يوم القيامة 1/5

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

بسم الله الرحمن الرحيم

يوم القيامة

مقدمات

 

doomsday5.jpg

(هذه مقالة طويلة قطعتها إلى خمسة أقسام معتذرا من القارئ الكريم ولكن طبيعة الموضوع فرضت علي ذلك)

نحن نشعر بأننا موجودون وأحياء بأبداننا لكننا نشعر بأن حياتنا غير ثابتة لا زمانا ولا مكانا ولا كيفية ولا شدة، فنحن معرضون للموت بالإمكان. وبما أن كل الذين سبقونا قد ماتوا وجدانا فنحن سنموت أيضا لأننا منحدرون عنهم وقد انحدر منا من هم مثلنا، ولا دليل على الشذوذ. هذه الحركة الدولابية تدل بوضوح أن الذي أوجدنا قرر أن نسير سيرا محدودا ثم نخلي المكان لغيرنا. والدليل على وجود الموجد وعلى الهدف من إيجادنا هو ما ذكره الله تعالى في نهاية سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴿36 أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ﴿37 ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴿38. وخلاصة تفسيرها بأن كل إنسان يحمل نفسا منفصلة عن نفسي أبويه على أنه منحدر فيزيائيا عنهما ويحمل بدنا يشبه بدنيهما. فلو لم يكن هناك موجد هادف سبحانه، لكان النتاج الجديد يحمل نفسا يشبههما على غرار البدن. وليس الناس هكذا. إنهم نفسيا، أكثر تطورا من آبائهم وأمهاتهم على الأغلب.

وبما أن الله تعالى حكيم وكل فعاله حكيمة فلا بد وأن هناك حكمة للحياة لفترة قصيرة محدودة يعقبها الموت لا محالة. وبما أننا بأنفسنا نملك قسطا من الحكمة والعقل فلا يمكن أن تكون حياتنا غير هادفة تنتهي بموتنا، بل تمتد إلى ما وراء هذه الحياة. وإن كتاب الله يرشدنا إلى أن كل إنسان أو جني يمضي فترة اختبار في هذه النشأة التي تحمل بين طياتها الموت، لينتقل بعدها إلى حياة أبدية تحتوي على كل شيء عدا الموت والإنجاب والتملك وكل المقومات المميِّزة للنشأة الفعلية.

ثم إننا نعرف بأن الله حكيم وغني أيضا وهو يملكنا ويملك كل ما هو في الوجود فلا يمكن بأي حال أن يُعيدنا إلى الوراء. ذلك عيب على المالك القادر وهو سبحانه لا يعمل غير الخير ويأبى كل عيب وتراجع. والدليل على أن القسر عيب هو أن كل تغيير من الحكيم لا بد وأن يكون لحكمة أو مصلحة. فلو كان التغيير باتجاه التقدم فهناك مصلحة صحيحة باعتبار كسب المزيد؛ ولكن لو كان التغيير إلى القهقري فلا مصلحة فيه بل سوف يكِنُّ الخسارةَ التي يأباها كل حكيم.

إذن فهو  سبحانه من جانبه يقودنا إلى الأمام دائما وأبدا وكل تراجع فهو منّا. إنه تعالى لا يبخل علينا بالنصح وقد أهدانا أجمل كتاب ممكن ليعلمنا طرق الخير ولكننا اتخذنا رجال ديننا و أحبارنا ورهباننا مرشدين من دون القرآن فكان من نصيبنا التراجع الاختياري وليس القسري. فحينما نموت فإننا سوف ننفصل بأنفسنا عن البدن، وليس الموتُ إلا وسيلةً للانتقال إلى عالم أوسع وأكبر بكثير مما نحن فيه. مثالنُا مثال الذي يحزم أمتعته الشخصية متخليا عن بيته القديم لينتقل إلى بيت خيرا منه نزلا وأحسن رِئيا. فكيف ومتى يتم هذا الانتقال؟

الحياة:

كل النباتات تملك الحياة بدليل نموها وكل مجموعة نباتية تملك حياة لشخصها أيضا. فيمكن قطع أغصان بعض الأشجار الحية وزرعها في الأرض فتتفاعل مع مكونات النبات من ماء وطاقة وعناصر أرضية وتنمو وتتحول إلى شجرة تشبه الشجرة الأم. وهكذا الحيوانات بما فيها البشر. فكل خلية تتحلى بنوع من الحياة الخاصة بها بل بالشخصية الخاصة بها وكل عضو كذلك. ومجموع الخلايا أو مجموع الأعضاء تملك نوعا خاصا من الحياة هي غير الحياة الفردية للخلايا والأعضاء.  والخلايا والأعضاء على أنها تموت عند تعرض النفس للموت أو الانتقال إلى عالم آخر وانقطاعِ الارتباط بالبدن ولكنها تحمل حياة خاصة وتبقى فترة بعد الموت العام ويمكن إنقاذها وإبقاؤها حية لأغراض طبية وما شابه ذلك. ومما لا شك فيه أن كل أنواع الحياة مستمدة من الحي القيوم جل جلاله ووسيلة الحياة لدينا هي الطاقة التي أتتنا منه سبحانه، إما عن طريق أبينا آدم وهي تلك الحياة المسيطرة على كل الأحياء التي تمثل كياننا المادي مثل الأنسجة والخلايا والأعضاء (organs)، أو حياة المقاطع الصغيرة لوحدها. لكن هذه الحياة لا تمثل حياة الله تعالى وإلا لم يكن تَعَرُّضُنا للموت ممكنا باعتبار عدم إمكانية موت الجبار جل جلاله.

هذه الحياة بمختلف أشكالها تتقوى بالطاقة التي نكتسبها عن طريق الأغذية ولكن طاقة الله تعالى لن تتقوى بشيء. كما أن طاقة الملائكة أيضا لن تتأثر بالتغذية ولن تتقلص بالعمل لقوله تعالى في سورة الأنبياء: وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ﴿19 يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴿20. فالملائكة الذين هم عند الله تعالى باعتبار تجردهم لا يفترون عن التسبيح ويلزم ذلك عدم حاجتهم إلى التزود بالوقود أو التخلص من الفضلات فهم لا يحتاجون إلى الغذاء كما هو الحال عندنا. والنفس الإنسانية المجردة من البدن، فهي  مثل الملائكة باعتبار تجردها وحينما تتخلص من البدن فسوف نعرف بأننا لا نحتاج إلى نوم، والواقع أننا آنذاك لا يمكن أن ننام لعدم وجود مقومات وأعضاء النوم لدينا. والقرآن الكريم لا يشير إلى تعرض الإنسان للنوم الدنيوي بعد الممات. نعم سوف نرقد أو يرقد بعضنا بعد الدمار الكوني الشامل فنفيق من ذلك الرقود أو يفيق ذلك البعض فيقولون: من بعثنا من مرقدنا؟ كما سنعرف بإذن الله تعالى في هذا البحث.

