تصحيح أخطائنا التراثية – المقدسات

بسم الله الرحمن الرحيم

تصحيح أخطائنا التراثية – المقدسات

مقدس.jpg

من منشورات مركز #تطويرالفقهالاسلامي    انضم الينا من هنا :

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

مقدمة:

لم نسمع عن وجود لغة كاملة مستغنية عن الإضافة والتعديل في كوكبنا. ذلك لأن الإنسان هو الذي وضع اللغات والإنسان يتطور علميا ومعرفيا فيشعر بالحاجة إلى كلمات جديدة. وحينما يريد الله تعالى أن ينزل كتابا سماويا فإنه محيط بكل شيء ويعلم السر في كل الوجود ويرى من الضرورة أن يتحدث عن بعض المواضيع التي يجهلها الذين أنزل عليهم الكتاب زمانيا ومكانيا لأنهم يموتون وكتاب الله باق لمن يأتي بعدهم. مثال ذلك الحديث عن الطاقة زمانيا وعن المحيطين الكبيرين الهادي والأطلسي مكانيا. كان الأقدمون يجهلون الطاقة ويجهلون المحيطين الكبيرين. لكن لله تعالى لا يمكن أن يترك بعض المسائل باعتبار عدم الوعي عند عبيده بل يستعمل بعض كلمات البشر ليفصح عن مفاهيم سوف يفهمونها في المستقبل. فنرى القرآن الكريم ينطوي على كلمات عربية استعملها العرب في مسائل مفهومة لديهم ثم جاء القرآن ليستعمل نفس الكلمة لبيان مفهوم آخر. وقد انتبه بعض المفسرين لبعضها مثل كلمة فسق. قرأت في الميزان للعلامة الطباطبائي بأنه كان يعتقد بأن أول استعمال لجذر فسق بمعنى الخروج على نظام الطبيعة وترك طاعة الله تعالى هو من القرآن الكريم.

وهناك مفاهيم لم يكن ممكنا أن يستعمل الله تعالى نفس الكلمات العربية لبيانها فخلق كلمات جديدة مثل الجبت والتفث. لقد تعبت كثيرا حتى تمكنت من إعطاء زملائي معنى للكلمتين عند التفسير وأتمنى أن أكون مصيبا. وجذر قدس كان معروفا لدى العرب واستعمله القرآن لمعنى قريب من المعنى الذي استعملوا الكلمة للإفصاح عنه ولكن لم يكن بمقدورهم أن يصلوا إلى عمق الكلمة لتعذر اطلاعهم على آثار الطاقات والاشعاعات.

نحن اليوم نعرف الكثير عن أنواع الإشعاعات وعن آثارها ولكن في حدود الإشعاعات التي نلمسها عن طريق تفاعل العناصر المعروفة لدينا. لكننا لا نعرف شيئا عن آثار الإشعاعات التي تصدر من الجن والملائكة بأنواعها الكثيرة أو التي تصدر من الله تعالى. و لمعرفة بعض الشيء عنها نحتاج إلى التعمق في القرآن الكريم الذي لا نشك في أن الرحمن عز اسمه قد أنزله على البشر.

قدس في اللغة العربية:

لعل قولنا صحيح بأن علماء اللغة اتفقوا على معنى الطهارة للكلمة العربية واختلفوا في تطبيق مفهوم الطهارة على مختلف الموارد التي استعمل القرآن الكريم لها جذر قدس. وقد حقق العلامة اللغوي والمفسر المعروف الراغب الأصفهاني في الجذر ولنعم ما قال في المفردات:

التقديس: التطهير الإلهي المذكور في قوله: {ويطهركم تطهيرا} [الأحزاب/ 33]، دون التطهير الذي هو إزالة النجاسة المحسوسة، وقوله: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} [البقرة/30]، أي: نطهر الأشياء ارتساما لك. وقيل: نقدسك، أي: نصفك بالتقديس. وقوله: {قل نزله روح القدس} [النحل/102]، يعني به جبريل من حيث إنه ينزل بالقدس من الله، أي: بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي، والبيت المقدس هو المطهر من النجاسة، أي: الشرك، وكذلك الأرض المقدسة. قال تعالى: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم} [المائدة/21]، وحظيرة القدس. قيل: الجنة. وقيل: الشريعة. وكلاهما صحيح، فالشريعة حظيرة منها يستفاد القدس، أي: الطهارة.   انتهى النقل.

يمكننا ملاحظة بأن الراغب رحمه الله تعالى انتبه في نهايات القرن الخامس الهجري بأن قدس تعني طهر ولكن الطهارة أكثر من نوع. وانتبه بأن السر في تسمية الله تعالى لجبريل بالروح القدس هو حمله للقدس وتنزيله من الله تعالى. يعني بذلك أن القدس في واقعه منسوب إلى الله تعالى. لم يتمكن من بيان دقيق للفرق بين قدس و طهر ولكنه سعى سعيا نشكره عليه للتعمق في الكلمتين وتوصل إلى حقائق لا يمكننا بيانها جميعا في هذا المختصر. ونحن بعد حوالي ألف عام من وفاة الراغب الذي انتقل إلى جوار ربه في العام 509 هجرية احتمالا، نحن اليوم نرى فعلا بأن القرآن لم يستعمل القدس إلا إذا انتسب التطهير إلى الله تعالى ونشعر بأن قدس تعني طهر ولكن بمعنى أوسع بحيث لا يمكن استعمال طهر لما يغطي كل معاني قدس.

