تصحيح أخطائنا التراثية – ساعات الصيام

تصحيح أخطائنا التراثية – ساعات الصيام

بسم الله الرحمن الرحيم

CLOCK.jpg

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

فرض الله تعالى علينا الصيام في شهر رمضان وعين السبب في الصيام وفي شهر الصيام فقال عز من قائل في سورة البقرة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187).

ففلسفة الصيام كما نفهمها من الآيات الكريمة هي أن نقترب من التقوى الذي بدونه لن ندخل الجنة. وفلسفة صيام شهر رمضان هو أن القرآن الكريم أنزل في شهر رمضان ليكون هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فوجب علينا الشكر لربنا الذي أكرمنا بالهدى الدائم الباقي بيننا. بهذه النظرة البسيطة ندرك التالي:

  1. الصيام مما حرمه الله تعالى في نهار رمضان هو الذي يمكن أن يجعلنا متقين فلا يمكن شراء الصيام بالمال ولا يمكن تعويضه بالقربات الأخرى. فللإمساك عن بعض الطيبات أثر في تربية نفوسنا لتتقوى ضد الشهوات ثم تتعالى على السيئات فتكسب الرضوان والجنان. يجب التنازل عن الشهوات وما يريح النفس ولا يكفي التنازل عن المال كما ظن قليلو العلم.

  2. ذكر القرآن الكريم حكاية إنزال التوراة على بني إسرائيل تحت الرعب والخوف من سقوط الجبل المدمر عليهم حينما رأوه فوق رؤوسهم كأنه ظلة. هناك أخذ عليهم العهد إذ لا عهد إلا عند الخوف وفقدان الأمان. ولكن القرآن مختلف عن التوراة بأنه كتاب يتجدد فهم الناس له في كل زمان بتجدد الثقافات والحضارات والتقدم العلمي؛ فيريد ربنا أن يأخذ منا العهد بتعلمه تحت وطأة الصيام. والصيام يمثل حالة الكفاح ضد شهوات الأكل والشرب والجنس.

  3. لم يذكر القرآن أية عبرة بتلاوة القرآن في رمضان فالتلاوة تؤدي إلى الاستمتاع بجمال الجمل والآيات القرآنية البديعة ولكنها لا تؤدي إلى فهم القرآن ليهتدي به الإنسان. والقرآن ليس حكرا على المسلمين فهو هدى للناس جميعا. فهو يعني بأن على المسلمين أن يتعلموا القرآن وينشروا مفاهيمه كي ينتشر هدى الله تعالى بين أبناء البشر فيهتدي من يحب الهدى عن بينة ويضل من يختار الضلال عن بينة وإدراك كامل.

  4. المسلمون اليوم لا يتعاملون مع القرآن في رمضان تعاملا صحيحا فعليهم أن يغيروا برامجهم القرآنية وخاصة طيلة شهر الصيام. عليهم أن يبادروا بالتفكر في الكتاب الكريم ليتدبروا آياته ويحيطوا علما بما يمكنهم من مفاهيمه الرائعة فيغيروا حياتهم وأعمالهم مع تجدد العلم القرآني لديهم فيصيروا نماذج عملية لهدى القرآن الكريم بين كافة الأمم البشرية. لكنهم مع الأسف يهتمون في الشهر الفضيل بالسعي للتلاوة والتجويد وختم القرآن وإقامة مباريات الحفظ والتجويد. لا يوجد في القرآن الكريم أي تشجيع لتلك الأعمال الجميلة. فلو اهتموا بالتفكر في مفاهيم القرآن تاركين فهم السلف واستغلوا رمضان للعلم بالقرآن وليس للأناشيد القرآنية فلعلنا ننجو من شرور أنفسنا ومن انتشار الفوضى والقتل والسبي والحروب بيننا.

