الحكم الاخلاقي لدى الطفل 22

 

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

JUSTICE CHILD6.jpg

الحكم الأخلاقي لدى الطفل   – 44

 

العدل الموزع

والآن ننتقل إلى الأسئلة المتعلقة بما سميناه العدل الموزع في العلاقات بين الأطفال.   وقد درسنا في هذا الموضوع نقطتين بدا لنا أنهما فى غاية الأهمية, هما مشكلة الاختلاف في العمر, ومشكلة المساواة في حالة الأطفال من نفس العمر.   وها هما قصتان استخدمناهما لتحليل السؤال الأول :

 

القصة1

كان ولدان يلعبان الكرة فى الفناء، وكانت الكرة تذهب خارج الحدود تتدحرج في الطريق, وقد ذهب ولد من تلقاء نفسه وأحضرها عدة مرات، وبعد ذلك أصبح هو الولد الوحيد الذي يطلب منه إحضارها, فما رأيك فى هذا ؟

 

القصة2 

كان بعض الأولاد يتناولون الشاي على الحشائش.  كان مع كل واحد رغيف اشتراه ووضعه بجانبه ليتناوله بعد خبزه الأسمر، فجاء كلب في هدوء من خلف أحد الأولاد وأخذ رغيفه.  فماذا ينبغي أن يعمل؟ 

 

لسنا فى حاجة إلى تحليل طويل لكل نوع من الإجابات، فالأولاد كانوا متشابهين في طلب المساواة.  ففي القصة الأولى ليس من العدل أن نجعل الولد نفسه يقوم بالعمل دائمًا للمجموعة.  وفي الثانية يجب أن ينال كل فرد نصيبه من الخسارة, فيشارك كل منهم بنصيب متساو.  إذا كنا قد عنينا هذه الإجابات فما ذلـك إلا لأنها خاصة بقصتين متشابهتين.   أما حيث تكون الرغبة في المساواة في نزاع مع سلطة الكبار فإنه يجب أن نتذكر أن صغار الأطفال فى الغالب يضعون الحق فى جانب السلطة (الفقرة 5).   وها هي ذي بعض الأمثلة :

فال Wal (6) القصة 1   – ليس عدلاً.   – لماذا؟  – لأنه يجب أن يذهب ولد آخر.

القصة 2    – يجب أن يشاركوه.  – لماذا؟  – حتى يتساوى الجميع.

 

شما Schama (7) القصة 1   – ليس عدلاً لأنه كان يجب أن يطلبوا من الآخرين كل بدوره.   أما في حالة القصة الخاصة بالأب الذي كان يرسل أحد أولاده برسائل أكثر من الآخر فإن شما أجاب أنه عدل لأن الأب قال ذلك.  أما عن القصة 2 فأجاب أن على الآخرين أن يقتسموا معه حتى يقوم بجزء من العمل.   إلا أنه عندما سألناه – لمجرد أن نرى ما إذا كانت الرغبة في المساواة أقوى من السلطة – ولكن لو أن الأم لم تطلب أن يعطى أكثر من ذلك؟  أجاب أنه كان عليه أن يحول بين الكلب وبين الرغيف.  – وهل هذا عدل؟  – نعم, كان يجب عليه أن يكون حذرًا.   وإذا لم تقل الأم لم شيئًا, فماذا يكون العدل؟   – أن يقتسموا.

 

دل Dell (8) القصة 1  – ليس عدلاً, إذ كان يجب أن يذهبوا بأنفسهم.

القصة 2  – كان يجب أن يقتسموا.

 

روب Rob القصة 1  – كان على كل واحد منهم أن يذهب  في دوره.

القصـة 2   – كان عليهـم أن يقتسموا.   – ولكن الأم قالت إنه لا يجب؟   – ليس هذا عدلاً.

 

فسكا Fascha (10) القصة 1   – كان يجب أن يذهب ولد آخر.

القصة 2   كان على كل منهم أن يشارك بالنصف الولد الذى فقد كل ما معه.