كما لا يمكننا أن نقول بأن قدس أعم من طهر لأن هناك طهارات دون مستوى التقديس كما هناك تقديسات لا علاقة بينها وبين الطهارات. فالقدوس وهو اسم خاص بالله تعالى وهو يمثل حقيقة من حقائقه الذاتية ولا يمكن القول بأنه تعالى مطهر كما لا نقول بأنه مقدس أيضا. يمكننا ملاحظة تعبير الملائكة حينما استعملوا نفس الجذر في سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30). لم يقولوا نقدسك بل قالوا نقدس لك، وهناك فرق بين العبارتين. سنعرف الفرق حينما ندرس التقديس بدقة وسنسعى لذلك في هذا الموجز بإذن الله تعالى.

قدس في القرآن الكريم:

ورد جذر قدس عشر مرات في القرآن الكريم لأربعة موارد أو معان:

4 مرات كاسم ثان لجبريل وهو الروح القدس.

3 مرات كمفعول لمن قام بعملية  التقديس وهي الأرض المقدسة والواد المقدس مرتين.

مرتين كاسم لله تعالى وهو القدوس.

وأخيرا كفعل وهو أول مرة ورد فيها الجذر في القرآن حيث قالت الملائكة: ونقدس لك.

ونبدأ بدراسة الاسم الثاني لجبريل.

قال تعالى في سورة البقرة: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87).

وقال فيها أيضا: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253).

وقال تعالى في سورة المائدة: إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110).

في هذه المرات الثلاث فإن الروح القدس هو الذي يساعد المسيح ويعلمه ويحرك لسانه وهو طفل ليتكلم للناس ولا يمكن القول بأن المسيح وهو رضيع كان يفهم ما يقول ولا أشك في ذلك. لكن نفس الروح القدس حينما ذهب إلى مريم ليقوم ببعض التغييرات الجينية وهو أيضا كان يحمل قبسا من نور الله تعالى فإن الله تحدث عنه بأنه روحه ولم يقل بأنه الروح القدس. والحكاية مذكورة ثلاث مرات في القرآن الكريم.

أما المكانان المقدسان فهما أولا: الوادي المقدس في سيناء. قال تعالى في سورة طه: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13). وقال سبحانه في سورة النازعات: هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16). إنها واد مقدس طوى. والمعنى كما أظن بأن الوادي تقدس بانطواء النور المباشر فيها. الانطواء نوع من التجلي ولكنه ليس تجليا كاملا. يمكن تشبيه التجلي الكامل بما يعرف بتسليط الضوء المحفز في مكان وزمان محددين. وبالإنجليزيةlaser. وهي مخفف الجملة التالية: (Light Amplification by Stimulated Emission of Radiation). انطواء النور أخف من التجلي باعتبار أن النور يتجمع بدون تحفيز إشعاعاته فينطوي في مكان معين وقد يكون المكان كبيرا مثل الوادي المقدس. لكن الإشعاعات كافية لتقديس المكان. أما التجلي فهو مدمر للشيء. قال تعالى في سورة الأعراف: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143). تلك الإشعاعات تخص ما مع موسى من طاقة ربوبية (تجلى ربه) تجلت للجبل فتهشم الجبل. وأظن بأن تجلي الله تعالى خطير جدا فقد يدمر كل الكون. وهذا التجلي لن يفعله الله تعالى حتى حين تدمير الكون المذكور في القرآن بصورة أخرى غير التجلي.

سمى الله تعالى الوادي مقدسا بعد أن تعرض لنور الله تعالى المباشر ورآه موسى من بعيد على شكل نار. فمما لا شك فيه بأن هناك إشعاعات نورية قوية صدرت من الله تعالى في ذلك الوادي فتقدس الوادي بنور ربها. الوادي يتقدس بأنه لا يملك الإرادة فهو يتقدس بإرادة الله تعالى ويتأثر بالنور النفاذ فيتغير تغيرا خاصا لا أعرف بل لا نعرف نوع التغيير الحاصل فيه. كلما نعرفه بأن هناك شوائب تزول من المكان وهناك قوة أخرى يكسبها ذلك المكان. ولحظات التقديس كانت لحظات خطيرة لا يمكن لأحد أن يقترب منها ولذلك نرى ربنا يتحدث عن اقتراب موسى من الوادي المقدس في سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52).

قربه الله تعالى من ذلك النور النفاذ وأدخله المكان من زاوية محدودة التشعشع حتى لا يحترق موسى. وما كان ممكنا أن يقوى موسى على الإعجاز دون أن يمر بتلك المرحلة الخطيرة في حياته ودون أن يحمل قبسا خفيفا من ذلك النور. فنلاحظ من القرآن بأن الوادي تمكن من استلام النور وتحمل إشعاعاته الخطيرة ولكن موسى لم يكن قادرا على ذلك بل احتاج أن يدخل من جانب أقل تشعشعا حماية له من الهلاك. فموسى أضعف بكثير من الوادي المقدس ولذلك فإن موسى ليس مقدسا ولكنه بحمل قبسا خفيفا من النور القدسي فقط. وبما أن الموضوع  حساس جدا فاسمحوا لي بأن أكرر ما حصل بتعبير آخر. لم يقدر الله تعالى أن يتأثر موسى بذلك النور السماوي الخطير لأنه يحترق ويهلك ولكنه تعالى قدر أن يحمل نفس موسى قبسا من ذلك النور أمانة عنده يستعملها بإذن ربه أحيانا. مثال موسى هو مثالنا نحن حينما نحمل بطارية تحمل طاقة قوية لا يمكننا أن نلمسها ولكننا نستفيد منها للقيام بتحريك طاقوي بالبطارية المحفوظة في يدنا.

