبراهيم وإسماعيل مكة بعد أن كبر إسماعيل وليس في طفولته كما ظنوا. وحينما وصلا إلى مكة وقصدها قبيلة جرهم أو غيرهم فإن إسماعيل تزوج من جرهم أو القبيلة التي توجهت إلى مكة. ولذلك بقي إبراهيم ساكنا في مكان المسجد الفعلي وانتقل إسماعيل إلى بيت آخر كما أحتمل. ولذلك لم يقل سبحانه بأن نتخذ من مقامهما مصلى. والدليل على أن أم إسماعيل لم تكن معه حينما تركه والده هو هذا الدعاء الذي نقرأه في سورة إبراهيم: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴿37﴾. فلا يمكن أن نعتبر أم إسماعيل من ذرية إبراهيم كما لا يمكن أن يتجاهل إبراهيم زوجته التي ستبقى مع إسماعيل غريبين في مكة. ولكن الأمر ليس كذلك فالذي بقي هناك هو إسماعيل نفسه وأولاده من زوجته التي تزوج بها في مكة والعلم عند المولى عز اسمه.

 

وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125):

 

فالمقام ليس مقام إسماعيل ولكنه كان يأتي ليساعد أباه يوميا في تطهير بيت الله تعالى. وكيفية التطهير هي ما يوضحه ربنا في الآية 127 القادمة. لكنه سبحانه وضح لنا الهدف من تطهير بيت الله تعالى. وهو بأن يصير المكان قابلا للسياحة وهي معنى الطائفين وليس معناها الذين يطوفون حول الكعبة التي لم تكن بنيت بعد. والعاكفون هم الذين سوف يعكفون في المسجد الحرام الذي أمر الله تعالى بأن يُبنى مكان مقام إبراهيم. والركع السجود هم المصلون بالصلاة التقليدية المعروفة. معنى الأمر هو أن الله تعالى أخبرهما بأن دعوتهما إلى الناس سوف يُستجاب وبأن المكان النظيف الذي سكنه إبراهيم غير كاف لسيل الحجيج فعليهما بأن ينظفا كل بيت الله تعالى وهو مكة بالكامل.

 

وأما معنى البيت فهو المكان الذي ُيبات فيه. وبنفس الاعتبار فإن العرب يسمون كل مكان للقيام بأي عمل كبير بيتا. تماما مثل أرباب اللغات الأخرى الذين يستعملون نفس الكلمة بلغتهم. فبيوت المصانع الكبرى وبيوت البرلمانات وبيوت المغتربين في مكان بعيد عن بلدهم للدراسة والعلاج وبيوت أصحاب الحرف وبيوت القضاء وهلم جرا. والله تعالى لا يحتاج إلى بيت ليبيت فيه طبعا ولكن ما يريد سبحانه أن يفعله في خلقه فالعمل بحاجة إلى بيت للقيام بالمهمة. ذلك باعتبار أن تجاوب الكائنات مع ربها تبدأ فورا ولكنها تحتاج إلى زمان لتكمل المهمة باعتبار ضعف المخلوق وليس ضعف الخالق.

 

وحينما أراد الله تعالى أن يخلق إنسانا طبيعيا ضمن نظام الطبيعة فإن خلق الإنسان يحتاج إلى المرور على مراحل تطورية كبيرة ومركزة وموجهة ليخرج إلى الوجود. وكما يبدو فإنه تعالى أراد خلق الإنسان في مكان خاص بعيد عن الكائنات الأخرى التي تزاحم وجود الإنسان في تطوره، ولذلك قدَّر تحرك العوامات بصورة خاصة لتتشكل جبال جديدة ثم يصير ابتداء خلق الإنسان من الطين ممكنا. فكما يبدو بأنه تعالى أكرمنا بأن لم يطور الحيوانات بل بدأ خلق الإنسان من طين. وخلق لنا الأنعام الخاصة بنا لمأكلنا بصورة مشابهة احتمالا. وخلق ثلاثة من الأنعام معنا في مكة. فنحن لسنا قرودا متطورة كما تصور المرحوم داروين ومن قبله العالم السويدي لينيوز احتمالا.

 

وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات:

 

هذا الدعاء دعا به إبراهيم قبل أن يطهر البيت كما يبدو باعتبار أن إبراهيم هو الذي استلم الأمر من ربه فدعا مباشرة قبل البدء بالعمل. وهو غير الدعاء الذي دعا به إبراهيم وإسماعيل معا وهو في الآية التي بعدها. وكما نعرف بأن إبراهيم كان مهتما بالتوحيد بل هو المثل الأعلى للتوحيد بين أبناء آدم ولذلك أمر الله تعالى الناس بمن فيهم نبينا أن يتبعوا إبراهيم. ولم يكن هناك مشكلة أمنية أخرى لكن إبراهيم أراد ألا يقدر الله تعالى الشرك في مكة. فدعا إبراهيم بأن يجعل الله تعالى مكة مأمنا من الشرك. وهاهنا مسألة علمية يجب أن ننتبه إليها. ألا وهو الاختلاف بين إرادة الله تعالى وبين إرادة أنبيائه ورسله المكرمين. يريد الله تعالى أن يختبر الناس ويريد الرسل أن يؤمن الناس ويدخلوا في دين الله أفواجا.

