الحكم الاخلاقي لدى الطفل 1 – جان بياجيه

الحكم الأخلاقي لدى الطفل –  جان بياجيه

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

TOY.jpg

 

مقدمة المؤلف

لن يجد القارئ في كتابنا هذا تحليلاً مباشرًا لأخلاق الطفل كما نشاهدها في الحياة المنزلية, أو المدرسية, أو في مجتمع الأطفال، إذ أن موضوع بحثنا هنا هو الحكم الأخلاقي لا السلوك الأخلاقي. ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية قمنا بحوار مع عدد كبير من أطفال مدارس”جنيف” و”نوشاتل” حول المسائل الأخلاقية نتحدث معهم بنفس الطريقة التي تحدثنا بها معهم من قبل حين درسنا تصورات الأطفال للعالم وللسببية. وقد ضمنا هذا الكتاب نتائج هذه الأحاديث.

 

كان علينا أن نبدأ فنحدد معنى “احترام القواعد” من وجهة نظر الطفل، ولذلك بدأنا بتحليل قواعد لعبة اجتماعية من ناحية الالتزامات التي ينبغي أن يأخذ بها من أراد أن يلعب بأمانة.   ومن قواعد اللعبة انتقلنا إلى القواعد الأخلاقية الخالصة التي وضعها البالغون، وحاولنا أن نستخلص الفكرة التي يكونها الطفل عن هذه الواجبات.  وقد اخترنا فكرة الأطفال عن الكذب كمثال واضح.  وأخيرًا درسنا الأفكار التي تبدو في علاقات الأطفال بعضهم ببعض. وهكذا تمكنا من مناقشة فكرة العدل باعتبارها موضعًا خاصًا تعنينا دراسته.  فلما وصلنا إلى هذه النقطة بدت نتائجنا من الثبات والقوة بحيث يمكن أن نقارنها ببعض النظريات السائدة عند علماء الاجتماع وعلم النفس الأخلاقي.   وهذا هو الموضوع الذي خصصنا له الفصل الرابع من هذا الكتاب.

 

وإنا لندرك, أكثر من أي فرد آخر, عيوب هذه الطريقة التي اتبعناها ومزاياها، وأن أكبر خطر نتعرض له, وبخاصة في هذه المسائل الأخلاقية, هو أن نجعل الطفل يقول ما نريده أن يقول.  وليس هناك من وسيلة تقضي قضاءً تامًا على هذا الخطر – إذ لا يكفي في ذلك أن يكون المحاور أمينًا، أو أن يحذر القواعد التي(1) عنينا بذكرها في مؤلف آخر، وصمام الامان الوحيد هو الاستعانة بالباحثين الآخرين.   فلو أن غيرنا من علماء النفس درسوا هذه المسائل من وجهات نظر مختلفة وطبقوها على أطفال من بيئات اجتماعية مختلفة فإنه يمكن – إن عاجلاً أو آجلاً – أن نميز بين العناصر الموضوعية والعرضية في النتائج التي سوف نعرضها هنا.

ولقد أجريت بحوث مشابهة في أنحاء مختلفة من العالم عن منطق الطفل وفكرته عن العلِّية, ورغم أن هذه البحوث كان لها فضل الكشف عن بعض المبالغات التي وقعنا فيها فإن النتائج التي ظهرت حتى الآن لا تدعونا بحال من الأحوال إلى العدول عن استخدام الطريقة التي نسير عليها.   فمن مزايا هذه الطريقة في نظرنا أنها توضح لنا ما قد يتعرض للشك عن طريق الملاحظة وحدها.  مثال ذلك أننا خلال السنوات القليلة الماضية كنا نعنى بتسجيل اللغو التلقائي الذى كان يصدر عن صغيرتينا ممن لم نلق عليهم الأسئلة التي استخدمت في دراسة موضوع، وتصور الطفل للعالم أو تصوره للعلية.   وقد استطعنا عن هذا الطريق أن نصل إلى توضيح الميل نحو الأمور الواقعية, والأمور الاصطناعية, والعلية الديناميكية.  ولكن المعنى الذي يقصده الطفل من وراء لفظ “لماذا؟” حين يطلقه، وكذلك الملاحظات العرضية, كل هذا لم يكن من اليسير أن ندركه لولا أننا قمنا شخصيًا بالحديث مع مئات من الاطفال عن هذه الموضوعات بالذات.   حقيقة أن اللغو التلقائي للطفل هو من غير شك أهم من الحوار معه. ولكن في علم نفس الأطفال لا يمكن أن ندرك حقيقة مكانة اللغو التلقائي من عقلية الأطفال دون أن نقوم بالتمهيد لذلك عن طريق الحوار.

 

وهذا الكتاب عن أخلاق الطفل ليس سوى خطوة أولى ونأمل أن يستغله أولئك الذين يعيشون مع الأطفال فيلاحظوا ردودهم التلقائية فيكملوا هذا البناء(1) الذي بدأناه.  هذا ومعرفة أخلاق الطفل تنير السبيل إلى معرفة أخلاق الرجل، فإن أردنا بناء أخلاقه بناءً محكمًا فليس من سبيل أفضل من دراسة القوانين التي تسيطر على تكوين هذا البناء.

كمال شاهين

رئيس مركز تطوير الفقه الاسلامي

 

 

 

 

 

الفصل الأول

قواعد اللعب (1)

 

يتضمن لعب الأطفال نظامًا اجتماعيًا يثير الدهشة, فلعبة الكريات (2) (البليْ) عند الصبيان, مثلاً, تقوم على نظام مكون من قواعد, أي من مجموعة قوانين أو تشريعات خاصة.  وعالم النفس الذى تضطره مهنته أن يلم إلمامًا تامًا بهذه القوانين التي نشأت بفعل العادة ويستخلص الاخلاق الضمنية التي تقوم وراء هذه القوانين – هو نفسه الذي يستطيع أن يقدر الثمرة أو الفائدة العظيمة لهذه القواعد وذلك عن طريق ما يلقاه من عنت الإلمام التام بالتفاصيل.  فإذا رغبنا في فهم شئ عن أخلاقالطفل فمن الواضح أنه ينبغي أن نبدأ بتحليل هذه الحقائق، فكل الأخلاق هي مجموعة من القواعد، وروح الأخلاق كلها نجدها في مدى احترام الفرد لهذه القواعد، وفي هذا يتفق علم النفس التأملي “كانت”, وعلم الاجتماع “دوركايم”, وعلم النفس الفردى “بوفيه”, ولكنها تختلف من الناحية النظرية منذ اللحظة التي يبدأ فيها شرح الطريقة التي يحترم بها العقل هذه القواعد.   والذى يعنينا هنا أن نبحث في ميدان علم نفس الطفل عن تحليل لفظ “كيف؟”.

 

إن القواعد الأخلاقية التي يتعلم الأطفال احترامها يأتيهم أغلبها من الكبار.   ومعنى هذا أن هذه القواعد تأتيهم تامة النضج، وغالبًا ما يكون هذا النضج على غير أساس من حاجتهم – عكس ما كنا نبغي – بل يكون قد تم فى دائرة الأجيال المتتابعة من الراشدين.  ولكنا إذا انتقلنا إلى الألعاب الاجتماعية البسيطة فإننا ننتقل إلى قواعد نتجت فى محيط الأطفال أنفسهم، وليس من المهم أن تكون هذه القواعد أخلاقية أو غير أخلاقية.  ونحن كعلماء نفس يجب أن نتمسك بوجهة النظر التي توحي بها أخلاق الأطفال بغض النظر عما يوحيه الضمير الأخلاقي للراشدين.  وقواعد لعبة الكريات قد انتقلت – وكأنها حقائق أخلاقية – من جيل إلى جيل واحتفظت بكيانها على أساس شعور الأفراد باحترامها.  والصغار من الأطفال حين يبدأون اللعب يتدربون بالتدريج على احترام القواعد على أيدي الكبار، وهم على أية حال يتجهون فى قرارة أنفسهم نحو الفضيلة التي هى الميزة العظمى للكرامة البشرية والتى تقوم على جعله يستخدم استخدامًا صحيحًا القواعد المعتادة للعب.  فإذا انتقلنا إلى الكبار وجدنا في مقدورهم أن ينقحوا القواعد، فإن لم تكن هذه هي الأخلاق فأين تبدأ الاخلاق إذن؟  إنها تبدأ من احترام القواعد احترامًا كليًا أو جزئيًا، ولنترك للاستقصاء الذي نقوم به أن يدرس الحقائق بهذا الترتيب.  حقيقة أن ظاهرة لعبة الكريات ليست بدائية للغاية,  فقبل أن يلعب الطفل مع نظرائه كان لأبويه عليه تأثير, فقد خضع منذ ولادته لسلسلة من النظم الاجتماعية, وحتى قبل أن يلم باللغة نجده يدرك القواعد, وهذه الظروف, كما سنرى, تلعب دورًا كبيرًا فى نضوج قواعد اللعب. ومع ذلك فإن أثر تدخل الكبار يصل إلى أقله في دائرة نظم اللعب، فلا غرابة إذن في أن نعتبر هذه الدائرة إن لم تكن بدائية تمامًا فإنها على الأقل من بين الأشياء التلقائية, وهي غنية جدًا من الناحية التعليمية.

 

هناك ظاهرتان يسهل دراستهما بالنسبة لقواعد اللعب.   الأولى هي التدريب على القواعد, ونقصد بها الطريقة التي يطبق بها الأطفال تطبيقًا حقيقيًا هذه القواعد في سني حياتهم المختلفة.  والثانية هي إدراك القواعد أو بمعنى آخر فكرة الأطفال في خلال أعمارهم المختلفة عن طبيعة قواعد اللعب هذه.  هل هذه أشياء إجبارية ومقدسة أم هي أشياء تخضع لاختيارهم؟ هل هى ذاتية أم غيرية؟ وغايتنا من هذا الفصل مقارنة هاتين المجموعتين من البحوث, فالعلاقة بين التدريب على القواعد وإدراك هذه القواعد هي التي تعيننا على تحديد الطبيعة السيكولوجية للحقائق الأخلاقية.  وثمة كلمة أخرى نرى تسجيلها قبل أن ننتقل إلى تحليل التدريب على القواعد وإدراكها، إذ لابد أن نلقي نظرة ولو متعجلة على المحتويات الفعلية لهذه القواعد. أي ينبغي أن نضع أمامنا البحث الاجتماعي للمشكلة.  ولكننا سنقتصر هنا على ما لا يمكن الاستغناء عنه، فلن نحاول وضع النظم الاجتماعية للعبة الكريات فذلك يدعونا إلى دراسة كيف كانت تزاول هذه اللعبة في الماضي, وكيف يلعبها الأطفال اليوم في جهات العالم المختلفة (يقوم أطفال الزنوج فعلاً بمزاولة هذه اللعبة).  وحتى لو قصرنا بحثنا على سويسرا الفرنسية فإنا نعتقد أن هذا البحث سوف يستغرق بضع سنوات لاكتشاف الاختلافات التي طرأت خلال الأجيال القليلة الأخيرة.  فإن كان لدراسة هذا كله أهمية عند علماء الاجتماع فإن قيمته عند علماء النفس تكاد تنعدم, فكل الذي يهم عالم النفس – لكي يدرس كيف يتعلم الطفل القواعد – أن يلم بالقواعد الشائعة للعب.  وشبيه بهذه الحالة دراسته للغة عند الأطفال، فكل الذي يعنيه هو أن يدرس اللهجة المستعملة دون أن يتعمق في دراسة تطور اللهجات.   ولهذا فسنقصر بحثنا على دراسة تحليلية قصيرة لمحتويات اللعبة كما يزاولها الأطفال في “جينيف”          و”نوشاتل” في الأحياء التي أجرينا فيها بحثنا.

 

قواعد لعبة الكريات

هناك ثلاث حقائق ينبغي أخذها في الاعتبار إن رغبنا في أن نحلل التدريب على قواعد اللعب أو الشعور بها.  الحقيقة الأولى هي أن أطفال الجيل الواحد والحي الواحد مهما كان عددهم صغيرًا فإنه لا يمكن أن نجدهم يلعبون الكريات بطريقة موحدة، وإنما نجد طرقًا مختلفة لهذه اللعبة.   فهناك لعبة المربع – وهي اللعبة التي سيعنينا أمرها بنوع خاص -فنجد فيها المربع مرسومًا على الأرض وقد وضع فيه عدد من الكريات.   وتقوم اللعبة على التصويب نحو هذه الكريات من بعد لإخراجها من هذا المربع.  وهناك لعبة “التتابع” وفيها يقوم الطفل بتصويب كريته نحو كرية الآخر بالتتابع.   وهناك لعبة “الثقب”, وفيها توضع الكريات في ثقب وتدفع إلى الخارج بواسطة كرية ثقيلة, وهكذا. وكل طفل يزاول عادة عدة أنواع من الألعاب, وهذه الحقيقة لها أثرها – تبعًا لسن الطفل – في تقوية, أو إضعاف, اعتقاد الطفل بقدسية القواعد.

 

والحقيقة الثانية هي أن اللعبة الواحدة – مثل لعبة المربع – تختلف باختلاف الزمان والمكان الذي تقوم فيه.   فقد تبين لنا بعد التحقيق أن قواعد هذه اللعبة تختلف في أحياء نوشاتل(1) الأربعة التي لا يبعد الواحد منها عن الآخر بأكثر من كيلو مترين أو ثلاثة. وهي ليست واحدة فى “جينيف” و”نوشاتل”, بل تختلف في بعض نواحيها من جهة لأخرى, ومن مدرسة لأخرى فى نفس المدينة.  كما أثبت من عاونونا في هذا البحث قيام اختلافات من جيل إلى آخر.   ولقد أكد لنا طالب في العشرين من عمره أن هذه اللعبة لم تعد تسير وفق النظام الذي كانت تسير عليه في أيامه.  وهذه الاختلافات التي ترجع إلى الزمان والمكان مهمة لأن الأطفال يعلمون بها في الغالب, فالطفل الذي ينتقل من مدينة إلى أخرى, أو من مدرسة إلى أخرى, لابد أن يعرف أن بعض القواعد تقوم في مكان دون آخر، وكثيرًا ما يذكر لنا الطفل أن هذه اللعبة قد لعبها والده بطريقة مختلفة عما هي عليه الآن.

 

والحقيقة الأخيرة يمثلها طفل في الرابعة عشرة قد ترك اللعب بعد أن بدأ يشعر بسموه عن الصغار.   وقد أصبح يضحك أو يتألم لأن عادات جيله تسير نحو الفناء بدلاً من أن يحافظ عليها الجيل الحاضر الطموح. وأكثر مـن ذلك, فالكريات على أنواع فهناك الكاسين “Cassine” (كرية من الزجاج بها خطوط ملونة), والكرية الرصاصية “Plomb”,وهي كرية كبيرة وثقيلة من الرصاص, إلى آخره.  كل منها تساوى عددًا من الكريات.  ورمي الكرية معناه أن تصطادها, كما أن مس كرية أخرى معناه ضربها.

 

ثم ننتقل بعد ذلك إلى مجموعة من المصطلحات “المقدسة” التي يعلن بها اللاعب أنه سوف يقوم بأعمال معينة, والتي تؤخذ على أنها حقيقة مسلم بصحتها إذا تفوه بها اللاعب فإن منافسه لا يستطيع أن يوقف قراره، أما إذا بدأ هو معلنا سلبه هذا الحق بكلمات سوف نتعرض لها فيما بعد فإنه يستطيع أن يمنع العملية التي يخشاها.  فمثلاً, إن أراد أن يبدأ هو اللعب في ظروف يستطيع فيها أن يكون هو البادئ, فإن الطفل في “نوشاتل” يقول “في الأولوية” أما إذا أراد أن يبدأ اللعب من خط اللعب فإنه يقول بكل بساطة “الخط”.  فإن أراد أن يتقدم أو يتراجع بمسافة تساوى الضعف فإنه يقول “خطان”, أما إذا كانت هذه المسافة تساوى مثلين أو ثلاثة أمثال عرض اليد فإنه يقول “شبرين” أو”ثلاثة أشبار”. أما إذا أراد أن يكون مكانه بالنسبة للمربع على مسافة تساوى المسافة التي يجد فيها نفسه في لحظة ما ولكن في اتجاه آخر – حين يتفادى هجوم خصمه – فإنه يقول “مني”, أما إذا أراد أن يحرم منافسه هذا الحق فإنه يقول “منك”.  هذا فى نوشاتل.   أما في جينيف فإن الأوضاع يعبر عنها بكلمة “دور” وإذا أردت أن تترك دورك في اللعب فلا تتحرك حتى يتحرك منافسك فإنك تقول (تركت دورى).

 

وبمجرد سماع هذه الكلمات في مناسباتها التي يحددها النظام المعمول به, فإن المنافس يجب أن يخضع لها.  أما إذا أراد الخصم أن يسلب منافسه حقه فإنه ينطق بالكلمات السالبة للحقوق, وهى فى نوشاتل نفس الاصطلاحات مسبوقة بكلمة “ممنوع” فيقول “ممنوع لي”, و”ممنوع لك”, و”ممنوع الخط”, وهكذا.  وبعض الأطفال ممن لا يفهمون معنى المقاطع المضافة لأنها تتصل في الواقع بأحاديثهم العادية التي يسمعونها قد يضيف لفظ “femme” “امرأة”  بدلاً من “fan” “ممنوع”.

 

وهناك اصطلاحان هامان من الاصطلاحات السالبة للحقوق ينبغي أن نلاحظها إذ أنها شائعة بين أطفال جينيف وهما لفظا(glaine) و(taumiké) فلو أن لاعبًا وضع كرية ثمينة, ولتكن من العقيق, بدلاً من الكرية العادية فإن له الحق فى أن يستبدلها بغيرها حين يدرك خطأه، والمنافس الخائن وحده هو الذى ينتهز الفرصة فيصوب نحو هذه الكرية ويغتنمها لنفسه.   وقد اتفق الأطفال الذين استجوبناهم على اعتبار هذا العمل سرقة، ولكن إذا انتهز الخصم فرصة سهو منافسه فذكر لفظ (taumiké ) أو ضاعف المقطع الأخير فجعله (taumikémik) فإن اللاعب الساهى ليس له الحق فى استرداد كريته ويصبح شأنها شأن أي كرية عادية أخرى, ولو اصطادها لاعب فإنه يحصل عليها ولا غبار على عمله من الناحية الاخلاقية.   وهو مثل هام يوضح ما نقصده من أن اصطلاحًا يجعل الخطأ مقدسًا ويحيل الخيانة إلى عمل مشروع يقره الجميع.  وفي هذا يبدو لأول مرة مثل من أمثلة الشكلية التي تنتمي إلى بعض نواحي خلق الأطفال, والتي سوف نتعمق في طبيعتها حين دراسة المسؤولية الموضوعية.

 

وبنفس الطريقة نجد أن لفظ (glaine) يجعل الاغتصاب مشروعًا فى حالات معينة.  فإذا نجح أحد اللاعبين عن طريق الحظ أو المهارة في كسب كل كريات زميله فإنه مما يعلي قدرة أن يهب زميله فرصة اللعب معه فيضع فى المربع الكريات اللازمة لكي يعطي زميله فرصة استرداد قدر من كرياته, فإن رفض أن يمنح هذه الفرصة فإن القانون معه ولكن لو أن واحدًا من اللاعبين نطق بلفظ (glaine) فإن مجموعة اللاعبين تنقض على البخيل فتلقيه أرضًا, وتفرغ جيوبه, وتقتسم الغنيمة.  وعملية النهب هذه تعتبر في الأحوال العادية غير أخلاقية (ما دامت الكريات التي حصل عليها اللاعب قد حصل عليها بطريق مشروع) ولكنها تصبح عملاً قانونيًا, بل عملاً عادلاً يقره الضمير العام بمجرد نطق لفظ (1).

 

أما في نوشاتل فلم نلاحظ هذين اللفظين (Glaine)و (Taumiké)ولكنا وجدنا كلمة أخرى (Cougane).   فإذا كسب أحد اللاعبين كثيرًا (كما في الموقف الذي أوضحناه آنفا)  فإن زميله المغلوب يجبره على أن يلاعبه أدوارًا أخرى بأن ينطق بلفظ (Cougane). ويظهر أن هذه اللفظة مشتقة من (coup gagné) “دور مكسوب”,  كما أن (prems) مشتقة من “أول” (premier).   فإذا أراد اللاعب أن يقضي على أثر هذا الالتزام فما عليه إلا أن يقول ممنوع (Fan cougane).

 

ولعل الدافع لنا إلى تأكيد هذه الخصائص اللغوية من أول الأمر هو ما في لعبة الكريات من تعقيد في قوانينها وقواعدها.  وإنه لمن الواضح أن هذه الحقائق يمكن أن نحللها تحليلاً أعمق من وجهات نظر أخرى, فيستطيع الإنسان, مثلاً, أن يدرس السيكولوجية العامة للتقديس والتحريم بالنسبة للطفل, كما يستطيع أن يدرس سيكولوجية اللعب الاجتماعية. ولكن هذه المسائل تخرج عن نطاق (2) بحثنا هذا, ولهذا يحسن أن نعود إلى الموضوع الأساسي الذي يعنينا, وهو القواعد نفسها.   فلعبة المربع تتألف, باختصار, من وضع عدد قليل من الكريات في مربع, والحصول عليها عن طريق ضربها بكرية خاصة أكبر من الكريات الأخرى، ولكننا لو تطرقنا إلى التفاصيل فإن هذه اللعبة البسيطة تحتوي على سلسلة معقدة من النظم.   ولنتناول هذه السلسلة بالترتيب لعلنا نلم بفكرة بسيط عن ثرائها.

(1)    أنظر مقدمة كتاب La Representation du monde chez l’enfant  وسيرمز إليه بالحرفين R. M. كما سيرمز بالحرفين L. P. والحرفين J. R. ثم C. P.

” La Penée chez J’enfant ”

” La Jugement et le Raisonment chez J’enfant ”

et ” La Causalité physique chez J’enfant ”

(1)    للاستزادة من دراسة خذا الموضوع أقرأ الكتب الآتية :

  1. Bridges “The Social and Emotional Development of the Pre-School child, 1931
  2. Compagne ” Development of the child in the later Infancy”
  3. “Handbook of child Psychology” Edited by Cart Murchison 2nd Edition, Clark University Press, 1933

1- Anderson G. E. “Methods in child Psychology” .

2- Gesell “Maturation and the Patterning of Bahaviour” .

3- V. Jones ” Child’s Morals ” .

Harby M. K. ” Enquete sur le Jugement Moral chez les enfans Eqyptiens ” Alexandria 1952.

  1. Kalafallah M. “Moral Reasoning of the primary child 1936.” In its relation to culture 1936.
  2. Lorner ” Observation sur le Raisonment chez I’enfant.”

( المترجم )

(1)بالاشتراك مع (Maetinez. MM. M. Lambercier, Mme, V. g. Piaget)

(2) ترجمنا لفظ (billes) الفرنسي بكربات ، وقد سبق للاستاذ محمد خلف الله فى كتابه ” الطفل من المهد إلى الرشد أن ترجمها بلفظ ” صبي ” ولكنا بفضل ” كربات ” لمقابلة اللفظ العامى ” بلى ” .

(1)Neuchatel, LaCaudre, Hauterive et Saint

(1)لهذه الكلمة معنى أوسع فهى عند عدد كبير من الأطفال تؤدي معنى أن كل من ينطقها له حتى الاستيلاء على كل الكريات الموجودة على الأرض حين تثأر مناقشة حول هذه الكريات أو حين ينسي لاعب أن يستولى على نصيبه ، وهى تستعمل بهذا المعنى فى كتاب.   Philippe Nourier ” Le Livre de Blaise ” (3e ed )                  ص35

 

(2)بالنسبة للعب الاجتماعية نحن ننتظر طبع كتاب (R. Cousinet) وهو يحتوى على مادة ثمينة جمعها هذا المؤلف خلال بضع سنوات.

 

 

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

دعنا, أولاً, نتناول (شكل اللعب).  ساعتها سوف نجد أن أحد اللاعبين يقوم برسم المربع ثم يثبت كل في وضعه.   فإن كان هناك لاعبان فإن كلاً منهما يضع كريتين, أو ثلاثا, أو أربعًا.   أما إن كانوا ثلاثة فإن كلاً منهم يضع كريتين.   فإن كانوا أربعة أو أكثر فإن كلاً منهم يكتفى عادة بوضع كرية واحدة.   وأهم ما في الموضوع هو فكرة المساواة, فكل يضع من الكريات مثل ما يضع زميله.   ولكي نصل إلى تحقيق المساواة ينبغى أن نعمل حسابًا للقيمة النسبية للكريات, فالكرية الرخامية العادية تساوي ثمان كريات من النوع الرخيص (كرونات), والكرية الرخيصة الصغيرة تقيّم بثمان كريات, وست عشرة كرية رخيصة, وهكذا. والقيمة مقدرة بدقة, وهي تنسب عادة إلى الثمن الذي يدفع عند شرائها من الحانوت القريب.   ومع ذلك فإنه إلى جانب العمليات المالية الخالصة فإن بين الأطفال تبادلاً كثير الأنواع مما يغير في القيم المعمول بها.

 

ثم يبدأ اللعب, فيتفق على رسم خط على مسافة معينة ومنه يبدأ اللعب.   وهذا الخط يرسم موازيًا لأحد جوانب المربع وعلى مسافة منه تتراوح عادة بين متر ومترين.   ومن هذا الخط يبدأ كل لاعب يطلق قذيفته الأولى (أى يرمي صياده (1) من العقيق اليمان أو العقيق فى المربع).  ولهذا يبدأ الكل من هذا الخط.   وفى بعض الألعاب عليك أن تعود في كل دور إلى اللعب من هذا الخط ولكن جرت العادة أنه بعد المرة الأولى يلعب الإنسان من المكان الذي جرت إليه كريته.   وأحيانًا تحدد هذه القاعدة بالقول بأن الكرية ينبغي ألا تبعد عن المربع بمسافة أبعد من الخط، فإذا جرت كريتك مترين بعيدًا عن المربع في أي اتجاه فإنك تضعها على مسافة متر ونصف متر إن كانت هذه هي المسافة التي يبعدها الخط نفسه.

 

ولكن قبل أن نبدأ اللعب لابد أن يختار من يبدأه.   ذلك لأن البادئ تتاح له فرصة التصويب نحو مربع ملئ بالكريات.  أما الذين يأتي دورهم بعده في اللعب فلن يجدوا في المربع سوى ما تبقى بعده.   ولتعيين اللاعب الأول طرق عديدة، فقد يخطو طفلان كل منهما نحو الآخر, وكل منهما يضع نهاية قدمه بجوار الأصبع الأكبر لقدمه الأخرى حتى إذا تقابلا فإن من يضع قدمه على أصبع قدم الآخر فله حق البداية.   وأحيانًا يتلون بنغمة دينية عبارات مسجوعة أو مقاطع, وينسب كل مقطع للاعب, ومن يقع عليه المقطع الأخير يكون صاحب الحظ فى البدء باللعب. وزيادة على استخدام هذه العمليات الشائعة فهناك طريقة خاصة بلعبة الكريات فيلقي كل لاعب بصياده نحو الخط أو نحو خط آخر خاص بهذه الغاية، وصاحب الصياد الذى يستقر قريبًا من الخط يبدأ اللعب، ويليه الآخرون بترتيب قرب صيادهم من هذا الخط، وآخر من يلعب يجري صياده بعد الخط.   فإذا تعدد من يخرج صيادهم عن هذا الخط فإن آخر اللاعبين هو صاحب أبعد صياد عن هذا الخط.

