الحكم الاخلاقي لدى الطفل 27

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

الحكم الأخلاقي لدى الطفل   – 50

والآن نعرض الموضوع عرضًا سيكولوجيًا لنرى بشكل أوضح علاقته بنوعي الأخلاق عند الطفل.  إن المجتمع كما يراه دوركايم – فيما عدا حالات نادرة – هو عبارة عن مجتمع من الراشدين – ففي كتبه نرى أن كل شئ يحدث كما لو كانت الجماعة كمركب كلي تقوم بالضغط على جميع الأفراد بصرف النظر عن عمرهم الزمنى.  فلنتصور قيام جماعة أعضاؤها كانوا دائمًا من عصر واحد وقد قضوا حياتهم دون أن يخبروا قسر الأجيال السابقة أو يقوموا بتربية الأجيال التالية لهم.  فمهما كانت القرون التي نتصور أن هؤلاء الأفراد قد عاشوا خلالها، ومهما كانت الحالة الجماعية التي نصور فيها حالتهم النفسية، فإن احتمال قيام حالة اجتماعية كالتي اعتدنا قيامها عند الجماعات التى نصفها بالبدائية احتمال واحد يقابل 1000 حالة مضادة.  فهؤلاء الناس سوف يكتشفون لهم لغة, ومنطقا, وأخلاقا, وما وراء الطبيعة، ولكنا لو تذكرنا أنهم سيتحسنون فلا تجاربهم ويتعرضون للاخطاء وللانحرافات الجماعية الوقتية ، فإن الإنسان لا يستطيع أن نتصور أى شئ يمكن أن يجعلهم يقبلون قسراً اجتماعياً متبلوراً كالقسر الذى يحدث فى الجماعات التى يقوم فيها الامتثال الإجباري . إذ يبدو لنا واضحاً أن الظاهرة الاجتماعية الاولية لابد أن تختلف تماماً عما تكون عليه فيما لو كانت الجماعات لم تتكون إلا من أفراد سن واحدة يجهلون كل ضغط من جيل على الجيل الآخر . فالولد الصغير يحس بالاحترام لمن هم أكبر منه سناً ولآبائه . وكلما كانت الجماعة التى يعيش فيها بسيطة كلما كان الدور الذى يقوم به الاحترام من جانب واحد مستمراً فى حياة الفرد ، كما يظهر احترام السن والكبار عند الجماعات البدائية . وبدون هذا الاحترام الجانبي فإن الإنسان لا يستطيع أن يري كيف أن الاخلاق والمنطق الخاصين بالقسر الاجتماعي والامتثال يمكن ان يظهر إلى عالم الوجود . وكذلـك فى دائرة الاخلاق نجد أن مثل هذه الحقائق كالالتزامات الدينية والحرمات وكذلـك الواقعية الأخلاقية والمسئولية الموضوعية لا يمكن أن تظهر دون قيام الاحترام الذى يحسه الطفل بالنسبة للراشد . ولكنا نستطيع أن نتقدم قليلاً ونفرض أن الظواهر البارزة ” للعقلية البدائية ” يمكن أن نشرحها عن طريق الاتصال بين عقلية الطفل وآثار القسر الذى يقوم به كل جيل على الجيل الآخر ، فالعقلية البدائية يمكن أن تعزى إذن القسر الاجتماعي الذى انحرف داخل عقل الطفل (1) . أما فى مدنيتنا الحاضرة, على العكس من ذلك, فإنه نظرًا لأساسها القائم على التعاون والاختلاف الفردي نجد أن العقلية مركزية الذات عند الطفل تندر جدًا ضمن ظاهرات اجتماعية أساسية إلا فى حالة تلك التى تكون “البقايا الصالحة” كما سماها دوركايم أو “المتخلفة بالنسبة للحالة القائمة في المجتمع”, فتطور العلوم والصناعة, وتقسيم العمل, والأخلاق العقلية, والآراء الديموقراطية – كل هذا يظهر أنها غزوات عديدة لا صلة لها بقسر جيل على جيل، وهى تنتج مباشرة من التعاون مستقلة عن العمر الزمنى.