 

وهكذا نكون قد حصلنا على كثير من أمثلة النمو التدريجي للمساواة (الفقرة 5) فلا حاجة بنا إلى الإطالة في بحث هذه النقطة.  ومع ذلك فقد بقي السؤال الخاص برأى الأطفال في الفروق فى السن وهل تعطى الأسبقية للكبار أم للصغارأم يعامل الكل سواء؟   وقد عرضنا القصتين الآتيتين على الأطفال :

 

القصة1

ذهب ولدان في نزهة جبلية وكان أحدهما كبيرًا والآخر صغيرًا, فلما جاء وقت الغداء كان قد بلغ بهما الجوع مبلغه, وأخرج كل طعامه من محفظته ولكنهما وجدا أن الطعام لا يكفيهما معًا, فماذا كان ينبغي أن يكون العمل؟   أن يعطى الطعام كله للولد الكبير, أم الصغير, أم يوزع بينهما بالتساوي؟

 

القصة2

كان ولدان يتسابقان (أو يلعبان الكريات إلخ ..) وكان أحدهما كبيرًا والآخر صغيرًا, فهل يجب أن يبدأ كل منهما من نفس المكان أم أن يبدأ الصغير من مكان قريب.

 

السؤال الثانى معقد لأن اللعبة منظمة، وبالتالى لها قواعد تقليدية، أما الأول فإنه يؤدي إلى رد فعل ذي أهمية خاصة؛ فالصغار من الأطفال يميلون إلى المساواة وإلا فإنهم يعطون الأسبقية بصفة خاصة لكبار الأطفال احترامًا لسنهم, أما كبار الأطفال فيميلون إلى المساواة وإلا فإنهم يعطون الأسبقية بصفة خاصة إلى الصغار شفقة عليهم.

 

جان Jan (7.5)  – كان يجب أن يكون نصيب كل سواء.  – ولكنهم أعطوا النصيب الأكبر للصغير.   فهل هذا عدل؟  – لا، كان يجب أن يكون نصيب كل سواء.  لكل النصف.   – أليس الصغار أكثر جوعاً؟  – نعم.  – لو أنك كنت الصغير فماذا كنت تفعل؟  – كنت أعطي نفسي النصيب الأقل وأعطى الأكثر للكبار.

 

نيف Nav (7.5)  – كان يجب أن يعطى الكبار النصيب الأكبر.   – لماذا ؟  – لأنهم أكبر.

 

فال Fal (7.5)   – كان يجب أن يعطى الولد الأكبر أكثر.  – لماذا؟  – لأنه أكبر سنًا.   – وإذا كنت أنت الصغير فهل كنت تعطي معظم الطعام للكبار؟  – نعم.  – وهل يجب أن يأخذوا هم أكثر أم أنهم يحتاجون إلى أكبر نصيب؟  – يجب أن يعطوا أكثر.

 

روب Rop (9)  – زيادة طفيفة للولد الكبير.  – لماذا؟  – لأنه أكبر سنا.  – أيهما يزداد جوعًا أثناء المشي: الصغار أم الكبار؟  – كلاهما سواء.  – لو خرجت للنزهة مع ولد في الثانية عشرة وكان معكما قطعة واحدة فقط من الخبز فماذا تفعل؟  – أعطيه معظمها.  – وهل ترى هذا حقا؟  – نعم, كنت أحب أن أعطيه معظمها .

 

وها هم أولاد يفضلون المساواة

فال Wal (7)  – يجب أن يكون نصيب الكل سواء.  – لماذا؟   ومرة أخرى كان هنا خمس قطع من الشيكولاتة فطلب الصغير ثلاثاُ فهل هذا عدل؟  – كان الأفضل أن يعطى كل واحد قطعتين ونصف.          – افرض أنك كنت تسير متنزهًا مع ولد وكنت أنت الأكبر سنًا واحتفظت لنفسك بالنصيب الأكبر.  فهل هذا عدل؟  – ليس عدلاً.