 

فدعا إبراهيم ليجعل الله تعالى البلد آمنا من الشرك ودعا ربه أن يساعد أهله ويرزقهم من الثمرات حتى يكونوا من الشاكرين. قال تعالى في سورة قريش: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4). فالأمان من الأعداء والشبع يساعدان الناس على أن يعبدوا الله تعالى وحده ولو باعتباره الرازق لهم لا باعتباره يستحق العبادة جل جلاله. ولقد فسرت الأمان الذي طلبه إبراهيم بالأمان من الشرك ولكن الله تعالى في سورة قريش تحدث عن الأمان من الخوف عامة فقد يكون المقصود هو الأمان من الأعداء.

 

ومما يؤيد رأيي المتواضع بأن دعوة إبراهيم كانت الأمان من الشرك وليس الأمان من الخوف هو الآيات التالية من سورة إبراهيم: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37). فنرى في هذه الآيات الكريمة نفس الدعوة المختصرة المذكورة في سورة البقرة وهي مفصلة تفصيلا. لنقرأ الآية 126 من البقرة مرة أخرى بقصد المقارنة: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

 

رب اجعل هذا بلدا آمنا. في البقرة.

 

وتقابلها بنفس المعنى مفصلة:

 

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36). في سورة إبراهيم.

 

وارزق أهله من الثمرات. في البقرة.

 

وتقابلها بنفس المعنى مع بيانات تفصيلية:

 

رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37). في سورة إبراهيم.

 

من آمن منهم بالله واليوم الآخر:

 

وهل استجاب الله دعاء إبراهيم كما طلب إبراهيم؟ فكما قلنا بأن هدف الرسل مغاير لهدف الرحمن عز اسمه فلا يمكن أن يتحقق كل ما طلبه إبراهيم ولا يمكن القول بأن الله تعالى لم يجب دعوة مخلص مؤمن محب لله تعالى مثل إبراهيم. هذا الذي يجعلنا نلاحظ استدراك إبراهيم نفسه في الآية 126 من البقرة فإنه وبعد أن دعا بالأمان والثمرات لأهل مكة قال: من آمن منهم بالله واليوم الآخر. فالدعاء كان عاما لكل من سكن مكة والاستثناء بدون ذكر علامات الاستثناء قد تكون استدراكا من إبراهيم بعد أن انتبه بأن لا ضمان لأن يكون كل أهل مكة مؤمنين بالله واليوم الآخر.

 

قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126):

 

وقد أكمل الله تعالى استدراك إبراهيم بأن بين لنا سبحانه من فضله في نهاية نفس الآية 126 بلسانه الكريم: وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هكذا دعا إبراهيم وهكذا استدرك وهكذا أكمل الله تعالى استدراكه مصححا مقولة العبد الصالح وكلها في آية واحدة. فلا مانع بأن يعيش هناك مشركون في مكة إذ أن القسط في الآخرة وليس في الدنيا.

 

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل؛ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127):

 

وصلنا إلى بيت القصيد. كيف طهر إبراهيم وإسماعيل البيت. لقد عهد الله تعالى إلى إبراهيم وإسماعيل تطهير بيته تمهيدا لإعلان مكة بلدا سياحيا. هذا التطهير ليس بالماء ولا بمحاربة الشرك. هو تطهير فيزيائي فعلا ولكن من نوع آخر. هناك صخور مثبتة في الأرض منذ مئات الملايين من السنين قبل تكون التراب. والتراب لم يغط كل أرض مكة بل بقيت دون شك صخور مثبتة في الأرض فهي تزاحم السائحين. وكما هو معلوم فإن الدروع التحتية (Tectonic Plates) لا تصطدم دفعة واحدة لأن تحرك العوامات بطيئة جدا. هي تتحرك بقوة ولكن بسرعة عدة سنتيمترات في اليوم. فباقترابهما واصطدامهما تتشكل نوع من الجبال العلوية مثل الجبال المحيطة بوادي مكة. هذا التحرك بين الدرعين لا يتوقف إلا بعد فترة طويلة وبعد أن يلتحما تماما. ولذلك فإن الصخور الصغيرة نسبيا تتناثر من الجبال الجديدة خلال فترة طويلة قد تصل إلى مئات الملايين من السنين.

 

لذلك عهد الله تعالى إلى الأب الصالح والابن الصالح أن يرفعا الصخور القواعد من بيت الله تعالى مكة. وهكذا يطهرانه من الخشونة المتعبة للسائحين ويقومان بتنعيم الأرض. العملية صعبة وشاقة وتأخذ وقتا طويلا قد تربو السنوات. شعرا بأنهما يقومان بعمل مضن حبا لله تعالى فدعيا دعاء الإنسان الذي أضناه التعب لكن عزاءه هو بأن الله تعالى أمره أمرا مباشرا خاصا، فقالا: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.

