الحكم الاخلاقي لدى الطفل 29

ethic5.jpg

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

 

الحكم الأخلاقي لدى الطفل   – 53

ولكن من المهم أن نحدد بدقة معنى القصاص، إذ يري البعض أن  فيه وقابة ولكن هذا التسويغ قد وضح خطؤه لأنه يعزو إلى الطفل أو المذنب قدرة على التوقع، مع أن هذه القدرة لا وجود لها بين دوافعهم الطبيعية، وآخرون يعتبرون الجزاء تكفيرًا؛ فدوركايم – ولو أنه لا يوافق على الحالة المادية لنظرية العقوبة التكفيرية – فهو يرى مع ذلك أنه “ينبغي أن نحتفظ بشيء من هذه النظرية”.  والشيء الذي يجب الاحتفاظ به منها هو القاعدة القائلة إن الجزاء يغسل الخطيئة، أو على الأقل يصلح بقدر الإمكان. ولكن الجزاء لا يملك القدرة على الإصلاح بسبب الألم الذي يتضمنه؛ فالألم خطيئة ومن العبث أن نظن أن الخطيئة قد تعوض خطيئة أخرى أو تقضي عليها” (ص 188) فلو أن الألم يغسل الخطيئة فذلك يرجع إلى أن “الوظيفية الرئيسية للجزاء” هي “تأمين تلك النفوس التي يكون إيمانها قد اهتز بسبب مخالفة القوانين حتى ولو لم يكونوا مدركين له من قبل.  والغرض من ذلك أن يتبين لهم أن هذا الإيمان قد تحقق كما كان قبلاً وأن الشخص الذي وهبه لهم مازال قابضًا على ناصية الأمور, وهذا مهم بنوع خاص فى حالة المدرسة” (ص 191).  وهكذا نجد أن العقوبة تغسل الخطيئة، بمعنى أن الألم الذى توقعه يبرهن للطفل أن المدرس يقوم بعمله بشكل جدي ولذلك كان روح الجزاء هو تجسيم التأنيب؛ “فالعقوبة ليست سوى دليل مادي على حالة داخلية, فهي مجموعة من الدلالات أو اللغة بواسطاتها يقوم الرأي العام أو مدرس المدرسة بالإنابة عن الإحساس الذي أثاره العمل موضع اللوم.” (ص 201).

 

وقد أوضح هربرت سبنسر Herbert Spencer نظريته عن العقوبة الطبيعية مستندًا إلى الوهم القائل بأن التربية تأتي من الطبيعة على حين أنها فى الحقيقة عملية اجتماعية؛ فالعقوبة يجب أن تعتبر من غير شك نتيجة طبيعية للخطأ الذي ارتكب ولكن النتيجة في هذه الحالة ليست هي النتيجة للجرائم نفسها، فالعقوبة هي نتيجة للخطأ فقط، بمعنى أن الأخير قد أوجد انفعالاً في حركة الاستهجان التي ترمز إليها العقوبة” فالعقوبة الحقيقية كالنتائج الطبيعية الحقيقية هي التأنيب.” (ص 205).

 

ويلاحظ أنه رغم أن هذا النوع من التربية فيه صفة القسرية، أي أن دوركايم قد احتج بشدة على العقوبة الجثمانية وظهر في هذا الميدان بمظهر عالم النفس العنيد، فالعقوبة الجثمانية غير معروفة فى معظم المجتمعات البدائية وقد تطورت بتطور المدرسة واستجابت لها الأسرة، فكيف نشأت في المدرسة؟  هذه “حالة خاصة” لقانون يمكن أن نصوغه كما يلي : فكلما قامت علاقات مستمرة بين مجموعتين من الناس أو من الأفراد الذين ينتمون لمستويات ثقافية مختلفة، فإن أحساسات معينة لابد أن تنشأ، وهذه تجعل المجموعة ذات الثقافة الأرقى التي تعتقد أنها كذلك تميل لأن القسر على المجموعة الأخرى” ( ص 219).  ولذلك نجد المدرس وقد واجه تلاميذه فهو يميل لأن يقسو عليهم، ونظرًا لأن المدرسة “بطبيعتها ذات نظام ملكي فإنها تتحول بسهولة إلى النظام الاستبدادي.” (ص 224).