 

فإذا تحدد ترتيب اللاعبين على هذا النحو فإن اللعب يبدأ فيقف كل لاعب فى دوره خلف الخط ويقذف صياده فى المربع. وهناك ثلاث طرق لرمي الكرية (صيادها).

 

طريقة الصيد (القذف)

وهي عبارة عن قذف الكرية بمؤخرة الإبهام، فتوضع الكرية على ظفر الإبهام تسندها السبابة ثم تقذف إلى الأمام.

وطريقة الدحرجة

 وفيها يكتفي الطفل بدحرجة كريته على الأرض.

وطريقة الدفع

وتضيف إلى ذلك مد الذراع لمسافة كافية لتحديد الهدف. وطريقة الدفع دائمًا ممنوعة, ويمكن مقارنتها بالطريقة الممنوعة التي يقوم بها بعض لاعبي البلياردو غير المارهين, ولذا يقال في نوشاتل “ممنوع الدفع” أما في جينيف فيقال ممنوع السحب. وطريقة الدحرجة ممنوعة أيضًا “ممنوع الدحرجة” ولكن قد يحدث ألا يكون هناك مناص منها، وفي هذه الحالة يعطى لكل من اللاعبين حق المساواة التامة في اللعب بهذه الطريقة.ثم يأخذ اللاعبون في اللعب وفق الخطة التي اتفقوا عليها فإذا أخرج أحد اللاعبين كرية تصبح ملكًا له، أما إذا ظلت في الداخل فإنه لا يمكن أخذها.  أما إذا وقفت على الخط فإن المتبارين يدرسون الحالة.   أما الكرية التي تقف نصف خارجة فإنها تعتبر خارجة وليس هناك اعتبار آخر.

 

وهنا أيضًا مجموعة من القواعد الإضافية يمكن أن تتحكم في الحالات المتنازع عليها. فهناك, مثلاً, حالة وقوف الصياد داخل المربع أو عجزه عن الابتعاد عنه مسافة لا تقل عن نصف قطره.   وفي هذه الحالة يوقف صاحبه فهو لا يستطيع اللعب.   ولو أن هذا الصياد أخرجه صياد أحد اللاعبين خارج المربع فإنه يصبح ملكًا له, حكمه في ذلك حكم الكريات العادية, عدا بعض الحالات الخاصة التي يتفق عليها عند البدء في اللعب.  وهناك,أخيرًا, مشكلات تنتج عن حالات النط, فالكرية التي تدفع عن طريق النط قد لا تعتبر مكسوبة.  ومن باب أولى فى حالة الكرية (1) القيمة.  أما في غير هذه الحالات فإن كل ما يخرج من المربع يصبح ملكًا لمن أخرجه ، وكل الحالات الخاصة التى تبدوا فى هذا الاتجاه تقرر على ضوء الانسجام مع القواعد التى توضع إما قبل اللعب أو أثناءه عن طريق الاتفاق التام بين المتبارين.

 

ثم ننتقل إلى عدد القذفات التي يسمح بها لكل لاعب، فاللاعب الذي ينجح في كسب كرية أو أكثر يسمح له بالاستمرار في اللعب ثانية وهكذا, ما دام مستمرًا في المكسب. ولكن يحدث أحيانًا أن يتفق على نظام يقضي بأن يعطى لاعب في الدورة الأولى فرصة واحدة للعب، بمعنى أن لكل لاعب الحق في لعبة واحدة في دوره بصرف النظر عن مكسبه أو خسارته. ويرجع هذا بالطبع إلى الاتفاق السابق.   يضاف إلى هذا – وهذه قاعدة أساسية – أن لكل الحق في ألا يصوب على كريات المربع، بل يستطيع أن يصيب صياد جاره حتى وهو خارج السور وفي أي وقت من أوقات اللعبة.  وطبيعي أن المشكلة الكبري هي في التصويب نحو المربع دون أن تكون في وضع قريب من شركائك ، ولهذا يعزى السبب في أنه في حالة التصويب لأخطاء كثيرة فإنه يسمح لكل أن يقول “أحتفظ بمكاني” فتبقى في مكانك ما لم يسبقك غيرك فيقول “ممنوع الاحتفاظ بالمكان”، ولهذا أيضًا يسمح لك بتغيير مكانك بشرط أن تحتفظ بنفس المسافة بينك وبين المربع, وبشرط أن تبادر بالقول “من حقي” إلا إذا أضاع عليك منافسك هذا الحق  بأن يكون قد سبقك بقول “ليس من حقك”.

 

وأخيرًا هناك سلسلة من القواعد الخاصة تستحق الذكر ويمكن ملاحظتها في بعض المدن أو المدارس، فاللاعب الأول الذي يقول “مكان لي” لا يجبر على أن يتخذ مكانه فيإحدى زوايا المربع, وأي لاعب ينجح في كسب عدد ما من الكريات كالعدد الذي وضعه (كريتان مثلاً إن كان قد وضع كريتين فى المربع إلخ …. ) يستطيع أن يقول “الدور لي”.   ومعنى هذا أن يسمح له بأن يبدأ اللعب من الخط في الدور الثاني وهكذا. واللعب وقد نظم على هذا النحو بقواعد لا نهاية لها يمكن أن يستمر حتى يخلو المربع, والطفل الذي يحصل على أكبر عدد من الكريات يكون هو الرابح.

(1)يقصد بالصياد الكرية الكبيرة التى يستخدمها الطفل فى دفع الكريات الصغيرة .

(1)وهذه يعبر عنها بقولهم (La Reveutte) لا تدخل فى الحساب .

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل – 3

الحوار ونتائجه العامة

القواعد التي أتينا عليها مجملة حقيقة اجتماعية قائمة بذاتها – مستقلة عن الأفراد – في رأي دوركايم – وهي تنتقل كاللغة من جيل إلى آخر. وهذه المجموعة من العادات من الواضح أنها أكثر أو أقل مرونة، أما المستحدثات الفردية كما هو الحال في اللغة فإنها تنجح فقط حين تقابل حاجة عامة وحين تقدس طريقة جمعية على اعتبار أنها منسجمة مع روح اللعب. ومع أننا ندرك إدراكاً تامًا الاهتمام المرتبط بالناحية الاجتماعية للمشكلة إلا أننا أثرنا الأسئلة التى سوف ندرسها من زاوية أخرى مختلفة، واكتفينا بأن نوجه إلى أنفسنا السؤالين الآتيين :

1-  كيف يخضع الأفراد أنفسهم لهذه القواعد؟  فمثلاً كيف يلاحظون القواعد في كل سن ومستوى من مستويات نموهم العقلي؟

2-  وإلى أى حد يصبحون شاعرين بالقواعد؟  أو, بمعنى آخر, أي نوع من الإلزام ينتج (دائمًا بالنسبة لعمر الأطفال) من الإلمام المتزايد بالقواعد.

 

والحوار على هذا النحو من السهل أن نسير فيه.   ففي الجزء الأول يكفي أن نسأل الأطفال (وقد سألنا حوالى 20 ولدًا بين الرابعة والثانية عشرة إلى الثالثة عشرة) كيف يلعب كل منهم بالكريات.  والمجرب كان يسلك في حديثه ما يقرب من النحو الآتي “هنا بعض الكريات” (والكريات موضوعة على منضدة وبجانبها قطعة من الطباشير) “يجب أن تشرحوا لى كيف ألعب، فحين كنت صغيرًا كنت كثيرًا ما ألعب وإنى أحب أن ألعب ثانية.  فلنلعب سويا.  فلتعلمونى القواعد لألعب معكم”.   فنجدالطفل يرسم المربع ويأخذ لنفسه نصف الكريات ويترك له نصيبه ثم يبدأ اللعب.  ومن المهم أن نضع نصب أعيننا كل احتمالات اللعب فنسأل عنها الطفل.   ومعنى ذلـك أن تبتعد عن كل الاقتراحات وكل الذي ينبغي أن تفعله أن تبدو في حاجة تامة إلى الإرشاد بل وتتعمد أحيانًا أن تخطئ حتى يرشدك الطفل دائمًا إلى القواعد. ومن الطبيعي أنه يجب أن تأخذ الموضوع جديًا طوال فترة اللعب ثم تسأل عمن غلب, ولماذا.   فإذا لم يبدُ كل شئ واضحًا أعدت اللعب دورًا آخر.

 

ومن الأشياء البالغة الأهمية خلال هذا النصف الأول من الحوار أن تقوم بدورك بكل بساطة وأن تدع الطفل يشعر بتفوقه عليك في اللعب (ولكن لا تنس أن تبدي في بعض اللعب من المهارة ما ينبئ أنك لست مطبق الجهل).   وهكذا نأخذ الطفلالهوينا.  والمعلومات التي يعطيها عن طريقته في اللعب تكون عظيمة القيمة وكثير من أطفالنا اندمجوا في اللعب اندماجًا جعلهم يعاملوننى وكأني واحد منهم كما حدث من الطفل “بن” (10 سنوات) حين صاح قائلاً : “أنت محبوس” حين وقف صيادي في المربع.

 

وفي حالة الصغار من الأطفال الذين يجدون صعوبة في الحديث عن قواعد اللعب أثناء مزاولة اللعب فخير طريقة أن تجعلهم يلعبون مرتان، فتبدأ اللعب مع واحد منهم بالطريقة التى شرحناها آنفًا ثم تسأله أن يقص عليك القواعد التي يعرفها, ثم توجه نفس السؤال إلى الثاني (في غيبة الأول).  وأخيرًا تجمع الاثنين معًا وتطلب منهما أن يلعبا معًا. وهذه الطريقة المفيدة لا تحتاج إليها في حالة الكبار من الأطفال فيما عدا الحالات المشكوك فيها.

 

ثم يأتي القسم الثاني من الحوار الذي يقوم على دراسة الشعور بالقواعد, فتبدأ بسؤال الطفل إن كان يستطيع أن يخترع قاعدة, وهو عادة يفعل ذلك في سهولة ويسر، ولكن يجب أن تتاكد من أنها حقيقة قاعدة جديدة وليست أحد الأشياء المتغيرة القائمة مما يكون هذا الطفل بالذات قد عرفها. “إنى أريد قاعدة من اختراعك.   قاعدة اخترعتها أنت ولا يعرفها أحد سواك.   قاعدة … ويذكر اسم الطفل. فإذا ذكر القاعدة فلتسأله إن كانت هذه القاعدة قد تقيم لعبة جدية؟ وهل من الصحيح أن تلعب هكذا مع رفاقك؟  هل يريدون أن يلعبوا على هذا النحو؟  فالطفل قد يوافق على هذا الاقتراح أو يعارضه.  فإذا وافق فإنك تتبعه بسؤال عما إذا كانت القاعدة الجديدة قاعدة “عادلة”, “قاعدة حقيقية”, قاعدة كالقواعد الأخرى.  وتحاول أن تصل إلى البواعث المختلفة التي تدخل في الإجابة.   أما إذا لم يوافق الطفل على هذا كله فلتسأله عما إذا كانت القاعدة الجديدة يمكن – إن عممت – أن تكون قاعدة حقيقية.   “حين تكبر” لو فرضنا أنك بلغت قاعدتك الجديدة لمجموعة من الأطفال فربما يلعبون جميعًا على هذا النحو وينسى الكل القواعد القديمة, فاي القواعد حينئذ تصبح “العادلة”, قواعدك التي عرفها الكل أو القواعد القديمة التي نسيها الكل؟   ويمكن أن تتغير الصيغ تبعًا لمجرى الحديث، ولكن النقطة الهامة هي أن نكشف هل من حق الفرد أن يغير القواعد؟ وهل القواعد عادلة لأنها شائعة الاستعمال (ولو كانت حديثة العهد) أو لأنها ذات قيمة داخلية ودائمة؟ فإذا اتضحت لنا هذه النقطة يسهل أن نوجه السؤالين الآتيين :

1-      هل كان الناس يلعبون دائمًا كما نلعب اليوم؟  هل كان أبوك يلعب كذلك فى صغره، وجدك أيضًا، والاطفال في عصر ويليام تل، ونوح، وآدم وحواء …. إلخ، هل كانوا جميعًا يلعبون بالطريقة التي عرضتها علي أم بطريقة مختلفة؟

2-       ما أصل القواعد؟ هل هي من اختراع الأطفال أم من وضع الآباء والكبار على العموم؟

 

وأحيانًا يستحسن البدء بالسؤالين الأخيرين قبل أن نسأل عما إذا كانت القواعد قابلة للتغيير فهذه الطريقة تجنب الثبات؟ أو على الأقل تغير الاتجاه، وهكذا تسهل شرح الإجابة. وكل هذا الجزء من الحوار يحتاج أكثر من ذلك إلى أن تتناوله بمنتهى الرفق, فالإيحاء سهل الحدوث والخوف كبير من القصص الخرافية.  ولكن الموضوع الهام هو معرفة الموقف العقلي للطفل، فهل هو يعتقد أن القواعد ذات قيمة صوفية؟  أو أن قيمتها مستمدة من قرار متفق عليه؟  هل يخضع لقانون إلهي مفروض عليه من الخارج أم لشعور ذاتى؟ هذا هو السؤال الوحيد الذى يعنينا. وطبيعي أن الطفل ليس عنده اعتقادات سابقة عن أصل القواعد ولا دوامها, فآراؤه في هذا الموضوع إذن ليست إلا مجرد دلالات على موقفه الأساسي.   وهذه الحقيقة ينبغي أن نلاحظها طول فترة الحوار.

 

 

والنتائج التي حصلنا عليها من هذا الحوار ذي الوجهين, والتى سوف نختبرها بالتفصيل فيما بعد, يمكن إجمالها فيما يلي :

فمن ناحية تطبيق القواعد يمكن أن نميز أربع مراحل :

1-  المرحلة الأولى

تتميز بأنها حركية وفردية، فالطفل يتناول الكريات بوحي من رغباته وعاداته الحركية، وهذا يؤدي إلى تكوين قواعد مقدسة تزداد أو تنقص ولكن لما كان اللعب لازال فرديًا خالصًا فإن الإنسان يستطيع أن يتحدث عن القواعد الحركية فقط لا عن قواعد جمعية حقيقية.

 

2-    المرحلة الثانية

فهي التي يمكن أن نسميها مرحلة مركزية الذات للأسباب الآتية : فهذه المرحلة تبدأ من اللحظة التي يأخذ فيها الطفل من الخارج أنواعًا من القواعد المقننة, وهي المرحلة الواقعة بين الثانية والخامسة من العمر.  ومع أن الطفل يقلد هذا المثال إلا أنه لا زال يلعب إما بمفرده دون أن يعنيه البحث عن زملاء اللعب أو قد يلعب مع الآخرين دون أن يعني بالكسب.   وعلى هذا فليس هناك ما يدعوه إلى توحيد أنواع اللعب المختلفة.  بعبارة أخرى, فإن الأطفال في هذه المرحلة حتى ولولعبوا معًا فكل منهم يلعب بمفرده فالكل قد يكسب فى وقت واحد دون أن يعنى بتقنين القواعد.  وهذا السلوك الثنائي الذي يشمل تقليد الآخرين مع استخدام الأمثلة التي أخذها عنهم استخدامًا فرديًا خالصًا هو الذي نعنيه باصطلاح مركزية الذات.

3-    المرحلة الثالثة

تظهر المرحلة الثالثة بين السابعة والثامنة من العمر والتي يطلق عليها “التعاون في الظاهر”.  حيث يجتهد كل لاعب في أن يكسب ولذا يعنون بمسألة القيود المتبادلة وتوحيد القواعد، ولكن بينما قد يصلون إلى اتفاقات معينة أثناء لعبة ما فإن الآراء المتصلة بالقواعد فى جملتها لا زالت غامضة.   وبتعبير آخر, فإن أطفال السابعة والثامنة الذين ينتمون إلى فصل واحد من فصول المدرسة – وهم لهذا يلعبون معًا باستمرار – إن سئلوا متفرقين فإن إجابتهم نجدها متباينة ومتناقضة فيما يتعلق بالقواعد المرعية في لعبة الكريات.

4- المرحلة الرابعة

وأخيرًا, فيما بين الحادية عشرة والثانية عشرة تظهر مرحلة رابعة, وهي مرحلة تقنين قواعد اللعب, وهذا التقنين قد أصبح يتناول التفاصيل الدقيقة لخطوات اللعب، كما أن قانون اللعب المتبع قد أصبح معروفاً لدى المجموعة كلها, فهناك اتفاق ملحوظ في المعلومات التي أدلى بها أطفال العاشرة إلى الثانية عشرة ممن ينتمون إلى فصل واحد من فصول المدرسة حين سألناهم عن قواعد اللعب والتغيرات التي يمكن إدخالها عليها، وهذه المراحل ينبغي أن نعطيها حقها من التقدير فلا نزيد في تقديرها ولا ننقص. ومن الواضح أن الدراسة تضطرنا إلى تقسيم حياة الأطفال إلى مراحل حسب عمرهم الزمنى، أما الحقائق الخاصة بها في سلسلة مستمرة فلا يمكن تجزئتها.   أكثر من ذلك, فهذه الوحدة المستمرة ليست محدودة المميزات واتجاهها العام لا يمكن أن نلاحظه إلا عن طريق عمل رسم كروكى للمادة مع إهمال الذبذبات البسيطة التي تؤدي إلى تعقيدات فى تفاصيلها، فإن عشرة أطفال مختارين اعتباطًا ربما لا يؤيدون فكرة التطور المستمر الذي يظهر بالتدريج من الحوار الذي دار بيننا وبين مئات الحالات التي اختبرناها في جينيف ونوشاتل.

 

فإذا عدنا إلى موضوع الشعور بالقواعد فإنا نجد تطورًا قد يكون أكثر خداعًا فى تفاصيله ولكنه لا يقل ظهورًا لو نظرنا إليه نظرة واسعة. ويمكننا توضيح ذلك لو قلنا إن التطور يسير فى ثلاث مراحل تبدأ الثانية منها أثناء مرحلة مركزية الذات وتنتهي حوالي منتصف مرحلة التعاون الظاهر (9-10).   أما الثالثة فتشمل الجزء الباقي من مرحلة التعاون هذه وكل المرحلة التي تتميز بتقنين القواعد.  ففي المرحلة الأولى نجد أن القواعد ليست إجبارية بطبيعتها, إما لأنها حركية خاصة أو (عند بداية مرحلة مركزية الذات) لأنها مأخوذة لا شعوريًا على علاتها باعتبارها أمثلة ذات أهمية أكثر منها حقائق إجبارية.  وفي المرحلة الثانية (أواخر مرحلة مركزية الذات والنصف الأول من مرحلة التعاون في الظاهر)  فإن القواعد تعتبر مقدسة لا يمكن مسها فقد جاءت من البالغين, وهي مستمرة إلى الأبد بتغيير يراه الطفل إثما.  وأخيرًا, في المرحلة الثالثة تعتبر القواعد قانونًا قد نتج من اتفاق متبادل يجب أن يحترمه كل من أراد أن يكون مطيعًا، ولكن يمكن تغييرها لو وفقت إلى ضم الرأى العام إلى جانب إجابتك.  والارتباط بين المراحل الثلاث لتطور الشعور بالقواعد والمراحل الأربع لتطبيق القواعد هو بالطبع ارتباط إحصائي وهو لهذا غير ناضج.  ومع ذلك فإنا نستطيع إجمالاً أن نقول إن العلاقة تبدو غير قابلة للطعن، فالقانون الجمعي هو أول الأمر شئ خارجي عن الفرد فهو مقدس عنده، فإذا تملكه تدريجيًا فإنه يصل إلى الحد الذي يجعله يعتبره نتيجة اتفاق متبادل. ومن وجهة التطبيق الفعلي فمن الطبيعي أن تقديس القوانين يجب أن يكون مصحوبًا بمعرفة جزئية لعناصرها وتطبيق محتوياتها.   أما الاحترام المعقول المتزن فيكون مصحوبًا بتطبيق فعلي لكل قاعدة بتفاصيلها.  وعلى هذا فيظهر هناك نوعان من الاحترام للقواعد يرتبطان بهذين النوعين من السلوك الاجتماعي. وهذه النتيجة جديرة بالبحث الدقيق، إذ لو كانت صحيحة فإنها تصبح ذات قيمة عظمى في تحليل أخلاق الأطفال، فيستطيع الإنسان أن يرى مرة واحدة كل ما توحي له بالنسبة للعلاقة بين الطفل والرجل البالغ.   لنأخذ, مثلاُ, ظاهرة عدم خضوع الطفل لوالديه ومعلميه في نفس الوقت الذي يحترم فيه الأوامر التي يتلقاها, وفي الوقت الذي تبلغ فيه قابليته للتعلم درجة خارقة للعادة. ألا يمكن أن نعزو هذا إلى تعقد المواقف التي نلاحظها أثناء مرحلة مركزية الذات, والتي تجمع بطريقة متناقضة بين ظاهرة عدم ثبات تطبيق القواعد وبين موقف التقديس نحو هذه القواعد, وهل يمكن أن يعطينا التعاون بين البالغين والأطفال – إلى الحد الذي نعرفه وإلى الحد الذي يسهله التعاون بين الأطفال أنفسهم – المنفذ الذى ننفذ منه إلى داخلية الأوامر إلى ذاتية الشعورالأخلاقي.   ولهذا فلا بأس من قضاء بعض الوقت في تحليل قواعد اللعب لأننا هنا أمام طريقة سهلة، ولهذا فهى أكثر ضمانًا من مجرد الحوار مع الأطفال عن قصص وهي الطريقة التي سوف نتبعها في الجزء الأخير من هذا الكتاب.

 >>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل  – 4   

تطبيق القواعد

1- المرحلتان الأوليان

لاداعي لأن نطيل في المرحلة الأولى فهي لا ترتبط بموضوعنا ارتباطاً مباشرًا وفي الوقت نفسه من المهم أن نعرف : هل القواعد التي تظهر في الوجود سابقة لأي تعاون بين الأطفال هي نفس نوع القواعد الجمعية؟

 

والآن دعنا نعطي طفلاً في شهره الثالث أو الرابع ملء قبضة من الكريات, وليكن عددها عشرًا, ولنلاحظ ردود أفعاله.   وضعت “جاكلين” الكريات في يدها ونظرت إليها مندهشة (فهذه أول مرة تراها) ثم تركتها على السجادة وبعد ذلك وضعتها في ثقب.  هل هي حيوانات؟  لا.  هل هي كرات؟  نعم.   ثم عادت فوضعتها على السجادة وتركتها تسقط من علو معين وجلست على السجادة ومدت ساقيها وقذفت بالكريات أمامها بضعة بوصات ولكنها عادت ووضعتها على الكرسي وفى نفس الثقب الذى كانت قد وضعتها فيه من قبل (فى الكرسي “زراير” أحدثت فيه منخفضات) ثم جمعت الكريات وجعلتها تسقط معًا، ثم واحدة بعد الأخرى.  وبعد ذلك وضعتها في الكرسي أولاً فى نفس المكان ثم في الثقوب الأخرى، ثم كومتها على شكل هرم.  “ما هي الكريات؟” “ماذا تظنين ؟”.   ثم وضعتها على الأرض ثم أرجعتها على الكرسي في نفس الثقوب، ثم ذهبنا معًا إلى الشرفة فتركت الكريات تسقط من على الكرسي كي تنط. وفي الأيام التالية نجد جاكليـن (Jaceuline) تضـع الكريات ثانية على الكرسي أو تضعها في قدر المطبخ الذي تملكه وقد تكتفى بتكرار السلوك الذي وصفناه من قبل.

 

وهنا ثلاث ملاحظات ينبغي أن ننظر إليها فيما يتعلق بمثل هذه الحقائق : الأولى هي الاستمرار والتوجيه في تتابع السلوك، فالطفل من غير شك يجتهد أولاً وقبل كل شيء في فهم طبيعة الكريات ويخضع طريقتها الحركية للحقائق الجديدة، ولهذا يعزى قيامه بالتجارب الواحدة بعد الأخرى – رمي الكريات وتكويمها على شكل أهرام أو عشش، أو تركها تسقط، أو جعلها تنط, إلى آخره – ولكن بمجرد أن تمر لحظات الدهشة الأولى فإن اللعبة تصبح غير مناسبة أو على الأقل مجرد هواية وقتية.   وبتوالي الأيام حين يتخذ الطفل عملية طبخ الغذاء لعبة له فإن الكريات تقوم بوظيفة الطعام الذي يطبخ في القدر, حتى إذا وصل الطفل إلى مرحلة الاهتمام بالتقسيم والترتيب فإنه يكون الكريات فى ثقوب المقعد وهكذا.  فليس في الطريقة العامة للعبة أية قواعد.

 

والملاحظة الثانية أن هناك نظامًا معينًا من التفاصيل.   فيمكن أن نلاحظ السرعة التي تتحول بها بعض تصرفات معينة فتصبح منظمة بل إلزامية.  فعملية جمع الكريات في ثقب المقعد أول الأمر مجرد تجربة ولكنها سرعان ما تصبح حركة منتظمة تقوم على إدراك الكريات.   وبعد بضعة أيام تصبح مجرد التزام وإن كان الطفل لا زال يقوم بها بشيء من الاهتمام مجرد من بذل أي جهد جديد للتوافق.

والملاحظة الثالثة أنه يجب أن نعنى بملاحظة الرمزية (1) التي سرعان ما تطغى على السلوك الحركي للطفل.   وهذه الرموز من غير شك تستخدم في اللعب أكثر منها في التفكير ولكنها تشمل درجة محدودة من الخيال, فالكريات طعام يطبخ, أو بيض يوضع فى العش, إلى آخره. فإذا تحقق هذا فإن قواعد اللعب يمكن اعتبارها مشتقة إما من الالتزامات التي تشبه ذلك الذي خبرناه أو من الرمزية التي أصبحت جمعية.    ولندرس, باختصار, الأسس الفطرية لهذا السلوك الحركي وغايته النهائية :

 

نستطيع – بالطريقة التراجعية – أن نقول إن كلاً من الالتزامات والرموز يبدو أنه يوجد في حالات الذكاء الحركي السابقة للألفاظ.   فالطفل وعمره بين خمسة شهور وثمانية إن عرضت عليه شيئًا جديدًا يستجيب له برد فعل مزدوج، فهو يلائم بين نفسه وبين الشئ الجديد، ويمتص الشئ الجديد فيضيفه إلى مجموعة الأشياء الحركية التى ألم بها من قبل.   فلو أنك أعطيت طفلاً كرية فإنه يختبر سطحها ومتانتها ولكنه فى الوقت نفسه يستخدمها كشئ يقبض عليه ويرضعه ويحكه فى مهده وهكذا.  وهذا الامتصاص لكل شئ جديد بالنسبة للأشياء الحركية القائمة عنده يمكن أن نعتبره الخطوة الأولى للأفعال الإلزامية والرموز ويكون أقوى – على الأقل منذ اللحظة التي حصل فيها الامتصاص – من التوافق العقلي نفسه.