وأما المكان المقدس الثاني فهو الأرض المقدسة. ولعلنا جميعا نحتمل بأنها القدس الفعلية وليس هناك دليل على أنها غير القدس الفعلية. فكيف تقدست تلك الأرض؟ لنقرأ الآية الكريمة بداية وهي في سورة المائدة: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21).

كلما يمكنني قوله هو إن الله تعالى حينما دمر الجبل بالتجلي في ميقات موسى فإنه حمل رذاذ الجبل ولولا ذلك لأصبح السبعون من قومه الذين شاركوه في ميقاته مدفونين تحت الرذاذ. نتتبع حكاية الجبل المتحول إلى رذاذ في سورة الأعراف: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171). الجبل معرف بالألف واللام فنقرأ ما سبقها من آيات لعلنا نرى الجبل. الجبل المذكور قبلها هو ما قرأناه في الآية 143 الذي حوله ربنا بالتجلي إلى رذاذ. والنتق معناه جذب شيء ونزعه من أصله كما يقول اللغويون. فالله تعالى نزع رذاذ ذلك الجبل المدمر ونقله فوق الأرض الذي كان يسكنها الفلسطينيون احتمالا. رأى بنو إسرائيل الجبل المدمر فوقهم كانه ظلة مستعدة للسقوط عليهم فخافوا. كان ذلك ضروريا لأخذ العهد منهم وهو طبيعة الإنسان الذي يأبى عادة التنازل بقبول عهود التعايش إلا تحت وطأة الحروب والمخاوف. مثالهم مثال البشرية التي رضخت لأعظم عهد بشري شامل متمثل في الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية المرعبة.

لكان ذلك الجبل كان قد تعرض للتجلي قبل أن ينقله الله تعالى فوق الأرض المقدسة والله تعالى نزعه بالكامل بقوة الطاقة المهيبة التي يملكها سبحانه فتعرضت تلك الأرض للإشعاعات وأصبحت مقدسة مثل الوادي المقدس. ولعل من المفيد أن ننتبه إلى حكاية قرآنية أخرى تساعدنا على فهم الموضوع.

حكاية الإسراء:

تلك هي حكاية الإسراء. قال تعالى في سورة الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2). ما هو ارتباط حكاية الإسراء بموسى ولماذا لم يُرِ الله تعالى آياته لنبينا في مكة؟

ارتباطها بموسى هو أن النبيين الكريمين حملا رسالتين كاملتين للجن والإنس. كان ضروريا أن يريا آيات من ربهما ليتحدثا إلى قومهما بثقة كاملة. الآيات التي أراها إياهما ترتبط بالتجليات النورية أو التقديس النوري ليطمئنا. هذه التجليات لا يمكن إعمالها في مكة لأن مكة هي البلد الحرام الذي ينطوي على آثار خلق الله تعالى للأنعام الثلاثة الصغيرة وللإنسان. هذه الآثار موجودة تحت تلك الأرض الطيبة ولذلك حرم الله تعالى ذلك الأرض حتى لا ينقل الناس شيئا منها إلى خارجها. وحرم الأرض يعني جعلها متحفا يُزار ولا يُغيَّر.

النبيان الكريمان كلاهما شاهدا بعض التجليات النورية العظمى ولقد عرفنا تقريبا حكاية موسى. ولنعلم بأن كلاهما رأيا النور مرتين. ذلك لأن الإنسان في المرة الأولى لا يمكنه أن يعرف الكثير عن ذلك الظهور العظيم ولكنه في المرة الثانية يكون أكثر استعدادا من المرة الأولى فيستفيد من الثانية لتطمين قلبه أكثر من الأولى والعلم عند المولى عز اسمه. حكاية مشاهدات نبينا مذكورة في سورة النجم: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18). ليس القرآن من صنع محمد ولكنه وحي يوحى إليه ولا زال الوحي مستمرا. القرآن وحي يستلمه عبد الله بقلبه النفسي والفؤاد النفسي هو الجزء المسؤول عن نقل المعلومات الخارجية إلى القلب النفسي. في المرة الأولى رأى الرسول الأمين النور المتشعشع وهو يغشى السدرة. والسدرة معروفة في أرض فلسطين ويمكن للقارئ مراجعة التوراة المحرفة ليقرأ عنها. هناك شعر الرسول بأنه في جنة محروسة بجوار ربه بعيدا عن كل ما يُخيف في الأرض.

يمكن ملاحظة ذلك في الظهور الأول لموسى أيضا. قال تعالى في سورة النمل: وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10). وقال تعالى في سورة طه: فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21). في حضرة القدوس لا يجوز أن يخاف المرء من ثعبان عظيم يسعى فهو في جنة المأوى. يمكننا احتمال أن رسولنا أيضا أصيب بنوع من الذعر في الظهور الأول لربه.

أما الظهور الثاني لنبينا فهو مشابه لما رآه موسى أيضا ولكن بدرجة أقل. تمكن موسى من ملاحظة التجلي العظيم ومن التحدث إلى ربه بعد التجلي بعكس قومه الذين سقطوا ميتين. أشار تعالى إلى تلك في سورة الأعراف: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155).