  5. ظن البعض بأن القرآن هدى للناس جميعا ولكنه بينات لأهل العلم. هذا فكر خاطئ فالله تعالى لم يذكر أهل العلم حسب تعبيرهم في الآيات الكريمة ولم يخصص علم القرآن لقوم دون قوم. بل أشار إلى أن الصيام المفروض على كل الناس هو الكفيل بمساعدة الناس جميعا لفهم القرآن. كتب  الله تعالى الصيام على كل الذين آمنوا من صحابة نبينا بالصيام في الآية 183 أعلاه. والخطاب بقي موجها لهم في الآيتين التاليتين لها (كتب عليكم، فمن كان منكم مريضا، فمن شهد منكم الشهر، يريد الله بكم اليسر، ولتكملوا العدة ووو). لكنه سبحانه في الآية 185 تحدث بأن شهر رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. فالقرآن لجميع الناس هدى وهو بينات وفرقان للجميع أيضا؛ ولذلك قال تعالى بعدها: فمن شهد منكم الشهر فليصمه. بمعنى أن الآيات عادت إلى خطابها الأول الموجه للذين آمنوا. فالآية تدل على وظيفة مفروضة على الذين آمنوا ليصير القرآن هدى للناس جميعا.

  6. الذين آمنوا في المقام الأول هم صحابة الرسول الذين آمنوا به وحضروا الوحي الذي كان ينشره الرسول بين صحابته شيئا فشيئا كما حضروا تفسير الرسول عليه السلام للآيات الكريمة. لكن آية الصيام بالذات لا تنحصر في الصحابة بل هي لكل من قام بعملية الإيمان. بمعنى أن كل من تعرف على الإسلام فآمن به تحقيقا وإدراكا منه فهو من الذين آمنوا. وسيرة المسلمين المتوارثة والمبنية على أساس وجوب الصيام على كل المسلمين دليل كاف على أن المقصود من الذين آمنوا في آية الصيام هم كل المسلمين.

  7. وهناك آيات أخرى أمرنا ربنا فيها بأن نتدبر آيات الذكر الحكيم. قال تعالى في سورة الأعراف: كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3). فكيف نتبع القرآن إن لم نسع لفهمه بأنفسنا. لم يأمرنا الله تعالى كمؤمنين بأن نتبع فهم الرسول ولا فهم أهل العلم حسب تعبيرهم. وقال سبحانه في سورة محمد: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24). والآية تشير إلى المنافقين بأن من واجبهم أن يتدبروا القرآن، فكيف بالذين آمنوا دون نفاق؟ وقال تعالى في سورة ص: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (29). فالرسول استلم القرآن ولكن التدبر ليس خاصا به بل هو للجميع وأولو الألباب هم الذين يتذكرون. فكيف يتذكر أولو الألباب لو أنهم لم يستوعبوا مفاهيم ومقولات الذكر الكريم بأنفسهم؟ فهل يتذكر الجاهل؟ إذن على كل المؤمنين أن يفكروا في كتاب ربهم ليتدبروا آياته ويزدادوا علما ومعرفة.

وعما قريب سوف يهل علينا رمضان جديد بإذن الله تعالى وعلى المقتدرين منا صيامه فرضا واجبا من الله تعالى. نحن نحتاج إلى إثبات الشهر كما نحتاج إلى فهم ساعات الصيام الواجبة.

وكم نرى من اضطراب في طرق الإثبات. فعاشت أمتنا فترة عقود على خرافة صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته دون أن يفكر أحد منهم في ميلاد الهلال أو عدم ميلاده. وقبل عدة سنوات فقط رأوا بأن دعوة الناس للاستهلال قبل ميلاد الهلال أمر مشين وباعث للاستهزاء فبدأوا يهتمون بوجود الهلال على الأقل. وينسبون كل خرافاتهم العقائدية ظلما إلى الرسول العظيم إمامنا وقائدنا الأكبر محمد بن عبد الله عليه السلام. فهل قال الله ذلك؟ وهل للرسول أن يشرع لأحد، أم أنه ناقل للتشريع؟ فالتشريع هو في القرآن وليس في أحاديث كتبها البشر بعد أكثر من قرن من وفاة الرسول. نحن نهتم بسننه عليه السلام مثل الحج والصلوات وآداب الجنازة ولكن لا يجوز لنا العمل بما لا علم لنا به. السنن توارثناها جيلا بعد جيل فلا يجوز مخالفتها ولكن الأحكام غير متوارثة بل هي من صنع الإنسان البعيد عن الوحي.