 

باختصار, فإن القسر الاجتماعي يمكن أن يعتبر من الناحية النفسية ناتجًا من قسر الراشدين على الطفل كنتيجة لهذا، فهو يقوم بتأثير “متماسك” على عقلية الطفل، وهذه النظرية تكتسب قوة لو أن القسر الاجتماعي لا يكفي لجعل الطفل اجتماعيًا بل يقوي مركزية ذاته، وقد بيّنا ذلك خلال بحثنا.  أما التعاون فهو في أساسه العلاقة الاجتماعية التي تميل لأن تتخلص من الظواهر الطفولية، وهذا يكفي للدلالة على أن التعاون بينما يشمل الحالة المثالية للتوازن التى يقترب منها القسر كله أدى التكاتف الاجتماعي إلى تحرير الأجيال الصغيرة فإنه يؤدي إلى نتائج تتعارض من الناحية النوعية مع القسر، كما أنه يبيّن أخيرًا أنه لو أردنا أن نتفق مع دوركايم فنميز بين الفكرة والعلة, بين ملاحظة العادة وملاحظة القواعد الأخلاقية, فإنه يجب فى الوقت نفسه أن نميز بقوة بين عملية اجتماعية كالقسر – وهي التي تكتفي باشتراط قيام نظام بين الأشياء – وعملية اجتماعية كالتعاون التى تفرض طريقة, وبذلك تسمح بتحرير ما ينبغي أن يكون من بين ما هو كائن.

 

والأن نعود إلى دراسة الناحية الأخلاقية من علم الاجتماع عند دوركايم.  ويجب أن نميز بين جزأين هما نظرية الواجب – أو الالتزام الأخلاقي – ونظرية الخير – أو ذاتية الضمير.  أما بالنسبة لنظرية الواجب فليس لنا إلا أن نأخذ بنظرية دوركايم, على الأقل من ناحية علم الاجتماع الإحصائي.  ويظهر أنه لا يوجد أى اعتراض علي أن مجموعة الواجبات في مجتمع ما يحددها تركيب هذا المجتمع، ولا على أن الحالة الخاصة بالواجب (الشعور بالالتزام) ترتبط بالقسر الذي يفرضه المجتمع على الفرد ولكن من الناحية الأصلية يمكن أن نؤكد أن القسر الذي يقوم به الراشد على الطفل يكفي لإيجاد إحساس بالواجب في عقل الأخير وأن يقوم بذلك مستقلاً عن القسر الذي يخضع له الراشد من ناحية المجتمع كله ولكنا لا نعتبر هذه الحقائق مناقضة لنظرية دوركايم مهما كان رأى دوركايم نفسه في هذا الموضوع.  لذلك فليس من الضرورى أن نستزيد من دراسة هذه النقطة أكثر من ذلك لأننا سنتناولها مرة أخرى مرتبطة بنظرية بوفيه.

 

أما فكرة الخير الأخلاقية فيظهر أن فيها صعوبات ناتجة من هذه العلاقات القائمة بين القسر والتعاون هي التي تحدثنا عنها منذ قليل.  وقد كان دوركايم على حق حين بدأ مبينا أوجه الخلاف بين الخير والواجب، وقد ذكر وجهي الحياة الأخلاقية بشكل مختلف تمامًا بحيث لا يمكن إلا أن يتميزا.  ومع ذلك فإنه بعد قليل وحّد بينهما تقريبًا بنفس القوة التي فصل بها بينهما من قبل.  وهو يري أن كل عمل أخلاقي يشارك فى كل من الالتزام المرتبط بالواجب والرغبة التى تميّز ما هو خير.  وهاتان الفكرتان قد وصلتا إلينا على اعتبارهما من أساس مشترك هو الخير والواجب، وهذا قد جاء من الإحساس “بالتقديس”.  فالتقديس يصبح  شيئا مرغوبًا فيه، وكذلك المجتمع نفسه.  فليس التقديس سوى أحد آرائه.

 

والواقع أن هذا الأصل المشترك هو الذي يوضح البحث في نظرنا.  حقًا, ليس هناك إحساس بالواجب دون رغبة، أى دون إحساس معين بالخير.  وسبب ذلك واضح : فالاحترام من جانب واحد الذي يوجد وراء كل إدراك للوحدة يتكون من مزيج مركب من الخوف والحب، وبالتالي فهو يتضمن عنصرًا من عناصر الرغبة والعكس غير صحيح, فالأعمال قد تكون خيرًا ومع ذلك فهي خالية من أي عنصر من عناصر الالتزام (1) على انه يوجد أفراد أشار إليهم دوركايم نفسه وهؤلاء يعنيهم الخير أكثر من الواجب, كما أن العكس صحيح أيضا.

