تصحيح اخطاءنا : مفهوم الرحمان

مفهوم الرحمان

الرحمن.png

تابعنا من :

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

https://www.facebook.com/groups/Islamijurisprudence/

 

مقدمة بسيطة:

ما يلي يمثل بحثا كتبته قديما وأعيد نشره مع تغييرات طفيفة لسبب واحد. ذلك هو أنني مع التطور العقلي لأمتنا أسمع وأرى الكثيرين يسألونني عن إمكانية رؤية الله تعالى في يوم القيامة! هذه هي نتيجة اهتمام أمتنا بتراثنا البعيد عن حقائق القرآن الكريم. يجب أن نعترف بعدم وجود أية إمكانية لرؤية الله تعالى ويجب معرفة بأن كل الكائنات بمن فيهم الأرواح القدسية والملائكة بعيدون عن الرحمن بعدا لا يمكن تقريبه. لكن الله تعالى هو القريب من خلقه باعتبار إحاطته بكل ذرات الممكنات. هناك مقومات لهذه الإحاطة وليست حديثا جدليا ولا إحاطة معنوية بل هي إحاطة فعلية لإشعاعات نوره القدسي بكل ذرة في الوجود الممكن. ولولا ذلك لما رآنا الله تعالى وما سمعنا وما تمكن من القيام بأي تغيير يريده في أية لحظة. لكن الكائنات بعيدة عن القدوس العزيز لأنها جميعا بمن فيها الكائنات الطاقوية مثل الملائكة فهي مركبة غير مجردة وهي كلها ثنائية الوجود وغير فردية في حقائقها. والتركيب الطاقوي هو الذي يجعل الكائن الطاقوي وغير الطاقوي كثيفا غير رقيق والله تعالى هو أرق موجود فلا يمكن لنا تحسسه ولكننا نتقرب إليه معرفيا فقط.

كل الأحاديث وكل التحقيقات الساذجة التي تحدث عنها السلف الطيب والساذج عن تحرك الله تعالى وعن الاقتراب منه وعن رؤيته أحيانا فهي كلها أوهام مضللة. والغريب أننا نقرأ في كتب فلاسفتنا الكرام رحمهم الله تعالى وإيانا، الكثير من صفات التجرد والفردية لله العزيز ولكنهم في نفس الوقت يؤمنون أحيانا بأن هناك كائنات قريبة منه تعالى أو أن هناك أناسا يتصرفون في ملك الله تعالى ويضيف بعضهم بأنهم يتصرفون بإذنه. كلهم جاهلون في هذه الجزئية ومتأثرون بما ورثوه من سلفنا مع الأسف الشديد. إنهم مع بالغ الأسى غير ملتفتين بأن لا حركة لله تعالى وبأنه محيط بالكون وغير متواجد فيه فالكون كله مخلوق أصغر منه تعالى ولا يمكن أن يسع الجبار العظيم، فهو محرِّك وليس متحركا. إنهم غير منتبهين بأن أي تصرف في ملك الله تعالى سواء بإذنه أو بدون إذنه فهو تدخل صارخ في حكومة الله تعالى، وما هي حاجته سبحانه لأن يسمح لأحد بالمشاركة في ملكه ما دام هو قادرا على القيام بكل التصرفات وعليما بكل الذرات وبكل التفاعلات بل هي كلها بإذنه وحده؟

ونحتاج إلى مقدمة ثانية وهي أننا نقصد بالطبيعة كل الكائنات المخلوقة ونقصد بما وراء الطبيعة الله تعالى وحده. فالطبيعة عندنا لا تعني الكائنات الفيزيائية فقط بل تشمل الكائنات غير الفيزيائية. وفي الحقيقة أن كل الخلق محتاجة إلى الكون المادي ليبقى ويعيش. ولذلك نرى الله تعالى يتحدث دائما بأنه خلق السماوات والأرض. فالملائكة والأرواح القدسية مخلوقون بعد خلق السماوات على الأقل. ذلك لأنهم جميعا مفتقرون إلى الزمان و المكان ولا زمان بلا مكان.

هناك فكرة ساذجة أخرى لدى أمتنا وهي بأن الكائنات الإنسية والجنية والملائكية التي تجتمع يوم القيامة فهي تتحدث باللغة العربية. ولذلك فهم يقدسون هذه اللغة. هذا وهم أيضا. اللغة خاصة بالبشر الذين تشرفوا بمعرفة الأسماء ولكن الكائنات الطاقوية المدركة الأخرى تتفاهم بالعناوين مثل الإلكترونات ولا تتفاهم باللغة لأنها لا تملك أعضاء السمع والبصر ولا أعضاء النطق الصوتي. إن لغة المدركين يوم القيامة محصورة في الهمس النفسي المشترك بيننا جميعا. ثم إن الأبدان الجديدة التي يمنحناها ربنا قبل الوقوف أمامه للحساب فهي تتوقف عن العمل عند الحساب فلا السمع ولا البصر ولا اللسان يعمل بل ينحصر النشاط في النفوس والنفوس لا تحتاج إلى لغة. قال تعالى في سورة طه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108). إنه همس القلوب النفسية وليس مشابها لهمسنا بالصوت الخافت بل بلا صوت.