 والسبب في عدم وجود الموت في الدار الآخرة  هو أن الإنسان ينتقل بنفسه إلى عالم البرزخ ولا يمكن للنفس أن تنام لعدم وجود مقومات النوم لديها والنوم أخ الموت، فإذا انتقل الإنسان إلى البدن الجديد وتعرض للنوم بعد أن تخلص منه في  البرزخ فسيكون ذلك عودا إلى الوراء وهو عيب على الله تعالى. ولذلك لا يمكن أن نتعرض للموت. وأما الدليل على أن النوم هو أخ الموت، فهو ما ذكره سبحانه في سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿42.فالذي ينام يتعرض للوفاة المؤقتة في الواقع ويجب بحث المعنى بدقة في التفسير بإذن الله تعالى. وقد أكد الله تعالى بأن الآخرة هي الحيوان وهو يعني بأنها خالية من معاني الموت وذلك في سورة العنكبوت: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴿64.

والطاقة الإلهية التي تخلق الحياة للنبات والحيوان وأبدان البشر هي في الواقع نفسها التي تخلق النفس والملائكة وغيرها ولكن تلك الطاقة دارت في مختلف المسارات المادية بأمر الله تعالى وتقديره فوصلت إلى نبات الأرض بعد تحول جوهري متكرر في حاملات الطاقة فهي الآن ليست نفس الطاقة التي تدور بين نفوسنا كبشر من كل الحيثيات. مثاله مثال الطاقة الهوائية التي تتحول إلى طاقة كهربائية فهي ليست الطاقة الهوائية ولا يمكن تركها للفضاء فتتحرك مثل حركة الطاقة الأم بل تحتاج إلى مراحل تحولية وتطورية لإعادتها إلى حالتها الأولى. لكن الطاقة الكهربائية نفسها لو سارت داخل المسار الصحيح لها دون أن تتغير فهي تبقى نفس الطاقة الأولية ولذلك فإننا ننقل الطاقة إلى جهاز التلفزيون فتسير في مكوناتها الإلكترونية كما تسير في مكوناتها الميكانيكية والضوئية وتقوم بمختلف الأعمال. لكننا لا يمكن أن نأخذ الطاقة التي تحولت إلى شكل آخر مناسب مع شاشة العرض لإدارة الأدوات الميكانيكية مباشرة. ولا ننس بأن الطاقة الربوبية أتت إلى الأرض عن طريق الشمس احتمالا وبعد تحويل الهيدروجين إلى هليوم والمرور على 20 مليون درجة مئوية. هي هكذا غير مؤهلة لمنح الحياة الأبدية بأمر الخالق جل جلاله أيضا.

أما الطاقة التي تتداولها نفوسنا عن طريق ما نسميها بالروح الإنسانية فهي نفس الطاقة التي أتى بها الروح القدس إلى خلية أبينا آدم ولم تتحول إلى طاقة أخرى بل تداولتها النفوس البشرية. وبما أنها طاقة رب العالمين فهي لا تنقص ولا تتغير إلا بأمره سبحانه، باعتباره مسيطرا على كل شيء ومحتفظا بهيمنته على كل خلقه، جل جلاله. هي في الواقع طاقة الحياة المميزة عن طاقة الحياة النباتية والحيوانية في الأرض حتى التي تتحلى بها أبداننا، وهي خاصة بنفوسنا. ولذلك نرى بأن أجهزتنا المادية تبقى فعالة بعض الوقت بعدما نسميه بموت الإنسان أو موت  النفس الإنسانية. ذلك دليل واضح على اختلاف بين روح البدن وروح النفس. والروح  يعني الطاقة الممدة للحياة، وهو غير النفس بلا شك. والمكان المناسب لشرح الروح بالتفصيل هو سورة الإسراء بإذن الله تعالى.

الموت:

الموت عبارة عن توقف الأجهزة البدنية عن الارتباط ببعضها البعض، فحينما يتم ذلك تحت أية دوافع سواء التعرض لقطع الرأس أو التصوب بالرصاص القاتل أو توقف النفـَس أو انجماد الدم أو توقف الأجهزة الرئيسية عن العمل أو توقف  المخ عن إعطاء الأوامر أو انعدام التغذية أو ما شابه ذلك، حينما يتم ذلك فإن الإنسان يموت حسب مفهوم الذين يبقون بعده. فالموت يعني أن يفقد البدن القدرة على التفاعل مع أجهزته، وحينذاك يتقدم ملك الموت وهو أحد الملائكة  التسع الموكلين بكل شخص منا، يتقدم ذلك الملك الكريم لإنقاذ النفس وفصلها عن البدن. إنه يسمى ملك الموت باعتبار قيامه بعمله حين الموت وليس بأنه يقتل الإنسان. إن الإنسان يموت تحت ظروف الطبيعة وليس بعمل الملائكة كما أظن. حتى الملائكة الذين يحملون مأمورية القتل أحيانا فإنهم يحركون الطبيعة أو الحيوانات لإجراء العملية وليس في كتاب الله ما يُشير بأنهم هم الذين يمارسون القتل فعلا. هذا الملك يقوم بعمله بسرعة أكبر من سرعة كل الماديات التي ألفناها مثل الضوء والانفجار، فهو أسرع تحركا من الضوء دون شك. ولذلك فإن النفس لن تموت مع البدن تحت أية ملابسات بما في ذلك التعرض للقنابل الهيدروجينية. وللاستدراك فهناك قصة واحدة قي الكتاب الكريم حول قيام عبد من عبيد الله بقتل غلام بأمر الله تعالى ويحتمل أن يكون ذلك الشخص ملَكاً لكننا لا نعرف هل قتله مباشرة أم عن طريق كائن آخر.

