الحكم الاخلاقي لدى الطفل 26 ونظرية دور كايم

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

Authority9.jpg

 

.الحكم الأخلاقي لدى الطفل   – 49

 

2- نظرية دوركايم عن السلطة الأخلاقية

مقدمة

التربية الأخلاقية عند دوركايم التي لفتت إليها الأنظار التي تصطبغ بصبغة علمية.  هذه التربية تثير يقينا أصعب مسألة علينا أن نواجهها فى تفسير حقائق علم نفس الأطفال.  يرى دوركايم أنه كلما وجدنا نزاعًا بين نوعين من العلاقات الاجتماعية فإنه يجب أن نؤكد وحدة هذه الحقائق الأخلاقية والاجتماعية.  حقيقة أن أحدًا لم يلم بالأسس الاجتماعية العميقة للنزاع بين الأخلاق المستقلة والسامية كما ألم هو بها.   ولكن بينما نعتقد نحن أن الأولى قد تكونت نتيجة الاتحاد بين الأطفال أنفسهم والثانية قد تقدمت من قسر الراشد للطفل، نجد أن دوركايم يعتبر الأخلاق كلها مفروضة على الفرد من الجماعة ومن الراشد على الطفل.  نتيجة لذلك, من الناحية التربوية, أنه بينما نميل نحن نحو مدرسة “النشاط” و”الحكومة الذاتية” ونرى في ذاتية الطفل الوسيلة التربوية الوحيدة التي يتوقع أن تنتج أخلاقا معقولة نجد أن دوركايم يدافع عن نظام هو في الواقع النظام التربوي التقليدي ويعتمد على طرق تقوم في أساسها على السلطة رغم الظواهر المخففة التى أدخلها فى هذا النظام لكي تسمح بحرية داخلية للضمير.

 

وقبل دراسة التربية الأخلاقية فلنبحث قليلاً في علم الاجتماع الأخلاقي إجمالاً كما يراه دوركايم ذلك أن آراء دوركايم عن الطفل لا يمكن فهمها عن غير طريق علم الاجتماع العام عنده . ولما كانت آراؤه عن الطفل تشبه تمامًا الآراء والتربية السائدة فإن علينا أن ندرس هذه الآراء بدقة إن أردنا دعم نظرياتنا فى هذا الموضوع.

 

كتاب “تقسيم العمل الاجتماعي” لدوركايم، وهو بلا شك أقل كتبه من الناحية المنطقية وأغناها من ناحية الاحتمالات النظرية.  وفي هذا الكتاب كان حذرًا أكثر مما كان عليه في كتبه التالية فيما يتعلق باتحاد الحقائق الاجتماعية وبالتالي اتحاد الحقائق الأخلاقية بعضها مع بعض.  فهناك نوعان من المجتمعات: فمن جهة نجد المجتمعات المنقادة واتحادها متقطع أو آلي، ومن جهة أخرى هناك مجتمعات تختلف من الداخل بواسطة تقسيم العمل وقيام اتحاد عضوي.  الأولى خالية من الحرية الشخصية، والثانية تميز نمو كرامة الفرد واتساعها.  التباين الاجتماعي, إذن, هو ظاهرة حديثة ولذلك يصعب تعريفه.  وهو عرضة لهدم عاداتنا وقواعدنا الأخلاقية.  وعن طريق إحداث كسر في الامتثال التقليدي فإن التباين يؤثر في الإيمان الديني المرتبط بالامتثال.  ولما كانت الأخلاق في مجتمعات النوع الأول تعتمد على الدين والظواهر الخارجية للدين فإن واجبنا أن نعمل على خلق نوع جديد من الأخلاق لأنفسنا وبذلك نفقد توازننا فنحتاج إلى ما يقابل الاتحاد الخارجي الذي ينتمي إلى الامتثال.  ذلك أن ما نفقده فى القسر المادي للنظم التقليدية يجب أن نحصل عليه عن طريق الأخلاق الداخلية عن طريق الاهتمام الشخصي بالاتحاد.

 

وعلى أساس هذا العرض للموضوع يبدو أن الضغط الاجتماعي يظهر فى حالتين مختلفتين هما : القسر الخالص كما يسمي في المجتمعات الممتثلة، والواجب الداخلي في التعاون.  وعلى أية حال يظهر في أشكال غالبًا مضادة تبعًا لانتمائها إلى الغيرية الموجودة في الامتثال الإجباري، أو إلى الذاتية التي تنتمي إلى الشخصية الموجودة في المجتمعات العضوية المتباينة.  ويميل دوركايم في كتبه الأخيرة إلى أن يرجع أهمية القسر والتعاون إلى الاتحاد، وفوق ذلك كله إلى أن يصوغ شرحًا موحدًا لتحليلاته للنواحي المختلفة للأخلاق.