 

نس Nuss (10)   – كان يجب أن يقتسموا.  – ولكن الولد الصغير قال : “إني صغير فيجب أن آخذ النصيب الأكبر”, فهل هذا عدل؟  – ليس عدلاً.  – وإذا قال الكبير إن له الحق في النصيب الأكبر لأنه أكبر فهل هذا عدل؟  – يجب أن يكون نصيب كل سواء.   – أنت الآن في سن العاشرة.  افرض أنك كنت تمشي متنزهًا مع ولد في الخامسة عشرة وأعطاك معظم الموجود, فماذا كنت ترى؟  أن ذلك منه جميل وعدل؟  – قد يكون العدل أوفر لو أن كلاً منا تساوى مع زميله.

 

وأمثلة للإنصاف :

شمو Schmo (10)  – كان ينبغي أن يعطى الصغير أكثر لأنه أصغر.  –  لكنهما أكلا سواء, فهل هذا عدل ؟  – ليس عدلاً تامًا.

 

برا Bar (10)  – لكل منهما نصيب مساو للآخر. – لكن الصغير أعطى معظمه, فهل هذا عدل ؟   أما بالنسبة للعب فقد اختلفت الإجابات تبعًا لكون اللعب سباقًا أو كريات.   فالسباق نسبيًا مقنن, وهذا التحرر من القواعد يسمح بمحاباة الصغار.   أما في لعبة الكريات, فإن سلطة القواعد تعقد الإجابات.   فالصغار يطالبون بالمساواة لأنها قاعدة اللعب التي لا تنتهك حرمتها أما الكبار فيميلون إلى عمل استثناءات لمراعاة الصغار.

 

وهاك مثالان لإجابات طفلين صغيرين :

بري Bri (6)  في مسابقات الجري :  – يجب أن يعطى الصغير أسبقية البدء لأن الولد الكبير يستطيع أن يجري بسرعة أكبر من الصغير.   أما في الكريات فيجب “أن يكون الكل سواء”.  – لماذا ؟  – لأنه إن لم يجرِ كلاهما من نفس النقطة وقمنا بمراعاة الصغار فإن الله يجعل الأطفال الكبار يصيبون الكريات ويحرم الأطفال الصغار من ذلك.   أي أن تقديم استثناءات للأطفال الصغار مراعاة لضعفهم هو نوع من “الغش” الذي يعاقب الله من ارتكبه.

 

فال Wal (7)   في مسابقات الجري.  – في السباق يجب أن يضع الإنسان “الصغير إلى الأمام قليلاً”.  

أما في حالة لعبة الكريات, فعلى الكل أن يبدأ من عند “الخط”.  – لماذا ؟  – يجب أن تبدأ دائمًا من الخط.    

 

ها هو ذا مثال واحد من إجابة الكبار من الأطفال.

برا Bra (10)  فى السباق يعطي “برا” للصغار أسبقية البدء في سباقات الجري كما يطبق نفس القاعدة في حالة لعبة الكريات كذلك.   “لأن ذلك يحدث دائمًا حين يكونون أقل سنًا بمقدار سنتين أو ثلاث.”

 

 

ختامًا, يمكننا القول إننا وجدنا أن فكرة العدل تنمو مرتبطة بالعمر العقلي وكوظيفة له.   وقد ظهر خلال هذا القسم من البحث ثلاث مجموعات من الحقائق ترتبط كل واحدة منها بالأخريات.  هذه الحقائق هي:

الأولى: أن التبادلية تثبت عن طريق السن؛ فمقابلة الضرب بمثله خطأ عند الصغار لأنه محرم حسب قانون الكبار ولكنه عدل عند كبار الأطفال لأن هذا النوع من العقوبة يقوم بوظيفته مستقلاً عن الكبار وهو يضع “العقوبة التبادلية” في مستوى أرقى من “العقوبة التكفيرية”.

الثانية:  أن الرغبة في المساواة تزداد بازدياد السن.

الثالثة:  أن مظاهر التعاون – مثل عدم الغش أو عدم الكذب بين الأطفال – تنمو موافقة للميول التى ذكرناها.