من هنا نعرف بأن ملك الموت هو الذي يُنقذ الإنسان عند الموت وليس هو الذي يقتله. وما ذكره المحدثون عن ملك اسمه عزرائيل وهو الذي يحضر لقبض الأرواح فإنها معلومات غير قرآنية وغير صحيحة ومأخوذة من الكتب المحرفة لليهود والمسيحيين. وما يقولونه غير مقبول عقليا فلطالما حصل حالة قتل عامة في الشرق في حين حصول ما يشابه ذلك في غرب الكرة الأرضية فكيف يُمكن لملك واحد أن يتجاوب معهما وهو ليس مثل الله تعالى وتقدس، بالتأكيد. لكن المسيحيين يعتقدون بأن الملائكة أرواح وبأن الله تعالى أيضا روح مثلهم والعياذ بالله.

دعنا ننتبه إلى ما نقوله فنحن نقول: إن فلانا قد مات والله تعالى يقول: الله يتوفى الأنفس حين موتها. ولم يقل: الله يقتل الأنفس حين موتها. والتوفي معناه استيفاء الحق أو استرجاع الأمانة، ليس إلا. إن الله تعالى يوضح ما نقوله بأنه انتقال إلى عالم نفقد فيه الإرادة وليس موتا كاملا. والناس لا شعوريا يهتمون باحترام جثث موتاهم حتى غير المؤمنين بالله فهم يشعرون في أعماق قلوبهم بأن صاحبهم لم يمت فعلا بل غاب عنهم. فمحصل كلامنا و أفعالنا تجاه الميت وما يقوله الكتاب الكريم هو أن الموجود العاقل الذي يحمل نفسا مدركة فهو يعود إلى الله تعالى. ومن لوازم العودة إلى الله فقدان الإرادة. فهل يُعقل أن يحمل الحاضرون أمام الله سبحانه، القدرةَ على إرادة شيء وهم يشعرون بحضرة الجبار العظيم سوى الخضوع والذل. الناس يفقدون الإرادة أمام الحكام والملوك الأرضيين فكيف يمكن لهم أن يُريدوا شيئا أمام الذي أخضع الكون الذي خلقه بكامله لنفسه والسماواتُ ستأتي مطويّات بيمينه ذو الجلال والإكرام.

الإرادة بالتحقيق هي الأمانة التي بيدنا لغرض الاختبار وسوف نفقدها إلى الأبد حين الموت إما عنوة أو باختيارنا. فأما فقدان الإرادة بالاختيار فليس في القرآن أكثر من مثال واحد عليه وهو أبونا إبراهيم لقوله تعالى في سورة النجم: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴿37. وأما بالاستيفاء فهو يشمل كل من هو غير إبراهيم في كرتنا الأرضية هذه كما يبدو. فكل الأنبياء عدا إبراهيم يُتوفون كما هو عليه كل الناس والجن. والذي يشبه إبراهيم في العودة باختياره إلى الله تعالى، هم الملائكة لقوله تعالى: تَعرُجُ الملائكة والروح إليه، وهو وقت موتهم، ولم يقل سبحانه: تُعرَج مثلا، والعلم عند الله تعالى.

فالإنسان الآن – ونقصد به بعد الموت –  فاقد للإرادة عاجز عن أن يُريد أو يعمل شيئا بمحض إرادته. ذلك لأن الإرادة في الواقع خاصة الله سبحانه وتعالى ولكنه استخلفنا إياها في حياتنا الدنيوية لغرض خاص ويمكن بحث هذا الموضوع وتحليله بصورة مطولة خارجة عن هذا المختصر. يفقد الإنسان مع موته كل ألقابه الدنيوية من الحكم والملك والمالكية والنبوة والنسب. فلا أب ولا أم ولا ابن ولا بنت ولا إمام ولا مأموم في الحياة الجديدة. كل ما يقوله المحدثون في هذا المجال محض خيال يخلو منه كتابنا السماوي الكريم. تلك أمانيّهم وما عند الله ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب. وموت النفس لا يعني فناءها بل يعني أن النفس تفقد مقومات التحرك والتمتع لديها وتفقد مملكتها التي كانت تتمثل في بدنها الذي عاش معها طيلة الفترة التي خلقت في بدايتها حتى لحظة تركها للبدن العزيز والمحبوب. هو موت جزئي باعتبار فقدان القدرة على الحركة الفيزيائية بالكامل وفقدان الإرادة كاملة معها. هذا الموت هو ليس أمرا عدميا ولذلك قال تعالى في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴿2. فلو كان هذا الموت فناء حقيقيا لكان أمرا عدميا غير قابل لأن يُخلق. لكنه بنص القرآن موت وجودي ينسبه الله تعالى إلى نفسه بالإيجاب ويرادفه بالحياة التي هي مليئة بالوجود بطبيعتها.

وإذا كان الله تعالى هو الذي يخلق الموت لغرض وهدف الامتحان وهو المهيمن على كل أفعاله بالطبع لأنه غالب على أمره، فهو يريد أمرا آخر بعد الموت. لولا ذلك لكانت عملية الموت وإعادة الحياة عبثية غير ملائمة للذات القدسية جل جلاله. ومما لا ريب فيه أن الاختيارات الدنيوية سواء تحت رداء النبوة والرسالة أو رداء الملك والمال فهي كلها أَردية دنيوية محضة لا دخل لها في الحياة الأخروية. لو كان ذلك صحيحا لكان ملوك الأرض ملوكا في يوم الحساب. والواقع، أنه لا حاجة للأنبياء والرسل ولا للملوك والأمراء ولا للإداريين والمدراء في يوم الحساب وفي عالم الأبدية بالكامل. بالطبع أن الخبرات الفنية من الصناعات والهندسة والكيمياء وكل ما هو داخل ضمن إطار المهن والحرف سوف تبقى وتكون مفيدة احتمالا، ولكن ليس للحساب. إنها تفيد الحياة الإنسانية سواء في الجنة أو في النار. فأهل الجنة بالطبع يحتاجون إلى الطائرات وتوابعها والسيارات وما في نطاقها والقوارب وما يمخر في المياه ومعاصر الخمور ومعدات الألبان وكثير من الصناعات الغذائية وكذلك الصناعات الزجاجية والمعدنية ومصانع العطور وكل ما يحتاجه الإنسان الفردوسي ليهنأ بطيب العيش ورغد الحياة الناعمة المترفة.

