إعداد الصحابة لغياب رسولهم – 5

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

WEEKEND.jpg

 

إعداد الصحابة لغياب رسولهم – 5

 

ذكرنا في المقالات الأربع الماضية كيفية إعداد الله تعالى المؤمنين لإدارة شؤون الأمة وكذلك كيفية إعداد الأمة للمشاركة في الحكم وللدفاع عن الإيمان بالله تعالى الذي يخلصهم من مشاكل الدنيا وجحيم الآخرة. وفي هذه السورة الكريمة يعين الله تعالى يوم الجمعة عطلة أسبوعية للمسلمين كما عين يوم السبت من قبل عطلة أسبوعية للذين هادوا وأظن بأنه سبحانه هو الذي عين الأحد عطلة أسبوعية للذين قالوا نحن أنصار الله. لا يمكننا القول بأن المسيحيين كانوا يتخذون الجمعة عطلة ثم اتخذوا الأحد بدلا عنها. ذلك لأن العطلة الأسبوعية سنة عملية بين الأمم بقيت مع بقاء الأمم واستمرار اهتمامهم بدينهم.

كما لا يمكن القول بأن المسيح عليه السلام هو الذي عين الأحد عطلة. ذلك لأنه رسول وليس للرسل أي حق في تعيين مسارات أتباعهم بل عليهم إبلاغ الرسالات فقط. العطلة الأسبوعية مسألة مهمة جدا في حياة الإنسان ولم يتوصل البشرية إلى لزومها بصورة طبيعية إلا قبل عدة قرون فقط. ولعلهم فهموها كضرورة بعد الثورة الصناعية في الأرض أو ما عرف بعصر النهضة الأوروبية. نرى القرآن الكريم يتحدث عن أول عطلة أسبوعية أشهرها الله تعالى بين البشر وهو عطلة السبت لليهود. نراه سبحانه كيف فرض عليهم العطلة واعتبر من يخالفها أشباه القردة والخنازير وعبدة الطاغوت. بمعنى أن من يخالف أمره تعالى بالعطلة فهو يتراجع إلى الوراء حيث يترك إنسانيته ويصير مثل القرود والخنازير وعباد الشياطين. الإنسان يتطور مع تطور الكون وتحول الزمان وعليه أن ينسجم مع متطلبات الحياة المتجددة والعطلة ضرورة لا يجوز تجاهلها.

وعلى أن الله تعالى لم يفرض العطلة بالسيف ولكنه سبحانه أمر رسوله موسى بأن يهين من يخالف نظامه في تعيين العطلة لأنها ضرورة التطور الحاصل في ذلك اليوم وعدم اتباعها ظلم على الأمة وعلى أولادهم وعلى أنفسهم. العطلة هي اليوم الذي يجتمع فيه كل الناس رجالا ونساء وأطفالا ليقضوا ساعات مشتركة و يتبادلوا الأحاديث والمصالح والدعوات والانتقادات مع بعض حتى يبقوا راكبين عجلة التطور غير متوقفين وغير متراجعين إلى الوراء. الأرض تدور والزراعة تتطور والسماوات وكلما هو مرتبط بها تتقدم وتتقدم معها كل مسارات الحياة البشرية فعلى المختارين أن يتطوروا مع الطبيعة.

هل فكرتم في حكاية الشيطان مع أبينا وأبي كل البشر آدم. كان الشيطان حرا طليقا في الأرض يتحرك كيفما وأينما يشاء هو وأمثاله من مختلف أنواع الجن. لكن الأرض كانت تتطور والحيوانات كانت تتطور والأنعام كانت تستعد وتتحسن لحومها والزراعة كانت تعدل طبيعتها ليتوافق مع ظهور الإنسان الذي من أجله خلق الله تعالى الأرض. فعلى الجن وهي كائنات مختارة مثلنا ولكنها كائنات طاقوية لا يمكن للإنسان أن يتحملها، عليهم أن يتطوروا أيضا ليسايروا نظام ربهم. هناك محدوديات في المستقبل متوجهة إليهم فلهم أن يعيشوا ولكن مع ملاحظة القادمين الجدد في الأرض. تماما مثلما كان البشر أكثر حرية قبل عصر التكاثر العظيم الذي حدث قبل حوالي خمسمائة عام. لكنهم بعد التكاثر سوف يتحدد أماكن إقاماتهم وسوف يقدم لهم الهويات وجوازات السفر وتصاريح الإقامة وغير ذلك. وهكذا يوم العطلة فمن واجب الجميع أن يلتزموا بالعمل بنظام و يلتزموا بالعطلة المشتركة بنظام أيضا. والجمعة عطلة مشتركة للمسلمين وضرورية لبقائهم وبقاء كيانهم.