 

شرح دوركايم هذه الفروق الفردية بشكل يجعلها منسجمة مع نظريته فقال إن “كل فرد يعبّر عن الأخلاق عامة بطريقته الخاصة” فكل يفهمها ويتخيلها من زاوية مختلفة وربما لم يكن هناك عقل يلم إلمامًا تامًا بأخلاق عصره (ص 56 Socet Phil) وينتج عن هذا قيام “أخلاق عامة” في المجتمع ينظر إليها الأفراد المختلفون كل على حسب وجهة نظره, وهذا يوضّح لنا لماذا كان الخير والواجب لا ينفصلان في عالم الواقع فلكل فرد الحرية في أن يفضل إحدى ناحيتي الحياة الأخلاقية أو الأخرى؛ وهذه الناحية تصبح إذن قابلة للنقصان من الناحيتين.

 

ولكن يجب علينا أن ندرس بدقة هذه العاقات القائمة بين الأخلاق المشتركة والأفراد لأن هنا الميدان الذي تقوم فيه الجماعة بدورها في تكوين الآراء الأخلاقية.  فإذا كان عدد السائحين يتسلقون جبلاً أو يكتشفون جزءًا من دولة فإن الإنسان يستطيع أن يقول إن وجهات نظرهم كأفراد ليست دائمة لأن يستطيعوا رؤية كل ما يمكن رؤيته هناك أو رؤيته في وقت واحد.  فإذا كانت الأخلاق العامة تتكون من موضوع خارجي عن الأفراد فمما لا شك فيه أن العقول المتفرقة لا تكون كافية دائمًا؛ وإن وجهات النظر الخاصة تختفي فقد في إطلاقة مثل هذه الواقعية.  ولكن هناك حل آخر يظهر أن دوركيم لم يتصوره وهو أن “الأخلاق العامة لا تقوم في شيء جاء إلى الأفراد من الخارج وإنما تقوم فى مجموعة من العلاقات بين أفراد”.  ولهذا فإن الأخلاق العامة يمكن أن توصف بأنها مجموعة من القوانين النظرية التي تعين الإنسان على أن ينتقل من وجهة نظر إلى أخرى, نتيجة لذلك فهي تسمح للإنسان أن يضع خريطة أو يقوم بتمثيل الجبال أو البلاد تمثيلاً موضوعيا.  وفي هذه الحالة يمكن أن يكون كل منظر فردي مختلفا عن المناظر الأخرى ولكنه في الوقت نفسه كاف ويسهل أن يتطابق مع الكل.  حقيقة أن هذا الكل مركب إلى أقصى حد وأن ضمائر الأفراد قد تكون كافية بالمعنى الأول من هذا الإصطلاح ولكن المهم أن المعنى الثاني يجب أن يشارك في الحقيقة.  وهذا ما نعتقد أنه يحدث فعلاً.  إذ بينما  نجد الواجب يشمل مجموعة من الأومر متحدة تقريبًا في كل حالة فإن الخير يتطلب بالإضافة إلى هذا تعيين حد للتنقية الشخصية والذاتية، ومعنى ذلك بالتأكيد أنه يمكن شرحه عن طريق التعاون وأنه أبعد ما يكون عن أن يكون نتيجة للقسر.

(1)وطبعًا نحن لا نرمي من وراء قولنا هذا إلى أننا نريد العودة إلى الحالة السيكولوجية السابقة للحالة الاجتماعية، ولكنا نريد أن نبيّن أنه في داخل الإطار الاجتماعي نجد أن كل شيء يمكن رده إلى التحليل.  وفي وقتنا الحاضر نجد أن التعاون بين الدراسات الاجتماعية والبحوث السيكولوجية أكثر كثيرًا من التعارض بينهما.

(1)يري دوركايم ( ص65  Sociologie et Philosophie) أن “ليست الأعمال الأخلاقية  مرغوبًا فيها تمامًا لأنها دائمًا ما تتطلب بذل الجهد.”  ولكن المجهود ليس ضروريًا أن يكون هو الالتزام نفسه.

#كمال_شاهين

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.