الحكم الاخلاقي لدى الطفل 31

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

G CHILD7.jpg

الحكم الأخلاقي لدى الطفل   – 55

والآن ننتقل إلى موضوع التعلق بالمجموعات الاجتماعية فنجد أن دوركايم يشير بشكل معقول فيما يتعلق بهذا الموضوع إلى أن الطفل ليس أنانيًا تمامًا، كما قد يظن، ولا محبًا لغيره خالصًا، كما قيل أيضا، ولكنه أناني وغيري معًا ولكن بدرجة أقل من الراشد.  ونحن نرى أن هذه الحالة مرتبطة بظاهرة مركزية الذات عند الأطفال التي حاولنا أن نجد فيها مفتاح الظاهرات السيكولوجية الخاصة بعقل الطفل، فالمجتمع والفرد في مرحلة الطفولة لم ينفصلا بعد، ولذلك نجد أن الطفل بينما يقع تمامًا تحت تأثير إيحاء الراشدين المحيطين به – سواء عن طريق تقليد الأمثلة أو عن طريق القسر – إلا أنه يحاول بطريقة لا شعورية خالصة أن يخضع كل شيء لوجهة نظره الخاصة، وفي هذه الحالة تمتزج بكل سهولة مع الحالة السيكولوجية التي تميز الجماعات التي تقوم علاقاتها على أساس الاقتداء، وقد رأينا فيما يتعلق بلعبة الكريات إلى أي درجة يسهل إيجاد مركب من مركزية الذات والتعاون ما دام الأخير يتضمن شخصيات شاعرة، وهي في الوقت نفسه قادرة على إخضاع وجهة نظرها لقوانين التبادلية والعمومية.  والمشكلة كلها إذن هي الطريقة التي يمكن بها إخراج الطفل من مركزية ذاته إلى حالة التعاون.

 

وفي هذا يقول دوركايم إن المجتمعات الوحيدة المعروفة عند الطفل هي الأسرة والأصدقاء، على حين أن غرض التربية الاجتماعية هو إعداده للمجتمع الكبير، وبنوع خاص للشعور بالإنسانية، ولذلك كانت المدرسة حلقة اتصال ضرورية.  وهذا كله صحيح ولكنا هنا نواجه شيئًا لا يقبل النقض وهو مشكلة القسر والتعاون.  فالمثل الأعلى في الوقت الحاضر هو التعاون، أي احترام الفرد, واحترام الرأي العام المستخلص من المناقشة الحرة.  فكيف يمكن أن نجعل الأطفال يصلون إلى مستوى الإلمام بروح المواطنة والإنسانية الذي تطالب به الديموقراطيات؟   فهل تكون طريقة ذلك هي التدريب الفعلي على التعاون ما دام ذلك ممكنًا من الناحية السيكولوجية عن طريق ما أسماه فورستر (Forrester)         “الديموقراطية في المدرسة” أم عن طريق الدراسة النظرية لوسائل إدارة مجتمع الراشدين؟  هل لدروس التاريخ, والاجتماع, والتدريب على المواطنة, ودراسة القانون أي أثر على عقل الشاب ما دامت المدارس باقية على نظامها الملكي القائم على السلطة والذى يقول به دوركايم؟  أيهما أصلح لأن يكون مواطناً؟  هل هو “النوع الرياضي اللين الجانب” من جماعات الشبان, أم هو التلميذ الذي يعطينا أحسن الإجابات في امتحان التاريخ والتربية الوطنية؟  إن هذا لموضوع يستحق الدراسة.

 

وقد بقيت نقطة أخيرة لم تدرس فى محاضرات دوركايم، وإن كان قد درسها في صلتها بعناصر الأخلاق. ونقصد بذلك ذاتية الإرادة.  فقد وضع دوركايم أخلاق “كانت” في وضع إيحائي, وقد أظهر بحثه في هذا الموضوع أكثر من بقية هذه البحوث قوة نظريته وضعفها.  فهو يرى أن ذاتية الإرادة الأخلاقية ترجع إلى صفته الفعلية، فالإحساس بالالتزام الخالص نحو الواجب هو كالإرادة نتيجة دقة الشعور.  ونحن نرى أن دوركايم كان محقا في إشارته إلى أن الالتزام المتصل بالواجب الخالص في هذه الحالة يصبح “بطريقة ما ظاهرة عرضية من ظواهر القانون الأخلاقي” (ص 125).   فدوركايم يري إذن أن كل شيء يدل على “أن القانون الأخلاقي محاط بسلطة تتطلب الاحترام من العقل” (ص 125) ولهذا فإنه عمل وحدة حقيقية أو مثالية أرقى من القوة التي تصورته (ص 126) ولما كان هذا الكائن السامي ليس سوى المجتمع نفسه فإن الذاتية الوحيدة الممكنة هي الخضوع الحر من جانب عقل الفرد تجاه قوانين المجتمع.

