إعداد الصحابة لغياب رسولهم: 6

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

تصحيح أخطائنا التراثية – إعداد الصحابة لغياب رسولهم: 6

بسم الله الرحمن الرحيم

Democracy5.jpg

وصلنا إلى المقطع الأخير من باب إعداد الصحابة لغياب رسولهم حسب فهمي القاصر للسور الست المتتالية في الكتاب المنزل. في هذه السورة وهي سورة “المنافقون” فإنه تعالى يعلم المسلمين كيفية التعامل مع الذين يعيشون بينهم من المنافقين. المنافقون هم الذين يتظاهرون بالموافقة مع النظام الحاكم دون أن يؤمنوا بالنظام. وهم عادة ما كانوا يظهرون في العهود الرسالية المجيدة التي خلت. واليوم فإن المنافقين يكثرون في الأنظمة الديمقراطية ويقِلون في الأنظمة المستبدة سواء الملكية منها أو شبه الملكية. ولنعلم بأن أي نظام سياسي يمنح سلطات غير متكافئة لشخص معين بأي اسم كان فهو نظام مستبد حتى لو أن رأس السلطة لم يظلم أحدا.

فالسبب الأساسي في ظهورهم أيام الرسالات هو أن الرسل كانوا مأمورين بالاهتمام بالأمة وبأن يكرسوا وقتهم وإمكاناتهم لخدمة الشعوب الذين احتضنوهم. عاش الرسل ولا سيما رسولنا تماما مثل رؤساء الجمهوريات الديمقراطية في الغرب وفي أقصى الشرق. قال تعالى في سورة آل عمران: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159).

أنزل الله تعالى الآية الكريمة لبيان حقوق الأحياء من صحابة النبي الكريم بعد حرب أحد وهي الغزوة التي غزا بها المشركون رسولنا عليه السلام. الصحابة آنذاك كانوا قسمين واضحي المعالم. فقسم شارك في الدفاع عن الرسول وعن الرسالة فقتل من قتل وبقي من بقي؛ وقسم آخر هم الذين انشغلوا بالغنائم في المقطع الأول من الحرب فسببوا الهزيمة للمسلمين. وحينما نتعمق في لحن الآية الكريمة التي تخبرنا بأن الكثير ممن آمنوا بالرسول هم الذين تأثروا بخلقه الكريم وليس بمنطقه وبرسالته. ولذلك فلو لم يكن الرسول على خلق واضح الحسن فكان يخسر ذلك الجمع الكبير من المسلمين. ولم تفرق الآية بين الذين خاضوا المعركة بإخلاص وبين الذين تخاذلوا. فتأمر الآية الرسول بأن يشاور الجميع في الأمر.

ذلك لأن حقوق المخالفين والعصاة المدنية حتى الذين تخلفوا عن المعارك أو أثروا فيها سلبيا لن تضيع بعد الحرب. يجب على الرسول أن يحتفظ بخلقه الكريم بعد القوة كما كان عليه يوم كان ضعيفا في بدايات الدعوة ويجب أن يستمع إلى ما يشيره عليه شعبه حتى العصاة منهم. إن حق تقرير المصير حق مدني تابع لوجود الإنسان حيا في أي بلد فهو حق الحياة وليس حق التدين أو ما شابه ذلك. إن كل إنسان يعيش في أي بلد فهو بأمر الله تعالى يتنعم بالحرية الطبيعية التي أيدها الله تعالى لخلقه دون تفريق. ومن مستلزمات الحرية أن يكون له صوت في الأمة دون أن يتعرض للإهمال. هذا ما نلمسه اليوم في الدول المتنعمة بالديمقراطية التي تمنح كل مواطنيها حقوقهم المدنية بما فيها حق تقرير المصير وحق انتخاب الرئيس ونواب البرلمان.

فمثلا نحن في بريطانيا أتينا من أصول غير بريطانية ولكل منا حق تعيين السلطة التنفيذية والتشريعية دون تفريق بين الذكر والأنثى والمتدين وغير المتدين والمسيحي وغير المسيحي منا أو بين الموافق والمخالف مع السلطة منا أو بين العاملين بالقوانين والعاملين ضد القوانين المتبعة في بريطانيا منا.