أنا بدوري كمحقق بسيط لا يمكنني أن أتقبل تشريعا لا ينسجم مع واقع الحياة أو يؤدي إلى الإضرار بالصحة العامة أو يرغم الكثيرين على البحث عن بديل مثل المرض والسفر وغيره ليتخلصوا من الفرض الشرعي. ثم إنني وجدانا وبعد أن قمت بأبحاث موسعة في كتاب السماء لاحظت بأن ما اشتهر بيننا من أحكام فليست كلها أحكام قرآنية. لقد ورثنا أكثر الأحكام من بعض سلفنا الذين كاانوا يجهلون حقائق الحياة التي عاشوها فضلا عن حياة الأمم التي أتت بعدهم. هذه الأحكام بشكلها الفعلي لا تشجع عامة البشر المتواجدين في أقاصي الشمال ولعل بعض المتواجدين في أقاصي جنوب الكرة الأرضية أن يسلموا لكتاب الله تعالى. ونحن السبب ونحن الجريمة ونحن الذين سوف نُسأل يوم القيامة وسنرى بأننا نفقد العذر الشرعي المقبول أمام الله تعالى.

من تلك الأحكام الحكم بالصوم بشكل غير مقبول وأنا هنا بصدد تحليل هذا الحكم الشرعي لنفرق بين ما هو من الله تعالى وما هو من غير الله تعالى. وقبل الدخول في الموضوع نحتاج إلى مقدمة ضرورية.

لو أن إنسانا اقترض مبلغا كبيرا من المال لغرض معقول ثم انكسر تحت ضغوط الظروف فاشتكى الدائن لدى المحكمة. هناك يمكن للقاضي أن يصدر الحكم بشكلين مختلفين:

  1. أن يحكم بدفع المبلغ بالكامل للدائن باعتبار أنه أقرضها دفعة واحدة وذلك بأن تبيع السلطة التنفيذية كل ممتلكات المدين بما فيها بيته وأثاث بيته ليدفعوا حق الدائن.

  2. أن يلاحظ القاضي الحالة العامة للمدين فيصدر الحكم لصالح الدائن بكامل المبلغ دون أن يمس ضرورات الحياة لدى المدين. فيقسط المبلغ عليه لفترة معقولة حتى لا ينهار المدين وهو إنسان أو يفقد كل ممتلكاته ويتعسر عليه وعلى أهله الاستمرار في الحياة الطيبة.

بهذا المثال البسيط ننتقل إلى حكم الصوم وإلى القاضي الديان الذي أصدر عز شأنه حكم الصوم لضرورة وضحها في آية الصوم. فنحن مسلمون وقد عشنا فترة طويلة من حياتنا في مناطق قريبة من خط الاستواء وصمنا ولم نر من الصوم ما يزعجنا كثيرا. صمنا ونحن صغار ولم نمرض ولو أننا تعبنا قليلا. ليس المقصود من الصوم أن نتلذذ بل المقصود منه أن نتعب فكأننا مدينون دينا كبيرا ولكن القاضي الديان قام بتقسيط الدين علينا فأوجب علينا أن نستنكف عن الأكل والشرب واللذة الجنسية بالكامل ساعات محدودة ثم نعود إلى الحياة من جديد. لم يحكم سبحانه بأن علينا أن نصوم عدة مئات من الساعات بصورة متواصلة بل قسطها على شهر كامل وفي حدود معقولة. كما أنه لم يحكم بأن علينا بأن نصوم 20 ساعة في الصيف وأربع ساعات لو صادف رمضان في الشتاء!