 

بدأت الديانات الإبراهيمية من مكة ثم انتقلت إلى القدس:

 

لم يكتف إبراهيم وإسماعيل بطلب القبول من الله تعالى بل استمرا في الدعاء لمن يأتي بعدهما. إنهما كانا يعلمان الكثير عن أهمية عملهما الكبير بأمر الله تعالى وبأنهما رفعا القواعد من البيت ليضعا القواعد لثلاثة أديان سماوية. قالا بعد ذلك كما في سورة البقرة:

 

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129) وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132).

 

وهل خفي على أولاد إسحاق بأن إسماعيل هو الذي شارك أباه في صناعة الكيان الإسلامي الذي دان به الأنبياء جميعا من بعد إبراهيم؟ كلا؛ لنلاحظ اهتمامات يعقوب حين الموت كما في نفس البقرة: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133). الله تعالى هو إله الجميع ولكن قولهم: نعبد إلهك وإله آبائك، يشير إلى أهمية أولئك الآباء في بناء الدين الذي ينتمون إليه. أليس هذا يعني بأنهم جميعا مسلمون وبأننا لن نسلم إلا إذا اتبعنا إبراهيم كما اتبعه أولاده؟ قال تعالى قبل ذلك في نفس سورة البقرة: وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131). ومن الآية 133 أعلاه عرفنا بأن الإسلام قبل ظهور نبينا لم يكن حكرا على الأنبياء فإن أبناء يعقوب لم يكونوا أنبياء عدا يوسف كما أظن وهم جميعا أعلنوا إسلامهم بحسب الآية 133.

 

وقال تعالى بعد ذلك في نفس البقرة: وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ (138).

 

فنحن لا ندور حول جدران بل نطوف بيتا رمزيا بُني عليه الإسلام دينا إلهيا يدين به كل المؤمنين بالله من بعد إبراهيم. بمعنى أن أصل الذين هادوا والذين قالوا نحن أنصار الله والذين سماهم إبراهيم بالمسلمين، كلها من مكة وكلها من إبراهيم وإسماعيل. أتمنى أن يعرف المسلمون أهمية مكة الخير ومكة الإيمان ومكة السياحة ومكة خلق الإنسان ومكة البيت الأول للبشرية فيفتخروا بمكة ويحيوها أسمى تحية. فلنستمر في مطالعة حكاية مكة وأسرار مكة.

 

النسك والمناسك:

 

نعود إلى دعاء إبراهيم وإسماعيل: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (129). لماذا قالا: أرنا مناسكنا ولماذا دعيا لرسولنا الذي يأتي بعدهما من ذريتهما؟

 

نَسَك في واقع معناها تعني تقرب وتطهر. والمؤمنون بالله تعالى يتقربون إلى ربهم بذبح أحد الأنعام الثلاثة الصغار ليتزكوا به ويطهروا به أنفسهم من الدرن والشرك. هذا ما سار عليه إبراهيم حتى جاء موسى وظهر معه الذين هادوا ثم جاء عيسى وظهر معه الذين قالوا نحن أنصار الله وبُعث محمد فدعا قومه أن يسلموا لله تعالى. سلام الله على رسله جميعا. كلهم تقربوا إلى الله تعالى بالذبح وتوزيع لحم الذبيحة على الناس سواء فيها من يحتاج أو من لا يحتاج. كل السر في مكة. وأهمية مكة بذلك السر العظيم. قال تعالى في سورة الصافات: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107).

 

وعلى أن علماء اللغة العربية اعتقدوا بأن نسك تعني عبد والنسك تعني العبادات؛ ولكننا عمليا نستعمل الكلمة في مناسك الحج فقط. والله تعالى استعمل الكلمة في ذبح النَّعمة في مكة. لكن ذلك الذبح ينطوي على بعض الأسرار الخاصة بكل أمة من الأمم. قال تعالى في سورة الحج: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34). قال سبحانه ذلك بعد هاتين الآيتين: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33). وقال سبحانه قبلها: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28).

 

شعائر الله تعالى هي الأنعام الثلاثة إضافة إلى البدن لقوله تعالى بعد بيان البهم في نفس سورة الحج: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36). هناك شعائر أخرى في الكتاب الكريم وهي الصفا والمروة. فأرجو من الإخوة الذين يخترعون شعائر لله تعالى أن يتقوه ولا ينسبوا إلى ربنا ما لمن ينسبه هو بنفسه عز اسمه.