ولماذا تكون العطلة مغايرة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين ولا تكون موحدة؟ هذه الأديان سماوية مقبولة عند الرحمن ولا يجوز محاربتها والمساس بها. لم يأمر الله تعالى أحدا غير الرسل بالدعوة إلى دين الله. قال تعالى في سورة النحل وهي سورة تنطوي على أسرار كثيرة: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125). لم يأمر الله تعالى المسلمين بالدعوة إلى الله بل أمر الرسول وحده بقوله الكريم: ادع. ولم يقل سبيل الله بل قال سبيل ربك. ذلك لأن كل رسول مأمور بأن يدعو قومه ولو كانت رسالته عالمية لكل البشر. الرسالة من الله تعالى فيجب أن تكون لكل البشر إذ لا يفرق الله تعالى بين قوم من عبيده وقوم آخر من عبيده. فالرسول يدعو إلى ما يناسب قومه باعتبار أنه يدعوهم إلى سبيل ربه وهي أخص من سبيل الله تعالى.

لكن الغريب أن القليلين ينتبهون إلى مكان الآية الكريمة من السورة فهي أتت بعد الآية التالية: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124). نلاحظ بأن رب موسى جعل السبت لقوم موسى ورب محمد جعل الجمعة لقوم محمد وسر الدعوة في الآية التالية هي الدعوة إلى العطلة الإلهية للمسلمين فالآية العامة التالية تنطوي على خصوصية أيضا. تلك الخصوصية لا يمكن لأحد أن يقوم بها غير رسولنا. إنه وحده الذي يجوز له أن يعلن الجمعة يوم عطلة لنا بأمر الله تعالى. فهناك سر في أن الله تعالى أمر رسوله وحده بالدعوة إلى سبيل ربه. فغير الرسول ليس عالما بأسرار الإسلام وأما الرسول فهو مرتبط بالوحي والله تعالى يصحح له ويهديه تباعا باعتبار استمرار الوحي مع استمراره في الحياة.

وهناك سر آخر وراء ذلك السر وهو العطلة الأسبوعية المهمة عند الله تعالى والمختلفة مع بقية الأديان السماوية فليس صحيحا أن يعلنه أحد غير إمامنا الأكبر محمد عليه السلام. والآن دعنا نحلل العطلات الأسبوعية المختلفة.

الجمعة للمسلمين

السبت لليهود

الأحد للنصارى

أول دين سماوي عام هو ما يدين به الذين هادوا

ثاني دين سماوي عام هو ما يدين به الذين قالوا إنا نصارى

ثالث دين سماوي عام هو ما يدين به الذين سماهم إبراهيم مسلمين. وقال تعالى عدة آيات قبل آية الدعوة: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا ِلأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123). كل الأنبياء الثلاثة يتبعون ملة إبراهيم ورسولنا واحد منهم طبعا ولا ندري ما الذي قاله إبراهيم بشأن أقوام ابنه موسى وما قاله حول أقوام ابنه عيسى. فالفرق ليس في إبراهيم بل هناك فرق آخر وبسببه جعل عطلتنا قريبة من عطلة اليهود وبعيدة عن عطلة النصارى. ولم يترك الله تعالى العطلة مفتوحة بلا حساب بل عين فيها صلوات لكل الأديان الثلاثة. لقد حرم سبحانه على الذين هادوا أي عمل تجاري يوم السبت ولكنه حرم ذلك علينا فقط حين إقامة الصلاة يوم الجمعة فإذا قضيت الصلاة فلنا أن نبيع ونبتغي من فضل الله تعالى. تنطوي كل ذلك على أسرار دقيقة نحتاج لفهمها إلى دراسة عميقة ولكنني أكتفي بذكر بعض ما أعرفه أو أظنه بكل اختصار.