 

وبالنسبة للأفعال الإلزامية نجد أننا نصطدم بالحقيقة الآتية, وهي أن الطفل حوالي الشهر الثامن أو العاشر من عمره نجد كل أفعاله الحركية – بصرف النظر عن لحظات التوافق بالمعنى الحقيقي – تؤدي إلى ظهور نوع من الوظيفية يشعر فيها الطفلبلذة كاللذة التي يجدها في اللعب تمامًا.  فالطفلة “جاكلين”, بعد أن يصبح من عادتها أن تلمس بوجهها ذقن والدها وتمسح أنفه وتستنشق بعمق، نجدها قد بدأت تنظر إلى هذا الالتزام وكأنه نوع من المزاح فتمسح أنفها وتستنشق في عمق لمجرد تصورها وجود صلة بين وجهها ووجه شخص آخر، ولكنها تقوم بهذا كله دون أن تعبر عن أى تعاطف خاص كما في الحالة السابقة.    وهكذا ينتقل هـذا الفعـل من كونه واقعيًا مندمجًا في توافق عاطفي إلى أن يصبح التزاماً ويقوم بوظيفة اللعب(1) فحسب ونجد أيضًا أن جاكلين عندما تستحم تعنى بمسح شعرها “والطبطبة” على الماء ثم تكرر نفس العملية فتمس شعرها وتمس الماء بالتناوب. وفي أثناء الأيام القليلة التالية نجد العملية قد أصبحت إلزامية لدرجة أنها لا يمكن أن تمس سطح الماء بيدها دون أن تقوم بحركة مس شعرها.   وهذا الإلزام لا يمكن أن نعتبره بحال من الأحوال حركة أتوماتيكية، وإنما هو لعبة تسليها بانتظامها التام.   وكل من يشرف على طفل في الشهر العاشر من عمره أو الثاني عشر يلاحظ هذه الالتزامات التي تبين بالتأكيد قواعد اللعب المستقلة.

 

أما من ناحية الرموز فإنها تظهر حوالي نهاية العام الأول كنتيجة للأفعال الإلزامية.   فإن عادة تكرار إيماءة معينة بطريق الإلزام تؤدى تدريجياً إلى الشعور “بالإيماء”.   وطريقة الإلزام التي يتبعها الطفل في الذهاب إلى مضجعه لينام, مثلاً, (يضع رأسه وينظم زاوية المخدة عن طريق العمليات العديدة التي يقوم بها كل طفل) سوف تستخدم إن عاجلاً أو آجلاً في “الفضاء”.  وابتسامة الطفل حين يغمض عينيه أثناء قيامه بهذا الالتزام تكفي للدلالة على شعوره “بالإدعاء” أنه ذاهب للنوم.  فهنا فعلاً رمز ولكنه رمز “تخيلي”.   وأخير, حين تضاف اللغة والتخيـل إلى الذكاء الحركي يصبح الرمز موضوعًا للتفكير، فالطفل الذي يدفع الصندوق قائلاً “قف قف” يتخيل حركة الصندوق فيمتصها مع حركة السيارة, وهكذا تظهر الرمزية بكل وضوح.

 

فإذا كان الأمر كذلك, فعلينا أن نبحث بين الالتزامات والرموز عن أصل القواعد الفعلية للعب.  فهل يمكن أن تكون لعبة الكريات مع ما تشتمل عليه من تعقيدات غير محدودة سواء من جهة القواعد الفعلية أو من ناحية كل ما يتصل بالنظام اللفظي والحركي للعلامات التي تستخدمها – هل يمكن أن نعتبر هذه اللعبة كنتيجة من الالتزامات والرموز الفردية؟  نحن لا نستطيع أن نوافق على هذا الرأي، إذ نعتقد بأن الالتزام الفردي والرمز الفردي يكون الأساس الذي تقوم عليه القواعد والدلالات الجمعية، فهو ضروري لها ولكنه لا يكفي لتكوينها، فهناك شئ أكثر من القاعدة الجمعية في القاعدة الحركية أو الالتزام الفردي، كما أن هناك شيئًا في الدلالة أكثر من الرمز.

 

أما بالنسبة للقاعدة الحركية أو الإلزامية فليس من شك في أنها تشتمل على عنصر مشترك بين القواعد في معناها العادي، وهو الشعور بالانتظام، فإذا رأينا السرور البادي على الطفل في شهره العاشر إلى الثاني عشر أو على طفل في عامه الثاني أو الثالث حيث يقوم بتقليد سلوك بكل تفاصيله والدقة في الانتباه التي يلاحظ بها النظام الصحيح لهذه العمليات فإننا لا نستطيع أن نسلم بما قاله بيلر (Buhler) عن فكرة الـ Regelbewussien ولكن يجب أن نميز بعناية بين السلوك الذي يتضمن مجرد السرور من الانتظام، والسلوك الذي يتضمن عنصرًا من الالتزام.   فهذا الشعور الالتزامي هو الذي يبدو لنا كما بدا لدوركايم (1) وبوفيه(2) أنه هو الذي يميز بين القاعدة بمعناها الصحيح والقاعدة على اعتبارها مجرد انتظام.

 

والآن نجد أن هذا العنصر من الالتزام – أو إن شئنا ان نقصر بحثنا على موضوع تطبيق قواعد اللعب – هذا العنصر من الطباعة يقوم بمجرد قيام مجتمع ولو من فردين على الأقل. وهو يظهر بمجرد فرض إلزام على طفل من الراشدين أو الرؤساء الذين يجلهم (بوفيه) ويمكننا أن نضيف إلى ذلك فنقول : إنه بمجرد قيام إلزام كنتيجة لاشتراك طفلين فإنه يتكون في عقل الشخص سلوك جديد هو الذي نعنيه بلفظ قاعدة. وهذا السلوك قد يختلف تبعًا لنوع الاحترام الذي يسود (احترام للرؤساء أو احترام متبادل) ولكنه في جميع الحالات يتدخل مع عنصر الاستكانة الذى لم يكن متضمنًا في الإلزام الخالص البسيط.

 

والواقع أن هناك درجات من الاختلاف بين النظام البسيط الذي يكتشفه الفرد وبين القاعدة التي تخضع لها مجموعة اجتماعية.  وعلى هذا فإننا نجد أنه أثناء مرحلة مركزية الذات يمكننا أن نلاحظ سلسلة متصلة من الحالات التي يستخدم فيها الطفلالقاعدة كمجرد إلزام يمكن أن تتحول أو تتهذب تبعًا لرغبته بينما هو في الوقت نفسه يحاول أن يخضع للقوانين العامة. وبالمثل نجد الطفل حين يستطيع استخدام اللغة وإدراك المعنويات والكلمات يحتفظ في بعض مواقفه بظاهرة إضافة كثير من خصائص مركزية الذات في  التفكير، بل وببعض الطرق الخاصة بالرمزية واللعب, ولهذا نجده تحت تأثير القواعد التي فرضت عليه يستمر لفترة طويلة يخترع (بكل معنى الكلمة) في حالة القرارات الشخصية ولكن هذا الاستمرار الحقيقي بين الإلزام والقاعدة ليس معناه أنه لا يتضمن فرقًا في الكيف بين النوعين من السلوك.

 

والآن لا داعي لأن نسبق البحث فنذكر ما سوف نقوله في موضوع تحليل الشعور بالقواعد ولكنا نعود إلى موضوع الإلزام. فالإلزام الفردى ينمو بطبيعته – على النحو الذى شرحناه – نحو الرمزية المعقدة قليلاً أو كثيرًا.   فهل نستطيع أن نعتبر هذه الرمزية هي نقطة البداية لهذا النظام من الدلالات اللفظية الحركية الإجبارية التي ترتبط بقواعد أي لعبة جمعية؟  بالنسبة للمشكلة السابقة، نحن نعتقد أن الرمز ضروري ولكنه ليس دليلاً كافيًا على ظهور الدلالات، فهذه الدلالة عامة ومعنوية (استبدادية) أما الرمز الفردي فله باعث، فإذا كانت الدلالة تلي الرمز فإن المجموعة والحالة هذه يجب أن تزيح عن خيال الفرد كل خياله الشخصي وتحل محله خيالاً عامًا وإجباريًا يتفق مع قانون القواعد نفسها.  وهنا ملاحظة تبين البعد الشاسع بين الإلزامات الفردية والرموز وبين القواعد والدلالات وإن كانت تتجه نحو هذه الحقائق كلما قام التعاون بين الأطفال.

 

“جاكلين” (بعد الملاحظة التي أبدتها من قبل) تلعب مع “جاك” (عامان وأحد عشر شهرًا وخمسة عشر يوما) وقد رأى الكريات لأول مرة.

1-      أخذ “جاك” الكريات وتركها تسقط من علٍ واحدة بعد الأخرى ثم التقطها وانصرف.

2-      وضع جاك الكريات بنظام على الأرض في ثقب وقال : “إنى أصنع عشًا صغيرًا”.

–       أخذت جاكلين واحدة وزرعتها فى الأرض من باب التقليد .

3-       أخذ جاك أيضًا واحدة وأهال عليها التراب ثم رفعه عنها وكرر ذلك ثانية، ثم أخذ كريتين دفعة واحدة ودفنهما ثم أخذ 3، 4، 5 حتى 6 وكان يزيد العدد كريّة واحدة بانتظام كل مرة.  وقد قلدته جاكلين فبدأت بوضع واحدة على الأرض وغطتها بكومة من الطين, ثم اثنتين, فثلاث بشكل عشوائي دون أن تتبع نظاماً فى الزيادة.

4-      وضع جاك الكريات كلها على شكـل كومة ثم وضع كرة من المطاط بجانبها وأخذ يقول “هذه كرة ماما وتلك كريات الأطفال”.

5-      ثم كومة ثانية وغطاها بتراب حفرة وسوى الأرض.   أما جاكلين فقد قلدته ولكنها استخدمت كرية واحدة فغطتها دون تسوية وأضافت إلى ذلك قولها “إنها فقدت”.   ثم حفرت باحثة عنها وأعادت الكرة عدة مرات.

 

هذا المثال يوضح لنا تمامًا كيف أن عناصر الخيال عند الفرد أو الرمزية تبقي دون اتصال، فإذا بدأت اللعبة تستغل ناحية خيالية فإن كل طفل يستغل صوره المحبوبة  دون أن يعنى بأي ناحية أخرى، كما أنه يلاحظ أن الخطط الإلزامية التي يسير عليها بالتوالي تخلو تمامًا من أى توجيه عام، ولكن بمجرد قيام تقليد متبادل نبدأ نجد القاعدة فكل طفل يجتهد أن يدفن كرياته بنفس الطريقة التي يتبعها الطفل الآخر بشكل عام وإن اختلفت درجة الإتقان.  وفي الوصول إلى هذه الناحية تقودنا الملاحظة إلى مرحلة “مركزية الذات” التي يتعلم فيها الطفل قواعد الناس ولكنه يزاولها تبعًا لهواه.

 

ويمكننا أن نلخص هذا التحليل للمرحلة الأولى بأن نكرر ما سبق أن قلناه وهو أن القواعد لا تقوم قبل أن يصبح اللعب شاسعًا. حقيقة أنه يقوم شئ من النظام والالتزام ولكن هذه الالتزامات هى من عمل الفرد فلا تستدعى الخضوع لشئ أقوى من الذات وهذا الخضوع هو الدليل على ظهور القاعدة.

 

المرحلة الثانية هي مرحلة “مركزية الذات”.

في دراسة مزاولة اللعب سوف نستغل فكرة سبق أن استخدمناها في مناسبات سابقة في الصفات التي أضفيناها على السلوك العقلي، وهذه الظاهرة لها نفس النظام في الحالتين فمركزية الذات تبدو لنا كحالة من حالات السلوك وسطًا بين السلوك الفردي الخالص والسلوك الاجتماعي، فعن طريق التقليد واللغة وعن طريق المحتويات العامة لتفكير الكبار التي تؤثر علي عقول الأطفال – بمجرد أن يتيسر قيام الاتصال اللفظي بينهم – نجد أن الطفل يبدأ يتجه نحو الاجتماعية بمعناها المحدود منذ نهاية عامه الأول. ولكن طبيعة العلاقات التي تقوم بين الطفل ومن يحيط به من الكبار تمنع هذه الاجتماعية فترة ما من الوصول إلى حالة التوازن التي تساعد على نمو العقل، ونعنى بذلـك حالة التعاون التي يستطيع فيها الأفراد المتساوون أن يلزموا أنفسهم نوعًا من الضبط المتبادل وهذا يؤدى إلى الموضوعية.  بمعنى آخر فإن طبيعة العلاقة بين الطفل والراشد تجعل الطفل بعيدًا وتفكيره منعزلا، فبينما نعتقد أنه يشارك في وجهة النظر العالمية مشاركة واسعة إذ به لا يزال في الواقع محبوسًا داخل وجهة نظره هو.  والرباط الاجتماعي ذاته الذي يربط الطفل ربطا محكمًا كما يبدو من الخارج يتضمن حالة مركزية عقلية لا شعورية تسودها فيها بعد حالة “مركزية الذات” التلقائية الخالصة التي نجدها في كل شعور بدائي.

 

وبالمثل بالنسبة لقواعد اللعب يمكننا بسهولة أن نري هذا الرأي ويوافقنا على ذلك علماء(1) أعظم منا شأنًا ممن أشاروا إلى أن بداية لعب الأطفال تتميز بمرحلة طويلة من مركزية الذات، حين نجد الطفل وقد سادته من جهة مجموعة من القواعد والأمثلة المفروضة عليه من الخارج ولكنه, من جهة أخرى, قد عجز عن أن يضع نفسه في مستوى المساواة بالنسبة لمن هم أكبر منه، لهذا نجده دون أن يشعر بعزلته يستخدم كل ما ينجح فى امتصاصه من الحقائق الاجتماعية المحيطة به لسد حاجياته الخاصة، فإن انتقلنا إلى لعبة الكريات نجد الطفل بين الثالثة والخامسة يكتشف – بتأثير من يلعب معهم من الأطفال – أنه لكي يلعب هذه اللعبة يجب أن يبحث عن مربع، ويضع فيه الكريات، ويجتهد فى إخراج الكريات بضربها بكرية أخرى، وأن يبدأ من خط يرسم قبل اللعب وهكذا …. ولكنه يقلد ما يلاحظ، ويعتقد اعتقادًا تامًا أنه يلعب كالآخرين.  ونجد في الوقت نفسه أنه لا يفكر في أول الأمر في شئ غير أن يستغل هذه المعارف الجديدة لصالحه هو، فهو يلعب بأسلوبه الفردي وإن كانت المادة التي يلعب بها مادة اجتماعية وهذه هى مركزية الذات.

 

 

وننتقل إلى تحليل حقائق هذه الحالة.

 

 

 

 

 

 

 

(1)نحن نستخدم لفظ ” رمز ” بالمعنى الذى يقابل لفظ ” دليل ” : فالدليل تعسفي على حين أن الرمز له باعث ، وهذا المعنى الذى يقصده فرويد من التفكير الرمزى

(1)العمر الزمنى 10 شهور

(1)L’ Education Morale

(2)” Les conditions de l,obligation de la conscience ” Année , Psychol , 1912

(1)وقد لحظ شترن فى كتابه ص 147-288 (Psychol. der frunhen Rindheit)

4e ed ( وقد ترجم الإنجليزية بعنوان Psychology of Early childhood

اتفاق المراحل التى وضعناها عن طريق أحاديث الأطفال على مراحلة التى وضعها على أساس اللعب .

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل – 5

 

مار (Mar)(1) (6) سنوات يقبض على الكريات التي نعطيها له ودون أن يعنى برسم مربع نجده يكومها ويبدأ يصوب نحو الكومة ونجده يحرك الكريات التي وضعها ويضعها بجانب بعضها دون التزام أي طريقة   – “هل تلعب دائمًا هكذا ؟”  – في الشارع ترسم مربعًا.  – إذن اتبع ما يفعلونه في الشارع.  – إنى أعمل مربعًا.  وأخذ يرسم المربع ويضع الكريات داخله، وبدأ يلعب ثانية, ثم أخذت ألعب معه مقلدًا كل حركة من حركاته. “من الذى كسب ؟”  – “كلانا كسب”.   – ولكن من الذي كسب أكثر ؟ (لا يستطيع  مار أن يفهم). 

 

بوم (Baum) (½ 6 سنة) بدأ يرسـم المربع ووضع فيه ثلاث كريات, ثم أضاف قائلاً “أحيانًا نضع 4 أو 3 أو 5 .  لا,  ليس 5 ولكن أحيانًا 6 أو 8”.  – “من يبدأ حين تلعب مع الأولاد؟” – “أحيانًا أنا وأحيانًا واحد غيري.” – أليس هناك طريقة لمعرفة من يبدأ اللعب؟  – “لا.”-  هل تعرف ما هو اللعب ؟”  -“لا.”  مجرى الحديث يوضح أنه لا يعرف شيئًا عن خط اللعب ويظن أن معناه لعبة أخرى.  – أينا يبدأ اللعب؟  – “أنت”.  – ولماذا؟   – “لأني أريد أن أعرف كيف تلعب.”  ثم لعبنا فترة سألته بعدها عمن كسب.  – الذى يصيب الكريات طبعًا هو الذي يكسب.  – فمن الذى كسب ؟   – أنا ثم أنت.  ثم نظمت الكريات فأخذت أربعة وأخذ هو اثنتين.  – من كسب؟  – أنا ثم أنت.  ثم بدأنا ثانية فأخذ هو اثنتين ولم آخذ أنا شيئا   – من الذى كسب؟  – أنا ثم أنا وقد خسرت أنت.

 

(Loff) لويف (6 سنوات) وهو دائمًا يدعي أنه يلعب مع ماى الذي سوف نتحدث عنه فيما بعد، وهو لا يعرف كيف يرسم المربع ولا خط اللعب فبدأ مباشرة يصوب نحو الكريات المتجمعة على شكل كومة ويلعب دون توقف أو اهتمام بنا   – هل كسبت؟   – لا أعرف.   أظن أني كسبت.   – ولماذا؟  – لأني  قذفت الكريات.  – وأنا؟   – نعم, لأنك قذفتها.

 

(Desarz) ديزارس (6 سنوات) – هل تلعب كثيرًا؟ – نعم.  – مع من؟   – مع نفسي.  – هل تفضل اللعب وحدك؟  – لا داعي لاثنين.  – أيمكن أن تلعب منفرداً؟  جمع الكريات ثم شكل كومة، بدون عمل مربع وأخذ يصوب نحوها.

 

والآن ننتقل إلى دراسة حالة طفلين اعتادا اللعب معًا وهما يسكنان في منزل واحد لنرى وجهة نظرهما الأول ويدعى ماى (Mae) هو خير من يمثل المرحلة الحاضرة، وأما الآخر (ويد Wid) فهو على حافة هذه المرحلة والمرحلة التالية.  وتحليل هذه الحالات سوف يعطينا أحسن النتائج لأن الطفلين موضوع الدراسة ليسا مبتدئين في اللعب.

 

ماى (Mae)  (6 سنوات) ويد (Wid) (7 سنوات) يقولان إنهما دائمًا يلعبان معًا، وقد بدأنا نختبر ماى بأنفسنا.   لقد كوم كرياته في زاوية دون أن يعدها, ولا يعترف بأنه رسم مربعًا من قبل، ثم عاد فصحح ما قال وأكد أنه دائمًا يفعل هكذا.  – أنت وويد حين تلعبان, أيكما يبدأ اللعب؟  – يلقي أحدنا صياده ويجتهد الآخر في أن يصيبه فإن أصابه بدأ.  ثم أخذ (Mae) يرينا مما تتكون اللعبة، فألقى صياده دون أن يراعي المسافة ولا طريقة اللعب، فلما نجح في طرد إحدى الكريات من المربع أعادها بسرعة.   فاللعبة عنده, إذن, لا تنتهى.  – هل تستمر هكذا إلى ما شاء الله؟  – أنت تخرج واحدة لمجرد إحداث تغيير.   وقد أخذ كرية من المربع ولكنها ليست الكرية التي صادها من قبل.  – سوف تنتهي حين لا يبقى سوى واحدة (وكان قد صوب صياده مرتين وكل تصويبتين  يخرج واحدة, ثم عاد فأكد أن كل ثلاث تصويبات تخرج واحدة.   إنه يفعل ذلك فماى (Mae) يخرج كرية كل ثلاث تصويبات بصرف النظر عما إذا كان قد أصاب الهدف أو أخطأه.  وهذا معناه عدم اتباع نظام من نظم اللعب، فلا صلة له بشئ مما في اللعبة كما تزاول عادة, أو كما شاهدنا في نوشاتل وجينيف.  فهذا النظام إذن من اختراع الطفل يظن أنها قاعدة من القواعد التي شاهدها لأنها تشابه ما يحدث في عالم الواقع حين يخرج اللاعب الكرية التى يصطادها.  وطريقة ماى (Mae) في اللعب التي أتينا على وصفها تمثل اللعب في المرحلة الثانية فهى طريقة مركزية الذات، الكسب فيها ليس معناه الكسب من الآخرين بل مجرد اللعب وحده.  أما ويد (Wid) الذي لم يشترك في حوار ماى (Mae)فنجده بدأ فرسم المربع ووضع 4 كريات كل واحدة فى زاوية وواحدة فى الوسط (نفس الترتيب الذي اتبعه ماى وربما كان بشكل مشوه).  وويد لا يعرف ما العمل لتعيين البادئ باللعب فذكر أنه لا يعرف شيئًا عن الطريقة الشائعة بينهما (محاولة إصابة صياد زميله) ثم قذف ويد (Wid) صياده صوب المربع فأخرج كرية وضعها في جيبه، ثم جاء دوري ولكني فشلت في إصابة شئ من الكريات، فلعب هو ثانية وكسب كل الكريات، الواحدة بعد الأخرى محتفظاً بالتي تخرج في كل مرة. ثم إنه ذكر أن من يخرج الكرية له الحق في أن يستمر في اللعب. فلما أخذ الكريات كلها قال  – إني كسبت.   فويد (Wid) والحالة هذه في المرحلة الثالثة لو أنا أخذنا شرحه بشكل إجمالي, ولكن مجرى الحديث سوف يبين أنه لا تعنيه أعمال ماى (Mae)حين يلعبان معًا.  فماى (Mae) إذن عند الخط الفاصل بين مرحلة مركزية الذات ومرحلة التعاون, ثم طلبت من ماى أن يدخل الحجرة وبدأ الطفلان يلعبان معا. فقام ماى (Mae) برسم مربع ووضع ويد (Wid) الكريات وفق خطته المعتادة وبدأ ماى اللعب.  لعب ماى بطريقة الدحرجة بينما لعب ويد (Wid) معظم الوقت بطريقة القذف.  فلما أخرج أربع كريات قال  – إني أستطيع أن ألعب أربع مرات الآن.  وهذا ينافي كل القواعد, غير أن ويد (Wid) يري أن العبارة عادية ولا غبار عليها. وهكذا توالت دورات اللعب الواحدة بعد الأخرى وكانت الكريات توضع في المربع بواسطة أحد الطفلين أو الطفل الآخر وفق الروح التي تدفعهم إلى ذلك (تقضي قواعد اللعبة بأن يضع كل نصيبه).  كان يحدث أحيانًا أن الكريات التي أخرجت تعود إلى المربع ثانية وبعضها يحتفظ به من يكسبها. وكان كل منهم يلعب من المكان الذي يختاره دون أن يراجعه زميله، كما كان يصوب عددًا من المرات حسب هواه.  كثيرًا ما كان يحدث أن ماى وويد يلعبان فى وقت واحد.

 

ثم أخرجت ويد من الحجرة وطلبت من ماى (Mae) أن يشرح اللعب لنا للمرة الأخيرة, فوضع ماى 16 كرية فى وسط المربع . – “لماذا هذا العدد؟”.  – “لكى أكسب”.  – “كم وضعت مع ويد؟”.  – “لقد وضعت خمسًا ولكن حين أكون وحدى أضع كثيرًا”.  ثم بدأ ماى يلعب ويخرج كريات يضعها جانبًا وأخذت أقوم بنفس العمل.  واستمر اللعب على هذا النحو.  كان كل منا يلعب دون أن يعمل حسـابًا لموضوع إخراج الكريات (وهذا يخالف ما كان يفعله ماى منذ لحظة).  ثم وضع ماى خمس كريات في المربع مثلما كان يفعل مع ويد.  وفي هذه المرة نظمت الكريات الخمس على النحو الذى فعله ماى نفسه في بدء الحوار (4 متجاورة وواحدة فوقها) ولكن يظهر أن ماى قد نسي هذه الطريقة.  وفي النهاية أخذ ماى يلعب بأن يخرج كرية كل ثلاث تصويبات كما كان يفعل قبلاً ويقول لنا – “هي هكذا حتى يمكن أن تنتهي”.

 

ولقد عرضنا هذا المثال كاملاً لكي نبين ضآلة قدرة الطفلين على فهم كل منهما للآخر رغم أنهما من فصل واحد ويعيشان في منزل واحد وقد اعتادا اللعب معًا فلم يكتفيا بأن يذكرا لنا قواعد مختلفة تمامًا     (فهذه لازالت تحدث خلال المرحلة الثالثة) ولكنهما حين يلعبان معًا فإن الواحد منهما لا يلاحظ زميله ولا ينسجم مع القواعد من أجل استمرار اللعبة الواحدة.  وحقيقة هذا الموضوع أنه ما من واحد منهما يحاول أن يتفوق على الآخر فكل منهما يزاول لعبته من وجهة نظره هو الخاصة فيجتهد في إصابة الكرية في المربع أىي يجتهد في أن يكسب من وجهة نظره هو.

 

وهذا يبين لنا مميزات هذه المرحلة فالطفل يلعب لنفسه، واهتمامه لا ينصب بحال من الأحوال على منافسة زملائه ولا على التزام القواعد الشائعة التي تبين المتفوق على زملائه، فغايته مختلفة فهو في الواقع ثنائي.   وهذا السلوك الثنائي هو الذي يحدد مفهوم “مركزية الذات”, فمن جهة نجد الطفل يحس إحساسًا قويًا برغبته في أن يلعب كالأولاد الآخرين وخصوصًا من هم أكبر سنًا، فهو يحب أن يكون في عداد من يعرفون لعبة الكريات معرفة صحيحة، ولكنه سرعان ما يقنع نفسه من وجهة أخرى بأن لعبه صحيح (وهو يستطيع أن يقنع نفسه في هذا الموضوع بنفس السهولة التى شعر بها في محاولته تقليد سلوك الكبار) فيفكر الطفل في مجرد استخدام هذه الأشياء التي أحرزها لنفسه.  فسروره لازال يتكون من مجرد إنماء المهارة في القيام بالدور الذي وضعه لنفسه، ففي هذا الدور كما في سابقة لا زال السرور حركيًا اجتماعيًا أما الناحية الاجتماعية الحقيقية للاعب في هذا الدور فليست هي دم الشريك ولحمه بل هي المثل الأعلى والناحية المعنوية للأكبر ممن يحاول داخليًا أن يقلده والذى يجمع كل المثل التي تلقاها.  ولهذا فليس يعنيه في قليل ولا كثير ماذا يفعل زميله ما دام لا يحاول أن يقف في سبيله. وليس يعنيه أيضًا تفاصيل القواعد ما دام ليس هناك علاقة حقيقية بين اللاعبين.   وهذا هو السبب في أنالطفل بمجرد أن يصبح قادرًا على تقليد لعب الكبار من الأطفال يعتقد أنه هو شخصيًا قد ألم بكل الحقائق, فكل فرد يلعب لنفسه والكل مشترك مع “الكبار” هذا هو الذى يمكن أن نقوله عن طريقة اللعب “المركزى الذات”.