لكن موسى لم يهلك بل أغمي عليه فقط حيث وصف ربنا ذلك من قبل في نفس الأعراف: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143). وأما نبينا فإنه رأى ما لم يره عند سدرة المنتهى حيث رأى نورا عظيما يقترب منه ولكنه لم يمسسه. أرجو من القارئ أن ينتبه بأن لا وجود لجبريل في آيات النجم فهو من أخطاء السلف رحمهم الله تعالى وإيانا. الله تعالى هو شديد القوى وهو ذو مرة وهو الذي استوى وهو وحده بالأفق الأعلى. رأى نبينا التجلي بداية في السماء ثم رأى نفس النور يقترب منه متدليا من صدر الأفق ولكنه لم يمسسه. هي أعظم آية للإنسان فالنور أو الضوء وهو نوع من أنواع الطاقة أو النور العلوي فإنه ينتشر ولا يتوقف. ولكن الرسول رآه مقبلا إليه بسرعة الضوء ولكنه توقف حينما وصل قاب قوسين منه عليه السلام. إنه مشهد مهيب ولكن رسولنا تحمل مشاهدته لأنه كان في المرة الثانية والعلم عند المولى عز اسمه.

إعداد رسولنا نفسيا لاستلام الوحي المباشر:

قال تعالى في سورة المزمل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5). لا يمكن لبشر أن يستلم الوحي المباشر من الله تعالى إلا بعد إعداده لذلك المشهد العظيم.

الفرق بين موسى والروح القدس:

والروح القدس ليس قدوسا ولكنه يحمل قدرا أكبر مما حمله موسى من ذلك النور القدسي. ولذلك سمعنا بأن الروح القدس قام بتغييرات جينية في غاية الدقة في خلية من خلايا مريم ليحولها إلى خلية تحمل الكروموزوم Y. تلك عملية إيجابية معقدة ولكن ما قام به موسى كانت أعمالا سلبية فقط. قام بتدمير الأجسام السحرية بقدرته الممنوحة له في طور سيناء، وقام بمنع الماء من التحرك باتجاه الطريق التي شقها في البحر وقام بإظهار القوة التي في يده على شكل ضياء. كل تلك الأعمال لا تصل حد الأعمال الخطيرة التي قام بها الروح القدس كما وضحها لنا القرآن الكريم في موارد كثيرة  ومهيبة. هذا هو موسى الذي اصطنعه الله تعالى لنفسه ليحمل قبسا من نور ربه دون أن يتأثر به كيانه. إنه أضعف من الوادي المقدس وأضعف من جبريل بظني القاصر. لكن موسى بالنسبة لإخوانه الأنبياء فهو أقواهم على الإطلاق بظني المتواضع. أظن بأنه عليه السلام وصل أقصى ما يمكن أن يصل إليه إنسان من القدرة على تحمل الإشعاعات بالغة الخطورة.

ليس لنا أن نقول بأن هناك رسول أفضل من رسول آخر فلا أقصد بقولي أعلاه بأن موسى أفضل الأنبياء. كل من يقول ذلك فهو جاهل لا يعلم الكثير عن أوامر القرآن. بل أقول بأن موسى كان أقوى إنسان فقط لأنه وبعد أن صنعه الجبار العظيم لنفسه واعتنى به من يوم حملته أمه حتى يوم كلمه ربه، بعد ذلك صار موسى قادرا على التكلم مع الله تعالى. قال تعالى في سورة البقرة: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285). فليحذر المؤمنون القول بأن هناك رسول أفضل من رسول أو بأن هناك رسول هو سيد الرسل.

ارتباط الكائنات بخالقها:

ليس سهلا لو لم يكن ممتنعا أن نعرف كيفية ارتباط الخلق بالخالق. ذلك لأن الخلق كله بلا استثناء محتاج إلى المكان والزمان ولكن الله تعالى كان قبل الزمان والمكان وهو اليوم وبعد تحقق الزمان والمكان فإنه جل جلاله لم يتغير ولن يتغير أبدا. كل الكائنات يمكن أن تموت بل تزول إذا أراد الله تعالى ولكن لا يمكن أن يموت الله تعالى فلا يمكن أن يزول إطلاقا. إنه ليس أزليا فحسب بل هو أبدي أبدية حقيقية لا أبدية فعلية بفعل فاعل. فليس لله مكان ولا يمكن أن يكون هناك مكان يسع إشعاعات نوره المهيب. فلا يمكن أن نتصور بأنه في عالم الفيزياء بل هو محيط بعالم الفيزياء. ونقصد بالإحاطة ما يحيط بكل الذرات والجزيئات وليس ما يحيط بالكون من خارج الكون. فحينما يقول سبحانه بأنه معنا وبأنه الظاهر والباطن فهو يعني بأنه تعالى لا يمكن أن يكون بعيدا عن خلقه ولكن خلقه بعيدون أو بعيدة عنه سبحانه. كما أننا لا يمكن أن نقول بوجود انفصال بين الخلق والخالق بل هناك ارتباط وثيق غير منقطع بينه سبحانه وبين خلقه. فكيف يكون الارتباط؟ قال تعالى في سورة الحديد: هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (5).

لا تظنوا بأنني قادر على بيان ذلك الارتباط أو بيان كيفيته ولكنني فقط بصدد إثباته من القرآن. أنا لا أعلم أكثر من ذلك ولا أعلم بأن هناك من بين خلقِ الله تعالى من يعلم أو من سيعلم أكثر من ذلك.

قال تعالى في سورة النور: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاّ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35). لا يمكنني أن أصف النور توصيفا دقيقا ولكنني بعد جهد مضن وتفكير طويل خلال عدة سنوات توصلت إلى تعريف يوضح فهمي وفهم بعض زملائي للنور فقط وهو:

النور هو قوة الدفع الاختياري.