حينما تشعر الأمم بالحاجة إلى عطلتين متتاليتين بالأسبوع فإن اليهود سيعطلون السبت مع الأحد أو الجمعة كما يرونه مناسبا لهم. فيمكن لليهود أن يجتمعوا مع المسلمين في عطلة واحدة أو مع المسيحيين. اليهود لا يضرون أتباع أي من الديانتين لأن دعوتهم في الأساس دعوة عائلية متوجهة إلى بني إسرائيل وليست دعوة عامة لكل الناس. لكن المسيحيين والمسلمين يدعون كل الناس إلى دينهم. فرق الله تعالى بين عطلتيهم حتى لا يؤثر المسيحيون في المسلمين فيترك ضعاف القلوب دينهم كما لا يؤثر في المسيحيين فيترك ضعاف القلوب دينهم. لا يريد الله تعالى هذا النوع من التدين بل يريد أن يفكر كل إنسان بنفسه ويتخذ دينه بكل حرية.

ولا ننس بأن الله تعالى لا يجيز منع أحد من إقامة شعائره فلا يجوز للمسلمين أن يمنعوا غيرهم من إقامة كنائسهم وبيعهم. قال تعالى في سورة الحج: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41). وقال تعالى في سورة البقرة مخاطبا بني إسرائيل: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43). وقال تعالى للمسلمين في سورة المائدة: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55). فالله تعالى أمر بني إسرائيل وهم الذين أرسل إليهم موسى ثم عيسى عليهما السلام أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهم راكعون كما أمر المسلمين. ثم إنه تعالى مدح الصوامع والبيع والصلوات والمساجد لأنهم يذكرون اسم الله تعالى فيها كثيرا.

كل مؤمن بالأديان السماوية يؤدي صلاته بطريقته ولا يجوز منعه إلا بأمر من الله تعالى ولا نرى في القرآن أمرا بمنعهم من إقامة كنائسهم وبيعهم أو إقامة صلواتهم. ولا أظن بجواز منع غير السماويين من إقامة أماكن عبادتهم أيضا. فلو فعلنا ذلك فإنهم سوف يواجهوننا بالمثل فلا يمكننا إقامة شعائرنا في بلدانهم أيضا.

والجمعة عطلة للمسلمين ليتواصلوا معا ويصلوا معا ويتقووا باجتماعهم ويذكروا اسم الله تعالى لينسوا ذكر غير الله تعالى. نحتاج أن نتعلم بأن الأنبياء الذين نذكرهم أحيانا في صلواتنا فهو باعتبار الله تعالى الذي أرسلهم إلينا لنشكره على نعمة النبوة وليس باعتبار أشخاصهم. إنهم إخواننا ونحن نصلي لنشكر خالقنا لا لنشكر إخواننا. وحينما نقول في سورة الحمد: صراط الذين أنعمت عليهم؛ فنحن لا نأتي باسم الأشخاص الذين أنعم عليهم بل نأتي باسم الله المنعِم لا المنعَم عليه. نقيم الصلاة لنعبد الله لا لنعبد خلق الله. والواقع أن كل الدين وكل القرآن وكل الإنجيل وكل التوراة تشير إلى الله تعالى وتدعو إليه وحده. كل الأسماء التي نراها فهي باعتبار ما فعله الله تعالى فيها. ولذلك يقول سبحانه في سورة الأنفال:وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39). بالطبع تعلمون بأن قاتلوهم لا تعني اقتلوهم بل تعني بذل الجهد ضد أفكارهم وقد يصل حد الحرب والقتال العسكري. لكن الحكم ليس قتالا عسكريا بل محاربة الفكر فقط لأن الله تعالى يقول بعدها: وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40). فلا نرى في الآيتين الكريمتين حكما بالجلد أو بالقتل كما ظن قليلو العلم، وإن شئت قلت قليلو الإيمان. وجملة الدين كله لله يعني أننا لسنا مدينين لأحد غير الله تعالى.

فالعطل الأسبوعية ضرورية للاستراحة من عناء العمل كما هي ضرورية ليجتمع المؤمنون فيها ويذكروا الله تعالى ويتوسلوا به سبحانه ليهديهم الصراط المستقيم ويثيبهم جنات النعيم ويدفع عنهم كيد الكائدين في الدينا والعذاب المقيم في الآخرة. لقد فرضها الله تعالى على بني إسرائيل بقوة لأنهم كانوا قبل التطور البشري الكبير بعد ألفي سنة من ظهور موسى. لكنه فرضها على المسلمين بهدوء كبير فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10). لم يذكر الله تعالى العطلة وكأن البشرية أصبحت تشعر بالحاجة إلى العطلة فتقبلتها دون الحاجة إلى تشجيع وتخويف. لكنه تعالى تحدث عن صلاة الجمعة وأنها إذا نوديت لها وجبت. وظاهر الآية أنه تعالى لم يحرم التجارة إلا في ساعة الصلاة. ونحن اليوم في حياتنا العصرية نشعر بأننا نحتاج إلى أصحاب مطاعم وأماكن ترفيهية أن يمارسوا تجارتهم يوم الجمعة حتى نهنأ بجمعتنا. فالوضع الاجتماعي اليوم مغاير لما كان عليه أيام ظهور موسى عليه السلام.