 

وهذه الاعتبارات الخاصة بالنظام يمكن أن تطبق أيضًا على العنصر الثاني من عناصر الأخلاق، ونقصد به الطريقة التي يتكون بها تعلق الطفل بالمجموعات المحيطة به.  إن البحث عن الأصل النفسي لهذا الجزء من حياتنا الأخلاقية يجب أن نجريه فى دائرة المشاركة الوجدانية وفي ميولنا الغيرية التي لا تعنينا كثيرًا، فالطفل “ليس غيريًا خالصًا، ولا أنانيًا خالصًا، ولكنه يتصف بهما معًا في آن واحد وإن كان بدرجة أقل من درجتهما عندنا.” (ص 260).  ولذلك يكفي أن نوسع دائرته الاجتماعية بالتدريج لكي نربيه.  فقبل أن يذهب إلى المدرسة قد ألم بالحياة العائلية وبمجتمع الأصدقاء، وفيها نجد أن الغيرية تقويها روابط الدم والصداقة، والمدرسة هي الوسيط الذي يعد الطفل للمجتمع السياسي الذى تسود فيه مثل هذه الصفات، فالعلوم السياسية والتاريخية كافية لأن تغرس في نفس الطفل تلك القيم المرتبطة بمجتمع الراشدين.

 

هذه إجمالاً هي التربية الأخلاقية عند دوركايم.  ونحن لا نستطيع أن ندخل في مناقشة كتاب دقيق وعظيم فيما يوحي به – والذى لخصناه – دون أن نحس باحترام عميق لمؤلفه ولكن هذا لا يمنع من دراسة نظريات دوركايم بالتفصيل وبروح مشبعة بالحرية التامة.  وأعظم خدمة نقوم بها تجاه روحه العلمية العالية هي أن ننسى, ولو للحظة, سلطانه العظيم.

 

فالأسس النظرية للتربية عند دوركايم تناقض المعلومات المسلم بها اليوم في علم نفس الأطفال، كما أنها تناقض كل ما وضعه المحدثون من المربين (وهذا أشد خطرًا لأن التجارب في التربية هي دائمًا ذات نتائج نهائية، وهي من هذه الناحية تفوق تجارب المعمل).  لذلك وجدنا أن من المستحيل أن نقبل النتائج التي قال بها دوركايم كما هي، فعلى الرغم من قوة وخصوبة طرقه وقواعده فإن علم الاجتماع عند دوركايم يحمل معه صعوبات أساسية، ونقصد بذلك تلك التي أشرنا إليها منذ قليل والتي تظهر آثارها واضحة الآن في علم نفس الأطفال.  فدوركايم نظرًا لأنه لم يقتنع بأن يبين أن المفتاح الرئيسي لعلم النفس البشري يوجد في الحياة الاجتماعية فإنا نجده قد حاول أن يؤلف من المجتمع كلاً”، وهذه هي الواقعية ككل أدت إلى قيام تلك المتناقضات التي لا تستطيع سوى النسبية في الطريقة أن تتجنبها، فالمجتمعات على شكل كائنات لا يمكن تصور وجودها، كما لا يمكن تصور وجود أفراد منعزلين, وكل ما هنالك علاقات، وهذه العلاقات يجب أن تدرس بصفة تلقائية من الخارج  ومن الداخل، (فليس هناك أي صراع بين علم النفس وعلم الاجتماع، والاتجاه المكون منهما دائمًا يكون غير تام، فلا يمكن أن يعتبر مادة ثابتة ولهذا كان من المستحيل أن نضع رأيًا واحدًا يتضمن التأثيرات الكثيرة المتنوعة للحياة الاجتماعية على نمو الفرد.  فالاتحاد غير القانوني بين القسر والتعاون إذن هو الذي سنناقشه مرة أخرى لأن هذا الاتحاد هو الذي أفسد كل التربية التي قال بها دوركايم، وهو الذي أفسد الأخلاق عنده. والآن فلنناقش العناصر الثلاثة للأخلاق التي قال بها دوركايم:

 

من المتفق عليه أن روح النظام هي نقطة البداية في كل حياة أخلاقية، فيجب أن يقوم لا مجرد نظم معينة للسلوك بل قواعد يقوم عليها عطاء كاف من السلطة.  وليس هناك من ينكر بصفة جدية أن هذا هو الثمن الذي يجب أن يدفع من أجل تطور الشخصية.  ونستطيع أيضًا أن نتفق مع دوركايم حين لا يرى في مثل هذا الفرد سوى مخلوق من عادات وروتين(1).  وهكذا نجد أن الحياة الاجتماعية هي التي تنقي القواعد.  ووجهة النظر هذه تؤيدها بحوثنا، فكل القواعد التي يتبعها الأطفال في كل الميادين التي درسناها ترجع إلى العلاقات الاجتماعية.

 

وهناك موضوع يتضمن كل مشكلة التربية والمنطق أيضًا، وهو : هل هناك نوع واحد من السلطة فقط، أو نوع واحد من القواعد فحسب؟  وقد ترك دوركايم هذا السؤال دون أن يناقشه ودون أن يبدي أي شك في أنه إلى جانب العلاقات الاجتماعية بين الأطفال والراشدين تقوم علاقات اجتماعية خالصة مع بعض جماعات الأطفال وبعضهم الآخر.

 

وربما كان دوركايم أميل إلى التعسف في الفقرات التي تناول فيها هذه القاعدة منه في غيرها، فكل سلطة  تأتي من المجتمع (ص 103) والمدرس هو القسيس الأول الذي يقوم بدور الوسيط بين المجتمع والطفل (177)، وكل شيء إذن يعتمد على المدرس (176).  والقواعد هي نوع من الإلهام (ص 176) يوحي به الراشد إلى الطفل.  فإذا كانت الملاحظات النفسية تعطينا نتيجة واحدة لا يتطرق إليها الشك فإن ذلك مرجعه إلى أن الطفل نظرًا إلى أنه أبعد ما يكون عن أن يلتزم حدود القواعد التى فرضها عليه الآباء والمعلمون (تلك التي لا يلاحظها في الغالب عن قرب)، فإنه يربط نفسه بكل أنواع القواعد في كل نواحي نشاطه وخصوصًا في ناحية اللعب.  وهذه القواعد ليست أقل اجتماعية ولكنها تعتمد على أنواع مختلفة من السلطة.  فالسؤال الذى يوجهه رجال التربية إلى أنفسهم هو ما إذا كانت هذه القواعد المنفصلة عن مجتمعات الأطفال لا يمكن استخدامها في الفصل؟  إن النتائج التي وصلوا إليها مع قلة عددها وضعف الإلمام بها وإن كانت قد أجريت حوالى 1902 – 1907 (تواريخ محاضرات دوركايم) هذه النتائج قد أدت إلى إيجاد نظام للتربية الأخلاقية يسمى “الحكومة الذاتية” وهذا النظام يناقض التربية عند دوركايم (1) تمام المناقضة.  وعلى هذا فيمكن وضع المشكلة النفسية الأساسية على الوجه التالي : هل هذه الأنواع المختلفة من القواعد تخضع لنفس القوانين النفسية أم لا؟  وهذا السؤال الذي سألناه في هذا الكتاب وكانت إجابتنا عليه بالنفي, إذ يبدو لنا أنه يوجد على الأقل نوعان مختلفان تمامًا من القواعد ومن السلطة هما : قواعد ترجع إلى الالتزام من جانب واحد، وأخرى ترجع إلى الاحترام المتبادل, أما دوركايم فيري أن مثل هذا الفرد لا سلطان له.  وحتى لوفرضنا أن هذه العبارة تقوم على أساس متين (وسوف نناقشها عند مناقشة نظرية بوفيه)  فما زالت الحقيقة باقية وهي أن رفيق اللعب أو الطفل الأكبر سنًا يشبه المدرس أو الأب يدعو إلى التفكير لا في أي مجتمع بل في هذا المجتمع أو ذاك الذي يفكر فيه الطفل، وإن الاحترام الذى يحسه نحو الزميل المستنير في لعبة الكريات يختلف عن ذلـك الذي يوجه نحو الراشد.  وهذان النوعان من القواعد يؤديان إلى نتائج مضادة.  فقاعدة القسر التي تقوم على الاحترام من جانب واحد تعتبر مقدسة، وهي توجد في عقل الطفل شبيهة بتلك التي تميز الاقتداء الإجباري عند الجماعات البدائية.  ولكن قاعدة القسر هذه تبقي خارجية بالنسبة لنفس الطفل ولا تؤدي إلى قيام طاعة فعالة من النوع الذى يتطلبه الراشد.  أما القواعد التي تؤدي إلى الاتفاق المتبادل والتعاون فهي على العكس من ذلك تبدأ جذورها في داخل عقل الطفل وتصل إلى أن تكون ذات أثر فعال في تكوين الإرادة القوية.

