مومس وبنت شوارع في واد مدني

احبتي
مقال رائع للشاعر السوداني محمّد الفيتوري وصلني وأعجبني,
لخص مشكلة التعايش والإنسانية باختصار.
ربما يعجبكم أيضا.
BAD GIRL.jpg

 

مومس وبنت شوارع في واد مدني

تعلمت الإنسانية بعد الأربعين من عمري, فلا تكن مثلي ولا تكن انطباعيا. أحد إخوتنا الأحباش درجت على أن أحلق رأسي في صالونه، منذ أن أتيت لود مدني ولأكثر من عامين، وقد شدَّني بكثرة احترامه لي, وتقديري, وتدليلي كلما ولجت صالونه وجلست أمامه على كرسي الحلاقة، عِلماً بأنني لا أدفع له سِوَي (مَدَّتْ المِزَّيِّن) كما نسميها في أدبنا الشعبي المحلي (رديء الصُنْع) وفي كثير من الأحيان كنت أتساءل عن لِماذا يعاملني هذا الحبشي، بكل هذا الإحترام والتقدير وهو يعلم بأنَّ فعله لا ولن يجد طريقاً لقلبي المليء بالعزة والكبرياء. كنت أنظر له دائماً بتعالٍ وترفع واحتقار وأعتبر ما يقدمه لي بمثابة (حقي عليه) وفي نفس الوقت هو(واجبه) الذي ينبغي أن يقوم به، وكنت أنظر لكل ما يضعه من رتوش وديكورات وشكليات على وجهه على أنَّه مجرد (كِسِيير تلج) لا غير، وأعانني على هذا الفهم تلك الثقافة البِدائية الساذجة, ثقافة الإعتداد بالذَّات البليدة والنتنة التي أودعتها في مواعيني القبلية النتنة، (دار جعل) التي تجري دمائها في عروقي بألوان ومكونات شتَّي، كدماء الأباطرة والقياصِرة والمِلوك دونما فعل مني ولا جهد, وأنظر لنفسي دائماً بأنني ومنذ المِيلاد، وُلِدت عزيزاً وإن كنت وضيعاً، وولدت كريماً وإن كنت بخيلاً، وولدت رفيعاً وإن كنت دنيئاً وتافهاً، وولدت لأدوس علي مكارم الأخلاق بجهلي ودونيتي دونما أدني شعورٍ بالذنب.

داومت علي زيارة ذلك الحبشي لأكثر من عامين، دون أن تجد إنسانيته وأخلاقه الرفيعة وتعامله الحضاري معي أيِّ إحترام أو تقدير أو تقييم، حتى دعاني ليلة أمس وبكل (أدب) لحضور إحتفال (أسرته) برأس السنة الحبشية. ترددت باديء الأمر ظنَّاً مِنِّي وأنا المك نمر، أنَّ الرجل له حاجة عندي ويريد أن يغلفها ببعض المقدمات والرتوش ولكنني في النهاية وبعد إلحاح منه وإصرار وعدته بالمجيئ، وكنت غير مهتم بالإيفاء بوعدي، ولكنَّ فِعْل هذا الشاب الراقي معي جعلني أُلَبِي الزيارة دونما وعَييْ مِنِّي أو إدارك. وهناك في منزلهم الكائن بحي الحِلَّة الجديدة، دخلت عليهم في الموعد المحدد، وفي النفس عِزَّة وكبر وعجب، وفي بداية جلوسي معهم، كانوا يتحدثون فيما بينهم بالأمهريَّة التي لا أفهمها، فطلبت منهم أن يتحدثوا بالإنجليزية أو العربية حتي أكون معهم في دائرة الحديث، فأومؤوا برؤسهم موافقين، وبدؤوا الحديث بالعربية الفُصْحَّي وتغَنَّوا بها بلكنة رائعة وجميلة وتطريب عالٍ وإشباع للصوت لم أسمعه حتى في غِناء أبي داؤود، غنوا لإبراهيم الكاشف (رحلة بين طيَّات السِحاب) و(إنت وأنا)،وغنوا لسرور (قائد الاسطول) وغنوا لكاظم الساهر (ضُمِيني) وغنوا لفيروز (شُفت البحر) ومن بعد هذا إنتقلوا لِلُغَناء باللغة الإنجليزية التي أعرفها فجعلوني بينهم كالأطرش في الزَّفَّة،غنوا لِــ دَيون سارلي(الأمطار المتساقطة) ولــ كرستيان ماكمان (تراتيل الفجر) ولــفرقة البِيتل (بياض الأشرعه) ولكرستوفر داسلي (العِشق الإلهي) ولِمايكل جاكسون (يوم جميل)،ثم إنتقلوا للفرنسية وغنوا وتحدثوا بها وانا خارج السِرب تماماً وهائمٌ بينهم ومشدوه بهذا الفن والجمال. ثمَّ بدأ التعارف باللغة العربية الفُصْحي، لأكتشف بأنَّ حلَّاق رأسي طبيب بشري يحمل درجة الماجستير في طب النساء والتوليد، وكان يعمل طبيباً في مدينة كسلا حتى أوقفته السلطات الأمنية بدعوي أنه معارض سياسي لدولة صديقة، ولا يحق له ممارسة مهنة (طبية) إلَّا بموافقة المجلس الطبي، وعندما ذهب إلى المجلس الطِبِي وفحص شهاداته، أوقفه عن العمل بدعوي أنه إختصاصي ولكنه لا (يجيد استيعاب لغة المريض)، ومنذها دخل هذا العِالِم الطبيب النِحرير، عَالَم المِهَن الهامشية لإكتساب قووت عياله.