عودة كل شيء إلى الله تعالى وحده:

 والله تعالى بنفسه الذي سوف يتولى كل الأمر وقد سمى المحكمة من الآن ونسبها إلى نفسه و أمر رسله بإبلاغ ذلك لأقوامهم وللبشرية جمعاء كما أوعز ذلك إلى الجن أيضا. وأتمنى أن ننتبه بأن هذا الموضوع صعب الفهم وليس أمرا عاديا وبأن غالبية الأقطاب الدينية في الأرض لا تدرك مغزى عودة كل شيء إلى الله تعالى وحده. فلو نمد الطرف إلى المجموعات  العشر من الآيات الحكيمة التالية ونعكف عليها مفكرين فلعلها تساعدنا على فهم هذه الحقيقة وإدراك حقيقة عودة كل شيء إلى الله تعالى وحده دون أن يتأثر بأي مؤثر غير الله تعالى:

  1. الأنعام       : قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿15 مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴿16 والمخاطب هنا وفي الآية التالية هو نبينا عليه السلام.

  2. الأنعام       : قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴿57 قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴿58

  3. سورة الأنعام: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94

  4. يونس: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴿49 فلا يستأخرون الموت ساعة ولا يستقدمون عملا، والعلم عند الله تعالى.

  5. مريم : إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴿93 لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ﴿94 وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴿95

  6. سورة المؤمنون: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴿99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿100 فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ ﴿101 ولعل كلمة ارجعون، باعتبار تعدد الآلهة لدى الإنسان المجرم والعلم عنده سبحانه. وأما الأنساب فتسقط حقيقة حين الموت باعتبار تفتت الخلايا وموتها التدريجي. والخلايا بالطبع هي عامل النسب بين الناس. هذه الأنساب لا يمكن إعادتها بأي حال من الأحوال بعد النفخة الأولى حيث تتفتت كل مكونات السماوات والأرض لتعود إلى عناصرها الأولية التي لا تختلف عن بعضها البعض حتى يُفعِّلَ الله تعالى فيها ما يشاء من تغييرات جوهرية تعطيها القدرة على البقاء الأبدي بإذنه المستمر جل جلاله.

  7. سورة يس: إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ ﴿53 فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿54

  8. سورة الزمر: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿30 ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴿31. والخطاب موجه لرسولنا عليه السلام.

  9. سورة النجم والخطاب للمصطفى أيضا كما أنه له عليه السلام في آية الغاشية التالية أيضا: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ﴿36 وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴿37 أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴿38 وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى ﴿39 وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ﴿40 ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى ﴿41 وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴿42 والهاء في ويجزاه يعود إلى السعي وهو مفعول ثان وليس بدلا، ومعناها: ثم يجزي الله الإنسانَ سعيَه.

  10. سورة الغاشية :فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ﴿21 لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴿22 إِلاّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ﴿23 فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ ﴿24 إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ﴿25 ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴿26

الحشر الفردي الأول:

وبعد أن يفقد الإنسان كل مستمسك دنيوي ظن أنه باق معه إلى الأبد فإنه يغمض عينيه ليفتح قلبه على ما حمله فعلا من علم وعمل ليواجه بهما ربه ويستوفي منه تعالى وحده جزاء أعماله ومكاسبه النفسية، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. والمقصود من حمل العلم والعمل هو آثارهما على النفس والتي تدل دلالة واضحة على حقيقة الإنسان مؤمنا كان أو مجرما.

وإن شئت سميت هذا الحشر بالحشر الفردي الأول. فهو حشر لأننا نشترك فيه جميعا وهو فردي لأننا سوف نلقى الله تعالى ربنا أفرادا غير متلبسين بأي نسب دنيوي حتى الانتساب إلى البدن الذي نفقده كشرط للقاء الله تعالى. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ .. (الأنعام 93). وخلقنا أول مرة ليست إشارة إلى خلق البدن الذي يسبق خلق النفس عادة بل هو إشارة إلى خلق النفس التي تلقى ربها سبحانه دون شك. ولا ضير أن نعرف بأن الله سبحانه يخلق البدن أو مكونات البدن وهو الخلية الأولى المتشكلة من اختلاط جينات الأبوين ثم يسوي الله تعالى النفس لقوله تعالى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿7. فيعقب تلك العمليةَ، التكوينُ الجنسي للإنسان ذكرا أو أنثى لقوله تعالى في سورة القيامة: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ﴿37 ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ﴿38 فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ﴿39. وسوف يتضح معنى التسوية في التفسير بإذنه تعالى ولكن باختصار فهي تعني خلقَ نفس تُمثِّل وتتلاءم مع المادة الجديدة تماما. فالنفس نفس بشرية وليست نفسا جنية أو ملَكية أو حيوانية محضة وأما بقية الخصوصيات فسوف تتشكل بعد تشكل النفس عن طريق تركيب جينات الأبوين. وإلى هذا يُشير سبحانه في سورة الانفطار:  يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6 الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7 فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ﴿8 وأظن والعلم عند الله سبحانه بأن العمليات الثلاثة (الخلق المادي ثم تكون النفس ثم التكوين الجنسي) تتم خلال لحظات وفي الخلية الأولى وقد ذكر الله سبحانه تعاقب العمليات لنقف على حقيقة الموجود الذي سوف يُحشر للحساب، وبأنه غير متصف بالجنس.

معنى اللقاء مع الله تعالى:

وهي باختصار تمثل العودة إلى الله تعالى. و يمكن مراجعة تفسير  اللام في ألم من سورة البقرة: والعودة إلى الله تعالى معناها التخلص من المواد المؤقتة التي كانت تفرض نوعا من الهيمنة على النفس الإنسانية والعودة إلى التجرد. والتجرد يمثل عالما أقرب إلى الله تعالى من عالم المادة باعتبار سعتها ونفوذها في المادة. وعالم المجردات متدرج ولا يقف عند حد واحد، فالملائكة الذين هم أكثر تجردا من نفوسنا نحن البشر، فهم سوف يتجردون مرة أخرى في نهاية هذه النشأة.