 

وفي حالة القسر نجد دوركايم قد وسع تعريفه لهذا اللفظ حتى شمل كل ظاهرة اجتماعية أيًا كانت.  فسواء كان يتحدث عن الجاذبية الداخلية التي يحس بها الفرد تجاه المثل الإنسانية العامة أو كان موضوع حديثه هو القسر الذي يقوم به الرأي العام أو الشرطة، فذلك كله لديه قسر.  و”خارجية” الظاهرة الاجتماعية تعطي مجالاً لمثل التعميمات، فالقواعد المنطقية والأخلاقية هي قواعد خارجية عن الفرد، بمعنى أن عقل الفرد لا يستطيع أن يعزلها دون معاونة.  وهكذا هي الدلالات اللفظية, أو الرموز الصوفية, أو القيم الاقتصادية, بمعنى أن ليس في قدرة الفرد أن يغيرها وفق إرادته.  وباختصار فإن المجتمع هو دائمًا والفروق بين التعاون والامتثال الإجباري هي في الدرجة أكثر منها في النوع.

 

والأخلاق تدرس بنفس الطريقة، فالأخلاق قد تولدت من الدين، فالأعمال الإجبارية كانت أول الأمر مقدسة لأنها جاءت عن فكرة التقديس.  وكما أن الأشياء المقدسة هي تلك التي توحي بكل من الخوف القائم على الاحترام والوجدان الخاص بالاستمالة، فكذلك الآراء الأخلاقية تمثل ناحيتين لا يقبلان الجبر والانقسام، هما : الالتزام والواجب من جهة، والإحساس بالخير أو بمثل أعلى مرغوب فيه من جهة ثانية.  ثم إنه كما أن التقديس يؤدي إلى وجود محرمات دينية وأوامر إيجابية فكذلك الأخلاق تحرم وتجبر دون إبداء الأسباب، فالأوامر الحتمية, إذن, هي نتيجة مباشرة للقسر الاجتماعي، أما موضوع الأخلاق ومنبع الاحترام فلا يكون إلا في المجمتع نفسه بعيدًا عن الأفراد ولكنه أسمى منهم.

 

وعلى أساس نظرية دوركايم – أي شرح الأخلاق عن طريق الحياة الاجتماعية وتفسير تغيراتها على أساس التغيير الذي ينتاب تركيبة المجتمع – فإن من الطبيعي أن نتفق مع المدرسة الاجتماعية وذلك لاتفاقها مع نتائج بحثنا، فقد وجدنا أن العناصر الفردية الخالصة للأخلاق يمكن أن نتبع آثارها حتى نصل إما إلى وجدان الاحترام الذي يحسه الصغار بالنسبة للكبار، وهذا ما يشرح لنا طبيعة الضمير والواجب.  أو الإحساس بالمشاركة الوجدانية الذي يحس به الطفل تجاه من يحيطون به؛ وهو الذي يجعل التعاون ممكناً.  فالميول الفردية وغيرها مما يرتبط بها من قريب أو من بعيد هي لذلك حالة ضرورية ولكنها ليست حالة كافية لتكوين الأخلاق, فالأخلاق تستلزم قيام قواعد تنمو على الفرد، وهذه القواعد لا تنمو إلا عن طريق الاتصال بالناس الآخرين، ولهذا فإن الآراء الأساسية لأخلاق الطفل تتألف من تلك التي فرضها الراشد وتلك التى تنتج من الزمالة بين الأطفال أنفسهم.  ففي الحالتين – أي سواء أكانت مقبولة تحت ضغط أم بمحض الحرية – فإن هذه الأخلاق اجتماعية وفي هذه النقطة نجد أن دوركايم كان مصيبًا من غير شك .