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل   – 45

(7) خاتمة – فكرة العدل

في ختام بحثنا, يحسن أن ندرس الإجابات عن سؤال يجمع كل ما تحدثنا عنه.   سألنا الأطفال في بداية حوارنا, وفي نهايته, أن يعطونا هم أمثلة عما يعتبرونه ظلماً (1).   تألفت الإجابات التي حصلنا عليها من أربعة أنواع :

1-    سلوك مضاد للأوامر الصادرة من الراشد, مثل الكذب, والسرقة, ومقاطعة الحديث, إلى آخره.  باختصار كل ما هو ممنوع.

2-     سلوك مضاد لقواعد اللعب.

3-    سلوك مضاد للمساواة (مساواة في العقوبة وفي المعاملة).

4-    أعمال ظالمة مرتبطة بمجتمع الراشد (ظلم اقتصادي أو سياسي)

 

وقد دلت الإحصائيات الآتية بكل وضوح على أهمية السن :

  ممنوع  لعب عدم مساواة ظلم اجتماعي
سن6-8 64% 9% 27% ___
سن 9-12 7% 9% 73% 11%

 

وها هي ذي أمثلة يمتزج فيها ما هو عدل وما هو ممنوع :

في سن 6  “بنت صغيرة كسرت طبقاً”, “ثقبت بالونا”, “أولاد يحدثون ضوضاءً بأقدامهم أثناء الصلاة”, “يكذبون”, “أشياء غير صحيحة”, “ليس من العدل أن تسرق” إلى آخره.

في سن 7  “الحرب”, “العصيان”, “النزاع على لا شيء”, “الصراخ للاشيء”,  “المزاح”, إلى آخره.

في سن 8   “الحرب”, “الكذب”, “السرقة”, إلى آخره.

 

وها هي ذي أمثلة لعدم المساواة :

فى سن 6 “إعطاء كعكة كبيرة لواحد وصغيرة للآخر”, “إعطاء قطعة شيكولاته لواحد واثنتين للآخر”.

فى سن 7  “أم تحابي ابنتها الصغيرة فتعطيها أكثر من الكبيرة مع أنها ليست ظريفة”, “ضرب صديق لم يعمل لك شيئًا”.

فى سن 8   “شخص أعطى أنبوبتين لأخوين ولكن إحداهما كانت أكبر من الأخرى (وهذه مأخوذة من التجربة), “توأمتان لم تعطَ كل منهن نفس العدد من الكريز (أيضًا في التجربة).

فى سن 9  “أم تعطي قطعة كبيرة من الخبز لطفل دون آخر”, “أم تعطي كلبًا ظريفاً لأخت دون الأخرى”, ” عقوبة شخص بقسوة أكبر من الآخر”.

في سن 10   “حينما يقوم كل منكما بعمل واحد ولا تنالان عليه نفس المكافأة”, “ولدان يعملان وفق ما طلب منهما وينال أحدهما أكثر من الآخر”, “تأنيب طفل دون الآخر مع أن كلاً منهما قد عصى”.

في سن 11  “ولدان سرقا الكريز ولكن أحدهما عوقب لأن أسنانه صارت سوداء”, “قوي يضرب ضعيفاً”, “مدرس يحابي أحد الأولاد ويعطيه درجات أعلى”

في سن 12   “حكم متحيز”.

 

بعض أمثلة الظلم الاجتماعي.

سن 12  “معلمة تفضل تلميذًا لأنه أقوى, أو أذكى, أو أحسن زيًا”.

“غالبًا ما يفضل الناس اختيار أصدقاء أغنياء على الفقراء وقد يكون الفقراء أظرف”

” أم لا تسمح لبنيها بأن يلعبوا مع أولاد أقل منهم حسن ملبس”.

“أطفال يطردون بنتا صغيرة من اللعب لأنها أقل منهم حسن ملبس”.