الناس في الحالة النفسية المحضة

نحن لا نعرف حقيقة نفوسنا ولكننا نعرف الكثير من الحالات النفسية وعلى أساسها يقوم علماء النفس بدراسة ما يمكن عمله لتجاوز المشاكل والأمراض النفسية. هذه الحالات تمثل حقائق مفيدة تساعدنا على فهم ذواتنا الأصلية التي ستبقى إلى الأبد. وما يفيدنا فهمه من هذه الحالات النفسية لمعرفة وضعنا في الحياة البرزخية وهكذا الحياة الأبدية هي ما يلي:

1)  لا تنام النفس ولا ترتاح أو لا تحتاج إليهما. ذلك لأن النفس تبقى بعد البدن وليس للنفس مقومات النوم. ونحن نشعر بأننا حين النوم نرى الأحلام وهي عبارة عن عمل النفس في حالة نوم البدن حتى حين التعب والإعياء.

2)  ليست النفس ذكرا ولا أنثى ويمكن أن تكون متساوية بين الجن والإنس. إن الجن والإنس يستمتعان ببعضهما البعض كما يقول سبحانه في سورة الأنعام: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴿128

3)  تستبشر وتخاف وترجو و تيأس وتحب وتبغض وتزكى فتنمو وتشرس وتؤمن وتكفر وتشعر بالحرج كما تشعر بالرضا والتسليم وتقبل وترفض وتتعظ وتأنف وتتعهد وتنقض وتكسب وتكتسب وتضل وتهتدي وتأمر وتوبخ وتلوم وتطمئن وتشك وتظن وتتوهم وتستيقن وتتحسر وتشتهي وتتأثر بالخير والشر وبالعلم وبالجهل وبالتزكية وبالظلم فتزداد أو تتناقص. وهذا ثابت لأن الحيوان الذي هو مثلنا تماما من حيث البدن وخاصة الأنعام الثمانية التي خلقت معنا و في ظلمات ثلاث أيضا، فهي لا تحمل الكثير من هذه الصفات. والقسم الآخر منها مثل النمو المشترك بين النفس والبدن فمحسوس أيضا لأننا نرى في غالب الأحيان نفسا إنسان عجوز أقوى منها لدى نفس الشخص من نفسه يوم شبابه.

4)  موجود طاقوي غير مادي، فلو كان ماديا لما كان قادرا على الاستقرار داخل البدن والتحرك فيها والخروج أحيانا حين النوم دون أن يشعر المرء بخروج شيء من بدنه. ونحن نشعر حتى خروج الشعر الدقيق من فمنا مثلا. كما أننا لا نشعر بوزن محسوس للنفس. ولعل من يقول بأن النفس هي التي تشعر وليس البدن وهو كلام صحيح فأقول له بأن النفس أيضا لا تشعر بأنه صار عاريا حينما تخرج من البدن عند النوم وخاصة حين الأحلام.

5)  تحتاج إلى حامل يحملها على الأقل. هذه طبيعة كل الموجودات الممكنة المحتاجة إلى مكان حتى الملائكة.

6)  لا تبصر كما تبصر العين ولا تسمع كما تسمع الأذن ولا تتحسس كما تتحسس الجلد ولا تتذوق كما يتذوق اللسان ولا تأكل ولا تغتسل ولا تشم الرياحين، لكنها ترتاح لراحة البدن وتهنأ بما يهنأ به البدن. فانبساط النفس أو انقباضها تابع لتأثر البدن الذي يستشعر كل تلك المحسوسات. وهذه المعاني موضحة بكثرة  في سورة البقرة.

7)  إن النفس تدرك الأشياء لا بطريقة البدن. إن إدراكها أشبه بإدراك الإلكترونات و ما في عالم الإلكترونات. ولا نعرف بالضبط مدى إدراكها، لكنها تدرك احتمالا، كل الأصوات والأحجام والأشكال والأذواق والعقائد والمهارات والعلوم وتحس بالموجودات الأخرى. وأما كيفية ذلك فهي معتمة علينا إلا أننا نعرف قرآنيا أنها تُدرك بعد الموت أكثر مما تُدركه اليوم حيث هي سجين البدن المادي. ويعبر عن ذلك القرآن الكريم بحدة البصر، فهي آنذاك تتحسس بقيةَ النفوس والملائكةَ والحركات الطاقوية الكبرى.

8)  هناك فرق بين الملائكة وبين أنفس الموتى لأن الملائكة بنفسها ستموت كما يبدو، ولكنها تتسلم نفوس البشر ولعل الجنِّ أيضا وهن فاقدات للحياة الدنيوية.

9)  تحمل النفس معها صورا لكل ما يفعله أو تفعله صاحبها في حياته أو حياتها الدنيوية؛ فهي الذاكرة الثانية التي لا ترتبط بخلايا المخ. إنها تحمل أيضا ما تسمى بالصبغة التي تقص حكاية الشخص وتبين حقيقته سواء في مهارته أو في معتقداته أو في استعداده للفعل والرد والرفض والقبول. ولولا ذلك لما أمكن محاسبة الأنفس يوم الحساب فهي تعرف كل ما عملت باعتبار تخزينها لها بالكامل كما تعرف صور العمليات التي اشتركت فيها في الدنيا وإلا لما كان إظهار الصور مفيدا يوم القيامة كما يصرح بها الكتاب الكريم.

البرزخ أو عالم ما بعد الموت

نحن نسمي كل حاجز بين شيئين برزخا كما سمى الله تعالى القارة الأمريكية التي تفصل بين البحرين الكبيرين في الأرض، الهادي والأطلسي، سماها برزخا بقوله في سورة الفرقان: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴿53. (كان المحيط الأطلسي مجمعا للأمطار حين  امتداد الأرض إلى أن خلط الله تعالى البحرين قبل عدة مئات من ملايين السنين)  وقد سمى الله تعالى الفاصلة بين الحياة الدنيا والآخرة برزخا أيضا كما في سورة المؤمنون: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴿99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿100. وقد ذكر الله تعالى لبرزخ الأرض سببا وفائدة كما هو في سورة الرحمن: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ﴿19 بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ ﴿20. إن الله تعالى الذي قدر بين الحياتين برزخا وهو محسوس لنا باعتبار انقطاع كل علاقاتنا بمن مات من أهلينا مع علمنا بأنهم موجودون وأحياء عند ربهم. هذا البرزخ الزماني ضروري وواجب لا يمكن تفاديه. ولكن الله تعالى ذكره لنا ليقول بأننا سوف نمر بمراحل في البرزخ وقد بيَّنَ لنا هذه المراحل في كتابه الكريم.