 

وما يلفت النظر أن نلاحظ التشابه التام بين موقف الأطفال بين الرابعة والسادسة في لعبة الكريات موقفهم أنفسهم حين يتحدث بعضهم إلى بعض فإنه في الحالات النادرة التي يقوم فيها حديث حقيقي يتبادلون فيه الأفكار والأوامر يمكن أن يلاحظ الإنسان في الأطفال بين الثانية والسادسة نوعًا من الحديث يمكن أن نطلق عليه اسم “حوار زائف”(Pseudo-Conversation) أو “مونولوج جمعي” يكتفي فيه الأطفال بالحديث إلى أنفسهم وإن كانوا يرغبون في أن يلقوه على محاورين ممن يستخدمون كدوافع أو كحوافز.   وهنا أيضًا يشعر كل طفل بأنه مشترك في مجموعة لأنه داخليًا يخاطب الكبار الذين يعرفون كل شئ ويفهمونه.  ومع هذا فكل طفل معني بنفسه، وذلك نتيجة للنقص في قدرته على تمييز ذاته من المجموعة.  وهذه المظاهر لمرحلة مركزية الذات قد لا تتضح لنا تمامًا حتى نصل إلى تحليل الشعور بالقواعد التي تلازم هذا النوع من السلوك.


(1) الأرقام بين قوسين تبين عمر الطفل الزمنى

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل   – 6

4- تطبيق القواعد :  المرحلتان الثالثة والرابعة

حوالي سن 7- 8 تظهر الرغبة في تبادل الفهم في محيط اللعب (كما هو الحال أيضًا في الحديث بين الأطفال). وهذه الحاجة إلى الفهم هي التي تحدد المرحلة الثالثة.  وسنعتبر العلامة على ظهور هذه المرحلة هي اللحظة التي يدرك فيها الطفل أن “المكسب” معناه الأخذ من الآخرين أو ,بمعنى, آخر حين يكسب كريات أكثر من الآخرين وحين لا يعود الطفل يزعم أنه كسب لمجرد أنه لم يعمل شيئًا أكثر من ضرب الكرية لإخراجها من المربع بصرف النظر عما يفعله زميله.  والواقع أنه ما من طفل حتى من بين الكبار من يعلق أهمية على موضوع طرد كريات أكثر قليلاً من منافسه.   فمجرد المنافسة إذن ليست هي التي تكون القوة الدافعة المؤثرة في اللعب، فالطفل في محاولته أن يكسب يجتهد أولاً في أن يتبارى مع زملائه على أساس ملاحظة القواعد الشائعة.  وهكذا لا يعود السرور النوعي للعبة عضليًا ولا مركزي الذات بل يصبح اجتماعيًا.  ومن هنا كانت لعبة الكريات تحتوي ما يقابل من الناحية العملية ما جرت حول المناقشة اللفظية فهو تقدير متبادل للقوى المتبارية وهذا يؤدي, كنتيجة لملاحظة القواعد الشائعة, إلى نتيجة يقبلها الجميع.

 

أما عن الفرق بين المرحلتين الثالثة والرابعة فهو فرق في الدرجة.   فالأطفال حوالي سن 7- 10 (المرحلة الثالثة) لم يلموا بعد بتفاصيل القواعد، بل نجدهم قد أخذوا في معرفتها كنتيجة لاهتمامهم المتزايد بطريقة اللعب الشائعة, ومع ذلك فإنه لو سئل بعض أطفال فصل مدرسي واحد فإن الاختلاف في إجابتهم يبدو واضحًا : إذ أنه في وقت اللعب قد نجد هؤلاء الأطفال وقد فهم بعضهم بعضًا إما عن طريق تقليد لاعب مُجيد وإما عن طريق حذف كل ما من شأنه أن يجلب النزاع. فهم بهذا الشكل يلعبون نوعًا مبسطًا من أنواع اللعب.  أما أطفال المرحلة الرابعة فهم على العكس من ذلك قد ألموا إلمامًا تامًا بالقانون، بل وإنه ليسرهم أن يدخلوا في جدل فقهي حول المبادئ أو الطريقة التي قد تظهر أحيانًا من خلال موضوعات الجدل.

 

والآن ننتقل إلى دراسة أمثلة للمرحلة الثالثة : ولكي نبين بوضوح المميزات المختلفة لهذه المرحلة سوف نبدأ بمقابلة إجابات ولدين صغيرين فى فصل دراسي واحد وقد اعتادا اللعب معًا (استجوبنا الطفلين طبعًا على انفراد حتى نتجنب الإيحاء بينهما، ولكنا قارننا إجابة كل منهما بعد ذلك بإجابة الآخر).

 

بن (Ben) (10) ونوس (Nus) (11 متأخر بعام عن المستوى الدراسي) وهما تلميذان بالسنة الرابعة بمدرسة أولية، وقد اعتادا لعب الكريات كثيرًا وقد اتفقا على أن المربع ضروري.  ذكر نوس أن الواحد يضع دائمًا 4 كريات في المربع, إما في الزوايا وإما 3 في الوسط وواحدة فوقها (بشكل هرمي).  أما بن (Ben) فقد ذكر لنا أن الواحد يضع كريتين إلى عشر في المربع (لا أقل من 2 ولا أكثر من 10). ولمعرفة من يبدأ اللعب يرى نوس (Nus) أن يرسم خطًا، ويجتهد كل لاعب أن يقترب صياده منه، وأقرب صياد إليه هو الذى يبدأ اللعب، وأبعدهم هو آخر من يلعب.  أما بن (Ben) فلا يعرف شيئًا عن هذا الخط، فهو يقول – “أنت تبدأ متى أردت.”  – أليس هناك طريقة لمعرفة من يبدأ اللعب؟  – لا.       –  ألا تحاول بطريقة الخط؟  – نعم.  أحيانًا. – ما هو الخط؟  (لم يستطيع توضيح هذه النقطة) ومن جهة أخرى يؤكد بن (Ben) أن الواحد يصوب الضربة الأولى من مسافة خطوتين أو ثلاث من المربع، فالخطوة الأولى عنده لا تكفي وأربع ليست مناسبة.  أما نوس (Nus) فقد جهل هذا القانون وهو يعتبر المسافة مسألة اتفاق.

 

أما عن طريقة التصويب فنجد أن نوس (Nus) متسامح.   فاللاعب يستطيع أن يتبع إحدى الطريقتين:  طريقة القذف أو طريقة الدحرجة.  ولكنه لو اتبع إحداهما فلابد أن يلعب كل واحد مثله.  وإذا قال أحد الأولاد أنه يجب أن نلعب بالطريقة الأخرى وجب أن يلعب الكل بها.  ونوس يفضل طريقة (الدحرجة) لأنها أحسن طريقة أما طريقة القذف فأصعب.  أما بن فيرى أن الطريقة الأخيرة إجبارية في كل الحالات  ويجهل اصطلاح “الدحرجة” فلما أوضحنا له قال – هذا مزيج من الطريقتين فهو غش.

 

ويري “نوس Nus” أن كل لاعب يجب أن يلعب من الخط في كل مرة، فبعد أن تصوب نحو المربع وتقف كريتك في أي مكان فعليك أن تعود ثانية إلى الخط وتصوب منه رميتك الثانية. أما “بن Ben“فهو على العكس من ذلك، وهو في هذا يمثل الطريقة الأكثر شيوعًا، فهو يرى أن الرمية الأولى يجب أن تصوب من الخط وبعد ذلك يجب أن تلعب من حيث أنت.

 

فنوس وبن يتفقان, إذن, في القول بأن الكريات التي تخرج من المربع تصبح ملكًا للاعب الذي أخرجها. وهذه القاعدة ورسم المربع مما أعطانا عنهما الطفلان نتائج متفقة.  فلما بدأنا اللعب نجحت فى أن أستقر فى المربع (أن أترك صيادى يستقر في المربع). وعنـد ذلك صاح بن Ben مبتهجًا (أنت محبوس ولن تستطيع اللعب ما لم أخرجك).  أما (نوس) فلا يعرف شيئًا عن هذه القاعدة، وحين لعبت بغير اهتمام وتركت صيادي يسقط من يدى صاح (بن)”انتهى اللعب” حتى يحرمني من القول “اللعب مستمر” ومن قيامي برمية أخرى. أما (نوس) فهو يجهل هذه القاعدة.  ولقد نجح بن مرة في إصابة صيادي، وعقب على هذا بأن له الحق في رمية أخرى كما لو كان قد ضرب إحدى الكريات الموضوعة في المربع. أما (نوس) فإنه لما مر بنفس الظروف لم يصل إلى هذه النتيجة (لكل دوره الذى يلعب فيه) ولكنه استنتج أن يستطيع أن يبدأ اللعب في دورة اللعب التالية.  وبنفس الطريقة نجد أن بن (Ben) يظن أن كل لاعب يلعب من المكان الذي وقف فيه صياده في المرة السابقة، وهو يعرف القاعدة التي تعطي اللاعب الحق في أن يغير مكانة قائلاً : “منى” أو “شبر واحد” أما (نوس Nus) الذي لا نشك في أنه سمع هذه الكلمات وأنه لا يعرف لها معنى.

 

وهاتان الحالتان وقد اخترناهما اختيارًا عشوائيًا من فصل تلاميذه في سن العاشرة تريانا تمامًا المظهرين المختلفين للمرحلة الثانية :

1-    فهناك رغبة عامة للكشف عن القواعد الثابتة والشائعة بين اللاعبين جميعًا لاحظ الطريقة التي يشرح لنا (نوس Nus) فيها كيف أنه لو أن أحد اللاعبين لو لعب طريقة البيكيت فعلى كل أن ينهج نهجه.

2-    ورغم أن هناك اختلافات عديدة بين البيانات التي يدلي بها كل طفل، ولئلا يظن القارئ أن هذه أمثلة نادرة فنحن نضع بين يديه – فى نفس النقطة إجابات طفل آخر من نفس الفصل.

                     شهر     سنة
(روس Ross      1        11 ) كانت إجاباته كالآتي :

يضع كل واحد كريتين في المربع، وتستطيع أن تجعل المربع كبيرًا إذا كثر عدد اللاعبين (وروس Ross)  يعرف طريقة الخط لاختيار من يبدأ اللعب، وهو (كنوس Nus) يوافق على طريقتي (الروليت والبيكيت) وهو أيضًا يسمح بإدخال كل ما يخالف النظم المعمول بها، ليس هذا فحسب بل ويخالف معنى الألفاظ فهو يدخل طريقة يسميها طريقة الدفع وهي تقوم على أن يمد اللاعب يديه بالكرية حين يقذفها  يشبه نوعًا من أنواع لعبة البلياردو, وهذه اللعبة الآن ممنوعة دائمًا، والألفاظ التي يستعملها روس لتحريمها هي (ممنوع الدفع).

 

ويري “روس” أن يبدأ اللعب من المكان الذي استقر فيه الصياد لآخر مرة فإن كسبت كرية فلك الحرية في رمية أخرى تالية، فإن رغبت في تغيير مكانك فيجب أن تقول “من حقي” فإن اعترض صخر طريق صيادك فإنك تقول “الدور ضاع” ثم تقوم برمية أخرى. فإذا زلق صيادك من بين يديك فإنك تقول (تزحلق) فإن لم تقل ذلك فليس لك أن تعيد الدور. “وروس” في هذا يتخذ لنفسه طريقًا وسطًا بين روس وبن.  وأخيرًا, فإن “روس” يعرف شيئًا خاصًا يجهله “بن” “ونوس”.   فإن استقر صيادك في المربع وأصيب تطرد وتؤخذ كل الكريات (إذا استقر صيادك في المربع ومسه صياد زميلك في اللعب كان له الحق في ملكية كل ما في المربع من كريات) ومنافسك يمكن أن يقوم برميتين يحاول أن يصيب الصياد الذي نتحدث عنه، فإن أخطأ في المرة الأولى فإنه يقوم بمحاولة أخرى في الثانية من أي مكان خارج المربع ويحاول إخراج إحدى الكريات.   وهذه القاعدة لم يوضحها بشكل عام سوى أطفال المرحلة الرابعة ولكن بقية حوار “روس” يجعله يمثل المرحلة الثالثة.

 

وهكذا تتضح لنا مميزات المرحلة الثالثة.   فاهتمام الطفل الرئيسي لم يعد حركيًا بل أصبح اجتماعيا. وبمعنى آخر فإن إخراج الكريات من المربع بواسطة إصابتها بالصياد لم يعد غاية في ذاته، فالمهم ليس مجرد التغلب على الرفاق، بل المهم أيضًا تنظيم اللعبة بواسطة مجموعة من القواعد المنظمة التي تعنى بمعاملة المثل معاملة كاملة في الطرق المستعملة.   وهكذا تصبح اللعبة اجتماعية ونقول “تصبح” لأنه لا يقوم أي تعاون حقيقي بين اللاعبين إلا بعد هذه المرحلة، أما قبل ذلـك فكل لاعب يلعب مع نفسه.  حقيقة يحاول كل منهما أن يقلد الكبار من الأولاد والمبتكرين منهم، ولكن الغاية لازالت شخصية وهي أن يشعر أنه قد أصبح عضوًا في مجمع غامض، نظمه المقدسة قد نقلها الكبار من العصور السحيقة، وليست الغاية أي رغبة في التعاون مع رفاق اللعب أو مع أي إنسان آخر. فإذا اعتبرنا التعاون اجتماعيًا بدرجة أكبر من مزيج مركزية الذات واحترام الكبار وهو ما تمتاز به بداية الحياة الجمعية للأطفال فإننا نستطيع القول بأنه من المرحلة الثالثة وما يليها تبدأ لعبة الكريات في أن تكون لعبة اجتماعية.

 

فالتعاون لم يكن عمليًا، وإنما كان مجرد فكرة، فكون الإنسان أمينًا لا يكفي للدلالة على أنه ملم بالقانون بل إن هذا لا يكفي لأن يجعلنا قادرين على حل المشكلات التي تبدو في خبراتنا الخلفية المحسوسة. وبهذه الطريقة يتعثر الطفل أثناء هذه المرحلة، ولكنه ينجح تمامًا ف يأن يخلق لنفسه “أخلاقًا وقتية” ويترك حتى تاريخ متأخر موضوع وضع قانون ونظام تشريعي.  ولا يستطيع أطفال السابعة إلى العاشرة أن يتفقوا فيما بينهم لمدة اطول من الفترة التي يقضونها في لعبة واحدة، فلا زالوا عاجزين عن التشريع لكل الاحتمالات التي تظهر، ولازال لكل منهم فكرته الشخصية الخاصة عن قوانين اللعب. وأحسن ما نعبر به عن هذه الحالة أن نقول : إن الطفل فيما بين السابعة والعاشرة يلعب كما يعلل.  ولقد حاولنا (1) من قبل أن نؤيد الحقيقة القائلة بأنه حوالي سن السابعة أو الثامنة على التحقيق, أي عند اللحظة التي تبدأ فيها المرحلة الثالثة في الظهور فإنه في المناطق الفقيرة جدًا التي أجرينا فيها أبحاثنا (2) نجد أن المناقشات والتفكير يجدان مجالاً متزايدًا من المعضدين يفوق مجال الحقائق غير المبرهن عليها وكذلـك الناحية العقلية لمركزية الذات. وهذه العادات الجديدة للتفكير تؤدي إلى الاستدلالات الصريحة (بعكس الحالة البدائية للانتقال بدون استدلال) كما تؤدى إلى الاستدلالات التي يصل إليها الطفل عن طريق خبرته الحاضرة أو الماضية. وعلى ذلك فلازالت الحاجة ماسة إلى شئ آخر إن أريد تعميم الاستدلال وجعله معقولاً خالصًا، فالطفل لا بد أن يكون قادرًا على أن يعلل تعليلاً صريحًا، أو بمعنى آخر لابد أن يكون شاعراً بقواعد التعليل، قادرُا على تطبيقها على أية حالة تعرض له بما في ذلك الحالات النظرية الخالصة.  وبنفس الطريقة نجد أن الطفل الذي وصل إلى المرحلة الثالثة بالنسبة لقواعد اللعب يقوم بأعمال متناسقة جمعية وقتية (اللعب المنتظم تمام الانتظام يمكن أن نقارنه من هذه الناحية بالجدل الجيد) ولكنة لا يشعر بعد بأي اهتمام بالتشريع الفعلي للعب أثناء مناقشة الأسس التي يتوقف عليها وحدها إلمامه بالتفاصيل (على أساس وجهة النظر هذه يمكن أن نقول إن المناقشات القانونية الأخلاقية في المرحلة الرابعة يمكن تحويلها إلى تعليل صريح مجمل).

 

وحوالي سن 11 أو 12 في المتوسط يمكن أن تظهر هذه الاهتمامات، ولكي نلم بالمقصود من تطبيق القواعد عند الأطفال في المرحلة الرابعة دعنا نستجوب على انفراد عددًا من الأطفال من فصول المدرسة نفسها وسنرى مقدار دقة إجاباتهم واتفاق آرائهم.

الأطفال ريت Rit (12 سنة)، جروس Gros (13 سنة)، فوا Vua (12 سنة) كثيرًا ما يلعبون معًا لعبة الكريات، وقد سألنا كلاً منهم على انفراد، واتخذنا الحيطة لمنعهم من الاتصال ببعض أثناء غيابنا حتى لا يتحدثوا عن مضمون حوارنا.  وهؤلاء الاطفال متفوقون فيما يتعلق بالمربع, والموضوع, وطريقة الرمي، وبالجملة في كل القواعد التي سبق أن اختبرناها.  ولمعرفة من يبدأ اللعب نجد أن “ريت” الذي كان يسكن في قريتين متجاورتين قبل أن ينتقل إلى المدينة، ذكر لنا أن هناك طرقًا كثيرة مستعملة “لأن ترسم الخط”, وصاحب أقرب صياد له هو الذى يبدأ اللعب، فإذا ذهب صيادك بعد الخط فعند البعض هذه مسألة غير هامة، وعند آخرين تكون أنت آخر من يلعب. أما جروس و”فوا” فلا يعرفان سوى الطريقة الأخيرة.   فهي وحدها الشائعة عند أطفال هذه المنطقة.

 

ولكن هناك مسائل معقدة لم يثرها لنا الأطفال.  فمن قال “الأخير” يكون دوره الثاني في اللعب.  وهذا أحسن لأن صياده لا يتعرض للضرب (فلو أن صيادًا استقر في المربع فهو معرض لأن يضربه صياد لاعب آخر). وقد ذكر لنا “فوا” أن من يقول “آخر الاثنين” يكون دوره بعد لاعبين، ثم أضاف القاعدة التالية التي يعرفها جروس أيضًا “إذا كنا جميعًا على مسافة واحدة من الخط فمن يقول “متساوون في التأخير” يكون دوره الثاني في اللعب.  والمشكلة إذن هي أن تلعب في دور مبكر حتى تجد كريات في المربع، وألا تكون الأول خوف أن يضرب صيادك.

 

من جهة أخرى ذكر لنا جروس أن “من يخرج كريتين” (من المربع أي عند الدفعة التي وضعها اللاعب في المربع)  يمكن أن يقول “آخر من يضع” وبذلك يستطيع أن يكون دوره الثاني في اللعب من الخط في اللعبة الثانية التالية أما “فوا” فقد قال “حين تخرج كريتين، حين تطرد كريتين من المربع) تستطيع أن تقول : “آخر من يضع” فيكون دورك الثاني من المربع في اللعبة التالية”.   وقد أعطانا ريت نفس الإجابة.  وليس هذا كل شئ عند ريت، فإذا قلت “دوران من الخط” كان لك الحق في رميتين من الخط. أما إذا قلت “دوران من المسافة” فإن لك أن ترمي رميتك الثانية من حيث أنت.  وأنت تستطيع أن تقول ذلك فقط حين يكون رفيقك قد حصل نصيبه (كسب عددًا من الكريات يساوي العدد الذي وضعه أصلاً في المربع) وهذه القاعدة قد لاحظها أيضًا الطفلان الآخران بنفس الطريقة. يضاف إلى ذلك مجموعة كاملة من القواعد لا يعرفها الصغار، وهى تنصب على وضع الكريات فى المربع، فيرى “جروس” أن الولد الأول الذي يقول “مكان لى” ليس عليه أن يضع نفسه عند إحدى زوايا المربع، والذي يقول “أماكن للكريات” يستطيع أن يضعها حيث شاء مكومة أو عند الزوايا الأربع.  و”فوا” عنده نفس الفكرة، وقد أضاف “إن قلت مكانك طول اللعبة فإن رفيقك يجب أن يستقر في مكانه”. أما “ريت” الذي يعرف كل هذه القواعد فقد أضاف تفصيلاً آخر إذ قال : “لا تستطيع القول : “مكانى” إن كان قد سبق أن قلت “مكانك” وهذا يعطينا فكرة عن بعض التعقيدات في الطريقة.        

 

ولقد قام أبطالنا الثلاثة الماهرون بالإشارة إلى وسائل الرأفة التي تستخدم لحماية الضعاف.   فيري فوا أنك لو أخرجت ثلاثًا بضرية واحدة وتركت واحدة فقط (كرية واحدة في المربع) فإن لرفيقك الحق في أن يلعب من منتصف المسافة (منتصف المسافة بين الخط والمربع) لأن الولد الأول قد كسب أكثر من نصيبه) وكذلك الولد الذي ضرب يستطيع أن يبدأ اللعب.  ويرى جروس أنه إذا بقيت كرية واحدة في نهاية الشوط فإن الولد الذي كسب بدلاً من أن يأخذها يستطيع أن يتركها لزميله, ثم إذا كان أحد الأولاد قد كسب كثيرًا فإن الآخرين يقولون “دور آخر” وعليه في هذه الحالة أن يلعب شوطاً آخر.  وعدد رميات كل لاعب يدور حولها أيضًا مجموعة من النظم عنى بها كل من الأولاد الثلاثة، وهم متفقون بشأنها.   وحرصًا منا على ألا نطيل فإنا نحيل القارئ فيما يتعلق بهذا الموضوع إلى القواعد العامة التي وضعناها في القسم الأول.

 

على أن هناك نقطة واحدة اختلف عليها الأولاد الثلاثة الذين أجرينا عليهم تجاربنا.   فريت الذي يلم بالقواعد في جهات ثلاث مختلفة قد ذكر لنا أن الولد الذي يستقر صياده داخل المربع في العادة يستطيع أن يخرج منه, ثم أضاف أنه في بعض الألعاب يعتبر اللاعب في مثل هذه الحالة “محبوسًا” ولكن هذه القاعدة تبدو عند هذا الطفل غير إجبارية.أما “فوا” و”جروس” فعلى العكس يريان أنه في كل الحالات التي يستقر فيها الصياد داخل المربع فإنه لا يعتبر “محبوسًا”, ولقد فكرنا فى أن نحير “فوا” فقلنا “إن ريت لم يقل ذلك”, فأجاب “فوا” بأن الناس أحيانًا يلعبون بطرق مختلفة ثم يسأل كل منا الآخر ماذا نريد أن نعمل؟ فإن لم يتيسر الاتفاق تنازعنا قليلاً ثم نضع قواعد للسير بمقتضاها.

 

وهذه الإجابات توضح لنا خصائص المرحلة الرابعة، فالاهتمام قد بدأ يضع بذوره منذ المرحلة السابقة، فهؤلاء الأطفال لا يحاولون مجرد التعاون والتنظيم كما قال فوا لكي يستطيعوا اللعب معًا، بل نجدهم أيضًا, وهذا شئ جديد من غير شك, وقد بدا عندهم ميل خاص لبحث جميع الاحتمالات والتقنين لها.  فإذا لاحظنا أن لعبة المربع هي إحدى الأنواع الخمسة أو العشرة  للعبة الكريات وأنها كثيرة التعقيد في قواعدها ونظمها,أمكننا أن نفكر في مدى ما يختزنه طفل الثانية عشرة في ذاكرته, فهذه القواعد بما تشتمل عليه من تداخل وحالات استثنائية هي, على الأقل, على درجة من التعقيد تساوي درجة تعقيد قواعد الإملاء العادية، وقد يؤدي بنا هذا إلى أن نستصغر شأن الصعوبة التي يواجهها الأطفال في تذكر قواعد الإملاء كما وضعتها التربية التقليدية ما دامت عقولهم قادرة على استيعاب محتويات لعبة الكريات بهذه السهولة، ولكن يجب ألا يغيب عن بالنا أن التذكر يعتمد على النشاط وأن النشاط الحقيقي وليد الاهتمام.

 

فى المرحلة الرابعة إذن يبدو الاهتمام السائد هو اهتمام بالقواعد نفسها، فإن مجرد التعاون لا يتطلب هذه التفصيلات مثل ما يتصل منها بطريقة وضع الكريات في المربع (“مكاني” ومكان الكريات        و”ومكانك طول اللعب”, إلخ) وفكرة أنالطفل يميل من تلقاء نفسه نحو الأشياء المعقدة دليل على أنه يبحث عن القواعد لذاتها، ولقد شرحنا في مكان آخر السلوك الخارق للعادة لثمانية أطفال بين العاشرة والحادية عشرة الذين – لكي يرمي بعضهم بعضًا بكريات الثلج – قضوا أربع ساعات في اختيار رئيس, وتعيين قواعد التصويب، ثم تقسيم أنفسهم إلى معسكرين, وتحديد مسافة الرمي، وأخيرًا في وضع الضمانات التي تطبق في حالة مخالفة هذه القوانين.

 

خلاصة القول أن الإلمام بقواعد اللعب وتطبيقها يسير وفق قوانين بسيطة وطبيعية، ويمكننا أن نقسم هذه المراحل على النحو الآتي :

1-  نظام بسيط فردي.

2-  تقليد الكبار مع مركزية الذات.

3-  التعاون.

4-  الاهتمام بالقواعد لذاتها.

 

والآن ننتقل إلى بحث ما إذا كان الشعور بالقواعد يعطينا في تطوره رسمًا بيانيًا مساويًا وقليل التعقيد.

 

 

(1) الفصل 4

(2) ننتهز هذه الفرصة فنذكر للقارئ مالم نعتن بذكره كثيراً فى كتبنا السابقة ذلـك أن معظم أبحاثنا قد اجريت على أطفال من أفقر أحياء جينيف وفى ابلأحياء المختلفة لابد أن يختلف متوسط السن .