 

وهذه الدلالات التلقائية لو أضفناها إلى بقية البحث لاستطعنا – على أساس إمكان التحدث عن مراحل للحياة الاخلاقية – أن نستخلص وجود ثلاث فترات كبيرة في نمو الإحساس بالعدل عند الأطفال : فهناك فترة تمتد إلى سن 7- 8 وفيها يخضع العدل لسلطة الراشد، ثم تمتد فترة بين 8-11 تقريبًا تسود فيها فكرة المساواة المتدرجة. وأخيرًا, تقوم فترة حوالى 11-12 يسود فيها العدل المتساوي مع تقدير لاعتبارات الإنصاف.

 

تتميز الفترة الأولى بعدم التمييز بين فكرة العدل وبين فكرة الظلم, أو بين فكرة الواجب وبين فكرة العصيان.   فكل ما يطابق ما تمليه سلطة الراشد فهو عدل.   والطفل حتى في هذه المرحلة يعتبر بعض أنواع المعاملة ظلمًا, وهى المعاملات التي لا يتبع فيها الكبار القواعد التي وضعوها للأطفال (مثال ذلك عقاب الطفل على خطأ سبق السماح له بارتكابه دون أي عقاب).   إلا أنه لو التزم الكبار بالقواعد التي وضعوها هم أنفسهم لنظر الطفل إلى كل شيء يقومون به على أنه عدل.

 

أما فيما يتعلق بالعقاب, فإن الطفل ينظر إلى كل عقوبة على أنها قانونية تمامًا, بل وضرورية لأنها تشكل الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق.   ذلك أن الكذب إن لم يعاقب عليه فإن الإنسان يسمح لنفسه أن يكذب إلى آخره.   وفي القصص التي أدخلنا فيها العقاب في صراع مع المساواة فإن الطفل الذي ينتهى إلى هذه المرحلة يضع العقاب فوق المساواة أيًا كان نوعها.    وفي اختيار العقوبات نجد أن العقوبة التكفيرية تتقدم على التبادلية, فالأساس الذي يقوم عليه النوع الأول من العقوبة لم يفهم تمامًا بعد عند الطفل.   أما في دائرة العدل الحلولي فإن أكثر من ثلاثة أرباع الأطفال دون الثامنة يعتقدون في عدل آلي ينبع من الطبيعة ومن الأشياء غير الحية, وإذا حدث أن قام صراع بين الطاعة والمساواة فإن الطفل عادة يميل إلى جهة الطاعة.   فالسلطة عنده لها الأسبقية على العدل.   وأخيرًا, فيما يتعلق بالعدل بين الأطفال, فإن الحاجة إلى المساواة قد بدأ الشعور بها فعلاً ولكن الطفل لا يذعن لها إلا حيث لا يوجد خلاف مع السلطة.   مثال ذلك عملية مقابلة الضرب بالضرب التي تعتبر عند طفل العاشرة مسألة بديهية من مسائل العدل فإنها تعتبر عند أطفال 6-7 سوء سلوك وإن كانوا يقومون بها في عالم الواقع   (يجب أن نتذكر أن القاعدة الغيرية ليس من الضروري أن تلاحظ في الحياة الواقعية).   من جهة أخرى, حتى في العلاقات بين الأطفال فإن سلطة الكبار منهم تتفوق على المساواة.   باختصار, نستطيع القول إنه في الفترة التي يكون فيها الاحترام من جانب واحد أقوى من الاحترام المتبادل, فإن فكرة العدل لا يمكن أن تنمو إلا في نواح معينة حين يبدأ التعاون في الاستقلال عن القسر.  أما في جميع النواحي الأخرى فإن العدل يختلط مع القانون, والقانون غيري خالص إذ هو من صنع الكبار.