 

أما بعد هذا، فهل النسك تعني العبادات أم تعني أمرا آخر؟ لننظر إلى الآية التالية من سورة الأنعام: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163). نعلم بأن الصلاة عبادة فلو كان النسك تعني العبادة فهو يعني بأن القرآن عطف العبادة إلى نوع من العبادة. فالنسك لا تعني العبادات لكن أرباب اللغة وقعوا في خطأ غير مقصود. كان عليهم أن ينظروا إلى الذين أوتوا لكتاب من قبلنا ليروهم جميعا يهتمون بتقديم القرابين الحيوانية لله تعالى. تقديم القرابين نوع من العبادة وليس هو معنى العبادة. هو مثل الصلاة. ذلك لأن أجلى مظاهر العبادة هي الشكر والطاعة والحب. علمنا بأن المقصود من تقديم القرابين لله تعالى هو تقديم الشكر لله وتعميم ذلك على المحتاجين ليشكروا ربهم. والشكر المصاحب للنسك أو الذبائح هو عبادة.

 

فنحن لا نسمي الذي يذبح حيوانا ليوزعه على الفقراء باعتبارهم فقراء فقط دون أن يقصد التوجه إلى الله تعالى وتقديم الشكر له، فلا نسمي ذلك الذبح قربانا ولا عبادة ولا نسكا. فالنسك في واقعه يعني تقديم القربان لله تعالى طلبا لرحمته وشكرا على نعمته. وأما ما قاله المرحوم الجوهري وهو من أئمة اللغة في القرن الرابع الهجري بأن نسك تعني طهر وغسل بالماء. وأتى بالشعر التالي كشاهد فهو غير بليغ برأيي:

 

ولا تُنْبِتُ المَرعى سِباخُ عُراعِرٍ           ولو نُسِكَتْ بالماءِ سِتَّةَ أشهـرِ

لم يذكر الجوهري قائلَ الشعر وسعيت بأن أجد الشاعر لعلنا نعلم بأنه من شعراء العصر المعروف بالجاهلي أو شعراء العصر الرسالي المجيد فلم أعثر على اسم الشاعر. فليس باليد دليل واضح بأن العرب كانوا يقصدون معنى التطهير حينما يستعملون جذر نسك في عصر نزول القرآن الكريم. فلا أظن بأن نسك تعني طهر أو غسل غسلا فيزيائيا.

 

ولأن النسك تعني ذبح الأنعام الثلاثة تقربا إلى الله تعالى ليأكلوا من لحمه ويوزعوها على البائسين الفقراء ليستمتعوا بما خلقه الله تعالى لهم من النعم، بسبب ذلك أوجب الله الحج على كل من يقدر. فالمقتدر يشكر الله تعالى ويطعم الفقراء فيشكروا الله أيضا. هكذا يعم الشكر لرب العالمين وهكذا يعم الخير عليهم ويهديهم ربهم إلى رضوانه.

 

وقبل أن نتعرف على مكان خلق الأنعام الصغيرة الثلاث يجدر بنا ان نعرف معنى الحل أو المحل في القرآن الكريم. قال تعالى في سورة الحج: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33). فنحتاج إلى معرفة معنى المحِل.

 

معنى المحِل في القرآن:

 

لا ريب أن للحيوان حقا في الحياة وأظن بأن الله تعالى وفي هذه الآية يريد أن يوضح لنا ما تهواه هذه الحيوانات بقوله الكريم: ثم محلها إلى البيت العتيق. ولمعرفة المسألة نحتاج إلى أن نحلل المحِل قرآنيا لنرى المقصود من ذكر هذه الكلمة في الكتاب الكريم. وقبل تحليل الكلمة جدير بأن نلاحظ بأن الله تعالى أتى بكلمة المنافع المؤجلة هنا بالذات لأنه سوف يتحدث في نفس الآية عن اهتمامات الحيوانات الثلاثة أنفسها بما يتلاءم مع أنفسها.

 

ورد كلمة المحِلّ ثلاث مرات في القرآن وكلها عن الأنعام والهدي. إحداها في سورة الحج والثانية في البقرة: وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿196﴾. والأخيرة في سورة الفتح: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿25﴾

 

ويمكننا معرفة ارتباط الهدي بالبيت الحرام في آية الفتح أكثر من البقرة. فالعكوف معناه الإقبال على الشيء وليس الانصراف منه، لكنها جاءت هنا بمعنى الصدود والمنع. ذلك لأن فاعل أي عمل ينقلب ممنوعا حينما يُوظِّف من هو أقوى منه نفس الفعل عليه. فالضارب إذا واجهه ضارب أقوى منه بتوجيه الضرب القوي إليه فإنه يتوقف ويُمنع من الضرب فيصير مضروبا ولكن ضمن طيف يمر على أكثر من فعل، فيصير معنى المضروب الامتناع عن القيام بالضرب قبل أن يصير مضروبا فعلا. والهدي كانت في طريقها إلى مكة عاكفة على أمر فلما صدوها عكفوا عليها فمنعوها من البقاء على عكوفها على ذلك الأمر. هنالك توقفت الحيوانات المتوجهة بشوق إلى محلها في البيت العتيق فأصبحت معكوفة بعد أن كانت عاكفة. والله تعالى يجاري بين عكوف المشركين ضد عكوف الهدي مع توجه المسلمين إلى المسجد الحرام وصدود المشركين إياهم عن الوصول إلى هدفهم. فهناك بالتأكيد أمر مشترك بين الناس والهدي.