المرحلة الأولى: إعداد المرء للقاء ربه

وقبل العودة إلى الله تعالى بعد أن تعهد خلقنا ومنحَنا النفس والشريكَ الجنسي الذي يُنَصف الجنسين تماما ثم منحنا الإرادة ليختبرنا بعيدين عن قانون العدالة نوعا ما ودون المساس بهيمنته سبحانه فإن الملائكة الكرام سوف يقومون بتهيئة الشخص المتوفى ليليق باللقاء مع الله تعالى. هذه هي عملية الوفاة التي تتم حين الموت كما ذكرنا قبل قليل. والوفاة كلمة صحيحة وهو المطلوب في هذه اللحظة وتعني عودة النفس إلى بارئها العظيم الذي برأ وشفا خليتي الأبوين المتمثلتين في الحيمن والبويضة، شفاهما سبحانه من العقم وأعاد إليهما القدرة على التكاثر من جديد ولكن بحلة جديدة تناسب شخصا ثالثا هو غير الأب وغير الأم. مثال ذلك مثال الملك الذي يهيئ شخصا للقيام بأعباء الوزارة ويمنح كل المقومات الضرورية و يبعثه حرا للقيام بمهمته بكل حرية ممكنة ويُذكِّرُه بأنه مسؤول أمامه. وبعد حينٍ يُطالبه الملك بما عمل فهو  حين المثول أمام الملك مجرد من الحرية ويمكن أن يتعرض لكل شيء بما فيها السجن والتعذيب والموت أو الشكر وارتفاع الرتبة والجوائز. هذا الوزير وحينما يحضر أو يُحضر أمام ملكه فإنه يستعد للقاء الملك ولا يدخل إلا بلباس الطاعة والذل أمام ملكه.

وهكذا فإن الإنسان بحاجة إلى أن يُهيأ للقاء الملك الجبار وأول أمر هو التخلي من كل مظاهر المُلك مثل الإرادة والنسب والمال. كل ذلك يُحذف خلال لحظة أو لحظات وبشكل فعال وحقيقي لتتخلص النفس من كل عوالقها الكاذبة لتبقى هي مع حقيقتها وذاكرتها فقط. وبما أن النفس موجود طاقوي وغير مادي فإن التعامل معها ستكون بالطاقة المتفوقة وبكل سرعة وشدة. هذا ما يتجلى في هذه الآيات الكريمة:

1.الأنفال: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴿50 ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ. عذاب الحريق في القرآن يشير إلى عذاب الوحدة الحقيقية دون مساعد أو قريب أو شريك أو قرين أو  أي شخص يمكن أن يحن عليه أو يتعاطف معه.

  1. محمد: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴿27 ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿28

  2. الأنعام: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ﴿93 وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ

فضرب الملائكة في الوجوه والأدبار ليس ضربا على البدن إذ أن البدن منفصل تماما عن النفس والعلاقة مقطوعة بينهما بالكامل. والوجوه والأدبار هي ما تتعلق بالنفس من مكاسب إيجابية واضحة ويعبر القرآن عنها بالوجه أو مكاسب سلبية يُعبَر عنها بالدبر في مقابل الوجه. والضرب هو صعقة كهربائية شديدة الوقع تحول النفس الشرسة إلى نفس مؤمنة تؤمن بخالقها وبكل حقائق الكون وتتخلى عن كل عقائدها ومكائدها وأفكارها بأن تُسلب منها البدن والإرادة والملك والنسب والارتباطات الأخرى. سوف تصبح النفس أو يصبح الإنسان فريدا خليعا مطهرا من العوالق كلها ويترك ما خوله الله تعالى من إرادة وملك وراء ظهره ويُسلب منه كل الانتسابات مثل الأبوة والبنوة والنبوة والتبعية فيرى نفسه خاليا من كل الوسائط والشفعاء الذين ظن أنهم يملكون منه شيئا ليعلم أن المعاد إلى الخالق وحده. هذا الإيمان القسري لا يفيد الإنسان في يوم الحساب ولكنه جزء من مسيرة الإنسان في الحياة البرزخية. هذه هي الوفاة وتعني استعادة المالك العزيز ما خوله إيانا من اختيار ومظاهر اختيار لانتهاء السبب وهو الاختبار.

وأما كيفية انقطاع الإنسان عن هذه العوالق فهي إما باختياره بأن يسلم كل تلك العوالق لخالقه بيده وإما بأن تؤخذ منه بالقوة. وعملية التسليم الطوعي للخالق لا يُمكن أن تتم ساعة الموت إذ أن الموت لا يتم باختيارك بل يُفرض عليك حتى ولو كنت منتحرا. الموت نتيجة حتمية لبعض أعمالك أو حركات بدنك أو حركة الطبيعة أو حركة مَن حولك. فالتسليم في تلك اللحظة ليس طوعيا بل يكون جبريا. التسليم الطوعي لن يتأتى للمرء إلا عند كمال الصحة والاختيار في الحياة الدنيوية قبل ظهور علامات الموت. قال تعالى في سورة المزمل: 9 { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} يعني سلم أمرك إلى الله تعالى ليكون هو وكيلا عنك ويدير أمورك كما يشاء دون أن تتصرف فيها أو تطلب حاجة بجوارها عدا رضوان الله تعالى. هذا ما لم يشهد القرآن لأحد في الأرض بتحققه له غير شخص واحد وهو أبونا إبراهيم حيث قال سبحانه عنه في سورة النجم: 37 {وإبراهيم الذي وفّى} وأما بقية الناس بما فيهم أنبياؤهم فإنهم يُتوفون. إن لكل فرد حق التمتع بنوع من الإرادة الممنوحة لمصالحه الشخصية وهو مسموح له شرعا ولكنه سوف يتخلى عنها قسرا لحظة الموت بالتوفي، ولكن إبراهيم فقد وكل إرادته فعلا أمام الله تعالى، وتجلى ذلك حينما استجاب لما احتمله أمرا من الله سبحانه لذبح ابنه إسماعيل. هذا الرجل العظيم لم يكن يحمل إرادة حين الموت ولم ير الملائكةُ لديه شيئا شخصيا ليسحبوها منه بالقوة لأنه الذي وفّى، والعلم عند مولانا سبحانه وحده.