 

أما الفترة الثانية فلا تظهر في مستوى التفكير والحكم الأخلاقي حتى سن 7 أو 8 ولكن من الواضح أن هذا يأتي متأخرًا قليلاً عما يحدث بالتطبيق.    تتميز هذه الفترة بنمو تدريجي للذاتية وأسبقية المساواة على السلطة.   ففي ميدان العقاب, نجد أن الطفل لم يعد ينقاد إلى فكرة العقوبة التكفيرية بنفس السهولة كما كان قبلاً.  أما العقوبة الوحيدة المقبولة المعتبرة قانونية فهي التي تقوم على أساس التبادلية.   أما الإحساس بالاعتقاد في العدل الحلولي فقد أخذ يتناقص, وأصبح العمل الأخلاقي يطلب لذاته مستقلاً عن الثواب والعقاب.   وفي ميدان العدل الموزع نجد أن قواعد المساواة لها السيادة.  وفي حالة النزاع بين العقوبة والمساواة نجد أن المساواة تتفوق على أي اعتبار آخر.  وهذا ما يحدث أيضًا في النزاع مع السلطة.   وأخيرًا, فإنه في العلاقات بين الأطفال نجد أن المساواة تتفوق بالتدريج كلما زاد العمر الزمني.

 

وحوالى سن 11-12 نجد أن اتجاهًا عقليًا جديدًا بدأ يظهر, ويمكن أن يقال عنه إنه يتميز بالإنصاف, وهو ليس نمو المساواة في اتجاه النسبية.   فبدلاً من أن ينظر الطفل إلى المساواة كوحدة فإنه ينظر إلى الحقوق المتساوية للأفراد فيما عدا الموقف الخاص بكل منهم.  يؤدي هذا في حالة العقاب إلى عدم تطبيق نفس العقوبة على الجميع ولكنه ينظر بعين الاعتبار إلى العوامل المخففة عند البعض.  أما في ميدان العدل الموزع فمعناه أن الطفل لم يعد يعتبر القانون واحدًا للجميع ولكنه يراعي الظروف الشخصية لكل فرد (مراعيًا الصغار).   وهذا الاتجاه العقلي نظرًا لأنه أبعد ما يكون عن إعطاء حقوق خاصة أو امتيازات ولذلك يؤدى إلى جعل المساواة أكثر تأثيرًا.

 

وحتى لو كان هذا التطور لا يشمل مراحل عامة، بل مجرد مظاهر تميز عمليات معينة ومحددة فقد قلنا ما يكفي، ولنحاول الآن تفصيل الأسس السيكولوجية لفكرة العدل وحالات نموها.   كذلك نعمل على التمييز بين العقاب والعدل الموزع لأن الاثنين يسيران معًا فقط حتى يهبطا إلى عناصرهما الأساسية.   ولنبدأ بالعدل الموزع, فنصيبه في النمو العقلي يظهر أنه يدل على أنه هو الشكل الأساسي التام للعدل نفسه :

والعدل الموزع قد ينخفض إلى مستوى آراء المساواة والإنصاف, وهذه الأفكار من ناحية فلسفة المعرفة لا نستطيع إلا أن نعتبرها في البداية إذا قصدنا بالبداية لا الأفكار الفطرية بل قصد بها قاعدة لا يساعدنا فيها العقل ولكنه يميل للتدقيق في معرفتها كما هي, فالتبادلية تفرض نفسها على التعليل العملي كما تفرض القواعد المنطقية نفسها من الناحية الأخلاقية على التعليل النظري.   أما من الناحية النفسية – وهي الناحية التى تدرس الأشياء كما هي لا كما ينبغي أن تكون – فإن القاعدة الابتدائية لا وجود لها سوى في حالة توازن فهي تشتمل على المثل الأعلى المتوازن الذي تتجه نحو الظاهرة.   أما السؤال في جملته فهو معرفة لماذا كانت الحقائق وهي كما هي ولكن شكلها التوازني هو كما وصفناه ليس شيئًا آخر.   وهذه المشكلة الأخيرة – وهي مرتبة على أساس السبب – يجب ألا تختلط مع الأولى؛ فهذه الأخيرة لا يمكن أن تحل بغير التفكير المجرد, وهاتان المشكلتان لا يمكن أن يتفقا إلا إذا أصبح العقل والحقيقة متساويين في الامتداد.   وفي الوقت نفسه يحسن أن نحصر أنفسنا في دائرة التحليل النفسي .   هذا وقد أصبح مفهومًا أن الشرح التجريبي لفكرة التبادلية لا يمكن أن يعارض بأي حال كونها ظاهرة ابتدائية.