بلغ تواضع الرسول وديمقراطيته حدا لا يتناسب مع كونه مرتبطا بوحي السماء. ولذلك فإن الله تعالى حذر المؤمنين المحيطين به من خواصه الذين كان يستشيرهم بأن ينتبهوا إلى أن الجالس بينهم رسول الله. نحن لم نذكر شيئا عن سورة الحجرات في بحوثنا حول إعداد الصحابة لأنها لا ترتبط بموضوعنا بل هي ترتبط بحياة الرسول نفسه بين صحابته بعد تشكيل النظام أو الدولة. قال تعالى في تلك السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2). تمسكه الشديد بالشورى وبنظام الحكم غير الفردي جعل الخواص يقولون بأن لهم صوت وله صوت. فقال لهم الله تعالى: كلا، بل أصواتكم دون صوته لأنه نبي الله ويستوحي من ربه ولو لم تفرقوا بين أصواتكم وصوته فقد تحبط أعمالكم لما ستقعون فيه من الخطأ. عرفهم ربهم بأن ذلك الإنسان العظيم لا يدير نظاما فحسب بل يبني كيانا للمسلمين وهو فوق مستوى صحابته الذين ساعدوه ساعة العسرة.

ولم يكتف سبحانه بذلك بل قال لعامة الصحابة: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8). فيبدو بأنه عليه السلام كان مهتما بشخصيات عامة الصحابة فلكل إنسان الحق في التحدث عن مصيره ومصير أمواله وبلده.

هذه هي طبيعة الحياة الدنيا التي يجب اتباعها حتى يعم السلام حياة البشر وغير البشر في الكوكب الذي يعيشون فيه. يجب أن يشعر كل إنسان بأنه مستوف حقوقه بالكامل حتى يأمن الآخرون ما يمكن أن يصدر منه من شرور ومكائد. كما يجب على الجميع أن يحافظوا على الحيوانات والطيور والأسماك والنباتات وكل ما يعيش عليه البشر لاستهلاكهم أو لعيشهم وما يتبعه حتى لا تتعرض حياة الناس والأجيال للخطر. فنرى ربنا الكريم يخبر رسوله عما لا يعلمه من قلوب المنافقين الذين يشكلون الخطر على المسلمين وعلى ثرواتهم وإمكاناتهم. فهم كما تصفهم سورة المنافقون:

  1. يشهدون برسالة الرسول ظاهرا ويضمرون الإنكار باطنا.إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1).

  2. يحلفون بالأيمان ولكنهم يفعلون ذلك ليقوا أنفسهم من الفضيحة فيتخفون تحت الأيمان والمعاهدات التي يتقبلونها ظاهرا، ولكنهم في الخفاء يصدون عن سبيل الدعوة إلى الله تعالى.اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2).

  3. يتحلون بالمنطق البديع ويتظاهرون بالإيمان والوطنية وكلما يريح المؤمنين وهم كاذبون.وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4). والخشب المسندة باعتبار أنهم لا يتحدثون عما في نفوسهم،فارتباطهم ليس قلبيا مع المسلمين بل علاقات بدنية مادية فقط. ولو كان القرآن نازلا اليوم فلعله تعالى مثلهم بالمانيكانات المعروفة في معارض بيع الملابس. فهم خشب مسندة فاقدة للقدرة على الإدراك النفسي الذي يستخدم الأبدان لكنهم مثل مسجلات الصوت يتحدثون بلا تعقل وأبدانهم مثل المانيكانات فلا ترى في ملامحهم علامات الإدراك أو التأثر بمغزى رسالة السماء، والعلم عند المولى.

  4. يحسبون كل صيحة عليهم، بمعنى أن أي حادث أو مفاجأة ترعبهم لأنهم مثل اللص الذي يدخل البيت خلسة فيخاف من كل حركة ضوئية أو صوتية. فالمنافقون هم الأعداء الحقيقيون بأعمالهم وقد يقوموا بأي عمل ضد الناس خوفا على أنفسهم. ونحن نرى المنافقين اليوم بأن أبسط عمل يقومون به هو التجسس لصالح العدو.