 

ولكن المسألة لا تنتهى هنا، فقد بقي أن نبحث ما إذا كانت وحدة الحقائق الاجتماعية التي فرضها دوركايم ليست بحيث تسلب من الأخلاق أهم مميزاتها الأساسية والنوعية وهي الذاتية السامية فالخطر في الشرح الاجتماعي الذى كان دوركايم أول من لاحظه هو أنه قد يعرض الأخلاق لخطر الاتحاد مع علل الدولة ومع الآراء الشائعة أو الآراء المحافظة الجماعية, باختصار, مع كل شيء هاجمه عظماء المصلحين باسم الضمير ولا نظن أن الحل الذي وضعه دوركايم لهذه المشكلة العويصة مما يقضي على شكوكنا؛ لذا نستميح القارئ عذرًا إذا أطلنا بحث هذه المشكلة التي طال بحثها، فهي مشكلة رغم ما يبدو فيها من تناقض ولكنها في غاية الأهمية في علم نفس الأطفال وقد برهن دوركايم على أهميتها ولذلك يجب ألا نخشى ذكر حقائق أولية في محاولتنا القضاء على كل سوء فهم يُحتمل حدوثه.

 

ويبدو أن دوركايم لم يقرر شيئا نهائيًا في هذه النقطة؛ ففي بعض فقراته كان يفرد القيمة الأخلاقية للفكرة السائدة لمجرد أنها فكرة سائدة : ” العلاقة بين العادة والعمل الأخلاقي هي بحيث يمكن أن نقول إن كل عادة جماعية تتضمن نوعًا من الصفة الأخلاقية, فبمجرد أن يصبح نوعًا من السلوك عاديًا في جماعة فأي ابتعاد عنه يؤدي إلى إثارة دافع بعدم الموافقة، وهذا الدافع مماثل تمامًا لذلك الذي يبدو مصاحبًا للأخطاء الأخلاقية الخالصة، فمثل هذه العادات تتطلب احترامًا نوعيًا من النوع الذي يوجه نحو الأعمال الأخلاقية.  ولكن بينما نجد أن ليست كل العادات الجماعية أخلاقية فإن كل الأعمال الأخلاقية هي بلا شك عادات.  لذلك فإن كل تأثير على العادة يستطيع أن يكون كذلك بالنسبة للأخلاق”. (ص 31) (Education Morale).  ولكنه في مواضع أخرى وفي فقرات سنقتبسها الآن لأن تشرح المثل الأعلى عند دوركايم شرحًا أحسن من تلك التى يدافع فيها عن “العادة الجماعية”.  في هذه نجد أن دوركايم يقول عكس ذلك تمامًا : “يبدو أنه على أساس هذه النظرية قد يخضع العقل للفكرة الأخلاقية السائدة، إلا أن الأمر ليس كذلك لأن المجتمع الذي تدعونا الأخلاق إلى الرغبة فيه ليس هو المجتمع كما يبدو لنفسه ولكنه المجتمع كما هو فعلاً أو كما يميل لأن يكون.  وقد يحدث أن شعور المجتمع بنفسه المتضمن في الفكرة أو خلالها قد يكون تفكيرًا غير تام للحقيقة من ورائه.  والرأي العام قد يكون فوضويًا مما يجعله متخلفا عن الحالة الفعلية للمجتمع” (ص 51) Sociologie de Phlosophie.  وأكثر من هذا كله أهمية, أن دوركايم في رده على نقد M.parodiبارودى لم يتمهل فيوضح مثل     “المجتمع الفرنسي للفلاسفة” Société francaise de Pbilosophie  أنه على أساس هذا النظام الأخلاقي فإن ضمائر الأفراد العظام كانت على صواب حين دخلت في صراع مع الرأي العام, وقد يقال مثلاً إن الرأي العام في أثينا قد حكم على سقراط بالإعدام مع أنه كان على صواب ولم يكن الأثينيون كذلـك الآن “سقراط تحدث في أمانة فاقت أمانة القضاة عن الأخلاق التى تناسب المجتمع فى عصره”. (الكتاب السابق ص 93)

 

ومن الواضح أنه يجب أن نختار بين هذين الحلين، ولكن هذا ما لا يسمح به دوركايم لأن الاختيار سيبت في الوقت نفسه في مشكلة القسر والتعاون، ذلك أنه إما أن المجتمع واحد وأن كل العمليات الاجتماعية بما فيها التعاون يجب أن يستوعبها القسر الخالص وحده، وإما أنه يجب التمييز بين المجتمع الفعلي والمجتمع المثالي, أى بين “الفكرة” والمجتمع كما هو “فعلاً يميل إلى أن يكون”.  وعلى أية حال فإن الإنسان يميل إلى التمييز بين القسر والتعاون بشكل أساسي أكثر مما رغب دوركايم أن يقوم به وذلك لكي يضع القيم الأخلاقية فوق ظروف الحالة.