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

1-  الشعور بالقواعد

1-  المرحلتان الأوليان

أثبتت تجاربنا أن الشعور بالقواعد لا يمكن أن ينفصل عن مجموع الحياة الأخلاقية للطفل.   ونستطيع دراسة التطبيق العملي للقواعد دراسة كاملة دون أن نعنى بموضوع الخضوع بشكل عام, أي بسلوك الطفل الاجتماعي والأخلاقي، ولكنا بمجرد أن نحاول – كما هو الحال في الموضوع الذى نحن بصدده – تحليل إحساسات الطفل وأفكاره عن القواعد فإنا نجده يستمدها من الأوامر التي يخضع لها جملة بطريقة لا شعورية، وهذا يتضح بجلاء تام في حالة الصغار من الأطفال حيث نجد أن حالة الجبر من الكبار تستدعي أن يكون للكبار سلطان ولو قليل على هؤلاء الصغار.  ومن هنا كانت الصعوبة الكبري التي تحسها في وضع المعنى الصحيح الدقيق لهذه الحقائق الأولية المرتبطة بموضوع تطبيق القواعد : فهل النظام الفردي البسيط الذي يسبق القواعد والذي يضعه مجموع اللاعبين يؤدي إلى الشعور بالقواعد أو لا يؤدي؟  وإن كان يؤدي فهل هذا الشعور بالقواعد يتأثر بطريق مباشر بأوامر الكبار؟ هذه النقطة الدقيقة يجب أن تتقرر قبل أن ننتقل إلى تحليل الحقائق الأكثر وضوحًا التي نصل إليها عن طريق الحوار مع الأطفال في موضوع الشعور بالقواعد.  سوف نضع في المرحلة الأولى كل ما يتصل بالمرحلة الفردية الخالصة التي درسناها من قبل.  وفي هذه المرحلة نلاحظ أن الطفل يلعب بالكريات بطريقته الخاصة، فهو يبحث عن مجرد سد حاجة اهتماماته الحركية وخيالاته الرمزية، وكل الذي يحدث أنها سرعان ما ترتبط بعادات فتكون قواعد فردية من نوع خاص.

 

وهذه الظاهرة ليست منفردة بل تتمشي مع نوع الالتزام في السلوك بشكل عام تسهل ملاحظته على جميع الأطفال قبل أن يستطيعوا الكلام وقبل أن يقعوا تحت تأثير نفوذ الكبار من الناحية الأخلاقية. وليست كل عملية توافق تتسع لأكثر المجهودات العقلية لمشتملاتها فتمتد إلى التزامات يقوم بها الطفل لذاتها ولكن الطفل كثيرًا ما يكتشف مثل هذه الالتزامات لما فيها من لذة، ومن هنا تظهر ردود الأفعال الأولية التى يقوم بها كل طفل صغير إذا أحضرنا له عددًا من الكريات.

 

ولكنا لو أردنا أن نعرف إلى أي مستوى من مستويات الشعور بالقواعد تنتسب هذه القواعد الفردية, فإنه يجب أن نتذكر أن ذلك منذ السنين الأولى للطفل، فإن كل شئ يحيط به يميل لأن يفرض عليه فكرة الانتظام، فهناك أحداث طبيعية معينة تتكرر (تعاقب الليل والنهار، تعاقب المناظر التي يراها الإنسان أثناء سيره) تكرارًا فيه شئ من الدقة يكفي لإدراك “العملية القانونية”. أو على الأقل يؤدي إلى ظهور نظم حركية فى المستقبل.  أكثر من هذا, فإن الآباء يفرضون على الأطفال عددًا من القواعد الأخلاقية, وهذه مصدر لنظم أخرى (الأكل. وقت النوم . النظافة. إلخ).

 

وهذه القواعد مرتبطة تمامًا بالنظم الخارجية (وهي بالنسبة للطفل إلزامية). فالطفل إذن منذ شهوره الأولى يسبح في جو من القواعد، ولهذا كانت عملية استخلاص الالتزامات الذاتية التي يحترمها الطفل, وتلك التي تنتج من ضغط الأشياء الخارجية أو إجبار البيئة الاجتماعية – عملية استخلاص هذه من الصعوبة بمكان, ففي كل عملية من الممكن أن نعرف ما الذي اخترعه الطفل, وما الذى تفرضه الطبيعة, وما الذى يفرضه الكبار. ولكن في الشعور بالقواعد لو أخذناها من الوجهة الشكلية كمركب فإنا لا نجد لهذه الاختلافات أي مكان من وجهة تظر الشخص (1) ذاته.

 

تحليل الالتزامات التي يقوم بها الكبار من الأطفال قد يسمح لنا بأن نضع مميزًا رئيسًا لهذا الموضوع. فمن جهة نجد أن أنواعًا معينة من السلوك يلتزمها الطفل نفسه، مثلاً : (ألا يلعب على الخطوط الفاصلة بين البلاط وحدود الرصيف).   في هذه الحالة نجد أن هذه القواعد الحركية لا يمكن أن ينتج عنها أي إحساس بالالتزام الخالص مادامت لا تتدخل عوامل أخرى.  وهذا صحيح حتى على هذا المثال الذي اخترناه عن قصد الآن، وهو المتصل باللعبة البسيطة التي لا تصبح إجبارية إلا إذا ارتبطت فيما بعد بتعاقد مع الآخرين.

 

من جهة أخرى نجد أن بعض القواعد – ولا يعنينا إن كان قد اكتشفها الطفل من قبل, أو قلدها, أو أخذها من الخارج – قد تُقدس في وقت من الأوقات بواسطة البيئة بأن تقرها أو تدعو إليها.  وفي حالة كهذه فقط نجد أن القواعد تكون مصحوبة بإحساس الإجبار.  هذا وإن كان من الصعب دائمًا أن تعرف إلى أى حد تتضمن القاعدة الإجبارية التزامًا عقليًا عند طفل في سنتيه الأولى والثانية فإنه من الواضح – على أية حال – أن الشيئين متميزان من الناحية النفسية.   وهذا التمييز يجب أن نضعه نصب أعيننا حين نصل إلى دراسة قواعد اللعب.

 

وعلى القارئ أن يلاحظ في الطريقة التي وضعنا بها المشكلة – نظرية “بوفيه” عن “نشوء الإحساس بالالتزامات الأخلاقية في الضمير الإنساني” فالإحساس بالالتزام لا يظهر عند الطفل إلا حين يقبل أمرًا صادرًا عن شخص يحترمه، وكل المادة التي حللناها في هذا الكتاب منذ بدأنا بتحليل الحقائق المتصلة بالشعور بقواعد اللعب تؤيد هذه النظرية.  وهذه النظرية ذاتها تسير جنبًا إلى جنب مع نظرية “دوركايم” عن التطور الاجتماعي للاحترام والأخلاق ولا تتعارض معها، والتعديل الوحيد الذي نميل لإدخاله على نظرية “بوفيه” أن تمتد فتشمل إلى جانب الاحترام الذي يقوم بين الأطفال والكبار ذلك الاحترام المتبادل بين الرفاق.  وعلى هذا الأساس تبدو لنا القاعدة الجمعية نتيجة لقبول متبادل بين فردين مثلما تكون نتيجة لتسلط فرد على آخر.

 

ولنا أن نتساءل إلى أي درجة يصل الشعور بالقواعد في المرحلة الأولى على أساس أن الطفل لم يشاهد لاعبًا من قبل.   فإنا نستطيع القول بأن اللعب في هذه الحالة يقوم على أساس عمليات شخصية, فردية, إلزامية.   فالطفل يقوم به لأنه يلذ له أن يزاول أي عمل فيه تكرار، فنجده يقوم بسلسلة من العمليات ولكن عمله لا يشمل أى عنصر من عناصر القواعد الإجبارية وفى الوقت نفسه يجب أن نتذكر أن فرض أن الطفل لم يدخل خبرته شئ من ذلك فرض يصعب الأخذ به تمامًا, فالطفل بمجرد استطاعته الكلام – حتى ولم لم يكن قد رأى الكريات من قبل – مشبع بقواعد ونظم اكتسبها من البيئة، وهذا ما نجده في كل البيئات المختلفة، فهو يعرف أن هناك أشياء مسموح بها وأخرى ممنوعة، وأحدث طرق التعليم لا تخلو من فرض قيود على النوم والأكل، وبعض تفصيلات أخرى أقل اهمية (لا تمس مجموعة الأطباق، لا تقرب مكتب الوالد, إلخ).   ومن الجائز أن الطفل حين يشاهد الكريات لأول مرة يشعر أن هناك قواعد معينة تطبق على هذه الأشياء الجديدة، وهذا هو السبب في أن أصول الشعور بالقواعد حتى في هذا الميدان المحدود كميدان لعبة الكريات تتكيف بواسطة الحياة الأخلاقية للطفل في جملتها. وهذا يبدو واضحًا في المرحلة الثانية, وهي أهم ما في بحثنا.  وتبدأ هذه المرحلة منذ اللحظة التى يبدأ فيها ميل الطفل – سواء عن طريق التقليد أو كنتيجة للتبادل اللفظي – إلى اللعب طبقًا لقواعد معينة تلقاها من الخارج.  فما هي الفكرة التي يكونها عن هذه القواعد؟ هذه هي النقطة التي نحاول أن نصل إليها الآن.  ولقد استخدمنا للوصول إلى ذلك ثلاث مجموعات من الأسئلة الغرض منها تحليل الشعور بالقواعد في المرحلة الثانية :

هل القواعد قابلة للتغيير؟

هل كانت القواعد دائمًا هي نفسها كما نراها اليوم؟

كيف بدأت القواعد؟

 

ومن الواضح أن أول هذه المجموعة هو أحسنها، فهو أقلها من الناحية اللفظية، وبدلاً من أن نجعل الطفل يفكر في مشكلة لم تعرض له من قبل (كما هو الحال في المجموعتين الأخيرتين) فإن المجموعة الأولى تواجه الطفل بحقيقة جديدة, أي بقاعدة جديدة، أي بقاعدة من اختراعه، ومن السهل علينا أن نخلط رد الفعل الناتج عنها عند الطفل مهما كان الرد غير دقيق.          أماالمجموعتان الأخيرتان فعلى العكس تتعارضان مع عملية وضوح الأسئلة وبساطتها، وتؤديان إلى احتمال الإيحاء والتثبيت وغيرهما.   ومع ذلك فنحن نعتقد أن لهما فائدتهما لو أخذناهما على أنهما أسس احترام الطفل للقواعد، وعلى أنهما تكملان المجموعة الأولى.

 

والواقع أن الطفل بمجرد أن يبدأ في المرحلة الثانية, أي منذ اللحظة التي يبدأ فيها تقليد قواعد الآخرين – مهما كانت حالة “مركزية الذات” عنده – فإنه يعتبر قواعد اللعب مقدسة لا تمس، وهو يرفض أن يغير هذه القواعد ويدعى أن أي تعديل ينالها خطأ حتى لو قبله الجميع.ومن الوجهة العملية فإنا لا نتوقع قبل سن السادسة أن نجد هذا الموقف واضحًا تمامًا وصريحا، فأطفال الرابعة والخامسة يظهر أنهم يمثلون حالة استثنائية فهم يأخذون القواعد عرضا.  وهذه الظاهرة لو أخذناها على ظاهرها فإنا نربطها بحالة التحرر من سلطان الاطفال الكبار, والحقيقة أنا نميل إلى اعتبار هذا القياس سطحيًا، فالصغار من الأطفال – حتى لو بدا في سلوكهم عكس ذلك – فإنهم دائمًا محافظون فيما يتعلق بموضوع القواعد، فإن قبلوا التجديد الذي يقترح عليهم فإن ذلك يرجع إلى أنهم لا يعرفون أن هناك تجديد.

 

وسنبدأ الآن بعرض إحدى الحالات الصعبة، ولقد بلغت الصعوبة منتهاها لأن الطفل صغير جدًا ولذلك فهو أميل إلى الخرافة.

“فال Fal” (5 سنوات) وهو في المرحلة الثانية بالنسبة لتطبيق القواعد.   سئل وأجاب على الوجه التالي – هل كان الأولاد في الأزمنة السحيقة حين بدء تعمير مدينة “نوشاتل” يلعبون بالطريقة التي أريتني أياها؟   – نعم.    – ودائمًا بنفس الطريقة؟   – نعم.   – كيف توصلت إلى معرفة القواعد؟    -علمني إياها أخي الذى أخذها عن والدي.  – وكيف عرفها والدك؟  – والدي عرفها ولم يعلمهما له أحد. – وكيف عرفها ؟  – لم يأخذها عن أحد.  – هل أنا أكبر من والدك سنا؟ – لا أنت أصغر.   لقد ولد والدي حين جئنا إلى “نوشاتل”.   إن والدي قد ولد قبلي. – اذكر لي بعض الناس الذين يكبرون والدك.    -جدي.  – هل يلعب الكريات؟-  نعم.  – إذن كان يلعب قبل والدك.  – نعم, ولكنه لم يكن يستخدم القواعد (قالها بكثير  من الاقتناع).   ماذا تعني بالقواعد؟  (لم يعرف.  قال – هذه الكلمة التي سمعني أتفوه بها لأول مرة، ولكنه يعرف أنها تعني إحدى الخصائص الأساسية في لعبة الكريات، وإلى هذا يعزى تأكيده أن جده لم يلعب وفق قواعد حتى يبين تفوق والده على ما عداه في هذا العالم)   – هل مر وقت طويل منذ بدأ الناس يلعبون لأول مرة؟   – نعم.  – كيف وضعوا طريقة اللعب؟   – لقد  أخذوا عددًا من الكريات ثم رسموا مربعًا وضعوا الكريات بداخله .. إلى آخره.  (وقد عدد القواعد التي يعرفونها).  – هل توصل إليها الصغار من الأطفال أم الكبار من الرجال؟  – الرجال الكبار.  – بربك حدثنى, من الذي ولد أولاً  والدك أم جدك؟ – والدي.  –  من أكبر سكان نوشاتل سنًا؟  – لا علم لي.  – ومن تظن؟  – الله.  – هل عرف الناس كيف يلعبون الكريات قبل والدك؟ – نعم, لعب بعض الناس قبله وبعضهم معه في نفس الوقت.  –  وهل لعبوا بنفس الطريقة التي لعب بها والدك؟  – نعم.  – وكيف عرفوا الطريقة؟  – اخترعوها.  – أين الله؟  – في السماء.  – هل هو أكبر من أبيك سنًا؟  – لا. إنه أقل منه سنًا.  – هل يستطيع الإنسان أن يجد طريقة جديدة للعب؟  – لا أستطيع أن ألعب بطريقة أخرى.  – حاول.  لم يتحرك.  – ألا تستطيع أن تضعها هكذا (وضعنا الكريات على شكل دائرة بدون مربع)  – نعم. هل يكون هذا صحيحًا ؟   – نعم.   – صحيح  كالمربع ؟  – نعم.  – هل يلعب أبوك بهذه الطريقة أم لا ؟   – نعم.  – هل  لا زال البعض يلعب بطرق أخرى؟  – نعم.  ثم رتبنا الكريات على شكل حرف T  ووضعناها في علبة كبريت …. إلخ … فذكر “فال” أنه لم يرها هكذا من قبل ولكنها كلها صحيحة تمامًا.  إن الإنسان يستطيع أن يغير الأشياء وفق هواه، وكل ما في الموضوع أن أباه يُلم بهذا كله.   ويعتبر “فال” نموذجًا للحالات التي تحدثنا عنها من قبل، فهو على استعداد لتغيير كل القواعد المقررة، فالدائرة وحرف T وأى شئ آخر يمكن أن يقوم مقام المربع، وكأن “فال” كان قريبًا من هؤلاء الأطفال الكبار الذين – كما سنرى – لا يؤمنون بقدسية القواعد ويقبلون أي تعديل ما دام مقبولاً من الجميع, ولكن الواقع غير ذلـك، فمهما كان فال رومانتيكيًا فإن الحديث الذي اقتبسنا معظمه يمكن أن يبين أنه يضمر احترامًا عظيمًا للقواعد, فهو يعزوها لأبيه مما يرفع من قدرها إلى حد قوله إنه يعتبرها فرضًا إلهيًا.  ولهذه المناسبة نذكر أن آراء “فال” الغريبة عن عمر أبيه تستحق الملاحظة فقد ولد أبوه قبل جده, وهو أقدم من الله.   هذه الملاحظات التي تتفق كل الاتفاق مع ما جمعه “بوفيه” (1) يمكن ان نتخذها دليلاً على أن “فال” حين يعزو القواعد لوالده يجعلها أكثر أو أقل لما يعتبره هو بداية العالم.  وكذلك نلاحظ أن الطفل يتصور اختراع والده للقواعد، فالوالد قد فكر فيها دون أن يخبره أحد أو يوضح له شيئًا عنها، وهذا لا يمنع من أن غيره قد يكون قد فكر في نفس الشئ.  وهذا في رأينا ليس مجرد ترديد لألفاظ لا معنى لها عند الطفل (ببغائية). كما يجب أن نأخذ حذرنا حين نقرأ هذه الملاحظات، فلا نحملها من المنطق فوق طاقتها، فهى تعني مجرد أن القواعد مقدسة وغير قابلة للتغيير لأنها تشترك مع السلطة الأبوية. وهذا الفرض قد يؤول إلى نوع من نظرية الاختراع عند الأطفال وإلى معانٍ لا نهائية، فالطفل الذي لا يدرك معنى “قبل” و”بعد” والذي يقيس الزمن على أساس انفعالاته العميقة يكون الاختراع عنده قريبًا في معناه من اكتشاف الحقيقة النهائية والسابقة الوجود في نفسه، ومعنى هذا ببساطة أن الطفل لا يستطيع أن يميز – كما نحن نميز – بين النشاط الذي يتضمن اكتشاف شئ جديد وبين النشاط الذي يتضمن تذكر الماضي (ومن هنا جاء مزج الخيال بالحياة الواقعية الذي يميز قصصه أو ذاكرته) فالاختراع العقلي عند الطفل – كما هو عند أفلاطون – ناتج  عن عملية التذكر (2).   وبعد فما معنى تسامح “فال” بالنسبة للقوانين الجديدة التي اقترحناها له؟ معناه بكل بساطة أن اعتقاده في أن لعبة الكريات غنية بالقواعد غنى غير محدود جعله يتصور إلمامه بقاعدة جديدة ليس أكثر من أنه أعاد اكتشاف قاعدة كانت قائمة من قبل.

 

ولكي نفهم موقف الأطفال في أوائل المرحلة الثانية ممن كانت إجاباتهم قريبة من إجابة “فال” يجب أن نتذكر أن الطفل حتى سن 6-7 لازال يواجه صعوبة عظيمة في التمييز بين المعلومات التي هو شخصيًا مصدرها وتلك التي تأتيه من الآخرين، وهذا يرجع أولاً إلى صعوبة عملية التأمل الباطني الاسترجاعي عنده (انظر الحكم والتعليل, فصل 4, فقرة 1) كما يرجع إلى نقص تنظيم الذاكرة.   وبهذه الطريقة نجد الطفل ميالاً إلى الظن بأنه كان يعرف أشياء مع أنه في الواقع يلم بها لأول مرة، وكثيرًا ما جربنا إعطاء الطفل معلومات جديدة ولكن سرعان ما نجده يقول إنه يعرفها منذ شهور، فعجزه عن التمييز بين قبل وبعد، بين القديم والحديث، يوضح عدم القدرة التي تحدثنا عنها الآن للتمييز بين الاختراع والتذكر، فالطفل كثيرًا ما يشعر أن ما اخترعه حتى في نفس اللحظة يمثل نوعًا من الحقيقة الأبدية، وإذا كان الأمر كذلك فإننا لا نستطيع القول إن كل صغير لا يحترم قواعد اللعب لأنه يسمح بتغييرها، فالأشياء الجديدة ليست جديدة فى نظره.

 

يضاف إلى ذلـك موقف غريب يظهر في مرحلة “مركزية الذات” يمكن أن نقارنه بالحالات العقلية الخاصة المميزة “للإلهام”, فالطفل إلى حد ما يطبق القواعد وفق هواه، فبينما نجد “فال” ومن على شاكلته يسمحون بأى نوع من التغيير ينتاب القواعد الموضوعة نجدهم جميعًا فرادى وجماعات يعنون بإبراز فكرة أن القواعد كانت دائمًا كما نجدها اليوم، وأنها تخضع لسلطة الراشدين وخصوصًا سلطة الأب، فهل في هذا تناقض؟ إنه يبدو كذلك في الظاهر، فلو أنا تذكرنا الخصائص السيكولوجية للأطفال في هذه السن وتذكرنا معها أن المجتمع في نظرهم لا يقوم على التعاون الناجح بين الأنداد بقدر ما يقوم على الإحساس بوجود اشتراكية داخلية بينه وبين رأي المسنين والبالغين. إذا تذكرنا هذا زال التناقض، فكما أن المتصوف لا يمكن أن يفصل رغباته عن رغبات الإله كذلك نجد أن الطفل الصغير لا يستطيع أن يميز بين دوافع خياله وبين القواعد المفروضة عليه من أعلى.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(1)مثال : الحرارة تحرق (قانون طبيعي). ممنوع لمن النادر (قانون أخلاقي) والطفل الذى يلعب فى المطخ يسلى نفسه بلمس كل قطعة من قطع الأثاث عدا الموقد (التزام فردي) فكيف يميز عقل الإنسان فى أول الأمر بين هذه الأنواع من النظم.

(1)      Bovet Le sentiment religieux et  psychologie de l’enfant coll. Autaliks pedagogiques. Neuchatel et paus (Delachaux et Nusslé) .

وقد ترجم هذا الكتاب ‘لى الإنجليزية بعنوان :

( المترجم )  Bovet ( The Child’s Religion )

(2)ly. R. M. ص 26 حالة كوف Kauf (8،8) فهذه الطفلة تعتقد أن القصة التى قصصتها عليها قد سطرها الإله فى مخه ، (قبل أن أولد وضعها هناك).

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل   -8

والآن ننتقل إلى الحالات التي تمثل هذه المرحلة تمام التمثيل، وهم الأطفال الذين لا يحترمون القواعد ومع ذلك فإنهم ينكرون أي مستحدثات مهما كان نوعها.  وسنبدأ بحوار طفل في الخامسة والنصف “ليه “Leh وكانت إجاباته من أكثر الأنواع التي صادفناها تلقائية.    بدأ الطفل يحدثنا عن قواعد اللعب قبل أن نسأله عن الشعور بالقواعد، فأخذ يتحدث ويرينا كيف نلعب من الخط (ولعل هذا هو كل ما يعرفه عن اللعب تقريبًا) ثم تطرقنا إلى الحوار الآتي، فنسأله في بساطة   – هل كل العالم يلعب من الخط؟ وهل من الممكن (كما يحدث فعلاً في عالم الواقع) وضع الكبار عند الخط وترك الصغار يلعبون من أي مكان أقرب؟ فكان جوابه   – لا. هذا ليس عدلاً.    – ولماذا ؟  – لأن الله سوف يجعل تصويبات الصغار لا تصل إلى الكريات، على حين تصل تصويبات الكبار إليها.  بمعنى آخر فإن العدل الإلهي يعارض أي تغيير في قواعد الكريات. فإذا تمتع لاعب مهما كان صغيرًا بشئ من التفضيل فإنه سبحانه وتعالى يمنعه من الوصول إلى المربع.

 

فا Pha (5.5 سنة) حاورناه على الوجه التالي: – هل يلعب الناس دائمًا هكذا؟   – نعم. إنهم يلعبون دائمًاهكذا.  – لماذا؟  – لأنه لا يمكن اللعب بأي طريقة أخرى.  – ألا تستطيع أن تلعب هكذا؟ وضعنا الكريات في دائرة ثم في مثلث.  – نعم. ولكن الآخرين لن يريدوا ذلك.  – لماذا؟  – لأن المربع أحسن.     – ولماذا كان المربع أحسن؟  وقد كان نجاحنا أقل فيما يتعلق بأصل اللعب.  كان الحوار كالتاي:  – هل كان والدك يلعب الكريات قبل أن تولد؟  – لا. أبدًا.  لأني لم أوجد وقتذاك.   – ولكنه كان طفلاً مثلك قبل ولادتك؟  – لقد كنت موجودًا حين كان مثلي ولكنه كان أكبر.   – متى بدأ الناس يلعبون الكريات ؟ – حين بدأ الآخرون بدأت أنا أيضا.  ومن المستحيل أن تزحزح فا Pha عن مكانه في مركز الكون من الناحية الزمنية والمكانية.   ومع ذلك فإنه يشعر شعورًا قويًا أن القواعد تعلوا فوق رأسه فهى لا تقبل التغيير.

 

“جيو Geo” (6 سنوات) يذكر لنا أن قواعد لعبة الكريات قد بدأت مع الناس من أعضاء البلدية (المجلس البلدى الذي يحتمل أن يكون قد سمع عنه في موضوع إصلاح الطرق والشرطة).   – وكيف كان ذلـك؟ – لقد جاءت الفكرة في رؤوس هؤلاء السادة وصنعوا بعض الكريات.    – وكيف تعلموا طريقة اللعب؟  – من رؤوسهم.   ثم علموا الناس.  ولقد علم والدي الأولاد الصغار كيف يلعبون.  – وهل يستطيع أحد أن يلعب بطريقة تغاير الطريقة التى أريتنى إياها؟  – هل تستطيع أن تغير اللعب؟ – أظن أنه يمكن ولكني لا أعرف كيف. (يشير “جيو” هنا إلى الأنواع الموجودة فعلاً)  – وبأى شكل؟  – لا, فليس هناك أي ألعاب أخرى بأى طريقة.  – لماذا؟  – لأن الله لم يعلمهم (المجلس البلدى).  قلنا له:  – حاول أن تغير اللعبة (أخذ “جيو” يخترع نظامًا ظنه جديدًا وهو يتضمن عمل مربع فيه 3 خطوط كل منها يتألف من 3 كريات).  – هل يستطيع الناس دائمًا أن يلعبوا بهذه الطريقة القديمة؟  – نعم, يا سيدي.  – كيف وجدت هذه اللعبة؟  – في رأسي.  – هل تستطيع أن تقول إذن إن اللعبة الأخرى لا قيمة لها وإن هذه هي وحدها التي يجب أن يتمسك بها الناس؟  – نعم, هناك أنواع أخرى يعرفها حضرات السادة أعضاء المجلس.  – وهل يعرفون هذه التى اخترعتها الآن؟  – نعم.  – ولكنها من اختراعك.  فهل وجدتها في رأسك ؟ – نعم.  – كيف؟  –  أخبرني بها الله.  – أتعرف أني قد تحدثت مع السادة أعضاء المجلس البلدي ولا أظنهم يعرفون لعبتك الجديدة؟  صاح جيو مأخوذًا.   – أواه, ولكني أعرف بعض الأطفال ممن لا يعرفون كيف يلعبون، فأي لعبة أعلمها لهم؟  لعبتك أم الأخرى؟  – لعبة السادة أعضاء المجلس البلدي.    – لماذا؟  – لأنها أجمل.  – إسمع يا جيو.   بعد حين ستصبح رجلاً كبيرًا ذا شارب ويجوز ألا يبقي أطفال كثيرون يلعبون لعبه السادة أعضاء المجلس البلدي، ولكنا قد نجد عددًا كبيرًا منهم يلعبون لعبتك, فأي هذه اللعب صحيح : أهي لعبتك التي سوف يمارسها الكثيرون, أم لعبة السادة أعضاء المجلس البلدي التي تكون حينئذ قريبة من النسيان؟  فأجاب : – لعبة أعضاء المجلس البلدي.