هكذا عشنا نحن الذين عشنا في المناطق المحيطة بمنزل القرآن العظيم وهو مكة ويثرب. ثم قدر الله تعالى لنا أن ننتشر في الأرض لينتشر معنا دين الله وينتشر معنا كتاب الله في كل أرجاء المعمورة. هناك من انتقل إلى أقصى الشمال فلم ير شيئا اسمه الظلام في الصيف كما لم ير شيئا اسمه الشمس في الشتاء. فلو فرضنا أن مجموع ساعات الصيام لدى أي إنسان يعيش في أي مكان من الأرض لا يتجاوز مجموع ما يصومه الفرد الذي كان في مكة خلال 36 عاما من عمره فإن التقسيط غير منسجم مع الذي يعيش في المناطق القطبية.

القاضي الديان عادل ولا يمكن أن يحكم على المدين الذي يعيش في مكة بأن يكون أقصى وأطول يوم يصومه في حدود 15 ساعة وأقصرها في حدود 12 ساعة وهو مقبول لدى الإنسان. ولكن الذي يعيش في المناطق القطبية فعليه أن يصوم أحيانا 22 ساعة بل أكثر وأحيانا أخرى ساعتين فقط بل أقل. هذا حكم لا ينسجم مع واقع الحياة الإنسانية فما ذنب الذي يعيش في المناطق القطبية أم هل الإسلام حكر على من يعيش في وسط الأرض وحرام لمن ولد في أقصى الأرض؟ ثم ما ذنب أطفالنا نحن الذين انتقلنا من الشرق إلى الغرب لنبلغهم زورا بأن حكم ربهم أن يصوموا من الشروق إلى الغروب ولو طال عشرين ساعة؟ هل يجوز لنا ذلك وما موقفنا أمام ربهم يوم الحساب؟ لم يقل الله ذلك إخواني وأخواتي فأرجو أن تمعنوا في التفكير وتتركوا ما ورثتموه من أحكام لا تنسجم مع واقع الحياة فالله تعالى هو الخالق لكل شيء ولا يمكن أن يصدر أحكاما قاسية على البعض وعادلة للبعض الآخر.

وألاحظ بأن بعض العوائل المتفتحة في الغرب لا تبلغ حكم الصيام للشباب لأنهم يرون بأن بعض الأحكام سوف ينفر أولادهم من الإسلام. أنا بدوري كمسلم أكبر فيكم روح التضحية في سبيل الله ولكن لم يقل الله تعالى أن تصوموا أطول مما صامه أهل مكة الذين أنزل عليهم الوحي. وقد قلت سابقا ولعلي كتبت أيضا بأن الحكم نزل على أهل مكة زمانا ومكانا فخاطب سبحانه الذين آمنوا في رأس آية الصيام. فاسمحوا لي أن أعود مرة أخرى للآيات الكريمة لعلكم تفكروا فيها وتمعنوا وتتقبلوا التيسير بدل التعسير. قال تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187).

الخطاب للذين آمنوا فعلا وهم الذين آمنوا من الصحابة وليس غيرهم. ولكن الآية 186 تتحدث عن عباد الله عامة فهي تشملنا جميعا. كما أن الآية 185 تشملنا أيضا باعتبار أن القرآن هدى للناس ونحن من الناس. وليس سهلا أن يقول أحد بأن حكم الصيام حكم مؤقت لصحابة الرسل فقط. فلو كان كذلك لصرح القرآن بأن الحكم لكم ما دام الرسول بينكم فإذا توفى رسولكم فأنتم في حل من الصيام. لم  يقل الله تعالى ذلك وشعر الصحابة بأن الصيام واجب عليهم ما داموا يعيشون الحياة الدنيا فصاموا بعد رسول الله كما صام أولادهم الذين كانوا صغارا يوم نزول الآية الكريمة وانتشر الصوم بين كل من أسلم وصار جزءا من الدين الإسلامي بالتزام المسلمين به.