هذه العملية ستكون قاسية جدا بالنسبة للمجرمين الذين لا يريدون التخلي عن عوالقهم الدنيوية حتى بعد الانفصال عن البدن، بأي ثمن فيتعرضون للضرب القسري الشديد والموجع من الملائكة الكرام فجأة ودون سابق إنذار، اللهم إلا ما هو موجود طيات الكتاب الكريم . ليست هناك محاكمة ولا منكر ولا نكير ولا عذاب قبر في القرآن قبل يوم الحساب، فكلها ادعاءات بشرية تخالف المنطق والعقل والله تعالى لا يقول غير الحق والصواب جل جلاله. والمرحلة التالية هي اللقاء مع الله تعالى.

المرحلة الثانية: اللقاء مع الله تعالى وكيفيتها

اللقاء مع ربنا ليس حضورا لغائب هو الله مثلا والعياذ بالله ولا انتقالا إلى غائب. إنَّ الله تعالى حاضرٌ دائما وأبدا وبكل قوة وليس هناك مانع أمامه ولا عازل يفصل بينه وبين خلقه. فاللقاء معه سبحانه مستمر فعلا حتى في الحياة الدنيا. هذا صحيح ولكننا في الدنيا لا نرى الله إلا بالقدر الذي نُخْلِص له بأنفسنا وقلوبنا. كل مسلم ومسيحي ويهودي وكل مؤمن بالله يشعر في بعض اللحظات بأن الله موجود وهو سبحانه يعتني به ويساعده. يتجلى ذلك حينما يدخل المرء مكانا أو حالة للعبادة والتقرب إليه سبحانه ليندفع بقلبه وعقله إلى الخالق الكريم مطمئنا راجيا. هذا هو نوع لقاء مع الله تعالى. وكل إنسان يُخطئ ويذهب وراء شهواته وأهوائه ويسعى لحفظ نفسه وممتلكاته ولو على حساب الآخرين أو حساب دينه، كل حسب درجة تقواه وخوفه من الله تعالى. كل تلك الحالات تبعدك عن الله سبحانه وتُعتبر بمثابة شرك بالله تعالى. إنك تُشرك نفسك وشهواتك بالله تعالى فتتبع شهواتك وأنت تدعي الإيمان بالله تعالى. والفرق بين اليوم وغد بأننا سنكون عاجزين عن اتباع شهواتنا بل لا ولن نفكر فيها بعد الموت. هناك حالة اللقاء الحقيقي مع الله تعالى. فالذهاب إلى الله ليس حركة فيزيائية إلى مكان خاص للقاء الملك العلام سبحانه، بل هو سير نفسي نحو الحقيقة المطلقة بعيدا عن كل المقتنيات الدنيوية.

الحركة الفيزيائية المشهودة بين الماديات هي باعتبار حاجة هذه الموجودات إلى المكان، فانتقالك إلى شخص ما أو بلد ما باعتبار تعلقك أنت وذلك الشخص وذلك البلد بما تحتاجون إليه من مستقَر ومكان ولكن الله تعالى غير مستقِر في مكان فاللقاء معه غير مقرون بالانتقال إلى مكان بل هو حاصل وأنت مستقِر في أي مكان. فعودة المرء إلى الله تعالى تعني بالدرجة الأولى تخلصه من سجن البدن ثم تغيُّرُ وجهة نفسه ليليق بلقاء الله تعالى ثم يتم اللقاء بصورة تلقائية. هذا يعني بأنك سوف تلمس ما يجب أن تلمسه من معاني الكبرياء الربوبي وسوف تُحجب تماما عن بقية الناس والموجودات. ذلك لأن الالتقاء بالناس لا يتلاءم مع الالتقاء بالله تعالى. كل ما قلناه في هذا الصدد بغض النظر عن حاجة النفس إلى مكان أو استقرارها في مكان ما من النظام الشمسي بالطبع، كما سنعرف بعد قليل. ولعل الموتى موجودون بيننا لكنهم في غفلة كاملة عنا كما أننا في انفصال كامل عنهم حتى نموت ونلتحق بعالمهم. هناك يرى المؤمنون أنفسهم لأنهم مع بعض وفي صف واحد ينظرون إلى الله تعالى نظرة غير عينية وغير فيزيائية لغياب أي نوع من أنواع المادة عن حياتهم البرزخية. فليس الله جل جلاله متلبسا بالمادة وليست النفس هكذا. والعلم عند المولى عز اسمه.

فالموتى جميعا مسيئين ومحسنين موجودون عند ربهم، ولكن كل مجموعة منهم مستودع في صف يتناسب مع كيانه الحقيقي والجديد نسبيا. قال تعالى في سورة  الأنعام: وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98). مستقر النفس هو في هذه الأرض ومستودعها في مجموعات بعد الموت والعلم عند المولى. وقال تعالى في سورة الأعراف: قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24).

مثال ذلك مثال الطاقة التي انفلتت من اصطدام سحاب بسحاب فتبحث عن أنسب طريق يوصلها إلى الأرض. ولذلك يضعون قضبانا حديدية فوق المباني المرتفعة لتهتدي بها الشحنات البرقية في طريقها إلى باطن الأرض. ومثال آخر، ما يقومون بتسليط قدر محدود من الهواء على الحبوب لتنتقل ما لا يراد بقاؤها من القشور خارج الوعاء دون المساس بالحبوب ثم رفع درجة الهواء لتنتقل الحبوب دون الرمال والحجارة إلى مكان آخر فيتم بذلك عملية تنظيف الحبوب من القشور الخفيفة والأجسام الصلبة. فخلاصة معنى اللقاء مع الله تعالى هو الخروج من عالم الحس المادي المعروف بعيدا عن الأبعاد الثلاثة المعروفة أو الأبعاد التي تحل فيها الجن والشياطين وهكذا بُعد الزمان الدنيوي، ثم الدخول في عالم المجردات. سوف يكون شعورنا شبيها بشعور الملائكة فلا جسم ولا فم ولا أنف ولا عين ولا أذن ولا  بشرة لنا، وسوف نكون نظيفين تماما من كل العوالق المادية ومتوجهين بقدر الطاقة التي نملكها إلى ربنا المتعالي حل جلاله.