فالجمعة تجمع المؤمنين بدين الله تعالى وتُظهر قوتهم العددية وتجمُّعَهم وتآزرهم وتعاونهم واجتماعهم على كلمة واحدة هي الله تعالى لا غير الله سبحانه. والسورة الكريمة تنطوي على مسائل مهمة أظن بأن سلفنا لم يلتفتوا إلى بعضها فلنتعمق في بعضها:

  1. بدأت السورة ببيان أن كل ما في الوجود سواء المدركين أو غيرهم فهي جميعا تسبح لله. والتسبيح لا تعني قول سبحان الله بل تعني التنزيه الطبيعي لكل الوجود تجاه القدوس جل جلاله. والتنزيه باعتبار أن كل شيء تسير سيرا طبيعيا حكيما مفيدا ومساعدا على التطور وعلى تجاوب المكلفين معها. فقال تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1). فهو ملك حكيم وهو قدوس لا يخطئ ولا يصيبه النسيان والضعف وهو غالب لا يقهر. فالكون يسير سيرا طبيعيا نحو التطور كما رأوا وكما نرى نحن اليوم ولسان حال الكون هو التسبيح للمدبر الحكيم.

  2. وهو سبحانه ضمن نظام التطور وبإرادة تشريعية منه سبحانه بعث في الذين لم يسبق لهم الثقافة الدينية كما سار عليه أهل الكتاب؛ بعث فيهم رسولا أميا منهم. قال ذلك سبحانه ليُفهِم الموجودين بأن الدين الجديد لا يحتاج إلى أن يأتي للمتدينين ليطورهم بل هو دين قادر بنفسه على خلق الحالة الطيبة الدينية للناس ولو كانوا في ضلال مبين. ولعل أحد أسباب إنزاله على غير العلماء من بني إسرائيل هو لإثبات قوة الدين السماوي الجديد. فقال سبحانه: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4). فهذا الدين قادر على تغيير الضالين من قبل وعلى مساعدة القادمين فهو لمن كان ولمن يجيء من بعد. ولا يسمح الله تعالى لبني إسرائيل أن يطمعوا في ما تفضل الله تعالى به أحد الأميين فالله ليس مدينا لهم وهو ذو فضل عظيم شامل لكل البشر وليس هناك شعب مختار بالمعنى الذي يقوله بنو إسرائيل.

  3. ثم بدأت السورة باللوم على بني إسرائيل وأنهم هم الذين خسروا عناية ربهم بأنهم تركوا التوراة بعد أن تعلموها فقال عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5). فما فائدة الكتاب السماوي لمن يتعلم ولا يعمل به وما هو قيمة التي يُفرض عليه حديث السماء فيحمله قسرا لعله يستمر في حمله ليكسب أجر ربه ولكنه لا يحمله بعد أن حُمِّل قسرا. فهو كالحمار الذي يحمل أحسن الكتب السماوية فهو حيوان لا يمكن أن يستفيد من الكتاب والذي لا يعمل بالكتاب فهو مثله في عدم العمل بالكتاب. هما سيان من حيث ترك التوراة لغيرهم سواء علموا أو كانوا حميرا لا يعلمون إلا قليلا. ثم يلومهم بأن ربهم لم يهدهم ضمن نظام الهدى لأنهم كانوا ظالمين فاستيلاء الضلال عليهم عقاب لهم.

  4. وكما قلت في البداية فإنه سبحانه أمر المسلمين بأن يكونوا كالذين قالوا إنا نصارى ولم يأمرهم بأن يكونوا كاليهود في سورة الصف ثم جاء دور اليهود ليوضح لهم بأن اليهود لا يستحقون أن يُقتدى بهم لأنهم يزعمون زعما باطلا فلا يغتر بهم الذين آمنوا من المشركين، فقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8). والآيات ترد عليهم ردا منطقيا صريحا فلا يمكن لليهود أن يتمنوا الموت من الله تعالى لأنهم يؤمنون به وقد يستجيب دعاءهم وهم يريدون البقاء في الدنيا وهم أحرص الناس على الحياة الزائلة وهم يعلمون بأنهم ليسوا أولياء لله من دون غيرهم.