  5. و أضاف سبحانه في سورة المنافقون:وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6). استغفار الرسول للمنافقين يعني رضاه عليهم وطلبه من ربه أن يغفر لهم ما قاموا به ضد دعوته الخيرة. وطلب الاستغفار من الرسول الذي ظلموه يعني التوبة عما فعلوه من قبل والتعهد بترك النفاق. وقد ذكر الله تعالى بعض شواهد محاربتهم للرسول بأنهم:هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7).

  6. وأخيرا:يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8). العزة عندهم عزة المال فقط ولذلك فهم لا يفتؤون يعبدون المادة ويهتمون بحطام الدنيا ولا ينتبهون للعزة الحقيقية، عزة الارتباط الوثيق بمالك الكون وبسيد الكائنات جل جلاله. هذا ما كان يطلبه الرسول والمؤمنون ولكن المنافقين لا يعلمون.

فسورة المنافقون تسعى لإطلاع المؤمنين على بعض حقائق المنافقين. هذه الحقائق تبرز نفسها بعد وفاة الرسل عادة حيث يعود الناس إلى الحكم القبلي والعشائري ويبتعدون شيئا فشيئا عن دعوات الأنبياء. ويهمني بالمناسبة وقبل أن أختم آخر سورة لإعداد الصحابة لوفاة الرسول الأمين، بأن أذكر القارئ الكريم بما يلي:

  1. الرسل يحبون كل الناس بمن فيهم المشركون والكافرون ولذلك يؤمن بهم من يحمل نفسا طيبة من حاضري الدعوات الرسالية.

  2. سرعان ما يشعر الناس الطيبون بأن أولئك النفر الطيب يحملون نفوسا فائقة الحسن وهم أصدقاء الإنسانية وهم يسعون سعيا حقيقيا لهداية الناس ولإنذارهم بما يمكن أن يحل بهم من حياة بائسة محفوفة بالعذاب أحيانا في حياتهم الأبدية. هذا الشعور العام يجعل الناس محيطين برسلهم يبادلونهم الحب تماما مثل ما يفعله الأطفال حينما يكبرون تجاه آبائهم وأمهاتهم حيث يشعرون بأن الآباء والأمهات هم أكثر الأهل تضحية وحبا لهم. فيكبر الرسل في عيون الناس ويشعر أصحاب القدرات بالضعف أمام أولئك الأبطال الطيبين المرسلين من عند رب العالمين.

ولذلك يجتمع حولهم كل الناس بمن فيهم غير الطيبين وجميعهم يشعرون بأنهم أمام الحقيقة ويجب عليهم أن يكونوا طيبين. لكن الذي يحمل نفسا شريرة فهو يبقى على فساده وزنخه مخفيا حقيقته ومظهرا الإيمان الزائف. هذا هو السبب الأساسي في ظهور المنافقين أيام الرسل كما يظهرون إذا ما عرفت الأمة حقها في الحكم فأقامت الحكم الديمقراطي رغم أنف المستهترين والمتكبرين.

  1. وبعد وفاة الرسل فإن المنافقين الذين يعلمون بأن قوة الرسول كانت بسبب ارتباطه بالوحي الذي انقطع بعده، ولذلك ومع شعورهم بضعف الطيبين من المؤمنين فإنهم يبدؤون بالعمل لإعادة الناس إلى حياة ما قبل الرسل. قال تعالى في سورة مريم:أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60). ولا أريد أن أضع النقاط على الحروف ولكنني كأخ للقارئ الكريم أرجو من الجميع ألا يعتمدوا على أحد وألا يغتروا بالكلمات المعسولة وأن يفكروا ويتدبروا الحقائق بأنفسهم. كما أشير إلى واقع ملموس وهو أن الرسل الكرام كانوا يعيشون مثل عامة الناس يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق. لكن الذين انتحلوا صفات الرسل فإنهم متكبرون يحيطون أنفسهم بالألقاب الزائفة والملابس المميزة سواء كانوا حكاما أو وعاظ الحاكمين أو طامعين في السلطة فإنهم يستعملون النفاق ليخدعوا الناس. فحذار حذار منهم.

أحمد المُهري

29/7/2017

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.