 

والهدي قرآنيا –برأيي- يختص بالأنعام الصغيرة دون الجمل لأن الله تعالى فرق بين الهدي والقلائد في سورة المائدة. والقلائد هي البدن التي تحمل علامة أو قلادة خاصة في عنقها باعتبارها مهداة إلى بيت الله. والأمر المشترك هو أن الإنسان يحل في مكة وكذلك الأنعام الثلاثة. قال تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2).

 

وأما حل الإنسان في مكة فهو باعتبار قوله تعالى في بداية سورة البلد: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿1﴾ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿2﴾ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴿3﴾ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴿4﴾. وأنت هنا بظني القاصر باعتبار إنسانية الرسول وكونه من مكة وليس باعتبار رسالته لأن الحديث في السورة لا يدور حول الرسالة بل حول خلق الإنسان ومصيره في الدنيا والآخرة بصورة عامة. وليس خطأً لو قلنا بأن الخطاب للإنسان بصورة عامة وليس للرسول نفسه كمثال للإنسان باعتبار اشتراكه في كونه من مكة أيضا. ذلك لأن الإنسان يملك نفسا قوية تميزه عن غيره حتى عن أقرب الناس إليه مثل أبويه وأولاده فكل إنسان باعتبار نفسه كائن خاص مميز عن كل الأناسي غيره. فحِل كل إنسان في موطنه الأم مكة مميز عن حل أي إنسان آخر. وهناك امتياز قرآني آخر بين الإنسان وبهيمة الأنعام وهو أنه سبحانه ميز الحل بالنسبة للإنسان بالباء وبالنسبة للبهائم الصغيرة بإلى. فعلينا هنا أن نبحث عن معنى الحل بصورة أكثر دقة.

 

قال الراغب الأصبهاني في المفردات في معنى الحل:

 

أصل الحَل حَل العقدة، ومنه قوله عز وجل: }واحلل عقدة من لساني{ [طه/27]، وحللت: نزلت، أصله من حل الأحمال عند النزول، ثم جُرِّد استعماله للنزول، فقيل: حَلَّ حُلولا، وأحلَّه غيره، قال عز وجل: }أو تَحُلُّ قريبا من دارهم{ [الرعد/31]، }وأحلوا قومهم دار البوار{ [إبراهيم/28]، ويقال: حَل الدين: وجب أداؤه، والحِلَّة: القوم النازلون،        انتهى النقل من الراغب.

 

وعند مؤلف مقاييس اللغة أن أصل معنى الحل هو الفتح. ولعل المفردات أدق من المقاييس في هذه الكلمة بالذات فيكون فتح العقدة أدق من الفتح عامة. وقد استعمله القرآن الكريم في سورة طه بما يساعد الراغب. قال تعالى على لسان موسى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ﴿27﴾. واعتبر الله تعالى البيت عامة مثابة للناس وأمنا كما اعتبر البيت الحرام خاصة مثابة للناس وأمنا احتمالا. فالمثابة تعني مكان العودة والأمن يعني الشعور بالأمان في البيت وفي البيت الحرام الذي هو بيت كل الناس. فيشعر المرء بفكاك عقده النفسية حينما يعود إلى البيت أو يعود إلى البيت الذي خلق فيه أبو البشر. وهذا ما يجذب الناس أن يكثروا من السفر إلى مكة. وأغلب الحجاج يشعرون بالانجذاب دون أن يعلموا السبب.

 

وأما الفرق بين حل الإنسان والحيوان فإن الحل هنا في الواقع حل نفسي وليس بدنيا ولذلك فإن معناه بالنسبة للإنسان الذي يملك نفسا قوية يتغير بتغير توجهاته. وبما أنه مسألة فطرية باعتبار أن الحل في الواقع يعني العودة إلى المكان الذي يهدأ فيه فيحل فيه عقده النفسية، فهو يقل قوة كلما تمثل المرء بالعقل والفكر وتغلبت شهواته وطموحاته على غرائزه الطبيعية ولذلك فإن الحل بالنسبة للإنسان يحصل بمكة وليس خارجها ولكل امرئ بقدر قربه من الفطرة والطبيعة الأولية. ولكن الحيوان فهي تحمل شيئا مثل النفس ولكنها نفس أو شبه نفس ضعيفة لا تؤهلها للتفكر والتعقل والتنوع في المشتهيات والضحك والبكاء وحب المال وحب الاقتناء. وتغاير الحل في الحيوانات بتغاير أنواعها لا أشخاصها. فالسمكة مثلا أكثر اهتماما بالحل باتجاه مبدئها من البقرة التي تحمل نفسا أقوى من السمكة بكثير ولا عبرة بسمكة خاصة أو بقرة خاصة. ولذلك فإن كل نوع من أنواع الأنعام الثلاثة تحل إلى مكة وكل إنسان يحب أن يحل بمكة. كما أن كل الحيوانات التي لم تخلق بداية في مكة فإنها تحل إلى موطنها الأم كما أظن.