لا مجال لشرح الجملة هنا ولكن لأنقل لكم حكاية غريبة في الآية العظمى أعلاه. قام أخي عبد السلام المياحي قبل أن أوضح الآية بدراسة الآية دراسة فيزيائية وأرسل إلي نتيجة دراسته قبل أن أشرحها وطلب مني أن أدرس مقالته قبل أن أبادر بالتفسير لعلي أستفيد منها. قرأتها بإمعان فقلت له: لا يمكنني أن أرد عليك ولا يمكنني أن أقبل تعريفك. ذلك لأنك وثقت فهمك بمعلومات غير ضعيفة قد تكون بعضها خاطئة وقد تكون كلها صحيحة ولكن لا يسعني الخوض فيها كثيرا فلا أعرف كيف أرد عليك. ولا يمكنني قبول تعريفك لأنني مفسر ومضطر لتطبيق أي فهم للنور على كل الموارد التي نجد فيها النور في القرآن الكريم وتعريفك لا ينطبق معها جميعا حسب تفسيري المتواضع. ثم طلبت منه أن يلقي محاضرة حول فهمه.

ذهب لتحضير المحاضرة وقمت بتفسيري في تلك الفترة لأنني وصلت إليها ثم استعد عبد السلام للمحاضرة في جلستين حضرتهما مستمعا ومستمتعا طبعا. إنه زميلي القديم وأنا فخور به وبأمثاله من العلماء الذين يساعدونني. ما تمكنت بعد كل هذا من الرد عليه وما تمكنت من قبول فهمه. أليس هذا غريبا؟

نتحدث عن الجملة الأولى في آية النور فقط لنقول بأنه تعالى نور السماوات والأرض. لكننا لا نعرف حقيقة ذلك النور ولا نعرف معنى ذلك النور. كلما نعرف بأنه سبحانه وصف نفسه بذلك الوصف ليعرفنا على إحاطته الشاملة لكل ما في الوجود الممكن بأصغر ذراته ودون أن يتوقف أي شيء عن الحاجة إليه. بمعنى أن كل شيء يزول لو توقف سبحانه عن إمداده النوري إياه.

قال تعالى في سورة فاطر: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41). يمسكها ربنا من كل جوانبها بإشعاعاته الرقيقة والنفاذة، ولذلك يرى كل شيء ويسمع كل شيء ويمكن أن يقوم بكل تغيير في أصغر الجزيئات إلى أكبر التركيبات الفيزيائية. لا يسعني معرفة تعبيره تعالى إحاطته بالنور ولكن يمكنني معرفة بأنه تعالى بما لا تساعدني لغتي العربية أن أعبر عنها بغير إشعاعات نور الله تعالى، بها يسيطر على كل شيء فيسمع ويرى ويحرك ويغير. والعلم عنده تعالى. والحد الذي وضحه الخالق العظيم لارتباط الكائنات به قد يكون في ما يلي من سورة الأنبياء: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18). نحن نعرف بأن الوحدات الطاقوية القوية لو وقعت على الوحدات الأقل قوة فإنها تشطرها وتغير حركتها ومسارها أو تحل محلها.

وأذكر التالي كمثال. وما أذكره ليس ثابتا علميا ولكن قائله فيزيائي مسلم كتب فهمه ونشره وما رأيت ردا عليه وما رأيت تأييدا دوليا له. وهكذا فإن أغلب ادعاءات علماء الفيزياء لا تتعدى الاحتمال وقد تصل أحيانا إلى الظن فقط. يقول العالم المذكور ولم أجد في ما قرأت عنه بأنه يعلم المسائل القرآنية طبعا، قال بأن الوحدات الضوئية التي تتكون من فتونات تدور حول النواة فإنها تتعرض للغزو قبل أن تصل إلى الأرض ولذلك نراها فجأة وحدات مضيئة.

لعلكم سمعتم بأن الوحدات الضوئية لا تضيئ كل الطريق التي تمر فيها قبل أن تقترب من الأرض. وهناك احتمالات أخرى غير ما يقوله صاحبنا لتفسير الظاهرة طبعا. لكن ما يقوله صاحبنا لا يمكن رده بسهولة. إنه يفترض وجود وحدات طاقوية تسمى الجرافيتون وهي محيطة بالكرة الأرضية. بالطبع أن احتماله هذا ليس منه بل هو مشترك أو من غيره فعلا. يظن الأخ بأن وحدات الجرافيتون أسرع سيرا من وحدات الفوتون ولو ثبت ذلك فهو يعني بأن هناك سرعات تزيد عن سرعة الضوء المعروفة في الكون. هذه الوحدات الخاصة بالجاذبية تتحرك باتجاه الوحدات الضوئية القادمة من الشمس فتغزوها في عقر دارها فتبعد الفوتون عن النواة وهي حين الابتعاد عن مركز الدوران فإنها تفرغ شحناتها الضوئية ثم تتحد الجرافيتون مع الفوتون لتعود إلى الدوران حول النواة ولكن بعد أن تحول بعض الطاقة لديها إلى ضوء.

معنى ذلك هو أن هناك في الفيزياء إشعاعات قوية وسريعة وهي تغزو غيرها وتشطرها. ويدمغ تعني يشطر إلى نصفين أو أكثر. ذلك لأن الدمغ مأخوذ من الدماغ كما يظن علماء اللغة ويدمغ يعني يكسر أو يهشم الدماغ. فطريقة تفاعل الخالق مع المخلوقات هو بأنه تعالى بعد أن خلق خلقه فهو لا يمكن أن يترك الخلق حتى لا يزول بل يمسك كل الجزيئات وهو في نفس الوقت يبعث بالوحدات الطاقوية لتصحيح الأخطاء ولكن بطريقة التهشيم والتدميغ. فحينما يبعث بإشعاع متجل قليلا إلى وحدة طاقوية تتحرك تحركا خاطئا فإنه يهشم تلك الوحدة أو الوحدات فتزول حسب الظاهر. وتعلمون بأن لا شيء يزول فعلا في عالم الطاقة بل يتحول ولذلك قال تعالى بأنه يزهق. ويزهق يعني يمضي ولا يعني بأنه يزول زوالا كاملا. وهو سبحانه يتفاعل مع كل باطل من المعنويات بنفس الطريقة أيضا. فهل زال الشيطان وهل زالت الأفكار الباطلة وهل تجمدت العقائد الفاسدة مع ظهور الرسل؟ كلا، لكنها تمضي وتأتي أفكار وعقائد وشيطانيات باطلة أخرى لتأخذ مكانا من بيننا مع الأسف.