 

والآن نتساءل : كيف يكون من الممكن التمييز بين المجتمع كما هو وبين المجتمع كما يميل لأن يكون فى نظم الامتثال الإجباري.  أي حيث يسود القسر الاجتماعي غير الراشد نجد أن مثل هذا التمييز لا يمكن التفكير فيه ، فهناك مجموعة من العقائد والأعمال يتسلمها الفرد والأخلاق تدعو إلى الاحتفاظ بها كما هي. وقد ينال الطرق المستعملة بعض التغيير الإجباري وبذلك يقدر الاعتداء الذي قد يحدث بين الطرق الجديدة والتقليدية ويكون المثل الأعلى في هذه الحالة قد  طرحه الإنسان وراء ظهره ولم يعد يضعه نصب عينيه؛ ذلك أن ما فرضه القسر هو نظام من القواعد والآراء قد نظم فعلاً فعليك أن تأخذ به أو تتركه، أما أي شكل من أشكال الجدال أو التفسير الشخصي فهو معارض لفكرة الامتثال لهذه القواعد.  أما المجتمعات المتغيرة كمجتمعاتنا فإنها على العكس من ذلك نلاحظ فيها قيام علاقات جديدة بين الأفراد, وبذور هذه العلاقات كانت تقوم عند الجماعات البدائية وبخاصة فى المسائل المتعلقة بالعمل الفني وفي خلال تكوين الجماعات منها مجتمعنا الحاضر اتفقوا لا على الاحتفاظ بطقوس وعقائد بقدر ما اتفقوا على تطبيق “طريقة” أو مجموعة طرق, فكل ما يؤكده الإنسان يحققه الآخرون، وكل ما يعمله الإنسان يدرسه الآخرون ويختبرونه، فروح السلوك التجريبي سواء أكان عمليًا أم فنيًا أم أخلاقيًا يتألف من العقائد الشائعة، بل من القواعد ذات الضبط المتبادل، فكل إنسان حر في إدخال مستحدثات على شرط أن ينجح فى أن يجعل نفسه مفهومًا عند الآخرين وأن يفهمهم.  وهذا التعاون الذي لابد أن يسمح به مازال في كثير من الجهات أبعد ما يكون عن السيادة على القسر الاجتماعي مع أنه يتضمن المثل الأعلى للجماعات الديموقراطية.  وهذا التعاون هو الشيء الوحيد الذي يسمح بالتمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، ذلك أن لفظ “طريقة” يتضمن وضع عدد من الحقائق الوقتية كما يتضمن أن هناك عددًا أكبر لم يكتشف بعد، وأن التقدم يعتمد على الإذعان لمعايير معينة.  وبهذه الطريقة تصان مميزات المثل، وعلى العكس من ذلك فإن روح القسر الاجتماعي والسلطة الخارجية هي توحيد ما هو كائن وما ينبغي أن يكون وهكذا نستطيع أن نرى الحالة المثالية للأشياء كما حققناها فعلا.

 

أمًا رفض دوركايم لقبول وجود أي فرق بين القسر والتعاون خلاف الفرق في الدرجة فذلك يجب أن يعزى إلى أن العمليتين مرتبطتان بسلسلة لا تنتهى من الصلات المتوسطة.  وقد بيّن في كتابة الأول أن نمو المجتمع حجمًا وكثافة قد أدى إلى تقسيم العمل كما أدى إلى أن الفردية والتعاونية قد سادتا على الامتثال الإجباري.  ويمكن أن نتوسع في هذه النظرية فنقول إنه في كل المجتمعات نجد أن الكلية الاجتماعية تقوم بالقسر على الأفراد وأن هذا القسر يأخذ شكل الاتحاد التعاوني في مدنيتنا على حين نجده يبقي محصورًا في دائرة الانتقال الإجباري في المجتمعات البدائية.  غير أن هذه الحقيقة المستمرة التى لا نريد أن ندحضها لا تتخلص من التناقض النوعي فى النتائج .  ويستطيع الإنسان أن يعتبر التعاون هو الحالة المثالية للتوازن التي يتجه نحوها المجتمع حين يبدأ الامتثال الإجباري أن ينكسر، وكلما قتربنا من هذا المثل الأعلى فإن صفة الحياة الاجتماعية تأخذ في الاختلاط في النوع عن الحالة البدائية ولو أن الحركة القائمة بين الحالتين ما زالت مستمرة.

 #كمال_شاهين

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.