 

من هنا فإنه لا يمكن أن نفكر أن فكرة المساواة أو العدل الموزع ذات جذور فردية وبيولوجية, وهذه ضرورية ولكنها ليست حالات كافية لنموها.   ويستطيع الإنسان أن يلاحظ عند الطفل في مرحلة متقدمة جدًا نوعين من الاستجابات يتبعان دورًا هامًا جدًا في هذه العملية الخاصة – أولاهما الغيرة وهي تبدأ مبكرًا جدًا عند الأطفال, فالأطفال فيما بين الشهر 8 ، 12 كثيرًا ما يظهر عليهم غضب شديد حين يشاهدون طفلاً آخر يتمتع بالرقاد على ركبة أمهاتهم أو حين تؤخذ منهم لعبة وتعطى لطفل آخر.  من جهة أخرى, يستطيع الإنسان أن يلاحظ في موضوع التقليد والتعاطف اللاحق استجابات غيرية وميلاً للمشاركة يظهران في وقت مبكر أيضًا, فقد يعطي طفل في شهره الثانى عشر لعبه إلى طفل آخر وهكذا ولكن مما لا يحتاج إلى بحث أن المساواة لا يمكن أن تعتبر نوعًا غريزيًا ولا منتجًا تلقائيًا لعقل الفرد ولكنها استجابات سبق أن أشرنا إلى أنها تؤدي إلى تعاقب الأثر والتعاطف تعاقبًا لا نظام فيه.   حقًا تمنع  الغيرة, طبعًا, الآخرين من الاستفادة منا والحاجة إلى الاتصال تمنع الذات من الاستفادة من الغير ولكن المساواة الحقيقية والرغبة الصحيحة للتبادل تتطلب قيام قاعدة جماعية هي نتيجة لحياة تقوم على أساس مشترك ولا بد أن يولد من تبادل أعمال الأفراد واستجاباتهم كل للآخر إدراك ارتباط ضروري متزن ومحدود بين كل من “الآخر” و”الذات”.   هذا هو التوازن المثالي الذي يشعر به بشكل غامض في كل نزاع وجميع حالات إقامة السلام ومن الطبيعي أن يتضمن تربية الأطفال بعضهم وبعض تربية تبادلية.

 

ولكن بحثنا يدل على قيام فترة طويلة من الزمن بين الاستجابات الفردية البدائية التي تعطي الحاجة إلى العدل فرصة الإبانه عن نفسها وبين الحصول التام على فكرة المساواة.   ذلك أنه لا يمكن أن يتجرد العدل فعلاً من انحرافاته العرفية قبل سن 10-12 وهي السن التي سبق أن رأينا قبلاً أنه فيها تصل جماعات الأطفال إلى أرقى مستوىً من النظام وتقنين القواعد.   هنا, كما في الحالات السابقة, يجب أن نميز بين القسر والتعاون, وتصبح مشكلتنا, إذن, هي ما إذا كان الاحترام الجانبي – الذي هو مصدر القسر – أو الاحترام المتبادل – الذي هو مصدر التعاون – هو العامل المرجح في نمو العدل المتساوى.

 