ولقد لاحظنا ربنا الكريم بأنه تعالى يقوم باستمرار بتصحيح أعمال الرسل ولا سيما رسولنا الذين أنزل عليه القرآن كما أنه تعالى يرد على كل إشكالات المعاندين في القرآن ولكن كل الإشكالات تعود وتبرز من جديد لا سيما بعد انتهاء حياة الرسول الصادق عليه السلام. ولذلك لا يمكن أن نتصور تقديسا حقيقيا لغير الأماكن والأراضي في حدود ما ذكره الله تعالى وليس أكثر من ذلك. والرسل جميعا معرضون للسهو والخطأ لأنهم في معرض الاختبار ولو كانوا معصومين من الخطأ فلا معنى لاختبارهم. ونحن وجدانا لا نرى القرآن الكريم يقدس أيا منهم. فالتقديس أو التطهير حد التقديس يمكن أن ينال الأجسام ولا يمكن أن ينال النفوس ولا سيما النفوس المختارة.

وقال تعالى في سورة الزخرف: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84). الإله يعني المخضوع له بصورة فعلية والفرق بين الإله والله هو أن الإله بمعنى إخضاع الله تعالى لكل الكائنات بقوته وبأنه يمسكها جميعا ولكن تسمية نفسه بـ “الله” بمعنى إخضاع الكائنات بالنظام وبالقانون الصارم المتناسب مع حقيقة الكائنات وتفاعلها مع بعضها البعض. ولا يمكن أن تتحقق الألوهية في كل الكائنات الفيزيائية الغازية والصلبة إلا بالقوة القاهرة المهيمنة. هذه القوة دقيقة ولا يمكن تصور الضعف والخطأ فيها ولذلك فالله تعالى هو القدوس.

ولا يخفى بأن اسم الله تعالى لغويا هو عين الإله. ولكن الإدغام حول الإله إلى الله. والإنسان يستعمل التركيبات المختلفة من جذر واحد لمعاني مختلفة أحيانا.

روحنا وروحي:

قال تعالى في سورة مريم: فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17). وقال تعالى في سورة الأنبياء:وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ (91). وقال تعالى في سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12). فما الفرق بين جبريل وهو روحنا وبينه وهو روح القدس؟ ولننظر إلى المرة الرابعة من تسميته بروح القدس:

قال تعالى في سورة النحل: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102). يمكن لنا ملاحظة أن جبريل حينما يقوم بأعمال يخالف النظام العام فيغير بعض المعالم الطبيعية دون أن ينقل رسالة من السماء فإنه يقوم بما يقو م به بقوة خارقة للعادة وهو قوة الإشعاع أو النور الإلهي الفعال والنفاذ؛ هناك يشير إليه ربنا بقوله الكريم: روحنا. الروح لا يعني النفس ولكنه الطاقة أو النور الخلاق من الله تعالى. إنه النور المباشر منه سبحانه قبل أن يتحول إلى طاقات أخرى. ذلك النور قادر على أن يخلق السماوات والأرض وما فيها وأن يخلق الملائكة والنفوس وكل شيء غير الله تعالى الذي هو أساس الوجود ولا يمكن أن يكون مخلوقا سبحانه وتعالى. وقبل أن ننتقل إلى معرفة الفرق بين الروح والروح القدس فنحن نحتاج إلى معرفة الفرق بين روحي وروحنا.

حينما يذهب جبريل إلى العذراء للقيام بالتغييرات فإنه يحمل قبسا من نور الله تعالى وهو محدود الفعالية للقيام بالتغييرات وبخلق نفس إنسانية لشخص واحد فقط فيشير إليه ربنا بقوله روحنا بمعنى أنه فاقد للخصوصية التوسعية التي لا تقف عند حد. فتعبير روحنا يعنى أنه يحمل نورا ضعيفا نسبيا وهو موجود لدى الكثيرين بأمر الله تعالى. وأظن بأن الذي نقل نفس النور إلى رحم أم أبوينا آدم وحواء هو نفس الروح القدس ولكنه حمل وحدة قوية قادرة على التوسع بلا نهاية من نور الله تعالى لأن تلك الوحدة تريد أن تخلق نفس آدم  وزوجه وكل أولادهما إلى يوم القيامة. هنالك نسب الله تعالى ذلك النور أو الروح إلى نفسه بأنه نور إلهي خاص غير متأثر وسيبقى فعالا دون نهاية بما يتناسب مع نور الله تعالى المباشر.

وأظن بأن هناك سبب آخر وهو أن تلك الوحدة النورية لم تكن قوية جدا وإلا لما تحملتها الخلية التي انتقلت إليها. لكن الله تعالى نسبها إلى نفسه باعتبار أنه سبحانه يمدها دائما بالمزيد من الإشعاع النوري لتبقى فعالا ولا سيما أنها ليست في مكان واحد بل تتكاثر وتتبارك باستمرار مع تكاثر البشر.