  5. لكن بني إسرائيل موجودون ولا يمكن رميهم في البحر أو القضاء عليهم مهما كسب أعداؤهم القوة. قال تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168). ألا تعني الآية الأولى بأنهم سيكونون موجودين حتى يوم القيامة؟ ويوضح الله تعالى السبب بأنه سبحانه لا زال مريدا اختبارهم في مختلف الحالات. والواقع أن القدوس العزيز جل جلاله قسم موارد الاختبار الكبرى في أمتين في الأرض؛ هما بنو إسرائيل والمسلمون. فبنو إسرائيل يمثلون التجاوب الأسري مع الحقيقة خلال المسيرة التطورية للحياة الإنسانية حتى يوم القيامة والمسلمون يمثلون التجاوب القانوني مع قوانين الله تعالى خلال المسيرة التطورية حتى يوم القيامة. أظن بأنني وضحت هذه المسألة المعقدة في مقالاتي السابقة في مركز تطوير الفقه الاسلامي والمودة.

فكيف نتعامل مع بني إسرائيل؟ قال تعالى في الآية الأخيرة من سورة الجمعة: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11). ومن المضحك المبكي بأن زملائي المفسرين أو أكثرهم نقلوا قصة من خارج القرآن لتفسير هذه الآية الواضحة التي لم يفكروا فيها ليفهموها بأنفسهم دون الاستعانة بالقصص المفتريات. قالوا بأن الصحابة كانوا يصلون خلف رسول الله عليه السلام وفي وسط الصلاة سمعوا دقات الطبل من دحية الكلبي ليبلغ أهل المدينة بوصول قوافل الشام لعرض بضائعهم. هناك ترك المصلون الصلاة وهرعوا ليكونوا من السباقين إلى شراء ما يحلو لهم من بضائع الشام. بقي رسول الله لوحده قائما يصلي!

بالله عليكم هل هكذا كان صحابة رسولنا؟ هل هكذا كان أبوذر الغفاري وأبوبكر وعمر وعلي وعثمان وسلمان والمقداد وعمار ووو؟ ولنفرض صحة تلك الرواية الأسطورية فكيف يقولون بأن الصحابة كلهم عدول؟ فعلا كان سلفنا يتقبل المتضاد والمتناقض بكل سهولة ويسر مع الأسف. ما فائدة ذكر هذه الحكاية في سورة الجمعة ولما ذا لم يعذلهم ربهم؟ وكثير من التساؤلات التي أتركها للقارئ الكريم.

والواقع أن حديث السورة عن بني إسرائيل وهي تقول بأن من الخير لرسول الله ألا يزاحمهم في تجارتهم ولهوهم فإنهم يحبونهما وسوف يتركون الرسول قائما بالدعوة إلى رسالته دون أن يزاحموه لما فيه من مصالح مادية لهم. فالجملة الكريمة “إذا رأوا” تشير إلى بني إسرائيل المذكورين قبل ذلك في نفس السورة الكريمة. فإذا رأى الإسرائيليون فرصا تجارية أو فرص كسب في الألعاب والمسابقات فإنهم سينفضون إليها ويتركون رسولنا قائما. فقال سبحانه للرسول بأن يقول لقومه ولنفسه: ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة. فعلمهم ربهم بأن بني إسرائيل باقون شئتم أم أبيتم ولو أردتم الآخرة فاتركوا التجارة واللهو لهم فسوف لا يتآمرون ضدكم رعاية لمصالحهم المادية عندكم. والعلم عند الله تعالى.

وقبل أن أترك أحب أن أقول للذين يحاربون المغتصبين من بني إسرائيل بأن مقاطعتهم تجاريا غير مثمرة لنا بل تؤدي إلى أن يستعملوا مكرهم ضدنا أكثر من ذي قبل. علينا التعامل معهم ومنحهم نوعا من الاطمئنان بأنهم سيكونون في حل من منافستنا لهم. هكذا نأمن مكرهم وإلا فسنبقى هكذا حتى يقدر الله تعالى نصرا من نوع آخر عليهم وسوف يئن شعبنا من ظلمهم وقسوتهم. أتمنى أن يوفق الله تعالى شعبنا في فلسطين للتخلص من مكايد بني إسرائيل.

أحمد المُهري

11/6/2017

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.