 

قال سبحانه بالنسبة لخلق الأنعام ما ذكرناه أعلاه من سورة الزمر: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴿6﴾. ولو نتعمق في هذه الآية فكأنه تعالى يعني شيئا أو معنى واحدا عند ذكر الخلق والإنزال؛ والحِلُّ يعطي نفس المعنى كما سنعرف بعد قليل. والواقع أن الإنزال والخلق والحِلّ بالنسبة لرب العالمين في خلقه هو التنشيط والتحريك الصحيح باتجاه هدف معين هو إيجاد شيء جديد أو إنزال نعمة أو عذاب. حتى إنزال المطر فهو لا يعني إنزال الماء من أعلى إلى أسفل بل يعني تنشيط الطاقات الموجودة في الغيمة وفصل السالب عن الموجب فيها بغية تهشيم الثلوج الموجودة هناك وتجميعها أسفل الغيمة ثم هي تنزل باعتبار تأثرها بالجاذبية الأرضية. فنسبة الإنزال إلى الله تعالى هو بأنه سبحانه ينشط الطاقات ولا شيء غيرها بظني والعلم عند الله تعالى. وهكذا إنزال الحديد فليس الحديد منزلا من كواكب أخرى كما تراءى لبعض الإخوة الفيزيائيين المسلمين بل إنه سبحانه نشط المواد الكيماوية الموجودة في باطن الأرض فأمرها لتتخذ حركة خاصة تتكون بها الحديد كما فعله في الكواكب الأخرى. إنه سبحانه لا ينقل شيئا من كوكب إلى كوكب فلا ضرورة في ذلك، بل يخلق ما يشاء في نفس الكوكب المقصود لأن أصول هذه الكواكب واحدة لا فرق بينها.

 

مكان خلق الإنسان والأنعام الثلاثة:

 

بعد أن عرفنا معنى الحل وعرفنا بأن الأنعام الثلاثة تحل إلى البيت العتيق يجدر بنا أن نعرف بأن حرمة مكة هي باعتبار أنها تنطوي على آثار خلق الإنسان والأنعام الثلاثة ولذلك سماها الله تعالى البيت العتيق. فما معنى العتيق كصفة لذلك البيت العظيم بيت الله تعالى؟ قال الراغب في معنى العتيق:

 

العتيق: المتقدم في الزمان، أو المكان، أو الرتبة، ولذلك قيل للقديم: عتيق، وللكريم عتيق، ولمن خلا عن الرق: عتيق..     انتهى النقل

 

والمناسب للمقام برأيي هو المتقدم في الزمان وليس المعنيين الأخريين. وأظن بأن الفرق بين القديم والعتيق هو أن القديم أعم من العتيق لأن العتيق يُطلق على القديم الممدوح. ولذلك يقولون الخمر المعتق ولا يقولون الخمر القديم أو المقدم. والذين قالوا بأن القديم اسم لله تعالى فهم ليسوا مصيبين فالله تعالى ليس عتيقا ولا قديما لأن العتيق والقديم مرتبطان بالزمان. إنه سبحانه أزلي لا زمان له حتى نقول بأنه من قديم الزمان او من عتيق الزمان مثلا. وقد ذكر الله تعالى صفة العتيق مرتين فقط وهما في سورة الحج عن مكة. قال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29). وقال أيضا في نفس الحج: لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33).

 

وحينما نتعمق في معنى الآيتين الكريمتين نرى بأنه سبحانه أعد كل مكة قبل مئات الملايين من السنين لتكون ورشة عمل رب العالمين لصناعة الإنسان والأنعام الثلاثة ولذلك سماها البيت العتيق. باعتبار أنه ومن يوم فصل الدرع النوبي كان مقصودا من ربنا ليكون بيتا لذلك الخلق الكبير. فهو ضارب في القدم وهو بيت أكثر من القديم بل هو بيت مر على مظاهر القدم عدة مراحل حتى استعد لاستيعاب الإنسان ومن قبله استعد المكان لعيش الأنعام الثلاثة وكلها عن طريق التطور الطبيعي. هذه الطريق ضرورية لنكسب شخصياتنا الفردية وحتى لا نكون ربوتات مسيرة. يجب أن نعرف بأن الله تعالى لا يمكن أن يصنع إنسانا من تمثال ترابي كما تصوروا. ولو فعل ذلك سبحانه فسنكون آلات ولن نكون كما نحن عليه اليوم ولا يمكن محاسبتنا بل لا يمكن أن يمنحنا الله تعالى النفس الإنسانية المدركة.