لنرى الحكاية في سورة الحجر: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29). وكرر تعالى نفس الآية في سورة ص: 72. لو كان ظني صحيحا، فالروح القدس في الآيتين أعلاه، هو الحامل للروح المنسوب مباشرة إلى القدوس. بمعنى أنه الوحدة الطاقوية الفعالة التي تمنح الحياة القوية للحيوان المدرك وحيد النوع و هو الإنسان فقط.

وأما قوله الكريم روحنا فهو إشارة إلى نفس الوحدة الطاقوية بدون القدرة على الانتشار والتوسع. ولا ننس بأن الله تعالى لو نسب القوة إلى نفسه بلفظ المتكلم مع الغير فهو يعني بأنه أقل قوة وأقل انتشارا بعكس لفظ المتكلم وحده. لنعلم بأن الكائنات تتقوى بالجمع ولكن الله تعالى هو القوي القهار بمفرده وكلما جمعنا معه غيره مثل الله والملائكة أو الله والطبيعة أو الله والقدرات الطبيعية فإنه أضعف من الله بمفرده. فالله تعالى هو المائة في المائة فلو قلنا الله ورسوله بمعنى أننا أضفنا شيئا بسيطا إلى الكمال وقسمناه على 2. ألا نرى بأن الله تعالى لوحده خلق هذا الكون المهيب دون أي يمسه لغوب. ولكننا نحن ننجب أولادنا بما نسعى إليه مع مساعدة ربنا فننجب إنسانا كاملا أو ناقصا أو لا نقوى على الانجاب. ذلك لأننا أضفنا أنفسنا الضعيفة إلى القوي القهار فلا يمكن أن نتصور القوة الفعالة في العملية التي نتحدث عنها بل هي قوة ضعيفة مستعينة بقوة كبيرة فقط.

القدوس:

يمكن أن نقول الآن بأننا عرفنا بعض الشيء عن الطاقة أو النور العلوي الفعال وكيف يؤثر في الكائنات. والآن نريد أن نعرف السر في تسمية الله تعالى نفسه بالقدوس ونعرف الأساس الذي انتبه إليه اللغويون حينما قالوا بأن قدس يعني طهر ولكن بقوة شديدة الفعالية. أو كما قال الراغب التقديس هو التطهير الإلهي.

 هو بيان قريب من الصحة برأيي المتواضع. ولكن لم يسمِّ الله تعالى نفسه بالطاهر وإنما بالقدوس فقط. إذن هناك فرق كبير بين الكلمتين بمعنى أن الطهارة الإلهية حسب تعبير الراغب هي الطهارة التي تمس الكائنات بسبب الرحمن وليست هي طهارة الرحمن نفسه. ليس صحيحا بأن ننسب الطهارة إلى الذات القدسية بل نكتفي بالتقديس له وليس إياه. فنحن لا نقدسه ولكن نشهد بأنه قدوس فقط. لا يمكننا أن نقوم بتقديس القدوس بل نعترف بأنه قدوس فقط. فما معنى القدوس؟

القدوس كلمة تشير إلى عدم إمكانية أن يتأثر بأي مسبب خارجي باعتبار أحديته مضافا إليها تأثيره الفعال في كل شيء فكل شيء مفتول فتلا محكما مع بعضها البعض. فنحن مثلا نتأثر بالمؤثرات ونسعى لتصحيح أنفسنا وأبداننا لأننا لسنا أصحاب قداسة. كل الكائنات الممكنة ناقصة وتتقبل التأثر فهي يمكن أن تسعى لتطهير نفسها ولكنها لا يمكن أن تقدس نفسها إطلاقا. القدسية  خاصة بالله تعالى وحده. هناك بعض الكائنات التي تأثرت به كثيرا فصارت مقدسة. بمعنى أنها تتطهر طهارة خاصة تجعلها في غاية النظافة حسب تعبير أرباب اللغة. هذا النوع من التطهير لا يمكن أن نتصوره في غير ما يريد الله تعالى تطهيره حد التقديس. والله تعالى في الكتاب الكريم لم يقل بأنه قدس إنسانا أو كائنا مشابها آخر. كما أنه تعالى لم يقل بأنه قدس ملكا أو روحا قدسيا وهو نوع من الملائكة. لكنه تعالى قدس مكانين في الكرة الأرضية ويصف أو يسمى جبريل بالروح القدس أحيانا.

وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه ذو مرة. قال تعالى في سورة النجم: إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى (7). الله وحده هو شديد القوى وهو ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى وليس جبريل كما فهم السلف رضي الله عنهم وعنا. وتنزيل الكتاب على الرسول غير مقتصر على التعابير العربية التي نقرؤها في القرآن الكريم بل هو تنزيل كامل يساعد الرسول على فهم أوسع ممن في زمانه ومكانه لكتاب الله تعالى. ولذلك استعمل ربنا جملة: علَّمه. فالله تعالى بالتنزيل علَّم رسولنا أيضا. هو سبحانه يعلم كل الرسل وهذا معنى آتيناه الإنجيل مثلا. وحتى نتعرف أكثر على أخطاء سلفنا نقرأ الآيات التالية من سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24). القرآن هو قول رسولنا وليس قول جبريل كما ظن البعض. وقول رسولنا لا يعني بأن رسولنا ركَّب الكلمات أو الجمل أو الآيات أو السور طبعا. بل هو قوله عليه السلام باعتبار أنه كان يتلفظ بالآيات الكريمة عن علم إجمالي أولي ثم يفكر ويشرحها مرة أخرى لأصحابه الكرام. وهو رأى نور الله تعالى بالأفق المبين والله تعالى ليس ببخيل على تعليم عبده بعض المفاهيم الغيبية ليساعده على فهم القرآن والقرآن غيب أيضا.