والصيام بمعنى الإمساك عن الأكل والشرب والتمتع الجنسي واجب محتوم وبعض الإخوة الذين ظنوا بأنه واجب على الفقراء ولكن الأغنياء في خيار أن يدفعوا المال أو يصوموا فهم غير مصيبين برأيي المتواضع. مثالهم مثال الفقهاء الذين صنعوا لنا فقها ذكوريا يلاحظ الأثرياء ويقويهم ويعتبر الفقراء والإناث بشرا من الدرجة الثانية وعليهم أن يخدموا أصحاب الأموال والذكران من العالمين. أما الأثرياء فهم يشترون الجنة بالمال وبرأي أخينا المعاصر يتخلصون من حكم الصوم بالمال أيضا. هذه الأحكام مزورة ولا تنسجم مع ربوبية الله تعالى للعالمين جميعا. أنا لست فقط رافضا لمثل هذه الأحكام بل أرفض كل الأحكام التي تعطي حقوقا للمسلمين تفوق حقوق غير المسلمين. كلها أحكام باطلة وهم فعلا يجهلون القرآن ولا يعرفون الله تعالى. وبعضهم يفضل المسلم على غير المسلم لمجرد أن الحظ ساعده ليولد في العوائل المسلمة بالاسم طبعا. فدينهم دين الحظوظ وليس دين السعي والتقوى. المال حظ والذكورية حظ والمسلم الجغرافي حظ و فهم اللغة العربية حظ إلى غير ذلك من الحظوظ التي لا يد للإنسان في كسبها. والله تعالى يقول في سورة النجم: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42).

ثم يذكر سبحانه الحظوظ بعد ذلك وينسبها إلى نفسه وليس إلى الناس فيقول عز من قائل: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48).

نعود إلى آية الصيام لنشاهد عمومية الحكم أو نكتشف السبب في توجيه الخطاب للصحابة. بدأ سبحانه مجموعة من آيات الأحكام في سورة البقرة هكذا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168). وكل ما تلاها من آيات فهي للناس جميعا ولكن القرآن ينتقل فجأة إلى الصحابة ويوجه الخطاب لهم فتقول الآية التالية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178). وبعد ذلك تأتي آية الصيام المذكورة أعلاه.

أنا شخصيا لاحظت بأن حكم الآية أعلاه خاص بالصحابة فعلا وليس عاما وذلك قبل أن أصل إلى آية الصيام. قلت للزملاء الكرام بأن الحكم للقتلى الذين قتلوا قبل انتشار الإسلام فهو خاص بالصحابة الذين آمنوا وبعضهم أولياء للدم. خيرهم الله تعالى بأن يعفو عن إخوانهم أو يلتزموا بحكم خاص وهو أن القاتل لو كان حرا وقتل حرا يُقتل ولكنه لو قتل عبدا فلا يُقتل. ولو كان القاتل عبدا يُقتل إن كان المقتول عبدا أيضا ولكنه لا يُقتل إذا قتل حرا. ويُقتل الأنثى إذا قتلت أنثى ولكنها لو كانت قد قتلت ذكرا فلا تُقتل. وأظن بأن الصحابة اتفقوا على أن يتخلوا عن المطالبة بالدم ويكتفوا بكرم ربهم الذي أراد لهم أن يكونوا إخوانا، فهو حكم خاص بهم. اللهم إلا إذا قرر الشعب البريطاني مثلا اليوم أن يسلم كما أسلم صحابة النبي فيمكن أن نعود إلى ذلك الحكم لمن سبق أن أراق الدم المحرم.

ثم أنزل الله تعالى حكم الصيام مخاطبا الصحابة أيضا فما هو السر؟ كل الأحكام المتوسطة عامة لكل الناس وواضحة كل الوضوح. وبعد ذلك تذكر السورة أحكام الأهلة والحج وهي عامة لكل الناس لأن الدعوة إلى الحج ليست خاصة بالمسلمين بل هي لجميع الناس في القرآن الكريم.

أظن أنا بأن السر هو أن المعيار لساعات لصيام هو معيار مكان نزول الآية الكريمة وهو منطقة الحجاز وليس أمرا آخر والعلم عند المولى عز اسمه. هكذا ينسجم الحكم مع كل أهل الأرض فلا يشعر أي مسلم بالحيف.