 

إن أهمية هذا الحل في منتهى الوضوح أمام ناظرينا، فدوركايم يحاول بالنسبة للقسر والتعاون أن يمثل كل منهما الآخر وكذلك الواجب والخير.  فهو فعلاُ أراد أن يوحد بين النظريتين المتناقضتين إلى أقصي حدود التناقض والخاصتين بالالتزام وهما  : خضوع “العقل الغيري” “لقوة عليا”.  والضرورة القائمة في داخل العقل نفسه.  فهذا الالتزام بالمعنى الأول – أي باعتباره واجبًا يدعو إليه الاحترام المتبادل والإحساس بالسلطة على هذا النحو – هذا الالتزام بهذا المعنى ينبغي أن يكون خارجيًا عن الأخلاق، وهو النتيجة المنطقية لنقد “كانت” وهو أيضًا النتيجة الطبيعية لأخلاق التعاون.  وهذه النظرية سوف تهز فقط أولئك الذين يعجزون عن أن يجربوا بأنفسهم الإحساس الحلولي الخالص للالتزام الذي هو نتيجة للضرورة العقًلية.  فقد قال دوركايم إن “الواجب هو الأخلاق باعتبار أن الأخلاق قادرة على أن تأمر، فهو أخلاق باعتبارها سلطة يجب أن نطيعها لأنها سلطة ولهذا السبب وحده” (ص 110) (1).

 

وعليه, فإذا كان هذا هو الواجب فكل الذي يستطيع أن يقوله الإنسان أن مخالفة لأخلاق التعاون.  وأكثر من ذلك فحتى لو أن دوركايم أستاذ علم الاجتماع قد وقف حائرًا أمام هذه النتيجة فإن دوركايم الإنسان الحر المتسامح قد بين خلال أعماله كلها أنه من أتباع الرأي الأخير.  فالتعاون والاحترام المتبادل إذن يتضمنان شيئًا أكثر من الذاتية الوهمية التي وصفها دوركايم؛ فهي تفترض قيام ذاتية كاملة (2) للعقل. فحين يذكر لنا دوركايم أن الفرد يعجز بنفسه عن أن يضع أخلاقاً فإن هذا ليس معناه – على أية حال – أن الشخص (نقصد بذلك الفرد ما دام خاضعًا لقواعد التبادل) ليس حرًا في أن يحكم بعقله فقط على كل شيء.  ومن الحق الواضح أن نقول إن الذاتية تستلزم معرفته بالقوانين الاجتماعية, والطبيعية, وبالقدرة على معرفة هذه القوانين وهي تعمل.  ولكن القوانين الاجتماعية لم تنته بعد وتكوينها التطوري يستلزم التعاون غير المقيد للعقل الشخصي، فذاتية العقل إذن لا دخل لها بتخيل الفرد ولكنها تعارض مباشرة فكرة السلطة الخارجية.  وقد بين روا Ràuhبوضوح أنه لكي تكون “المعلومات شخصية” يجب أن تمر بنفس الخبرة وهذا لا يعني أن الإنسان يجب “ألا يعطي معلومات” من أول الأمر.  فمن المفيد في تربية الذاتية عند الطفل “أن تعطيه معلومات بطريقة علمية” ولكن لكي يتحقق ذلك فإنه لا يكفي أن تجعله يخضع لما يمليه عليه مجتمع الراشدين ولا أن تشرح له من الخارج علل هذا الخضوع؛ فالذاتية هي قوة لا يمكن أن نغزوها إلا من الداخل ولا تجد مجالاً إلا في داخل خطة للتعاون.

 

ونختم هذا الفصل, إذن, فنقول إنه في كل ناحية من نواحي علم الاجتماع الأخلاقي والتربية نجد آراء دوركايم متفائلة ومتشائمة في وقت واحد؛ ذلك نظرًا لأنها صحيحة إلى أقصي حد في نظريتها عن الحقائق الأخلاقية باعتبارها اجتماعية ومرتبطة بالنمو التركيبي والوظيفي للجماعات فإنها ضربت صفحًا عن الفروق الأساسية القائمة بين التعاون والقسر.  ومن هنا قام في علم النفس الأخلاقي ذلك الخلط بين الصفة الغيرية الخاصة بالواجب الخالص وصفة الذاتية الخاصة بالخير.  ومن هنا أيضًا قام في علم الاجتماع عنده هذه الوحدة غير المضمونة لتوازن الحقيقة التي ينظمها القسر وتلك الحقيقة الأخرى للتوازن المثالى التي ينظمها التعاون (وهذه ما زالت اجتماعية ولكن بمعنى آخر) والتي هي النهاية والقاعدة التي تتمسك بها كل مجموعة بشرية قدر لها أن يكون لها وجود.

(1)العبارة الموضوع تحتها خط هى عبارتنا .

(2)أنظر هذا الموضوع أيضاً كتاب

  1. D. Porodi le  problem moral et la pensée contemporàine 3e éd. Alcam , 1920
  2. #كمال_شاهين
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.