 

أما ترون بأن الله تعالى يعتبر العملية الطبيعية التي مرت بمراحل مختلفة متدرجة، يعتبرها نجاحا باهرا. قال تعالى في سورة المرسلات: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23). نجاح الحركة الطبيعية في تطوير كائن حيواني مر بمراحل متعددة حتى أصبحت إحدى هذه الخلايا الإنسانية في والد آدم وزوجه (ووالد وما ولد) قادرة على حمل جينات تخلق إنسانا مثلنا. وكانت البويضة الأنثوية مستعدة أيضا في والدة آدم وزوجه فاجتمعتا وأتتا بالأبوين الأولين للبشرية جمعاء. هذه العمليات التطورية المعقدة تمت في مكان أمين ومحفوظ ولذلك سماها ربنا البلد الأمين. يبدو لي بأن الأنعام الثلاثة لم تكن خطيرة ومؤثرة في تطور الكائن البشري. لكن القرود وبعض الحيوانات الأخرى كانت تؤثر في تلك الحركة التطورية الكبيرة التي مرت خلال ملايين بل مئات الملايين من السنين. ومن المحتمل أن آخر مرحلة تطورية تمت قبل حوالي أربعين ألف سنة حينما ظهر آدم وزوجه إلى الوجود.

 

فبما أن العتيق يشير إلى القديم مشفوعا بالمديح والاهتمام وقد ذكر في سورة الحج بأن مكة بيت الناس وبأنه بيت الله تعالى فأكثر معنى ينطبق مع العتيق هو أن يكون المقصود بيته سبحانه ومعناه كما قلنا هو ورشة عمل رب العالمين لصناعة الإنسان والأنعام الثلاثة والله العالم.

 

البلد الحرام:

 

لقد حرم الله تعالى مكة فهي البلد الحرام. قال سبحانه في سورة النمل: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91). ومما لا شك فيه بأن المسجد الحرام هو ذلك المكان المخصص للصلاة والطواف داخل مكة ولكن الله تعالى يسمي أحيانا مكة كلها بالمسجد الحرام. مثال ذلك هذه الآية من سورة البقرة: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144). كيف يمكن لأهل الأرض أن يتوجهوا صوب المسجد الحرام؟ إنهم يتوجهون صوب مكة وليس صوب المسجد. ولكن المسجد مكان رمزي وضروري لأهل مكة كما أن الكعبة المشرفة غرفة رمزية وضرورية لتكون قبلة لأهل المسجد الحرام. لمكة مكان في خارطة الكرة الأرضية ولكن لا يمكن أن نرسم خريطة المسجد داخل خريطة للأرض إلا إذا رسمنا خريطة كبيرة أضعاف الخرائط العادية. فنحن نولي وجوهنا شطر مكة ولكن الله تعالى سماها أو اعتبرها المسجد الحرام.

 

وقال سبحانه في سورة الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1). فالرسول سافر ليلا بمركب غير أرضي بأمر الله تعالى من مكة إلى فلسطين الفعلية ليرى آيات ربه في المسجد الأقصا. لكن الله تعالى سمى مكة بالمسجد الحرام. ليس هناك دافع خاص لينتقل من ساحة المسجد الحرام ولكن المسجد الحرام هو رمز بارز لمكة المكرمة. إن كل أرض مكة محرمة بأمر الله تعالى ولكن الله تعالى يريد أن يسهل العيش لهم حتى يتمكنوا من فعل ما يشاؤون من أعمال غير عبادية ومن قضاء حوائج أخرى لهم في أرض مكة فجعل لهم مسجدا هو المسجد الحرام. إن حرمة ذلك المسجد باعتبار رمزيته أكبر من حرمة مكة ولكن مكة برمتها محرمة.

 

وبمجاراة آية النمل التي ذكرناها في بداية بيان البلد الحرام فإنه سبحانه يقول في سورة قريش: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4). هناك اهتمام للبيت والبيت هو كل البلدة التي حرمها وهو المنسوب إلى الله تعالى بقوله في سورة البقرة: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126). دعا إبراهيم أن يجعل الله هذا بلدا آمنا. وما هذا؟ البيت مثابة للناس؛ أن طهرا بيتي؛ جملتان مذكورتان قبل ذلك وإبراهيم يشير إليه بقوله: بلدا آمنا. بلدا آمنا وصف آخر لمكة وهو غير وصف البلد الأمين. فمكة هو البيت وهو بيت الله تعالى وهو البلدة التي حرمها الله تعالى.

 

فما هو المقصود من تحريم الله تعالى لمكة؟ لعل القارئ الكريم على اطلاع بأن أئمة المسلمين عامة لا يجيزون نقل تراب أو أي قطعة من أرض الحرم إلى الحل. هناك البعض لا يحرم بل يعتبره مكروها فقط. المهم بأن الجميع يعتبرون نقل شيء من أرض مكة أمرا غير صحيح سواء الكاره أو المحَرِّم. أنا أعتقد بأن الآية الكريمة التي تحرم البلدة المكرمة تعني حرمة نقل أي شيء من أرض مكة حتى لو كانت مصنوعة خارج مكة، بمعنى أنهم نقلوا تراب أو صخور مكة إلى الخارج لتصنيعها فيجب إعادتها. ومكة عندي هي كل الحرم المعروف لدى الناس. هناك تصريح قرآني مثلا بالمشعر الحرام. لكن عرفات ليس من الحرم ولا أظن بحرمة نقل تراب عرفات إن لم يؤثر في المكان.