 

وحالة “جيو” تثبت بصورة طيبة ما سبق أن قلناه عن “فال Fal” من أن اختراع لعبة معناه الوصول إلى لعبة قائمة في رأس الإنسان وكانت مستخدمة من قبل ومنظمة بواسطة سلطات عليا لها حق التشريع.  فجيو Geo يعزو اللعبة التي ااخترعها إلى إلهام إلهي، ويظنها معروفة لدى أعضاء المجلس البلدي، وبمجرد أن نكف عن خداعه يقلل من قيمة اختراعه الشخصي ويرفض أن يعتبره صحيحًا حتى لو عم استخدامه.

 

مار Mar (6 سنوات) وقد سبق أن درسنا سلوكه إزاء مزاولة اللعب في الفقرة 3.    ذكر أنه في عصر والده والمسيح كان الأطفال يلعبون كما يلعبون اليوم, ورفض أن يخترع لعبة جديدة قائلاً :   – لم أخترع لعبة في حياتي.  ثم عرضنا عليه لعبة جديدة تتضمن وضع كريات على صندوق ثم جعلها تسقط بواسطة ضرب الصندوق وسألناه   – هل يستطيع إنسان أن يلعب هكذا ؟  – نعم. (يفعل ذلك ويبدو أنه يستمتع به)   – هل يمكن أن تصبح هذه اللعبة صحيحة يومًا ما؟ – لا. لأنها ليست هي نفسها.   وفي المحاولة الثانية كان رد فعله هو هو لم يغيره.

 

“ستور Stor” (7 سنوات) ذكر لنا كيف أن الناس كانوا يلعبون الكريات قبل سفينة نوح.  – وكيف كانوا يلعبون ؟  – كما نلعب.  – وكيف بدأت اللعبة؟  – اشتروا بعض الكريات. – ولكن كيف تعلموا؟       – علمهم أبي.   وقد اخترع “ستور Stor” لعبة جديدة على شكل مثلث, وهو يرى أن أصدقاءه سوف يسرهم اللعب بها.   – ولكن هذه اللعبة ليست للجميع فهى ليست للكبار.  – لماذا ؟  – لأنها ليست لعبة للكبار.  – أليست لعبة صحيحة كالتي أريتني إياها.  – لا.  – لماذا؟  – لأنها ليست مربعًا.  – ولو لعب الجميع بهذه الطريقة حتى الكبار منهم, فهل تكون صحيحة ؟  – لا.  – لماذا لا تكون صحيحة؟  – لأنها ليست مربعًا.

 

وفيما يتعلق بالتطبيق الفعلي للقواعد نجد أن كل هؤلاء الأطفال ينتمون إلى مرحلة مركزية الذات والنتيجة تبدو في منتهى التناقض.  فهؤلاء الأطفال يلعبون حسب هواهم.  حقًا أنهم قد تأثروا بأمثلة قليلة شاهدوها, كما أنهم لاحظوا بصورة مجملة خطة اللعب, ولكنهم فعلوا ذلك دون أن يشغلوا أنفسهم بالخضوع لتفاصيل القواعد التي يعرفونها, أو يستطيعون أن يلموا بها فيما لو عنوا بهذا الأمر قليلاً، ودون أن يعنوا بأي نوع من أنواع التشدد إزاء الجريمة التي يرتكبونها بمخالفة هذه القواعد.  أكثر من هذا,فإن كل طفل يلعب مع نفسه فلا يلتفت لجاره, ولا يهمه أن يراقب لعبه, ولا أن يراقبه هو في اللعب.   ولا يجتهد حتى في إصابته “في أن يكسب”, وكل الذي يعنيه أن يضرب الكرية التي يصوب نحوها. ومع ذلك فكل هؤلاء الأولاد يتفقون في تقديس القواعد.  فالقواعد أبدية, مصدرها الآباء وأعضاء المجلس البلدي بل وخالق الكون, فحرام تغييرها حتى إذا اتفق الرأي العام على التغيير, فإن هذا الرأي خاطئ، إذ أن اتفاق الأطفال جميعًا لاقيمة له بجانب الأعراف والتقاليد.  أما عن التغييرات الواضحة فهي ليست سوى أجزاء مكملة للتنزيل الأول.  وهكذا نجد أن “جيو Geo” (وحالته أقرب الحالات السابقة بدائية، وهو قريب مما عرضه فال Fal وإذن فهو يؤكد ما قلناه عن الأخير) نجده يعتقد أنه قد اخترع القواعد بفعل وحي شبيه بالوحي الذى كان أعضاء المجلس البلدي أول من تلقاه.

 

والواقع أن هذا التناقض عام في سلوك الأطفال، ومركب تركيبًا دقيقًا كما سنبين ذلك قرب نهاية هذا الكتاب وهو من أهم مظاهر الأخلاق في مرحلة مركزية الذات.   فمركزية الذات عند الأطفال أبعد من أن تكون اجتماعية ولكنها تسير جنبًا إلى جنب مع قسر الكبار.   فهى سابقة للاجتماعية من ناحية علاقتها بالتعاون. ويجب أن نميز في كل محيط نوعين من العلاقات : القسر والتعاون. فالأول يتضمن عنصرًا من الاحترام المتحد مع السلطة والتقدير، أما الثاني فهو مجرد تبادل بين أفراد على قدم المساواة.    ومن هنا يبدو أن مركزية الذات تناقض التعاون فحسب، إذ أن الأخيرة وحدها هي التي تستطيع أن تجعل الفرد متعاونا. أما القسر فهو دائماً حليف مركزية الذات عند الأطفال.  والواقع أننا نجد الطفل منطويًا على ذاته نظرًا لعجزه عن أن يقيم علاقة تبادل حقيقية مع البالغين.  فالطفل من جهة قابل إلى حد كبير لأن يخدع بأنه موافق، مع أنه في الواقع يكون سائرًا وراء خيالاته.  أما البالغ فهو, على العكس من ذلك, يستغل فرصة الموقف الذي هو فيه بدلاً من البحث وراء المساواة.  أما بالنسبة للقواعد الأخلاقية فإن الطفل يخضع قليلاً أو كثيراً للقواعد التي توضع له، ولكنها إذ تبقي كما هي خارجة عن ضمير الفرد فإنها لا تستطيع في الواقع أن تغير من أخلاقه.  هذا هو السبب في أن الطفل ينظر إلى القواعد على أنها مقدسة رغم أنه لا يضعها موضع التنفيذ.

 

وعلى هذا فإنه بالنسبة للعبة الكريات ليس هناك تناقض بين ذاتية المركز فى تطبيق اللعب وتقديس القواعد.  فهذا الاحترام دلالة لعقلية لا يوجهها التعاون بين أنداد ولكن يوجهها قسر البالغين .  فحين يقلد الطفل القواعد التى يسير عليها زملاؤه الكبار فهو يشعر بأنه يخضع لقانون لا يقبل التغيير لأنه يتصل بآبائه أنفسهم، فالضغط الذي يأتى من البالغين على الصغار يتحول في هذه الحالة – كما هو الحال غالبًا – إلى حالة قسر البالغين، وعمل الكبار من الأطفال لا زال عنادًا لأن التعاون لا يقوم إلا بين الأنداد. كذلك نجد أن خضوع الصغار من الأطفال لقواعد البالغين لا يمكن أن يؤدي إلى أي نوع من التعاون، وكل ما في الأمر أنه يؤدي إلى نوع من التصوف يرد إلى عاطفة محشوة بمشاركة جمعية تنسجم تمامًا – كما هو حال كثير من المتصوفة – مع مركزية الذات لأنا سنرى فيما بعد أن التعاون بين الأنداد لا يؤدي إلى ظهور تغير تدريجي في الموقف الفعلي للطفل بل يقوم بعمل أساسي في منع ظهور هذا الخضوع للسلطة.

 

في الوقت ذاته تعال بنا نختبر أشخاص الفترة الأخيرة للمرحلة التالية.  ولقد وجدنا ثلاث مراحل بالنسبة للشعور بالقواعد، بينما وجدنا أربعًا بالنسبة لتطبيق اللعب.  بمعنى آخر, فإن التعاون الذي نجده فيما بين السابعة والثامنة لا يكفي في بادئ الأمر للضغط على الخضوع الغامض للسلطة, والجزء الأخير من المرحلة الحاضرة (في الشعور بالقواعد) يتفق تمامًا مع النصف الأول لمرحلة التعاون (في تطبيق اللعب).

 

بن Ben (10 سنوات) الذي ذكرنا إجابته بالنسبة لتطبيق القواعد (في المرحلة الثالثة) لا زال في المرحلة الثانية من الناحية التي ندرسها الآن.  حاورناه على الوجه التالي : – هل يستطيع إنسان أن يخترع قواعد جديدة؟  – يفعل ذلك بعض الأولاد لكي يكسبوا كريات أكثر، لكن أمنيتهم لا تتحقق دائمًا فهناك ولد (حدث أخيرًا في فصله) فكر في أن يقول “سبران” حتى يقترب (وهذه القاعدة معروفة فعلاً للكبار من الأولاد) ولكن الكرية لم تخرج.  – وهل نجحت من الصغار؟  – نعم. لقد نجحت معهم.  – اقترح قاعدة يا “بن”.  – لا أستطيع اختراعها بهذه السرعة.  – إنك تستطيع, فأنا أعتقد أنك أمهر مما تصور. والآن تصور أنه لم يرك أحد أثناء وجود كريتك داخل المربع, فهل تعطي الآخرين هذا الحق؟  – نعم، لهم الحق في أن يفعلوا ذلك.  –إذن, فهل يستطيع الناس أن يلعبوا بهذه الطريقة ؟  – لا, لأن فيها غشًا.       – ولكن زملاءك جميعًا يوافقون على ذلك.  أليس كذلك؟  – نعم، الكل يوافق.  – إذن, لماذا ترى فيها غشا؟ – لأني اخترعتها, فهي ليست قاعدة. هي قاعدة خطأ لأنها خارجة عن القواعد.  فالقاعدة الصحيحة هي التي في اللعب.  – ثم كيف يعرف الإنسان إذا كانت القاعدة صحيحة؟  – اللاعبون المُجيدون يعرفون ذلك.  – تصور أن اللاعبين المُجيدين رغبوا في أن يلعبوا وفق قاعدتك.  – لا تنفع.   ثم إنهم سيقولون إنها غش.  – فإذا قالوا جميعًا إن القاعدة صحيحة فهل تنفع ؟  – نعم، ولكنها قاعدة خطأ.  – ولكن لو قالوا جميعًا إنها صحيحة, فكيف يعرف أحدهم أنها خطأ؟  – لأنك حين تكون في المربع فهو أشبه بالحديقة المسورة فأنت محبوس فيها (فإذا وقع الصياد داخل المربع فأنت محبوس)            – تصور أننا رسمنا مربعًا كهذا (وقد رسمنا مربعًا مع ترك فتحة في أحد جوانبه أشبه بمنفذ الحصن) فكان جوابه  – بعض الأولاد يفعلون ذلك ولكنه ليس صحيحًا فهو لهو لمجرد قضاء الوقت.  – لماذا؟     – لأن المربع يجب أن يكون مقفلاً.  – ولكن لو أن بعض الأولاد فعلوا ذلك, فهل هذا صحيح أم لا؟         – إنه صحيح وغير صحيح في وقت واحد.  – لماذا هو صحيح؟  – إنه صحيح لمجرد اللهو.    – ولماذا هو غير صحيح؟  – لأن المربع يجب أن يكون مقفلاً. – إذا كبرت وتصورت أن كل واحد اتبع هذه الطريقة فهل تكون صحيحة أم لا؟  – إنها تصبح صحيحة إذ ذاك لأنه سوف يكون هناك أولاد صغار يتعلمون هذه القاعدة.  – وبالنسبة لك؟  – تكون خطأ.  – وماذا تكون في الواقع والحقيقة؟  – إنها تكون حقيقة خطأ.   بعد ذلـك سمع بن Ben أن أباه وجده كانا يلعبان بطريقة مختلفة عن طريقته وأن القواعد يمكن أن يقوم الأطفال بتغييرها ولكن هذا لم يمنعه من الاحتفاظ بالرأي القائل بأن القواعد تتضمن حقيقة ذاتية مستقلة عن الاستعمال.

 

وهذه الحالات الانتقالية تثير الاهتمام بنوع خاص فبن Ben يقع في وسط الطريق بين المرحلة الثانية والثالثة.   فهو من جهة يعرف عن طريق التعاون وجود تغييرات في استخدام القواعد، وهو لذلك يعرف أن القواعد الحالية حديثة، ومن وضع الأطفال، ولكنه من جهة أخرى يؤمن بالصحة المطلقة الذاتية للقواعد.  فهل التعاون إذن قد فرض على هذا الطفل موقفًا تصوفيًا بالنسبة لقانون هو شبيه بالاحترام الذي يحسه الطفل الصغير تجاه الأوامر التي تأتيه من الكبار؟ أم أن احترام بن لقواعد اللعب نتيجة للقسر الذي لم يقض عليه التعاون بعد؟ الواقع أن الحديث سوف يوضح لنا أن التفسير الأخير هو الصحيح، فالأولاد الكبار لم يعودوا يؤمنون بالقيمة الذاتية للقواعد، وهم يفعلون ذلك بنفس المقياس الذي يعرفون به كيف يستخدمون القواعد فعلاً.   فموقف بن Ben إذن يجب أن نعتبره بقايا ظواهر الخضوع.

 

وبوجه عام فإنه في الأمور العادية أن التعاون من الناحية النزوعية لا يمكن أن يقضي قضاء تامًا على الحالات النفسية التي أوجدتها من ناحية التفكير، وهذه الحالة النفسية مركبة من مركزية الذات ومن الخضوع،  فالتفكير دائمًا يتأخر عن النزوع والتعاون يجب أن يزاول فترة طويلة قبل أن تظهر نتائجه واضحة في التفكير. وهذا مثال حديث لقانون الوصول إلى الشعور الذي قال به “كلاباريد Claparéde” وضياع الموازنة  الذي لاحظناه في ميادين أخرى كثيرة.  (انظر الجزء الثانى C.P.والفقرة 2 من الفصل 5 J.R.  )  علاوة على ذلك فإن هذه الظاهرة تبسط مسألة مركزية الذات بشكل عام إذ أنها توضح لماذا كانت مركزية الذات من الناحية الفعلية أكثر مقاومة منها من الناحية الواقعية.

 

1-    إدارك القواعد 

2- المرحلة الثالثة

بعد سن العاشرة في المتوسط, أي منذ النصف الثاني لمرحلة التعاون وفي خلال كل مرحلة تقنين القواعد نجد أن إدراك القواعد يناله تغيير كلي.   فالذاتية تطغى على القسرية ( حكم الذات يتفوق على حكم الغير) فقواعد اللعب لم تعد تبدو للطفل وكأنها قانون خارجي مقدس لأنه جاء من الراشدين، ولكنها أصبحت نتيجة لمناقشة حرة, وهي تستحق الاحترام لأنها نتيجة لاتفاق متبادل.  وهذا التغيير يمكن أن نراه عن طريق ثلاثة أدلة متوافقة : أولها أن الطفل يقبل تغيير القواعد ما دام هذا التغيير ينال أصوات الجميع، فكل شئ ممكن طالما أنك تحترم القرارات الجديدة.    وهكذا نجد الديموقراطية تلي الثيوقراطية (الحكومة الدينية) والجيروقراطية (حكومة المسنين) فلم تعد هناك جرائم فكرية، بل مخالفات عملية، فكل الآراء يمكن أن تكون مقبولة طالما بحث أصحابها عن طريق قانونى لقبولها، ومن الطبيعي أن تكون بعض الآراء معقولة أقل أو أكثر من الأخرى.  ومن القواعد الجديدة التي قد تقترح هناك مستحدثات تستحق أن تقبل لأنها تزيد في الاهتمام باللعب (السرور فى المخاطرات، الفن للفن …. إلخ) كما أن من القواعد الجديدة ما لا قيمة له لأنه يعطي الأسبقية للكسب السهل قبل العمل والمهاراة، ولكن الطفل يعتمد على الاتفاق بين اللاعبين لتقليل المستحدثات غير الأخلاقية، فهو لا يعتمد كما يعتمد الصغار على التقاليد الصالحة كلها، ولم يعد يرى أن كل شئ قد نظم في الماضي، وأن الطريقة الوحيدة لتجنب المشاكل هى تقديس النظم الموضوعة، بل أصبح يعتقد في قيمة التجربة ما دام الرأي الجماعي يقرها.

 

من جهة أخرى فإن الطفل لم يعد يقبل كقضية مسلم بصحتها الرأي القائل بأن القواعد دائمة وأنها تنتقل من جيل إلى جيل دون أن يمسها تغيير.  ومن جهة ثالثة, وأخيرة, فإن آراءه عن أصل القواعد واللعبة لا تختلف كثيرًا عن آرائنا. فالأصل أن الكريات يلقيها الأطفال هنا وهناك لمجرد التسلية, أما القواعد فهي أبعد من أن يكون البالغون قد فرضوها، ولا بد أنها تثبت تدريجيًا بطريقة ابتكار الأطفال أنفسهم.    وهاهى بعض الأمثلة :

روس Ross(11 سنة)  ينتمي روس إلى المرحلة الثالثة من ناحية تطبيق القواعد، وهو يدعي أنه كثيرًا ما اخترع قواعد جديدة مع زملائه.  قال – لقد كنا نعملها أحيانًا.   كنا نصل إلى 200.  فكنا نلعب ثم نتضارب.  ثم عاد فقال لي – إن وصلت إلى 100 أعطيك كرية.  وحاورناه على الوجه التالي:  – هل هذه القاعدة الجديدة صحيحة كالقواعد القديمة أم لا ؟  – ربما لا تكون على درجتها من الصحة لأنه ليس من الصعب أن تأخذ 4 كريات في هذا الاتجاه.  – هب أن كل واحد فعل ذلك, فهل تكون قاعدة حقيقية أم لا؟   – إن فعلوا ذلك غالبًا فإنها تصبح قاعدة حقيقية.  –هل كان أبوك يلعب بالطريقة التي أريتنى إياها أم بطريقة مختلفة؟  – أوه. لا أدري.  ربما كان يلعب بطريقة مختلفة.  الطريقة تتغير ولا زالت تتغير في كثير من الأحيان.  – هل يلعبها الناس منذ بعيد؟ – منذ خمسين عامًا على الأقل.  – هل كان كل الناس يلعبون الكريات أيام قدماء السويسريين؟  – أوه، لا أظن ذلك.  – كيف بدأوا؟  – أخذ بعض الأطفال بعض كريات سيارة (كريات تتدحرج من تلقاء نفسها) ولعبوا بها,  بعد ذلك وجدت الكريات في الحوانيت.      – لماذا وجدت القواعد في لعبة الكريات ؟   – لتجنب النزاع لا بد من وجود قواعد.   وبعد ذلك تلعب لعبًا صحيحا.  – كيف بدأت هذه القواعد؟  – اتفق بعض الأولاد معًا ووضعوها.  – هل تستطيع أن تخترع قاعدة جديدة ؟  – ربما.(ثم فكر وقال): – ضع 3 كريات معًا ثم أسقط أخرى من أعلى فوق الكرية الوسطى.  – هل يستطيع أحد أن يلعب بهذه الطريقة؟  – أوه، نعم.  – هل هذه قاعدة صحيحة كالقواعد الأخرى؟  – قد يقول بعض الأولاد إن هذه القاعدة ليست صحيحة تمامًا لأنها تعتمد على الحظ، ولكي تكون قاعدة صحيحة يجب أن تعتمد على المهارة.   – ولكن لو أن كل واحد لعب بهذه الطريقة فهل تكون اللعبة صحيحة أم لا؟  – نعم، فإنك تستطيع أن تلعب جيدًا بهذه الطريقة كما تلعب بالطرق الأخرى.

 

مالب Malb (12 سنة) ينتمي مالب إلى المرحلة الرابعة من مراحل تطبيق القواعد.   جرى بيننا وبينه الحوار التالي:  – هل يلعب كل الناس بالطريقة التي أريتنى إياها؟  – نعم.  – وهل يلعبون هكذا منذ زمن بعيد؟  – لا.  – لماذا ؟  – لقد استخدموا كلمات مختلفة.  – كيف كانت القواعد؟  – إنهم لم يستخدموها أيضًا فقد ذكر لي والدي أنه لم يلعب بهذه الطريقة.    – ولكن هل لعب الناس وفق هذه القواعد منذ زمن بعيد؟  – ليست نفس هذه القواعد تماما.  – وماذا عن قاعدة عدم الضرب من أجل واحدة؟  – أظن أن هذه جاءت متأخرة.

 

هل كان الناس يلعبون الكريات حين كان جدك صغيرًا؟  – نعم.  – كما يفعلون الآن؟  – لا.  ألعابًا مختلفة الأنواع.  – وفي زمن واقعة موراMorat؟  – لا. لا أظن أنهم كانوا يلعبون وقتذاك.  – ما رأيك في كيفية بدء لعبة الكريات؟  – أولاً بحث الأطفال عن كريات مستديرة.  – والقواعد ؟  – أتوقع أنهم لعبوا من الخط وبعد ذلك رغب الأطفال في أن يلعبوا ألعابًا مختلفة واخترعوا قواعد أخرى.  – وكيف بدأ الخط ؟          – أتوقع أنهم كانوا يلعبون بضرب الكريات ثم اخترعوا الخط ؟  – هل يستطيع أحد أن يغير القواعد؟  هل تستطيع أنت؟  – نعم, أستطيع أن أخترع لعبة أخرى.  كنا نلعب ذات مساء في المنزل فاكتشفنا لعبة جديدة (وقد أرانا إياها)  – وهل هذه القواعد صحيحة كالأخرى؟  – نعم.  – أيهما أصح: القواعد التي أريتنى إياها أولاً أم تلك التي اخترعتها؟  – كلاهما صحيح.  – لو أنك شرحت لعبتك الجديدة للصغار من الأطفال فماذا يفعلون؟  – ربما يلعبون على نسقها.  – وإذا نسوا اللعبة المستديرة ولعبوا فقط بهذه اللعبة, فأيتهما تكون صحيحة : الجديدة المعروفة جيدًا أم القديمة؟   – المعروفة جيدًا هي الصحيحة.

 

جروس (13 سنة) في المرحلة الرابعة لتطبيق القواعد.  أوضح لنا القواعد كما رأينا من قبل، فحاورناه   – هل كان والدك يلعب بهذه الطريقة حين كان صغيرًا؟  – لا. لقد كانت لهم قواعد أخرى.   لم يلعبوا لعبة المربع.  – وهل كان الأولاد الآخرون أيام والدك يلعبون لعبة المربع؟   – لابد أنه كان هناك من بينهم من يعرفها مادمنا نحن نعرفها الآن.  – وكيف توصل هذا الواحد إلى معرفة لعبة المربع؟  – لقد فكر في أن يرى إن كانت هذه اللعبة أظرف من غيرها من اللعب.  – كم عمر الولد الذي اخترع لعبة المربع؟          – أتوقع أن يكون في الثالثة عشرة (عمره هو).  – هل كان الاطفال السويسريون الذين عاصروا موقعة مور اMorat يلعبون الكريات؟  – ربما كانوا يلعبون لعبة الثقب، وبعد ذلك لعبة المربع.  – وفي عصر دافيد بورىDavid de Purry (رجل ذو شعر مستعار يقوم تمثاله في ميدان عام من ميادين نوشاتل وهو معروف لدى الجميع)؟  – أظن أنه كان عندهم نوع من اللعب أيضا.  – هل تغيرت القواعد منذ أن اكتشف المربع؟  – ربما كان هناك تغييرات طفيفة.   – وهل لازالت القواعد تتغير؟  – لا. إنك تلعب بنفس الطريقة ؟  – هل يسمح لك بإحداث تغيير في القواعد؟  – نعم، البعض يسمح والبعض الآخر لا يسمح.    – إن لعب الاولاد بهذه الطريقة (غير بعض الشئ) فإنه يجب أن تلعب كما يلعبون.  – هل تظن أنك تستطيع أن تخترع قاعدة جديدة؟ – نعم … (وأخذ يفكر). تستطيع أن تلعب بقدمك. – فهل هذه اللعبة صحيحة؟  – لا أدري. هي مجرد فكرة عندي.   – ولو أنك عرضتها على الآخرين, هل تظن أنه يعمل بها؟  – نعم. يمكن أن يعمل بها وأن تكون صحيحة, وبعض الأولاد الآخرين قد يرغب في محاولتها, وبعضهم  قد لا يحبها بل يحتفظ بقواعده القديمة, لأنهم يظنون أن فرصتهم في اللعبة الجديدة أقل.  – ولو لعب كل واحد بطريقتك؟  – عندئذ تصبح قاعدة ككل القواعد الأخرى.  – أيهما أصح إذن قاعدتك أو القواعد القديمة؟  – القديمة.  – لماذا ؟  – لأنه يمتنع فيها الغش (لاحظ هذا التحقيق الجميل للقواعد, فالقاعدة القديمة أحسن من المستحدثة التي لم ينلها تقديس الاستخدام، ذلك أن القاعدة القديمة وحدها هي التي لها قوة القانون ولذلك يمتنع فيها الغش)  – ولو أن الناس جميعًا لعبوا بأقدامهم فأيهما إذن يصبح أصح؟  – لو لعب الناس جميعًا بأقدامهم فإن هذه اللعبة حينئذ تصبح أصح.  وأخيرًا سألنا جروس          – افرض أن هناك لعبتين إحداهما سهلة تسمح لك بأن تكسب كثيرًا وأخرى صعبة تجعل الكسب نادرًا، فأيهما تحب أكثر؟  – الأكثر صعوبة، ففي النهاية ستكسب بهذه الطريقة.

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل  – 9

فوا Vua (13 سنة) الذي سبق أن درسنا إجاباته عن تطبيق القواعد (المرحلة الرابعة) وقد ذكر لنا أن أباه وجده لعبا بطريقة مختلفة عن طريقته  – هل كانت الأطفال تلعب الكريات (البلىْ) أيام السويسريين الثلاثة؟  – لا كانوا يعملون في المنزل وكانوا يلعبون لعبًا أخرى.  – وهل كانوا يلعبون الكريات أيام موقعة مورا Morat؟  – ربما بعد الحرب.  – ومن اخترع هذه اللعبة؟  – بعض الأولاد شاهدوا آباءهم يلعبون لعبة قديمة للكريات ففكروا في أن يفعلوا مثلهم.  – وهل يمكن اختراع قواعد أخرى؟   – نعم. (وعرض علينا واحدة اخترعها وأطلق عليها اسم “الخط” لأن الكريات رتبت على شكل صف لا على شكل دائرة)  – أيهما اللعبة الحقيقية : لعبتك أم لعبة المربع؟  – المربع, لأنها اللعبة التي تستخدم دائمًا.    – أيهما تحب أكثر : اللعبة السهلة أم الصعبة؟  – الأكثر صعوبة لأنها أكثر تشويقا.  فلعبة الكوم Troyat (وهي لعبة تتألف من تكويم الكريات على شكل أكوام) ليست هي اللعبة الحقيقية تماما.  وفي هذه النقطة نجد أن “فوا Vua” كان يبدو أنه يجيب كطفل في المرحلة السابقة، ذلك الذى يرى أن اللعبة الحقيقية هي “القديمة المرتبطة بالتقاليد بعكس المستحدثات المعاصرة” ولكن “فوا” يظهر لنا أنه إنما يعارض المعايير الشعبية (فلعبة الكوم تعطي فرصة كبيرة للصدفة, فهي بذلك تساعد على الكسب الحرام غير الحقيقي) ويفضل عليها التجارب التى تتفق مع روح اللعب, سواء أكانت قديمة كالمربع أم حديثة كلعبته هو.  ويمكننا أن نستدل على صحة رأينا هذا ببحث الدلائل التي ترتبط بلعبته هو.  – هل اللعبة التي اخترعتها صحيحة كالمربع أو أقل منها صحة؟  – إنها مثلها تمامًا لأن الكريات بعيدة (فاللعبة إذن صعبة).  – لنفترض أنه بعد قليل من السنين لعب كل إنسان لعبتك وبقي ولد أو ولدان يلعبان لعبة المربع، فأيهما يكون صحيحًا لعبة الصف أم لعبة المربع؟  – لعبة الصف تكون هى الأصح.