وأما قولهم بأن الصيام ينتهي مع مغرب الشمس فإن الله تعالى ما قال ذلك، بل قال سبحانه: ثم أتموا الصيام إلى الليل. والليل المعرف بـ أل التعريف، بظني إشارة إلى الليل المذكور في نفس الآية: أحل لكم ليلة الصيام..

ولا يوجد في القرآن الكريم تعريف لوقت الليل ولكن هناك تعريف لليل نفسه بالنسبة لنا. قال تعالى في سورة النمل: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86). هذا هو ليلنا وليس هو الليل الذي يسبح في فلك كما وصفه سبحانه في سورة الأنبياء: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33). هو ليل آخر نشرحه في وقت آخر بإذن الرحمن.

فالليل الذي جعله الله تعالى لنا هو وقت سكوننا وهدوئنا وتركنا للعمل وليس غروب الشمس كما ظن أصحاب الفقاهة الكرام. وبما أنه سبحانه ذكر الليل في نفس الآية وأحل للمؤمنين الرفث إلى نسائهم فأين وقت هذا الرفث بالنسبة للذين يعيشون في المناطق القطبية؟ وأين وقت السكون والاستراحة لهم لو اتبعنا الفقهاء الذين ظنوا خطأ بأن الليل يعني غروب الشمس؟ حتى نحن في بريطانيا لا راحة لنا لو اعتبرنا الليل من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. الفجر كما يحتسبه عامة المسلمين السُّنّة في بريطانيا يبدأ الساعة 02:39 يوم 20 يونيو وهو احتمالا أطول نهار في السنة وينتهي النهار في الساعة 09:24 مساء. والكثيرون يمسكون 10 دقائق قبل الفجر احتياطا ويفطرون 3 دقائق بعد الغروب. فسيكون طول الليل عندهم خمس ساعات فقط. ونحن في خير.

لاحظ الذين يعيشون في Akureyri في جرينلاند فلا فجر لديهم إطلاقا. يعتبر البعض الغروب عندهم في الساعة 00:59 صباحا والشروق في الساعة 01:29 صباحا. بمعنى أن طول الليل عندهم في حدود نصف ساعة فقط. وأما مدينةAasiaat  فلا شروق ولا غروب لديهم طيلة شهر يونيو أو طيلة فصل الصيف تقريبا.

فأظن بأن العرف العام الذي أمرنا الله تعالى بأن نتبعه وأمر نبينا بأن يأمر به هو الحكم الفصل في مثل هذه القضايا وليس الفقهاء. والعرف العام يعتبر الساعة دليلا على وقت الراحة في المناطق البعيدة عن خط الاستواء وليس غروب الشمس. كل الأعمال تقريبا تتعطل في الساعة الخامسة مساء وهو وقت الليل وليس غروب الشمس. فكل إنسان يجعل لنفسه وقتا لليله في النهاية وليس للشمس أي دور في البلاد القريبة من القطب. وبما أن العبرة بنهار أهل مكة وليلهم فنحن علينا بأن نراعي معدل ساعات الصيام في السنة خلال 33 أو 36 عاما لنلتزم بها حتى يكون معدل صيامنا متعادلا مع معدل صيامهم في مجموعة السنوات.

وبما أن الله تعالى أمر بأن يبدأ الصيام بالفجر فنبدأ بالفجر في كل بلد يتحقق فيه الفجر. والفجر برأيي المتواضع هو ما يسمى لدى الفلكيين بـ (Nautical twilight) وأنا أضيف إليها ستة دقائق لصلاة الفجر حتى نطمئن من تجمع الفجر في الأفق الشرقي عملا بقوله تعالى: (وقرآن الفجر). ولكنني أنقص منه 10 دقائق لبداية الصيام عملا بقوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر).

لكم خالص الدعوات وسوف أرسل إمساكية رمضان هذا العام لأهل لندن قريبا.

أحمد المُهري

6/5/2017

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.