علماً بأنَّ من كنت في حضرتهم هم أسرته الصغيرة المكونة من زوجته (آميل) والتي عندما استقبلتني بكل حفاوة والإبتسامة ترتسم علي شفتيها، كنت أنظر إليها علي أنها مُومس وبنت شوارع فقط لأنها حبشية لاكتشف من خلال التعارف معها بأنها مهندسة زراعية وعضو في اللجنة الدولية لهندسة النبات الوراثية لشرق ووسط إفريقيا لأكثر من سبعة سنوات، وتجيد التحدث بأربعة لغات من بينها الصينية، وتتقن كل لهجات أثيوبيا، وشقيقته الحسناء (نيبيين) طبيبة تحمل درجة البكالريوس في الطب من جامعة أثيوبية، وتعمل في السودان ترزية (لتخييط ملابس الاثيوبيين الشعبية) وتجيد ثلاث لغات، ووالدته التي كانت تعِدُّ لنا الطعام وتبتسم في وجهي كلما دَخَلَت أو خرجت، كنت أنظر إليها علي أنها قوادة حبشية، اكتشفت أنَّها باحثة في التر اث الإفريقي، وتحمل درجة الدكتوراه في الفلكلور من إحدي الجامعات الأثوبية، وكانت تعمل مُحاضرة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة لأكثر من عشر سنوات، وبناته الثلاث اللأئي كُنَّا يتغنين بكافة اللُغَّات، وفي كل ساعة يخرجن علينا بلِباس قوميَّة معينة في إثيوبيا. هُنَّ يدرسن في مرحلة الأساس بمدارس ود مدني المختلفة.

هكذا كان حَلَّاقِي (ْالحبشي)تِسْفَاااي، والذي اضطر لتغيير اسمه في السودان لــيصبح بقدرة قادر (إبراهيم الخليل) لتسهيل تعامله مع السودانيين عُزَاز الأنفس خلدت في أكثرهم القبلية والجهوية النتنة، هكذا كان يتدفق وأفراد اسرته عِلماً وثقافة وإنسانية ورُقي وتسامح مع الآخر، وتعايش وتَقَّبُل لأقدار الحياة وظروفها الغريبة والعجيبة. وهكذا كنت أنا الجعلي, الكِناني, القرشي, الأزهر, الأمهر, الألمع, الأعلم, الأفهم ذِقَّاً مُنْتَفخاً بأمجادٍ من نسج خيال قبيلتي أقعدتني في سِنٍ مُبكرة عن الإقبال علي نفسي لأعلمها واستكمل فضائلها، وكفتني متاعب البحث عن ذاتي وعن تحقيق مقصد الله في خَلْقي وفي أن أكون إنسانًا عَالِمَا ومُهذَّباً وخلوقاً ومتواضعاَ مع أبناء البشرية جمعاء.

وأخيرا أحبتي نصحي لكم أبناء وطني الكرام اخرجوا من دائرة الأنانية والقبلية النتنة والجهوية وعزة النفس التي ملؤها الغرور ولبس شيطاني ولا يكون أحدكم بتاع (ناسات). كونوا إنسانيين فالإنسانية السمحاء هي ضمير الحق فكانت الإنسانية مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقلوب الناس. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) صدق الله العظيم. وشكرًا لك دكتور تِسْفاي علي هذا الجمال, والسِمُو, والتواضع, والتحية لكل عظيم في ثوب متواضع جميل.

محمد الفيتوري

2 تعليقات
  1. 3laagafar :

    رائع المقال
    وفعلاً الاسلام من احد اركانه قتل القبليات اللي كانت قائمة بين العرب وللأسف رجعت بقوة دلوقت ، كأننا في جاهلية تانية ، ربنا يرحمنا

  2. maha321com :

    أجمل كلمات هي ..( كونوا إنسانيين فالإنسانية السمحاء هي ضمير الحق فكانت الإنسانية مطية رسول الله صلى الله عليه وسلم. )
    رحمة الله عليك شاعرنا الهمام محمد الفيتوري

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.