 

بلاس Blas (12 سنة) في المرحلة الرابعة لتطبيق القواعد.  يظن بلاس أن لعبة الكريات لابد أن تكون قد بدأت حوالى سنة 1500, أي في وقت الإصلاح الديني, وقد اخترع الأطفال اللعبة فصنعوا كرات صغيرة من التراب والماء ثم تسلوا بدحرجتها، فوجدوا أنه مما يزيد من سرورهم أن يجعلوا الكريات يضرب بعضها بعضا.  ثم جاءتهم فكرة اختراع لعبة وقالوا حين تصدم كريتك كرية شخص آخر فإنك تستطيع أن تأخذ الكرية التي صدمتها، وبعد ذلك أتوقع أنهم اخترعوا المربع حتى تضطر إلى إخراج الكريات من المربع، واخترعوا الخط حتى تكون الكريات كلها في نفس المسافة. ولقد اكتشفوه متأخرًا، فلما اكتشف الأسمنت صنعت منه الكريات على النحو الذي نشاهده الآن. والكريات المصنوعة من الطين لم تكن على درجة كافية من الصلابة، ولذلك فإن الأولاد طلبوا من الصناع أن يصنعوها لهم من الأسمنت.   وقد طلبنا من بلاس Blas أن يخترع لنا قاعدة جديدة، فأخذ يفكر وذكر أنه أولاً لابد أن توجد مسافة، ومن تذهب كريته بعيدًا يلعب أولاً، أما القواعد فيظهر أنها رديئة لأنها تستلزم أن تجري إلى الوراء مسافة بعيدة جدًا بحثًا عن الكريات.   ثم فكر بعد ذلك في قاعدة أخرى تتألف من اللعب بمربعين أحدهما داخل الآخر.   سألنا بلاس – هل يرغب كل واحد أن يلعب بهذه الطريقة؟  فاجاب – أولئك كشفوها.  ثم قلنا له – إذا لعب الأطفال فيما بعد كما يلعبون بالمربع فأيهما يكون صحيحًا؟  فأجاب          – كلاهما صحيح.

 

وهنا نرى من الناحية السيكولوجية والتربوية في منتهى الوضوح، إذ نستطيع الجزم بأننا أمام حقيقة اجتماعية منظمة تنظيمًا عقليًا وأخلاقيًا، ومع ذلك فهي لا زالت من خصائص الطفولة، وكذلك نستطيع أن نضع أصبعنا على الصلة بين التعاون والحكم الذاتي الذي يلي الصلة بين مركزية الذات والقسر.

 

حتى الآن نرى أن القواعد مفروضة على صغار الأطفال، فرضها عليهم كبارهم فتقبلها الصغار كأوامر من الراشدين، ولذلك تبدو في نظر الطفل مقدسة لا تمس.  وضمان حقيقتها هو في ثباتها التام.   وهذا التطابق يظل خارجًا عن الفرد، فالطفليبدو طيعًا خاضعًا تمامًا لوحي القدامى والآلهة، وهو لذلك لا يستطيع في الواقع أن يقوم بغير التظاهر بالاجتماعية، وليس هو ما يقوله عن الناحية الأخلاقية.  فالقسر الخارجي لا يقضى على مركزية الذات بل هو يغطيها ويخفيها.

 

والقاعدة منذ الآن أصبحت نتيجة لتعاقد حر في شعور الأفراد أنفسهم، فلم تعد خارجية ولا قسرية، وهي قابلة للتعديل والتهذيب بحيث تلائم ميول الجماعة, وهي لا تتألف من حقيقة إلهامية بحيث تصبح قدسيتها مشتقة من أصلها الديني ودوامها التاريخي، بل إنها شئ تنامى تدريجيًا وذاتيًا. ولكن هل هذا يمنعها من أن تكون قاعدة حقيقية؟  أليس هذا علامة على التقهقر أكثر منه على التقدم بالنسبة للمرحلة السابقة؟  هذه هي المشكلة, فالحقائق تؤيد تمامًا أن تكون النتيجة عكسية، إذ أنه منذ اللحظة التي تحل فيها قاعدة التعاون محل قاعدة القسر فإن قاعدة التعاون تصبح قاعدة أخلاقية ذات أثر.

 

وأول ما يواجه المرء هذا الاتفاق الزمني بين ظهور هذا النوع الجديد من إدراك القواعد والملاحظة الصريحة للقواعد، وهذه المرحلة الثالثة لإدراك القواعد تظهر حوالي سن 10-11 وفي هذه السن نفسها تبدأ صفات التعاون البسيطة للمرحلة الثالثة لتطبيق القواعد في التعقد عن طريق الرغبة في التقنين والتطبيق الكلي للقانون.   فالظاهرتان إذن ترتبط كل منهما بالأخرى ولكن هل إدراك الذاتية هو الذي يؤدى إلى الاحترام الفعلي للقانون أم أن احترام القانون هو الذي يؤدي إلى الذاتية؟  هناك – بكل بساطة – ناحيتان لحقيقة واحدة : فالقاعدة حين لا تصبح خارجية عن الطفل غير موقوفة على الرغبة الحرة الجماعية فإنها تصبح متحدة في عقل الفرد.  وطاعة الفرد إذن تصبح تلقائية خالصة.  والصعوبة تعود حقيقة إلى الظهور طوال الوقت حتى إن الطفل يحاول نقد بعض مواد القانون أو بعض إجراءاته التي هي في صالح منافسه بينما لا يزال على ولاءه للقاعدة التي يؤديها.  ولكن الوظيفة الخاصة للتعاون هي أن تجعل الطفل يطبق ظاهرة تبادل المعاملة، ومن هنا تبدو عنده ظاهرة التعميم الأخلاقي والكرم في العلاقات بين أقرانه.

 

وهذه النقطة الأخيرة فيها دلالة أخرى على الارتباط بين الذاتية والاحترام الحقيقي للقانون. فحين يصبح الطفل قادرًا على تعديل القانون.  أي حين يصبح ملكًا ومشرعًا في الديموقراطية التي تلي حوالي سن 10-11- حكومة المسنين نجد هذا الطفلقد أصبحت له دراية بعلة وجود القانون، فالقانون أصبح حالة للاتفاق,”حتى لا يدوم النزاع بيننا”.    وكما قال “روس” “يجب أن توجد قواعد وبعد ذلك نلعب لعبًا صحيحًا، ملتزمين بهذه القواعد.   والقواعد الصحيحة في رأي”جروس” هي التي تربك أفكار اللاعبين لأنهم حينئذ لا يستطيعون الغش.

 

والأمر الثالث الذي وضح بجلاء هو أن الذاتية التي تعمل في هذه المرحلة تؤدي بالتأكيد إلى احترام القواعد أكثر من الغيرية التي كانت سائدة في المرحلة السابقة في الطريقة السياسية الحقيقية والديموقراطية التي يميز بها أطفال الثانية عشر – الثالثة عشرة بين النزوات غير القانونية وبين المستحدثات القانونية.  فكل شئ مسموح به وكل اقتراح يقدمه الفرد نجد أن له الحق في أن يلقى الرعاية.  ولم تعد هناك خيانة فكرية, بمعنى أن الرغبة في تغيير القوانين لم تعد إثما وكل ما في الموضوع – وكل الحالات التي درسناها كانت في غاية الوضوح من هذه الناحية – أنه ليس لأحد الحق في إدخال مستحدثات إلا بالطرق القانونية – كأن يقنع اللاعبين الآخرين مقدمًا لحكم الأغلبية.  ويجوز أن نجد خيانات ولكنها في التصرفات فقط، فالتصرفات وحدها هي الإجبارية أما الأفكار فهي خاضعة دائماً للمناقشة، ولهذا نجد “جروس” يذكر لنا أنه حين يبدو اقتراح ما فإن البعض يريده والبعض الآخر لا يريده, فإذا لعب الاولاد بهذه الطريقة (وقد أحدث تغييرًا) فإن عليك أن تلعب كما يلعبون. وقال فوا Vua في موضوع تطبيق القواعد (فقرة4)، “أحيانًا يلعب الناس بطرق مختلفة, ثم يسأل كل منا الآخر ماذا تريد أن تعمل فنتناقش قليلاً ثم نصل إلى اتفاق”.

 

باختصار, فإن القانون أصبح نابعًا من مملكة الصغار ولم يعد هابطًا من تقاليد الكبار.  ويرتبط بهذا التغيير أن القيم النسبية الخاصة بالعادات والحقوق المعقولة في الواقع أصبح مصدرها الصغار أنفسهم، ففي الماضي كانت العادة دائماً سائدة على الحقوق.  وهنا فقط كما في كل الحالات التي يكون فيها الكائن الحي خاضعًا لعادة ليست جزءًا من حياته الداخلية سنجد أن الطفل يعتبر العادة مفروضة عليه من الكبار، كنوع من الوصايا العشر جاءتنا من كائنات إلهية (مثل الكبار بما فيهم الله سبحانه وتعالى الذي هو عند “فال” أكبر الرجال سنًا في “نوشاتل” بعد أبيه)، ونتيجة ذلك أن الطفل الصغير يرى أن أي تغيير في الاستعمال لا يحل الفرد من ضرورة بقائه أمينًا للقانون الأبدي, فقد قال “بن” إنه لو أن الناس نسوا لعبة المربع واستبدلوها بغيرها فإن هذه اللعبة الجديدة تكون حقيقة “خطأ”, فالطفل في هذه الحالة يميز بين القاعدة الحقيقية في ذاتها وبين مجرد العادة الحاضرة أو المستقبلية.   ومع ذلك فإنه يبقى طوال الوقت خاضعًا لحكم العادة لا لأي علة قانونية أخلاقية أو حقيقية مختلفة عن العادة ولكنها سائدة عليها.  وهذا التفكير في الواقع لا يختلف عن تفكير كثير من الكبار المحافظين الذين يخدعون أنفسهم حين يظنون أنهم يساعدون على نصرة الآراء الدائمة على مستحدثات العصر الحاضر بينما هم فى الواقع يخضعون لرق عادة قديمة على حساب القوانين الدائمة الناتجة من التعاون المعقول. 

 

ولكن من الآن نجد أن الطفل قادر على الفصل بين العادة والمثل الأعلى الفعلي، وذلك عن طريق اعتياده أن يلزم نفسه بقواعد معينة من قواعد المناقشة والمعاونة، وهكذا يستطيع أن يتعاون مع جيرانه على أساس التبادل على قدم المساواة (دون أي احترام كاذب للتقاليد أو رغبة أي فرد من الأفراد) فالتعاون الذي يعارض القسر الاجتماعي والذي يقوم جنبًا إلى جنب مع مجموعة الأفكار الوقتية الواقعية التي تسمح بالوصول إلى المثل الأعلى الذي يميز الحق وهو من الناحية الوظيفية داخل في تركيب المناقشة والمبادلة، فبينما نجد أن معارضة التقاليد تفرض الأفكار أو العادات ولهذه نهايتها، نجد أن المعاونة لا تفرض شيئا سوى الطرق الفعلية للتبادل العقلي والأخلاقي (وفي هذا المقام يعارض بولدوين فكرة الاتفاق(1) الطبيعي بفكرة الاتفاق الاجتماعي(2)) وعلى هذا ينبغي أن نميز بين الموافقة العملية وبين الموافقة المثالية التي تقوم بين العقول وتتحدد كلما أكثرنا وتعمقنا في تطبيق عمليات التبادل العقلي(3) ومعنى هذا عند الأطفال أنه بالإضافة إلى القواعد التي تتفق عليها مجموعة ما في وقت ما (مجموعة أخلاقية وقانونية حسب المعنى الذي قصده لالاند M.Laland حين تحدث عن العقل(4) المنظم فإن الطفل يقوم في عقله نوع من المثالية أو روح اللعبة التي لا يمكن أن تأخذ شكل مصطلحات للقواعد (مجموعة أخلاقية حسب المعنى المقصود من “العقل المنظم” ذلك أنه إن وجد أي تبادل على قدم المساواة بين اللاعبين في تطبيق القواعد المقررة أو في عمل قواعد جديدة فإن كل شئ يجب التقليل منه حتى يمكن توفيق هذا التبادل (عدم المساواة الناتج من الصدفة, أو من الفروق في المهارة, أو في القوة العضلية … إلخ ) وهكذا ×××× الاستخدام بالتدريج، فيصبح مثلاً أعلى يسمو على العادة إذ أنه ينتج من الوظيفة التعاونية.

 

وهذه هي العلة في أن المستحدثات حين تعرض على الطفل فإنا نجده يعتبرها صحيحة أو غير صحيحة، لا على سبيل درجة مساهمتها في قيام الأغلبية من اللاعبين باللعب متعاونين ولكن أيضًا على أساس اتفاقها مع روح اللعبة نفسها، وهذه ليست أكثر أو أقل من روح التبادل, فـ”روس” مثلاً يحدثنا عن اقتراحاته “ربما لا تكون صحيحة تمامًا لأنه ليس من الصعب أن تأخذ أربع كريات بهذه الطريقة”.  ومرة أخرى يقول “ربما يقول الرفاق إنها غير صحيحة تمامًا تقوم على الحظ”, فالقاعدة الحسنة هي التي تعتمد على المهارة”.    وقد ذكر لنا فوا Vua أن لعبة المثلث ربما كانت أقـل صحة من المربع (ولو أنها تتساوى معها في الشيوع وفي مدى إلمام الأجيال السابقة بها) لأنها اخترعت “لكسب الكريات كلها”.  وبهذه الطريقة يرسم لنا “فوا” الحد الفاصل بين حكم الرعاع والديموقراطية المتزنة. وبنفس الطريقة نجد أن “جروس وفوا” يفضلان الألعاب الصعبة لأنها أكثر جذبًا للاهتمام، فالمهارة والإتقان قد حلا مكانًا أسمى من الكسب، وفكرة الفن للفن أصبحت الغاية بها أكبر من اللعب للكسب.

 

وباختصار, فإنه بمجرد أن نصل إلى مرحلة التعاون نجد أن الآراء النظرية عن العدل والظلم أصبحت موجهة للعادة، لأنها أصبحت داخلية فعلاً في الناحية الوظيفية للحياة الاجتماعية بين الرفاق. وهذه نقطة سوف تتضح في الفصل الثالث من هذا الكتاب، أما في أثناء المراحل السابقة فإنا نجد العكس من ذلك فإن العادة توجه الحكم على العدل، وذلك يرجع بنوع خاص إلى أنها لا زالت خارجة عن عقل الأفراد.

 

 

(1)فالأول Synnomique مصدره العقل ولا يختلف باختلاف المجتمعات والآخر مصدره المجتمع أى يتفق عليه مجمتع من المجتمعات ويختلف من مجتمع لآخر

(2)Baldwin “Theorie genetique de la realité” Trad. Philippe Alcan

(3)أنظر مقالنا عن :

” logique génétique et sociologie ” revue philos 1928.

(4)A.Laland, Riason constituante et raison constitué. Revue des cours et des  confreneces, 15 et 30 avril, 1925.

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل   – 10

ولننتقل الآن إلى بحث فلسفة التاريخ الذي يتبعه الطفل أثناء كشفه عن الديموقراطية.  ومن المدهش في هذا الاتجاه أن نلاحظ قيام المعاصرة الآتية.  فمن اللحظة التي يقرر فيها الطفل أن القواعد يمكن أن تتغير نجد أنه لم يعد يؤمن بماضيها الأزلي، ولا بأصل نسبتها إلى الراشدين.  بمعنى آخر, فإنه يعتبر القواعد قد خضعت لتغيير مستمر قام به الأطفال نحوها بالاختراع والتهذيب كما أن الحوادث الخارجية ربما كان لها دور في تبيان هذه الحقيقة.  ذلك أن الطفل لابد أن يتعلم من أبيه أن اللعبة كانت تختلف عند الأجيال السابقة عنها الآن ولكن العلاقة الواضحة وضوحًا تامًا (فى المتوسط طبعًا) بين ظهور هذا النوع الجديد من الشعور بالقواعد واختفاء الاعتقاد بأخذها عن الراشدين, هذه العلاقة لابد أن تقوم على أساس من الحقيقة.  فهل نقول إذن إن فقدان الاعتقاد بالأصل الإلهى للقواعد أو بانتمائها إلى الراشدين هو الذي سمح للطفل أن يفكر في إدخال مستحدثات جديدة على اللعبة فنقول إن الشعور بالحكم الذاتي هو الذي قضى على خرافة الإلهام.  الواقع أنه لا يستطيع إنسان له بعض الإلمام بطبيعة معتقدات الأطفال أن يتصور أن التغيير في آراء الأطفال عن أصل القواعد يمكن أن يكون عميقًا في طبيعته إلى الدرجة التي يكون له فيها هذا الأثر العميق في أخلاق الطفل الاجتماعية. على العكس من ذلك فإننا هنا – كما في كثير من الحالات – نجد أن العقيدة مجرد تفكير منعكس في السلوك.

 

وليس من شك أن الأطفال يندر أن تفكر في أصل دستور لعبة الكريات، بل وأكثر من ذلك فإن هناك أسباب قوية جدًا تدعونا للأخذ بفكرة أن هذه المشكلة بالنسبة للأطفال الذين اختبرناهم لم يكن لها مكان في رؤوسهم قبل اليوم الذي فكر فيه عالم النفس أن يوجه إليهم هذا السؤال المفعم بالسخرية عن الطريقة التي كانت لعبة الكريات تلعب بمقتضاها أيام السويسريين القدامي أو في زمن العهد القديم.  فإن افترضنا أن السؤال عن أصل القواعد كان قد مر بعقول بعض هؤلاء الأطفال أثناء الجدل التلقائي الذي كثيرًا ما يحدث حول القواعد عمومًا (الفقرات من 5-10 L. P.) فإن الجواب الذي يصل إليه الطفل قد يصل إليه دون كثير من التفكير.  وفي معظم الحالات كانت أسئلتنا التي وجهناها جديدة كل الجدة بالنسبة للأطفال، وكانت الإجابات تمليها الإحساسات التي أثارتها اللعبة في هذا الشخص بدرجات متفاوتة العمق.  وعلى هذا فإن حديث الصغار عن القواعد باعتبار أن أصلها يمتد إلى الراشدين وأنها لم تتغير البته ينبغي أن يكون المرء حذرًا في الأخذ به على اعتبار أنه دليل على عقيدة منظمة، وكل الذي يعنيه هذا الرأى هو أن القواعد يجب أن تترك وحدها وحين حدثنا الكبار من الأطفال وجدنا العكس من ذلك فقالوا إن القواعد قد تغيرت، وقد وضعها الأطفال.  فهذه العقيدة تقوم على تفكير أرقى لأنها جاءت من أطفال أكبر سنًا، ولكنها لا زالت مجرد دليل, فكل ما يقصده الطفل أنه حر في أن يضع قانون.

 

ويحسن أن نتساءل هل من حقنا أن نسأل الطفل عن مثل هذه المعتقدات اللفظية ما دامت هذه المعتقدات لا تتصل بفكرة واضحة, وما دام تفكيره الحقيقي أعمق من هذا بكثير, فهو يقع في مكان ما أعمق من مستوى اللفظ.  ولكنا نرى أن هذه المعتقدات لها أهميتها، وذلك لأن هذه الظاهرة نفسها تعود فتظهر في حياة الراشدين اللفظية، ولأن الحقائق النفسية تندرج هي نفسها فتصبح نظمًا ميتافزيقية، وأن ×××× باريتو(1) ” Pareto بالمشتقات وأقامه على نتائج بسيطة نسبيًا ولكنها غنية ×××× نجد أصله وبذوره في إشارات الأطفال عن أصل اللعب. وهذه الإشارات عديمة القيمة من الناحية العقلية ولكنها تحتوى على عنصر اجتماعي مقاوم ذي أثر فعال هو الذي أطلق عليه باريتو Pareto لفظ راسب Residuum.   وترتبط “المشتقات” بهذا الراسب الذي هو من خصائص موقف الخضوع عند الصغار من الأطفال سواء كانت هذه “المشتقات” إلهية أو ترجع في أصلها إلى الراشدين.   وكذلك يرتبط بها “الاستمرار في التاريخ” كما ترتبط “المشتقات” (الطبيعة “الطفولية الأصل” و”التقدمية”) بهذا الراسب الذي هو من خصائص الموقف الديموقراطي عند الكبار من الأطفال.

 

بقي أن نتساءل عن أمر أكثر عمقًا هو : كيف وصلت الديموقراطية إلى هذه الدرجة من الرقي في لعبة الكريات عند الأطفال بين 11 ، 13 على حين أنها لا زالت غير مألوفة لدى الراشدين في نواحٍ كثيرة من نواحي الحياة؟  للإجابة عن هذا التساؤل نقول : إنه من الطبيعي أن يسهل الاتفاق في بعض النواحي وإن كان صعبًا من نواحٍ أخرى، فالمستوى الوجداني الذي يسهل الاتفاق حول قواعد لعبة “المربع” قد لا يكفي للوصول إلى اتفاق حول مشكلة الفقر أو شرعية الحرب, فإذا تركنا هذه المسائل (ومع ذلك فمن الواضح أن المسائل الاجتماعية أكثر أهمية عندنا من قواعد اللعب عند أطفال الثانية عشرة) فإنا نواجه غيرها مما هو أكثر أهمية من الناحية النفسية والاجتماعية، لأنه ينبغي ألا ننسى أن لعبة الكريات يهملها الأطفال حوالي سن 14 – 15 على الأكثر, وعلى ذلك فإن أطفال 11 – 13 ليس لهم رفاق كبار بالنسبة لهذه اللعبة، ولهذا ينبغي أن نعنى بالظرف الآتي: فما دام الأطفال لم يعد عليهم ضغط من رفاق اللعب الذين يفرضون آراءهم بحكم ما لهم من امتيازات فإنا نجد هؤلاء الأطفال ممن درسنا إجاباتهم قد أصبحوا قادرين تمامًا على إدراك ذاتيتهم بسرعة أكثر مما لو كانت لعبة الكريات تستمر إلى سن 18 وبهذه الطريقة فإن معظم الظواهر المميزة لمجتمعات الراشدين لابد أن تكون مختلفة عما هي عليه لو اختلف متوسط عمر الإنسان عما هو عليه الآن.  وهذه الملاحظة قد لفتت أنظار علماء الاجتماع فأوجست كونت Auguste Comte يشير إلى أن أثر جيل على آخر هو أكبر ظاهرة في الحياة الاجتماعية.  وسوف نرى فيما بعد أن إدراك الذاتية يظهر في عدد كبير من النواحي حوالي سن 11، فهل هو انعكاس الألعاب الجمعية على مجمل الحياة الأخلاقية؟  ذلك ما سوف نبحثه فيما بعد.

 

7- لعبة البنات

قبل أن نضع النتائج العامة المستخلصة من الحقائق التي ذكرناها نجد أن من المفيد أن نبحث ما إذا كانت هذه النتائج خاصة بلعبة الكريات كما يلعبها الأطفال أو أن من الممكن أن نجد أمثلة مشابهة في ميادين أخرى، ولذا درسنا لعبة أبسط من لعبة الكريات.   درسناها بنفس الطريقة غير أنا قصرنا بحثنا على البنات فقط.

 

والملاحظة السطحية تكفي لبيان أن الحس القانوني عند الصغار من البنات أقل تقدمًا عن البنين. والواقع أننا لم ننجح في أن نجد لعبة واحدة جمعية للبنات تشمل هذا العدد الكبير من القواعد، وتقوم على نظام جميل وقانون ثابت من القواعد كتلك التي وجدناها في لعبة الكريات التي درسناها من قبل. ومن الأسئلة الهامة فى هذا الاتجاه لعبة “الحجلة”, وهي تقوم على أساس أن تحجل البنت على رجل واحدة تدفع بها حجرًا ينتقل في أقسام قد رسمت على الأرض تمثل أيام الأسبوع أو أي شئ آخر يريده الإنسان. وفي هذه اللعبة قواعد قليلة مثل “لا تضع قدمك الأخرى على الأرض”, و”اجعل الحجر ينتقل إلى المربع الصحيح بدفعة واحدة”, و”لا تدع الحجر يقف على الخط الفاصل”.   و”حق الاستراحة في أقسام خاصة تسمى السماء”, إلخ. هذه القواعد توضح إلى درجة كافية أنه يمكن تعقيد هذه اللعبة بإنشاء قواعد جديدة تضاف إلى هذه القواعد الأولية, ولكن بدلاً من هذا نجد أن البنات ولو أنهن أكثر شغفًا بهذه اللعبة وأكثر مزاولة لها من البنين فإنهن قد استخدمن ذكائهن في اختراع رسوم جديدة، ولذلك كانت لعبة الحجلة ذات أشكال مختلفة : فالأقسام ترسم بالطباشير على الرصيف واحدة تلي الأخرى في شكل خط مستقيم, أو خطوط متوازية, أو في شكل خط حلزوني, أو دائرة, أو بشكل بيضاوي, أو مدخنة موقد إلخ. ولكن كل لعبة في ذاتها في منتهى البساطة, فهي لا يمكن أن تمثل التقنين العظيم ولا التشريع المعقد الذي تتضمنه لعبة الكريات.