نحن نرى أنه في هذه النقطة بالذات لا يمكن أن تتعرض نتائج تحليلنا لأي شك, فالسلطة كما هي لا يمكن أن تكون مصدرًا للعدل لأن نمو العدل يتضمن الذاتية.   ليس معنى ذلك طبعًا لا يقوم بدور ما في نمو العدل حتى النوع الموزع منه.   فما دام الكبار يتعاملون مع الطفل على أساس التبادل ويؤثرون فيه بالقدوة لا بالأمر, فإنه يلعب في هذا المجال كما في غيره دورًا ذا أثر فعال.  إلا أن أهم أثر مباشر لنفوذ الكبار هو الإحساس بالواجب الذي وضحه بوفيه.   وهناك نوع من التناقض بين الخضوع الذي يتطلبه الواجب والذاتية الكاملة وجد أنه لا يمكن أن يخرج إلى الوجود إلا نتيجة اتفاق حر.   وسلطة الراشد حتى إذا قامت بدورها في تطابق مع العدل فإن لها تأثير مضعف لما تتضمنه روح العدل.   من هنا كانت الاستجابات التي لاحظناها بين صغار الأطفال الذين خلطوا ما هو عدل بما هو قانون, ونظروا إلى القانون على أنه كل ما تضعه سلطة الكبار.   والعدل متحد مع القواعد الموضوعة كما هي الحال في نظر كثير من الكبار نذكر منهم أولئك الذين لم ينجحوا في وضع ذاتية الضمير فوق التعصب الاجتماعي والقانون المكتوب.

 

ولهذا فإن سلطة الراشد ولو أنها قد تكون لحظة ضرورية فى التطور الاجتماعي للطفل غير أنها ليست في ذاتها كافية لخلق إحساس بالعدل فهذا قد ينمو فقط خلال التقدم الذى يحدثه التعاون والاحترام المتبادل فيبدأ من التعاون بين الأطفال ثم بين الطفل والراشد ويؤيد هذه النظرية أن الإنسان ليدهشه أن يري في مجمتع الأطفال كما هو في مجتمع الراشدين – ذلـك الامتداد الذي يسير فيه التقدم في المساواة جنباً إلى جنب مع الاتحاد “العضوي” ونقصد به نتائج التعاون ذلك أنا لو قارنا الجماعات التى يكونها أطفال 5-7 بمجتمعات 10-12 فإنا نستطيع أن نميز أربعة تغيرات مستقلة.  أولها أنه بينما نجد مجتمع الصغار يكون كلا لا شكل له وغير منظم الأفراد فيه جميعًا متشابهون, نجد أن مجتمع الكبار يكون وحدة عضوية ذات قوانين وتعليمات، وفي الغالب نجد نظامًا لتقسيم العمل (قادة, حكام, إلخ .. ) وثانيها أنه يقوم بين الكبار من الأطفال اتحاد أخلاقي أقوى مما بين الصغار؛ فالصغار مركزيو الذات تلقائيًا لا شخصيون يتنافسون وراء كل إيحاء يأتيهم ولكل تيار من تيارات التقليد, فالإحساس بالجماعة في حالتهم هو نوع من الاشتراكية الخاضعة للكبار ولأوامر الراشدين، أما الكبار فعلى العكس من ذلك نجد أن فكرة الحرمان من الحقوق تطبق على حالات الكذب والغش وكل ما يتعارض مع الاتحاد؛ فالإحساس بالجماعة إذن مباشر ومحافظ عليه.  أما التغيير الثالث فهو أن الشخصية تنمو بمعنى أن الجدل وتبادل الآراء يحلان محل التقليد المتبادل البسيط عند صغار الأطفال.  وأخيرًا فإن الإحساس بالمساواة أقوى بكثير عند الكبار عنه عند الصغار, فالصغار مازالوا بصفة مبدئية خاضعين لسيادة السلطة وعلى هذا فإن الرابطة بين المساواة والاتحاد هى ظاهرة نفسية عالمية وليست كما تبدو قاصرة على مجتمع الراشدين معتمدة فقط على العوامل السياسية.  وعند الأطفال, كما هو عند الراشدين, يقوم نوعان نفسيان من التوزان الاجتماعي : نوع يقوم على قسر السن فيبعد كلاً من المساواة والاتحاد “العضوى”  ولكنه يشق مركزية الذات عند الفرد دون أن يبعدها, وهو يقوم على التعاون ويعتمد على المساواة والاتحاد.

(1)فى الواقع أن هذا الاصطلاح ظلم injuspe غير معروف لدى الجميع ، ولكن يمكن أن يحل محله دائماً غير عدل Pas juste

 

#كمال_شاهين

#تطويرالفقهالاسلامي

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.