 

لكننا إذا أمعنا في حكاية تلك البلدة العظيمة التي صنعها الله تعالى بعد صناعة الأرض بنقل الدرع النوبي قبل حوالي 900 مليون عام فهي بلدة تتضمن حكاية صناعة الإنسان وحكاية صناعة الأنعام الثلاث. هناك أسرار كبيرة تحت أرض مكة وأظن بأن الله تعالى حرمها لتبقى على حالها حتى تتمكن البشرية من البحث والتنقيب عن تلك الآثار العظيمة تحت أرض مكة الخير والبركات. تصوروا لولا هذا التحريم لبلد مكرم يزورها عشرات الملايين من الزائرين طيلة العام كما يحج فيها حوالي مليوني شخص كل عام. لولا هذا التحريم لكان مكة محفورة اليوم بواسطة الزائرين الذين يريدون التبرك بحجارتها. فمعنى التحريم هو ما يقابل الكلمة التالية بالإنجليزية (Listed). ومعناها بأن المكان مسجل لدى الدولة في سجل الآثار القديمة. هناك أحكام قانونية في كل العالم للمتاحف والآثار القديمة. ومكة هي متحف الإنسانية كلها بل هي متحف الله تعالى الذي صان أسرار خلق الإنسان تحت أرض مكة.

 

وأظن بأن السر في أن الله تعالى يدعو الناس وليس المسلمين فقط لحج البيت هو أنه تعالى يعرف بأن البحث عن تلك الآثار خارجٌ عن طاقات وإمكانيات مجموعة واحدة من الناس. المسألة بحاجة إلى تظافر جهود عالمية من كل أهل الأرض ومن كل الخبرات للبحث عن الإنسان الأول. فالسر في دعوة أهل الأرض غير مقتصر بأن مكة بيت أبوي البشر فلا يجوز حرمان أي إنسان من زيارة بيت أبويه، بل السر في أن مكة متحف مسجل عند الله تعالى والبحث عن فحوى المتحف غير متاح لأهل مكة ولا لأهل شبه الجزيرة ولا للمسلمين وحدهم. وبظني أن هذه الحكاية سوف تفرض نفسها على الحكومات المسلمة حينما يتأكد أهل الأرض من هذه الحقائق. سوف يروا آثار الإنسان بصورة جزئية في البلاد القريبة من مكة وسوف يفرضوا على النظام الحاكم البحث عن البيت الأول للناس في مكة مستقبلا. لقد بدأت الآثار بالظهور منذ أعوام وسيصلكم أخبارها قريبا بإذن الله تعالى.

 

فمكة متحف عظيم يضم بيت آدم وزوجه التي أسموها حواء. لم يسمها الله تعالى حواء واكتفى بذكر الصفة لأن الله تعالى يسمي كل شيء باسمه الحقيقي والاسم الحقيقي لآدم وحواء هو آدم باعتبارهما أول ظهور لإنسان من أديم الأرض وأما حواء فلا ينطوي على معنى مناسب لشأن آدم الثانية وهي أمنا الأولى. قال تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97). يمكن ملاحظة أن الله تعالى تحدث عن أول بيت وضع للناس ببكة وليس مكة. ذلك لأن رأسي الأبوين الكريمين سقطا في بكة فكانت بكة أول بيت وضع لأول إنسانين. وبيت أول الناس هو أول بيت وضع للناس وكانت مكة بكة ولكنها صارت مكة بسعي إبراهيم وإسماعيل فيما بعد.

 

كما يمكن ملاحظة أن الله تعالى اعتبر نفس البيت مقاما لإبراهيم بمعنى بيت إبراهيم حسب تعبيرنا. لكنه تعالى فرق بين البيت الذي هو بيت الله تعالى بمعنى ورشة عمله سبحانه لخلق الإنسان والأنعام الثلاثة وبين بيت إبراهيم الذي أقام فيه فترة بقائه في مكة. فهو ليس بيت إبراهيم كما أنه ليس بيت أي إنسان بل هو مقام الناس لأنهم يبيتون فيه بإذن ربهم عاكفين أو بادين ولا يجوز لهم التملك الكامل فلا يجوز لمالك أي بيت في الحرم أن ينقل ترابه خارج الحرم. أمعنوا النظر في الجملة الكريمة التالية: مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا. لا يحتاج أحد إلى أن يستأذن من إبراهيم ليدخل مقام إبراهيم فهو مقام له ومقام لمن يقيم هناك أو يدخله زائرا. ومن دخله كان آمنا بإذن الله تعالى.

 

انتهى الفصل الأول ويليه الفصل الثاني بإذن الله ويبدأ بـ “خلق الإنسان الأول”

 

 

 

أحمد المُهري

 

5/10/2017

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.