أما ارتباطنا ونحن أحياء دنيويون بالذين ماتوا فمنقطع تماما حتى عن طريق المنام بعكس ما يظنه بعض قليلي العلم. ويقول سبحانه مخاطبا نبينا الكريم في سورة فاطر: وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴿22 كما يشير سبحانه إلى نفس الموضوع في مناسبة أخرى في سورتي النمل:80 والروم: 52 بقوله الكريم: إِنَّك لا تُسْمِعُ المْوتى.

وما يُشير إليه بعض الإخوة بأن الشهداء عند ربهم يرزقون، للاستدلال ببقاء بعض الناس أحياء كما نحن عليه يأكلون ويشربون وينكحون،  فالآيتان المشار إليهما حسب تفسيرهم لا تشمل الذين لم يُقتلوا في سبيل الله ومنهم نبينا. ولكن الحقيقة أن كل الناس أحياء عند ربهم، إلا أن المؤمنين منهم يُرزقون الأمان والسلام. فالحقيقة الثانية مذكورة ضمن الآية التالية لإحدى الآيتين وهي في سورة آل عمران: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴿169 فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿170 فالشهداء يُرزقون ما يجعلهم فرحين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولا مجال للتمتع بالأرزاق المعروفة دنيويا ضمن المأكولات والمشروبات وما شابهها لأنهم هناك يفقدون المادة تماما بل يعيشون في حالة نفسية مطلقة.

وآية آل عمران تفسر آية سورة البقرة: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴿154  إذ أن المقصود من الحياة هو الحياة عند الله وليست الحياة الدنيوية بيننا. و إحدى تبعات الحياة عند الله تعالى هي الانبهار أمام عظمة رب العالمين بحيث لا يمكن للشخص أن يلتفت إلى الذين كان يعيش بينهم في الدنيا. ولا ريب أن الذين في الدنيا لا يمكنهم الارتباط بالذين انتقلوا إلى الساحة القدسية (بمعنى: أكثر قربا من سابق زمانهم إلى ربهم)، إذ لو كان ذلك ممكنا لانتقل إلينا الكثير من الأسرار التي يجب أن نعيش بعيدين عنها لحين انتهاء زمان اختبارنا. ألا نرى أن مسئولي الامتحانات يحولون دون وصول تلاميذهم إلى الحقائق حتى لا يفشلوا في بلوغ هدف الامتحان وهو تقييم الطلبة.

وهناك مسألة يجدر فهمها وهو أن الله تعالى أمرنا بأن لا نقول لمن يُقتل في سبيل الله أموات، ولم يقل بأنهم ليسوا أمواتا. وقبل أن نعرف سراً آخر يخص الذين قُتلوا في سبيل الله، علينا بأن نعرفهم. وعلينا أيضا بأن نعرف الفرق بينهم وبين المؤمنين الصالحين مثل الأنبياء. فيمكن أن نقسم حالة الإنسان من حيث الوفاة إلى أربعة أقسام:

أنواع الناس من حيث التفاعل مع الوفاة:

أولا: الذين أسلموا لله تعالى تماما وتركوا كل تعلق بالدنيا ولا ينطبق قرآنيا على غير نبيه إبراهيم في كوكبنا.

ثانيا: الذين يفقدون المشاعر وهم أحياء دنيويا فهم لا يُتوفون حين موتهم كما يُتوفى الآخرون. إنهم قد فقدوا الإرادة حينما فقدوا مشاعرهم ولذلك ميزهم الله تعالى عن الذين يُتوفون بقوله الكريم في سورة النحل: وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴿70. ومثلها في سورة الحج:يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴿5 .وعادة ما يسميهم الناس أمواتا قبل أن يموتوا طبيا.

ثالثا: الذين يموتون في سبيل الله فهم لا يُتوفون لأنهم فقدوا حياتهم الدنيوية في حالة التسليم الكامل لأمر الله تعالى. إن المجاهد الذي يدخل الحرب مع الكفار في حضور رسول الله وبأمر خاص من الله تعالى فإنه غير ضنين بنفسه على الهدف الذي يحارب من أجله، فإذا قضى نحبه في تلك الحالة فهو في حال التسليم الكامل ولا معنى لتوفيه. والفرق بينهم وبين إبراهيم هو في أنهم لو لم يُقتلوا، فإنهم سوف يُتوفون. فحالتهم إذا استثنائية مثل الذين يُردّون إلى أرذل العمر. وهذا لا ينطبق أبدا على الذين يموتون قتلا في الحروب وفي غياب الأنبياء، والذين نسميهم الشهداء كنوع من الإكرام البشري لهم. هؤلاء ليسوا على يقين من أمرهم حين يلبسون جبة الحرب إلا إن كانوا مجانين. فلو كانوا مجانين فهم حينئذ مثل الذين ردوا إلى أرذل العمر.

رابعا: الذين يموتون بصورة طبيعية أو عن طريق الاغتيال وحتى الذين يفقدون حياتهم على يد المجرمين ولكنهم لم يكونوا في حالة حرب بأمر الله تعالى فإنهم جميعا يُتوفون عن طريق الملائكة. ولذلك فإن الأنبياء جميعا عدا أبينا إبراهيم وكل الذين هم غير مشمولين في الأنواع الثلاثة الماضية يتعرضون للوفاة على يد الملائكة. ولعل هذا هو السبب في تعيين الله تعالى مصير محمد بالموت، باعتبار أنه رسول ولا يمكن أن يسمح الله تعالى بتعرضهم للقتل لما في ذلك من تأثير إعلامي سلبي ضد دعوتهم.

 وعليه يمكن تفسير أمر الله تعالى إيانا بعدم تسمية الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بأنهم لا يتعرضون للوفاة حين انتقالهم إلى عالم المجردات ومن لا يُتوفى فهو غير ميت، بل هو فاقد للحياة الدنيوية ومقبل على الحياة عند الله تعالى تمهيدا للحياة الأخروية. ويمكن أن نستنتج بأن موت الأنواع الثلاثة مغاير لموت النوع الرابع، والعلم عند الله تعالى.

انتهى القسم الأول من الأقسام الخمسة  ويليها القسم الثاني ويبدأ بموضوع: القرآن يؤكد بقاء الناس جميعا أحياء عند الله تعالى.

احمد المُهري

5/6/2017

كتبت الأصل في أبريل 2007 احتمالا

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.