القدوس السلام:

نحتاج أن نعرف بعض الشيء عن السر في أن الله تعالى حينما ذكر اسم القدوس لنفسه أعقبه بالسلام. قال تعالى في سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23). حينما ذكر سبحانه ملكه وهو ملك شامل طبعا فإنه أراد أن يعلمنا معنى الشمول فقال بأنه القدوس. قلنا بأن القدوس هو الذي لا يتأثر بشيء ولكنه هو الذي يؤثر في كل شيء في المقابل. دعنا ننظر إلى الشمس وهي كائن مشع تنشر الوحدات الطاقوية من كل جوانبها. نحن في الأرض نتسلم جزءا يسيرا جدا من تلك الطاقة المنتشرة ولا يمكن أن نعطيها نسبة مؤية باعتبار قلتها نسبيا. إنها بعيدة عنا في حدود 150 مليون كيلو مترا وتنشر الإشعاعات ونحن ضمن دائرة نصف قطرها تلك الفاصلة ووجه أرضنا البيضاوية عبارة عن نصف كرة قطرها في حدود 12500 كيلو مترا فقط. فنحن لا شيء في حافة تلك الكرة الاعتبارية الضخمة. ومع ذلك، يحتملون بأن القدر الذي تتسلمه الأرض من ذلك الإشعاع العظيم في كل 24 ساعة يعادل كل المخزون النفطي في الكرة الأرضية. هذه الشمس العظيمة تؤثر في القشرة الخارجية لأرضنا فحسب.

نحن نتحدث عن الخالق المهيب الذي لا يفتأ لحظة من الارتباط بكل جزيئات الكون. هو قدوس شديد النفوذ في كل شيء. دعنا نعود إلى الشمس حاملة الأشعة النفاذة. هل لنا أن نقف ساعة تحت أشعتها في الصيف عند خط الاستواء؟ سوف نموت حرقا قبل انتهاء الساعة. لكن ربنا علَّمنا بأن نستظل بمانع يمنع عنا النفوذ الشديد للشمس. هكذا نسلم من وهج الشمس. يخبرنا القدوس في سورة الحشر بأنه شديد القدسية والتي نسعى لفهم معناها. هذا يعني بأننا لا يمكن أن نتحمل البقاء بين الممكنات لأننا لا نتحمل وهج إشعاعاته. لكنه تعالى أعقب ذلك بأنه سلام. بمعنى أنه هو سبحانه يحول دون أن يؤثر نوره فينا تأثيرا سلبيا.

الوجيه عند الله تعالى:

من الضروري أن نعرف بعض الشيء عن تأثير الاقتراب من النور المباشر لله تعالى. فالإنسان الذي يتعرض للنور القدسي أكثر من الإنسان العادي، فإنه لا محالة يفقد قدرات كثيرة أيضا باعتبار حلول قوة شديدة في كيانه. فمن باب المثال، لم يذكر الله تعالى زوجة موسى ولم يتحدث عنها إطلاقا بعد تلك الليلة النورية المهيبة. وأشار سبحانه إلى ما فقده موسى كما أحتمل بقوله في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69). هو كان عند الله وجيها. نعلم بأن الله تعالى يتحدث بأننا عنده بعد الموت وليس قبل الموت. لكن موسى صار عنده قبل الموت. بمعنى أنه حينما استلم نور الله تعالى واقترب من القوة العظمى صار وجيها. والوجيه يعني الذي لم يمارس الجنس أمام ربه. والعالم كله أمام ربنا طبعا. ولكن المسيح كان وجيها من البداية. قال تعالى في سورة آل عمران: إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45). وتعلمون بأن المسيح مثل أمه لم يقترب من الجنس إطلاقا كما هو معروف. ولم ينسب ربنا الوجاهة إلى غيرهما من أنبيائه المكرمين.

وأما يحيى فهو نبي دون شك ولكننا لا نعرف شيئا عن وصفه بالحصور. بالنسبة لي فإن ميلاد ذلك الإنسان الطيب كان أكثر غرابة من ميلاد المسيح بلا أب. ذلك بأن مريم كانت فتاة ناضجة شابة لا إشكال في قدراتها البدنية ولكن زكريا وزوجه كانا في سن الشيخوخة وقد فقدا القدرات الضرورية للإنجاب. أغلب الظن بأن الوالدة الكريمة ليحيى ما كانت تحمل البويضات الحية القادرة على الإنجاب. المهم بأن الله تعالى وصف يحيى بالحصور وتحدث عن مريم بأنها أحصنت فرجها. إنهما نبيان وقد وصف الله تعالى ابتعادهما عن الجنس بغير لفظ الوجاهة ولا أعلم السبب. وهناك من صار مثلهم كما أحتمل وسنتحدث عنه في مكان آخر بإذن الله تعالى.

نستخلص من هذا البحث الذي سعيت فيه السهولة واليسر جهد الإمكان ليستفيد منه الجميع، نستخلص منه بأن:

القداسة تعني عدم إمكانية التأثر بأية شائبة مادية أو معنوية وهي خاصة بالله تعالى. لا يوجد في الكون صاحب قداسة غيره تعالى إطلاقا. والمقدس يعني الذي تعرض لقبس من إشعاعات القدوس المباشرة بصورة غير متجلية وهو غير متاح لغير الكائنات الصلبة مثل الأرض والجبال. فإذا تم التجلي فإنه يدمر كل شيء تعرض له. ولذلك ليس في كوكبنا أناس مقدسون وليس في كوكبنا أي أرض مقدسة عدا المكانين المذكورين في القرآن الكريم. والعلم عند القدوس جل جلاله.

أحمد المُهري

3/4/2017 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.