 

أما عن لعبة الكريات نفسها فإنه يبدو أن قلة من البنات اللاتي عنينا بهن مهتمات بإتقان اللعبة أكثر من عنايتهن بالتركيب القانوني لهذا الدستور الاجتماعي.  وبالنسبة لتعدد أشكال لعبة الحجلة نجد أن أي حوار حول إدراك القواعد من الصعوبة بمكان، ولهذ قررنا ان ندرس لعبة في منتهى البساطة تحوي أقل القواعد الممكنة، ونحاول أن نجد إلى أي حد ينظر البنات إلى القواعد على إنها إجبارية.  والذي يعنينا طبعًا في هذه الحالة كما في الحالات التي سبقت دراستها هو أن نرى أى نوع من الإجبار يبدو في الأعمار المختلفة؟  وهل الصغار من الأطفال هم أكثر الأطفال عداوة لأي تغيير في الميراث الاجتماعي.   ولما كانت اللعبة بسيطة, وأسئلتنا قد اقتصرت على البنات فقط، فإن الحالات الماثلة أمامنا تختلف كل الاختلاف عن لعبة الكريات عند البنين، ولهذا نجد أن مثل هذا التشابه الذى قد يظهر عرضًا له قيمة عظيمة جدا.  ولعبة (الاستغماية) نوع بدائي من أنواع لعبة “الاختفاء” والبنت الصغيرة المختفي وجهها ilet (اشتقاق الكلمة يبدو أنها “هو يكون” estil كما في المصطلحات “هو الجارى ilest وهو المختفى ilet Cachant إلخ) تقف فى بقعة تسمى الملمس (المكان الذي يلمسه الإنسان) بينما تختفي الأخريات, وبمجرد إعطاء الإشارة فإن البنت المقصودة تبدأ في البحث عن الأخريات اللائي يجتهدن في الوصول إلى الملمس قبل أن يمسكن، فمن تمسك هي “الهو” في الدور التالي.  وتختار أول من يقع عليها القيام بدور البنت المخفي وجهها تبعًا لقاعدة مقدسة “كرة – كرتان – ثلاث كرات – دحرجة” إلخ.    ويسمي الصغار من البنات هذه “بالفطسة” وآخر من تغطي تكون هي أول من يختفي وجهها ilet “الهو” 

 

ولما كانت هذه اللعبة على هذه الدرجة من البساطة فإنا لن نضيع الوقت في وصف مراحل تعلمها وتطبيق قواعدها, ويكفي أن نميز فيها بين مرحلتين: الأولى قبل السابعة, والثانية تمتد من سن 6-7 حتى 11-12.  ففي المرحلة الأولى – نستطيع أن نطلق عليها مرحلة مركزية الذات – نجد صغيرات البنات يسرهن أن يقلدن الأعمال المرتبة للكبار، ولكن في التطبيق لا يعرفن شيئًا عن علة تكوينها، فكل تلعب مع نفسها لمجرد السرور من الجري والاختفاء.   أكثر من ذلك, أن تقوم بما تقوم به الأخريات.

 

جاكلين Jacqueline (5 سنوات  7 شهور) وقد تعلمت هذه اللعبة على يد صديقة أكبر منها سنًا (10 سنوات) ولها في نظرها مقام سامٍ، وهي تلعب مع هذه الصديقة ومع بعض الأطفال ممن تتراوح سنهم بين 8 ، 12 سنة.  ولما كانت اللعبة تستمر حوالي ثلاثة أرباع الساعة, فإنها تجري وتختفي وهي تتمتع بذلك كل التمتع ولكنها لا تعرف المكان “الملموس”. وبمجرد أن يجري الطفل نحو “المنزل” صائحًا “لقد لمستها فإن “جاكلين” تجري أيضاً لتلمسه وكأنها تقوم بطقوس دينية دون أي علاقة بسلوك الآخرين، وتكون في منتهى السرور إذ تقوم بلعبتها الصغيرة على حافة اللعبة الحقيقية، وهي لا تطالب بشئ أكثر من ذلك.  وقد ظلت تلعب هكذا عدة أيام، وبعد ذلك أخذت تلعب نصف ساعة وحدها مع صديقتها التي علمتها.  وهذا وصف لما فعلته.

أولاً  – هي لا زالت تجهل لماذا تلمس “مكان اللمس” مع أنها تذهب فتلمسه بمجرد أن يفعل رفاقها ذلك (وهذا عديم المعنى تمامًا ما دام الطفل الآخر يسعه الهرب منها).

ثانيًا – أثناء انتظارها اختفاء رفاقها تغش بكل معنى الكلمة (فهي تدور بمكر مدعية أنها تخفي وجهها بيديها، ثم تسالنى عن معلومات على اعتبار أني مجرد متفرج إلخ).

ثالثـًا – هي تتمتع بالخسارة كما تتمتع بالكسب سواء بسواء، فكل غرضها أن تفعل كما يفعل الكبار من صديقاتها ولو أنها تقضي الوقت كله تجري, وتختفي, وتصيح.

 

والتشابه بين هذا السلوك ونظيره من سلوك الأطفال في نفس السن إزاء لعبة الكريات يلفت النظر. فهنا, كما هو الحال هناك, نجد تقليدًا للكبار ممتزجًا بمركزية الذات في اللعب، فلا مناقشة, ولا تنظيم في موضوع القواعد، والطفل يعلم أن هناك قواعد وهو يحترمها فى الظاهر “فجاكلين” تدعو إلى ضرورة لمس “المكان الملموس”، إذ أنها تشعر أن هذه القاعدة إجبارية من قواعد لعبة الاختفاء، ولكن هذا يرجع إلى مشاركة حياة الكبار أكثر منه إلى مجهود للتعاون معهم.  أما من ناحية تطبيق القواعد فإن هذه الطفلة تسمح بإدخال كل ما يعجبها (وليس هناك حتى الشعور بالغش) مادامت الغاية من اللعبة لم تصبح اجتماعية بمعنى التنافس المنظم.

 

ولكن بعد سن 6-7 في المتوسط نجد موقف الطفل يتغير ويبدأ فيلاحظ القواعد.   والذى يعنيه الآن ليس مجرد تقليد ما يفعله الكبار من الأطفال – ولو أنه لا زال يلعب مع نفسه – بل أصبح معنيًا بالتغلب على رفاقه عن طريق القيام بمثل ما يعملون تمامًا. ومن هنا يظهر الضغط المتبادل في تطبيق القانون جنبًا إلى جنب مع الاحترام الفعال للالتزامات (لا يغش حين يكون دوره في إخفاء وجهه إلخ) وسنسمي هذه المرحلة “مرحلة التعاون فى الظاهر”.

 

النقطة الثانية التى سنعنى ببحثها هي : ما هو الأحساس الذي تكنه صغار البنات نحو القواعد؟ فحين تقترح تعديلاً في النظم الموضوعة فهل تقابل معارضة تشتد كلما كبر الطفل أم نجد البنت كالولد تخضع القواعد تدريجيًا للاتفاق المتبادل وتتخلى عن التقيدبالتقاليد؟

 

إن الحقائق تعطينا إجابة لا تقبل الخطأ، إن كانت هذه الحقائق نفسها تشير إلى وجود فرق بسيط عما لاحظناه عند الأولاد.  فمن جهة نجد التشابه تامًا في أن البنات يبدأن أيضًا باعتبار القانون غير قابل لأن يمس، والمستحدثات غير مشروعة, ثم يسمحن فيما بعد فيعتبرن القانون ذا قوة ما دام يحقق رغبة جماعية.  من جهة ثانية – وهذه غاية حوارنا – نجد أن هذا التغيير في الاتجاه يظهر في المتوسط حوالي سن 8.   أي أنه يتفق لدرجة كبيرة مع بداية مرحلة التعاون.  وهذا التسامح المبكر من الواضح أنه يرتبط بطبيعة الروابط المفككة نوعًا التي تقوم بها لعبة الاختفاء.

         

 

 

 

 

 

 

 

 

 

(1)Trailé de Socilogie générale

>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>>

الحكم الأخلاقي لدى الطفل  – 11

وبشكل إجمالى, نستطيع أن نميز ثلاث مراحل : فالأولى معاصرة لبداية اللعبة نفسها وللنصف الأول من مرحلة مركزية الذات. فالطفل في هذه المرحلة يبدو على استعداد لتغيير كل القواعد للإبانة عن عدم احترامه الداخلي للتقاليد والأمثلة التي يتلقاها من الكبار ولكن هذه الحالة, كما فى حالة لعبة “الكريات”, هي حالة ظاهرة فحسب، فالطفل يقبل التعديلات المقترحة المتمشية مع الاتفاقات السابقة التي يقبلها, وعلى هذا نجد “جاكلين” تمس “مكان اللمس” مادامت ترى هذا الالتزام يقوم به الآخرون حتى إذا أغفل أحد اللاعبين القيام بهذا الواجب فإنها لا ترضي عن ذلك بأي حال من الأحوال، وتظن أن هذا أيضًا من بين الأشياء “التي تعمل” و ××× حاجة بنا لأن نبحث هذه الفترة مرة أخرى فهي فترة قصيرة وفي غاية الصعوبة من ناحية التحليل لتعذر الوصول إلى أي اتفاق في إجابات الأطفال.

 

وفي المرحلة الثانية التي  تمتد في الوسط إلى نهاية السابعة نجد الصغار من البنات اللاتي استجوبناهن قد أظهرن إلمامًا بالطرق السائدة, وهن كالبنين من ناحية الاعتقاد بأن القواعد ترجع أصلاً إلى الكبار وترتبط بالناحية الدينية.

“مول Mol” (6.5 سنة) حاورناها   – هل هناك أشياء يجب أن تفعليها وأشياء يجب ألا تقومي بها في هذه اللعبة؟    – نعم.  الأشياء التي يجب أن أفعلها هي قواعد اللعب.   – هل تستطيعين أن تخترعي ثاعدة جديدة؟  ولنفرض أنك قلت إن الثالثة التي غاصت هي “الهو”؟   – نعم.   – هل من الصحيح أن تلعبي بهذه الطريقة أم لا؟    – إنه صحيح.    – هل هي قاعدة صحيحة كالقواعد الاخرى؟    – أقل منها.   – ولماذا ؟  – لأن الأخير هو “الهو”.  – وإذا لعب الكل بنفس الطريقة فهل تصبح هذه القاعدة صحيحة؟    – لا.   – لماذا؟  – لأن اللعبة ليست هكذا.  – كيف بدأت القواعد؟  كيف تعلمت اللعب؟ – تعلمته منذ المرة الأولى, ولا أعرف كيف تعلمت.  لقد لعبنا مع بنت صغيرة علمتنا.   – كيف تعلمت هذه البنت الصغيرة؟    – لقد تعلمت. – وهل كانت أمك تلعب حين كانت صغيرة؟  – نعم. علمها المدرس في المدرسة.  – ولكن كيف بدأت؟   – لقد تعلم الناس على مدرس المدرسة.  – من وضع القواعد, الكبار أم الأطفال؟  – ولو اخترع طفل قاعدة فهل تكون صحيحة؟    – لا.  لا تكون صحيحة.   – ولماذا لا؟ – لأنهم لا يعرفون كيف يلعبون.

“آج Age” (7سنوات) تسمح بأن يكون الطفل الثالث الذي يمسك يمكن أن يكون “الهو” ولكنها رفضت أن تكون هذه القاعدة الجديدة عادلة.  – هل هي قاعدة  حقيقية؟    – نعم.  – وهل هي عادلة؟     – لا. لأنها ليست الطريقة التي تلعب بها (وقد استؤنف الحديث بعد انقطاع)  – وهل نعتبر هذه القاعدة صحيحة؟  – لا. لأن الأول الذي يمسك هو “الهو”.  – لماذا؟  لأنه بغير ذلك لا تصبح عادلة.  – ولكن لو لعب كل إنسان هكذا؟  – لا تكون لأن الثالث لا يمكن أن يكون هو “الهو”.

 

“بون Bon” (7 سنوات) تقبل الرأي القائل إن رفيقاتها سوف يسرهن مثل هذه المستحدثات ولكنها لا تعتبرها عادلة.   – ولماذا ؟  – لأنها تجعل اللعبة كلها تضطرب لأنها خطأ”.

 

“روس Ros” (8.5 سنة) اخترعت قاعدة جديدة : – ربما تقولين إن واحدة فقط هي التي تذهب وتختبئ وأن الأخريات يذهبن وراءها باحثات عنها فهل هذا صحيح بالنسبة للعبة؟  – نعم.  – وهل هذه الطريقة الجديدة أعدل من الأخرى أم لا؟  – أقل عدلاً.  – لماذا كانت أقل؟  – لأنك لا تلعب بهذه الطريقة.   – لو فرضنا أن الكل لعب بهذه الطريقة ؟  – عندئذ تصبح أقل عدلاً.  – لماذا كانت أقل عدلاً؟  – لأنها بعد كل ذلك تصبح إلى حد ما نفس الطريقة.   – ولكنها ليست صحيحة تمامًا؟  – لا.  – لماذا ؟ …. لو اتفق كل إنسان أن يلعب بهذه الطريقة فهل تصبح كذلك أم لا؟  – نعم, تصبح. (بتسامح)  – أيهما احسن : أن نلعب دائمًا بنفس الطريقة أم نغير الطريقة؟    – لا.  (لا زالت متسامح)  – لماذا؟  – لأن هذه اللعبة أصدق.   – أيهما؟  – ليست التي وضعتها.  – إذن أيهما أحسن: أن تتغير أو أن تبقى كما هي؟             – الأحسن أن تترك كما هي.    لعبة الاختفاء اخترعتها سيدة فهل تغيرت منذ ذلك الحين أم ظلت كما هي منذ اخترعت ؟  – لا, لم تتعرض للتغيير.  – ولكن لو أراد الناس ذلك فهل يستطيعون التغيير؟  – نعم.    – وهل يستطيع الأطفال؟  – وهل لو اكتشفوا شيئًا فهل يكون ذلك أكثر عدلاً أو أقل؟  – أقل. – لماذا؟       – لأنها هي اللعبة الحقيقية.   – ما هي اللعبة الحقيقية ؟   – تلك التي وضعتها السيدة.  – لماذ ؟           – لأنها اللعبة التي نلعبها دائما.

 

ليل Lil (ثمان سنوات وعشر شهور) :  – كيف بدأت اللعبة لأول مرة؟  – أظن أن سيدة اخترعتها.       – وهل تظنين أن اللعبة تغيرت منذ ذلك الحين؟   – ربما غيرها الناس.   – من غيرها, الكبار أم الصغار؟  – الكبار.  – وهل تظنين أن الأطفال يستطيعون تغييرها؟  – نعم, يستطيعون ذلك.   – وهل تستطيعين ذلك أنت مثلاً إن أردت؟    – نعم, إن أردت.   – وهل تعمل مثل هذه أم لا ؟  – نعم, تعمل مثلها تماما.     – وهل يسر صديقاتك بذلك؟  – نعم يسرهن ذلك تماما.   – وهل تصبح عادلة أم أقل عدلاً؟  – أقل عدلاً.   – وكيف تكون عادلة؟  – أظن أن السيدة التي اخترعتها أحسن.  – ولماذا؟  – لأن الكبار أمهر إذ قضوا في المدرسة فترة أطول من الأطفال.

 

ونحن نرى أن البنات – دون إدراك لحالة التطابق عند البنين – أظهروا إحساسًا نحو التقاليد يكفي لتاكيد الاحترام للقواعد.  بل إنه قد مر بنا حق الأمهات الإلهى لوضع قوانين لعبة “الاختفاء”.  وقد ذكرت لنا “بك Buc” – في السادسة من عمرها – أن “الله علمها لهن”.  ولكن في سن الثامنة نجد أن حوالى نصف العدد الذي سألناه قد تغير موقفه فذكرن أن القاعدة الجديدة صحيحة كالقديمة، ثم إنها أحسن منها من الناحية العملية وتجمع كل الأصوات وهذه هي النقطة التي تظهر فيها البنت مختلفة نوعًا عن الولد، لأنها أكثر منه تسامحًا وأسهل قبولاً للمستحدثات. وفيما يلي مثلان للمرحلة الثالثة.

 

Bag باج” (10 سنوات و4 شهور) سئلت أن تحكم على قاعدة جديدة اقترحتها إحدى رفيقاتها, وهي تقوم على ألا تدافع حين تمسك.  هل هي عادلة تمامًا أم أقل عدلاً؟ – عادلة تماما.   – هل هي حقيقية أم لا؟  – هي قاعدة حقيقية.  – ما هي القاعدة الحقيقية؟  – هي شئ تلعب به حقيقة وصدقا. – ولكن لم يلعب أحد بعد وفق اللعبة التي اكتشفتها صديقتك فهل هي حقيقية أم لا؟   – إنها حقيقية.  – وهل تعمل؟    – نعم.  – وهل يسر صديقاتك بها أم لا؟  – لا تسرهن.  لا يرغبن أبدًا في أن يكون “الهو” بهذه الطريقة.   – ولو اتفقوا على ذلك فهل تكون عادلة ؟  – نعم.

 

“شو Cho” (9 سنوات)- هل القاعدة حقيقية كالأخرى؟  – لا.  – لماذا؟  – لأنك لا تلعب بهذه الطريقة.    – وهل يحق لي أن ألعب هكذا؟  – نعم.  – وهل تحبها صديقاتك؟  – نعم.  – وهل هذه القاعدة أكثر عدلاً أم أقل عدلاً من الأخرى؟  – كلاهما واحد.  – وأيهما حقيقي أكثر؟  – كلاهما.  – كيف بدأت القواعد؟      – اخترعها شخص ما.  – ومن هو؟  – كان يلعب بها بعض الأطفال ففعل الآخرون مثلهم.  – وهل القواعد التي وضعها هؤلاء الأطفال عادلة؟  – نعم. – متى تكون القاعدة عادلة؟  – حين تكون صالحة للعب.   – ومتى  تكون حقيقية؟  – حين تكون صالحة للعب.

#تطوير_

 

من ذلك نرى في هذه الردود التي هى من الخصائص التي وجدناها في البنات ما يشابه البنين وما لا يشابههم.  فهما متشابهان في أن التعاون بين اللاعبين يؤدي بالتدريج إلى القضاء على قدسية القواعد، فلم تعد القواعد أوامر صادرة من الكبار ويجب قبولها دون مناقشة وإنما وسيلة للاتفاق ناتجة من التعاون نفسه ولكن البنات أقل وضوحًا من ناحية الاتفاق.  هذا هو السبب في أننا نشك في أنهن أقل اهتمامًا بالبحوث القانونية، فالقاعدة صحيحة ما دامت اللعبة تقبلها ولهذا كانت البنات في غاية التسامح ولم يخطر ببالهن قط أن يدخلوا قواعد للتفضيل، أو أن يقننوا للحالات المحتملة, أو حتى للحالات المتفق عليها.  فهل هذا الفرق يرجع إلى طبيعة لعبة الاختفاء غير المرتبطة أم إلى عقلية البنات الصغار فعلاً؟ كلا الرفضين له قيمة.   فقد لاحظنا أن جميع لعب البنات تتميز بتعدد أشكالها  وبالتسامح، ثم إن السؤال نفسه لا يعنينا هنا، فلسنا نعنى هنا بدراسة هذا التقابل, وإنما يحتاج إلى عناية من وجهة نظر سيكولوجية القواعد أنه رغم هذا الاختلاف في تركيب اللعبة في عقلية اللاعبين فقد وجدنا نفس عملية التطور تعمل كما هي في لعبة الكريات.   فهناك في بادئ الأمر احترام قدسي للقانون فهو لا ينبغي أن يمس أو أن يخضع للتجربة.  وبعد ذلك تأتي مرحلة التعاون التي تحرر الفرد من مركزية الذات وتؤدي إلى إدخال فكرة جدية وداخلية عن القواعد.

 

          8- النتائج

 1- القواعد الحركية ونوعا الاحترام

لكي نصل من وراء هذا التحليل إلى نتائج ذات قيمة فإنه يجب أن نصل من وراء المادة التي عرضناها إلى نتائج معينة يمكن أن نستخدمها كنظريات ترشدنا في الفصول التالية.   بعبارة أخرى, فإنا سنحاول أن نبحث في المراحل المختلفة التي درسناها عن عمليات التطور التي ستظهر في الفصول التالية.

 

وهناك سؤالان يعرضان لنا ويجب أن نجيب عليهما: الأول منهما خاص بالاختلافات في البيئة وفي الدرجة.  فالقواعد تنمو بنمو الطفل, فطفل السادسة من ناحية التطبيق والشعور بالقواعد ليس هو طفل الثانية عشر. فهل هذا اختلاف في النوع أم في الدرجة؟  بعد أن بذلنا أقصى جهدنا لتوضيح أن فكرة الطفل تختلف عن فكرة الكبار لا في الدرجة فحسب بل في نوع التفكير ذاته فإنا نستطيع أن نعترف بأننا لم نعد نعرف تمامًا المقصود بهذه المصطلحات. فمن ناحية منهج البحث نجد أن معناها في منتهى الوضوح، فهي تدعونا إلى أن نحذر التشابه السهل وأن نبحث عن الاختلافات الأقل وضوحًا قبل أن نشير إلى المتشابهات التي تظهر بذاتها ولكن كيف تنفصل الناحية المادية عن الناحية النظرية؟

 

سيكولوجيًا – كما بين برجسون, نجد أن كل اختلاف في الكم هو أيضًا اختلاف في الكيف وبالعكس فإنه يصعب أن نفكر في وجود اختلاف في النوع دون وجود بعض استمرار وظيفي على الأقل.   وعلى ذلك فإنه لابد أن تقوم بين كل تركيبيين متتابعين درجات متوسطة متتابعة، مثال ذلك أنا بعد أن حاولنا وصف عقلية الطفل مميزة تمامًا عن عقلية الراشد وجدنا أنفسنا مضطرين أن نضمها في وصفنا لعقلية الراشد طالما كان الراشد لا يزال طفلاً. وهذا يحدث بنوع خاص في “سيكولوجية الأخلاق”, فبعض مظاهرأخلاق الطفل تظهر دائمًا شديدة الارتباط بموقف سائد من أول الامر في فترة الطفولة (مركزية الذات ناتجة من عدم المساواة بين الطفل والراشد الذي يحيط به والذي يضغط عليه) ولكنها قد تعود إلى الظهور فى حياة الراشد خصوصاً فى المجتمعات المنقادة والفوضوية التي تعرف بالبدائية, والعكس من ذلك في بعض الظروف حيث يقوم الطفل بتجارب في أنواع جديدة من السلوك التعاونى مع رفاقة. وإذا كان ذلك كذلك فإنا نجده قد أصبح رجلاً راشدًا، فهناك راشد في كل طفل وطفل في كل راشد، والاختلاف في النوع ينقص إذن تبعًا لذلك.    وتقوم عند الطفل بعض المواقف والمعتقدات التي يميل النمو العقلي إلى التقليل منها شيئًا فشيئا على حين أن غيرها يزداد أهمية شيئًا فشيئا.  والحالة الأخيرة ليست مجرد اشتقاق من الأولى ولكنها إلى حد ما مخالفة لها, والظاهرتان يمكن أن نجدهما في الطفل وفي الراشد ولكن إحداهما تسود عند الأول والأخرى تسود عند الثاني.  ونستطيع أن نقول إن المسألة مسألة نسبة المزيج.   ويجب أن نتذكر أن كل اختلاف في النسبة هو أيضًا اختلاف في الكيفية، أما الروح فواحدة لا تتجزأ.

 

وعلى ذلك فهناك بين أنواع القواعد المختلفة التي سوف نأتي على ذكرها استمرار واختلاف كمي : استمرار في الوظيفة واختلاف في التركيب.   وهذا يجعل أي محاولة لتقسيم الحقائق العقلية إلى مراحل مسألة اختيارية, فالموضوع سيتعقد أكثر بواسطة قانون تحقيق الشعور والتخلف الزمني الناتج.  فظهور قاعدة جديدة من الناحية العملية ليس معناه بالضرورة أن هذه القاعدة قد وصلت إلى شعور الشخص، فكل عملية عقلية لابد أن يعاد تعلمها في مستويات مختلفة من العمل والتفكير.   ليست هناك, إذن, مراحل شاملة تحدد الحياة العقلية للشخص تحديدًا كليًا في مرحلة معينة من مراحل تطوره، فالمراحل يجب أن ننظر إليها على اعتبارها نواحٍ متتابعة لعملية مستمرة تحدث شبيهة بنغم على مستويات لمجموعات متراصة من السلوك والشعور. فالفرد مثلاً ربما يكون قد وصل إلى مستوى الذاتية بالنسبة لمجموعة معينة من القواعد بين ما يكون إدراكه لهذه القواعد وتطبيقه لمجموعة معينة من القواعد(1) النقية لا زالت تشوبه الغيرية. ولهذا لا نستطيع أن نتحدث عن مراحل شاملة تتميز بالذاتية أو الغيرية، ولكن كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نتحدث عن نواحٍ من الغيرية أو الذاتية تتصف بها عملية تتكرر في كل مجموعة جديدة من القواعد أو كل مستوى جديد من مستويات الإدراك أو التفكير.

أما السؤال الآخر الذي يواجهنا فهو الخاص بالمجتمع والفرد, فقد تعودنا أن نميز بين الطفل والراشد المحدث على أساس استجابته للمواقف الاجتماعية.   فالطفل (في مرحلة الذكاء الحركي) لا اجتماعي، وفي مرحلة مركزية الذات يخضع للقسر الخارجي ولكنه قليل القدرة على التعاون.  أما الراشد في وقتنا الحاضر ففيه تتمثل الصفات الأساسية للتعاون بين شخصيتين مختلفتين ولكن كلا منهما تعتبر الأخرى ندًا لها.  هناك إذن ثلاثة أنواع من السلوك : سلوك حركي, وسلوك مركزية الذات (فيه قسر خارجي), وسلوك تعاوني.  وينتمي إلى هذه الأنواع الثلاثة من السلوك الاجتماعي ثلاثة أنواع من القواعد : قواعد حركية، وقواعد محترمة من ناحية واحدة, وقواعد محترمة احترامًا متبادلا. هنا أيضًا يجب أن نحذر وضع القانون فالأشياء حركية, وفردية, واجتماعية, في وقت واحد، وسوف نجد فرصة لبيان أن التعاون في بعض النواحي هو نتيجة قواعد القسر والقواعد الحركية.  من جهة أخرى فالقسر يطبق خلال الأيام الأولى لحياة الطفل كما أن العلاقات الاجتماعية الأولى تحتوي عفى بذور التعاون، وهنا أيضًا ليس الموضوع موضوع الظواهر المتتابعة نفسها بقدر ما هو موضوع النسب القائمة.   أكثر من ذلك, فإن الطريقة التي يدخل بها تحقيق الشعور والتخلف الزمنى من مستوى لآخر في اللعب هي أيضًا حاجز آخر يحول دون تنظيم هذه الظواهر في شكل متتابع ومحدود, إذ أنها تظهر أحيانًا ثم تختفي دفعة واحد فلا تعود للظهور.

 

والآن ينبغي أن نتذكر هذه التنبيهات ثم نحاول أن نحدد العمليات التي تتحكم في تطور فكرة القواعد. وإذا كانت اللغة والتفكير المنطقي بطبيعتها صورًا متتابعة فهي ليست ثابتة ولا مستترة، ولهذا ينبغي أن يكون مفهومًا دائمًا أن أي تقسيم هو مجرد تقسيم تحليلي صناعي لا يعتمد على نتائج موضوعية.أما وقد تبين من بحثنا عن طبيعة الألعاب وجود ثلاثة أنواع من القواعد، فقد بقي علينا أن نحدد العلاقات الحقيقية التي تقوم بينها.   فهناك القاعدة الحركية التي تعزى إلى الذكاء الحركي السابق للألفاظ وهي مستقلة نسبيًا عن كل علاقة اجتماعية.  ثم القاعدة القسرية التي تعزى إلى الاحترام من جانب واحد. واخيرًا, فهناك القاعدة المعقولة التي تعزى إلى الاحترام المتبادل.  والآن ننتقل إلى دراسة هذه القواعد الثلاث على التتابع.

(1)طفل فى العاشرة مثلاً قد تظهر لديه دلالات للذاتية في تطبيقه لقواعد لعبة الكريات, على حين يظهر عنده أدلة للغيرية في إدراكه لهذه القواعد وفي تطبيقه للقواعد المتصلة بالكذب والعدل.

كمال شاهين

 

 

تعليق واحد
  1. tareknacer :

    المقال طويل جدا !

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.