 

فإذا كان هذا التمييز حقيقيًا فإننا نستطيع باسم علم الاجتماع نفسه أن نوجه السؤال الآتي : إن المجتمع المتمدين الذي نعيش فيه، والذي نحاول أن نجعل الطفل ينسجم معه، يميل لأن يحل قاعدة التعاون محل قاعدة القسر، وروح الديموقراطية تتضح من موقفها إزاء القانون باعتباره نتيجة الإرادة الجماعية لا باعتباره شيئاً ناتجًا من الإرادة السامية أو من السلطة التي أقامها الحق الإلهي، ولذلك فإن الديموقراطية تعمل على أن تحل الاحترام المتبادل للإرادة الذاتية محل الاحترام من جانب واحد نحو السلطة ، ولذلك كانت المشكلة التي تواجهنا هي أن نعرف أحسن الوسائل التي نعد بها الطفل لمستقبله كمواطن : هل هي النظام الخارجي الذي يكتسبه الطفل تحت تأثير الاحترام من جانب واحد، وكذلك تأثير قسر الراشد, أم هو النظام الداخلي القائم على الاحترام المتبادل “والحكم الذاتى”.  من الطبيعي أن نظن أنه ربما كان أولئك الذين خبروا النظام الخارجي الذي يفرضه المدرس هم وحدهم الذين يستطيعون فيما بعد أن يلموا بأي نظام داخلي، وقد تكون هذه هي النظرية السائدة ولكنها تحتاج إلى تحقيق وتحقيقها ليس من الأمور السهلة فلدينا عدد كبير ممن يتخلصون من كل نظام بمجرد أن يفلتوا من الروابط المدرسية أو العائلية. وكذلك نجد عددًا كبيرًا يقضون بقية حياتهم لا يخضعون إلا للنظم الخارجية والقوانين الأخلاقية، ومع ذلك فإن خير من يقوم بيننا من شبان هم الذين يتمسكون بنظم معينة في الحياة، بصرف النظر عن سلطة الراشدين، أو أنواع معينة من سلطةالراشدين .

أما نحن فإنا نعتبر التجارب التي أجريت لإدخال النظم الديموقراطية في المدارس من الأهمية بمكان. فنحن نتفق مع فورستر Forrester في قوله إنه مما لا يمكن تصديقه (1) أنه في الوقت الذي انتشرت فيه الآراء الديموقراطية في كل نواحي الحياة فإن استخدامنا للديموقراطية كوسيلة من وسائل التربية ينبغي أن يكون محدودًا.  ولو أن الإنسان فكر في المقاومة المنظمة التي يقوم بها التلاميذ تجاه النظم القائمة على السلطة فإن الإنسان لا يسعه إلا أن يعيب النظام الذي يسمح بضياع مثل هذا المجهود بدلاً من الاستفادة منه في التعاون.

 

 

 

 

 

 

 

(1)أفعال رتيبة .

(1)انظر على وجه الخصوص كتاب Ao. Ferriére ” L’autonomie des Ecoliers Coll, Acrual , péd .Neuchatel et Paris

(1)F.W.Foester, L’ecole de la caractére, trad. Bovet

 

#كمال_شاهين

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.