هناك لن نرى الله تعالى جهرة أيضا ولكنه سبحانه كما وعد سوف يتجلى على شكل غمامة فوق رؤوسنا جميعا لتكون كل الكائنات المكلفة المرتبطة بنظامنا الشمسي واقفة على أرض واحدة دون تفريق تثبيتا للعدالة في محكمته الكبرى. قال تعالى في سورة طه أيضا: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107). ينسف سبحانه الجبال في مكان الوقوف بأرض جهنم. وقال تعالى في سورة البقرة: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210). والله تعالى يبقى رحمانا يحتاج كل شيء إلى رحمته دون أن يبخل عليها كما أنه يبقى إلها يُخضع كل شيء لحكمه. فحتى تنقشع من أذهاننا تلك الأفكار الوهمية أرجو أن نمعن في البحث التالي حول مفهوم الرحمان بإذن الرحمن عز اسمه.

مفهوم الرحمان:

إن الله تعالى أحدٌ فردٌ لا يحتاج إلى أجزاء وأعضاء، ولذلك فلا يمكن أن يصدر منه غير الواحد أيضا. نحن البشر نسمع لوجود الأذن عضوا فعالا في كياننا ونشم لوجود الأنف ونرى بالعين ونلمس باليد ونأكل لوجود الفم والأسنان والجهاز الهضمي بكامله وأجهزة التفريغ والتخلص من الفضلات وهكذا. فنحن محتاجون إلى كل هذه الأعضاء لنكمل مسيرة الحياة بسلاسة وهناء. ولكن الذات القدسية غير مشوبة بالأعضاء والأجهزة وهو يسمع ويرى ويدرك الروائح ويعرف مكنونات القلوب ويقف على آثار المؤثرات جميعا كما أنه سبحانه يحيط بها ويكيف حركاتها واتجاهاتها دون تفريط. ولولا ذلك لانهار الكون برمته ولم تتسن لمكونات الكون العظيم أن تواصل السير بلايين السنين دون أن يحدث شرخ في تكامل الكواكب حتى يأتي وقت موتها وفنائها. وسوف يستمر هذا الأمر حتى انتهاء النشأة الأولى التي نتمتع نحن بالحياة ضمنها اليوم.

والله تعالى وإن كان مالكا لكل شيء وملكا يدير كل شيء ونحن البشر نستمتع بالملك والملكوت بطبيعتنا فيتبادر إلى ذهننا أحيانا بأن الله تعالى يستمتع بهذا الملك العظيم فخلقها وأدارها ورحم كل شيء فيها ليستمتع بالملك! ويمكن لقليل العلم أن يستدل ببعض الآيات التي تدل على أن الله تعالى يحب الخلق وأعمال الخلق ليؤيد أفكاره. كما يقول تعالى في سورة الصف: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴿4 والواقع غير ذلك. فالرحمة في مفهومنا تنشأ من ضعف وجودي في أعماقنا فيتجلى هذا الضعف حين خفقان القلب أمام من أو ما يحتاج إلى الرحمة مثلا. وهذا الضعف في حد ذاته ضروري لبقاء النوع الإنساني، فإذا ما قاومناه وتقوينا عليه أصبحنا مجرمين قتلة لا نبالي بأحد حتى أهلينا وأولادنا لو رأيناهم يزاحمون مصالحنا، كما نراه ونشاهده لدى القتلة في الأرض سواء من الدنيويين المعروفين بأهل الدنيا أو الدينيين الذين يسعون للسلطة الدنيوية باسم الدين وهم كثيرون في الأرض. أراح الله البشرية منهم ومن شرهم إنه سميع مجيب.

فهل الله تعالى يحب ويبغض كما نحب ونبغض أو يرحم ويعطف كما نرحم ونعطف؟ لو كان سبحانه كذلك، فكيف يقاوم رؤية الذين يقتلون ويفتكون بالأطفال مثلا وكيف يقاوم نفسه وهو يرى الزلازل والبراكين تعصف بحياة الإنس والحيوان دون رحمة، وهو سبحانه قادر على مدهم بالنجاة؟ هذه أول مسألة يجب أن نفهمها في هذا البحث الذي حاولت جهد الإمكان أن أبسطه ليعرفه كل من يصرف بعض الوقت في قراءته بإذن الله تعالى. لا شك بأن الله سبحانه لا يمكن أن يتأثر بأي شيء خارج كيانه، والحقيقة أن كل شيء غيره سبحانه خارج عن وجوده القدسي جل جلاله. وكل شيء واقع تحت إحاطة رب العالمين بلا ريب. وقد قال سلفنا الطيب بأن الرحمة والحب وبقية الصفات التي نصف الله تعالى بها بإذنه سبحانه فهي باعتبار آثار الرحمة والحب والود والرأفة وغير ذلك في المخلوقات ولنعم ما قالوا. لكن هناك خصوصية لصفة الرحمة في الذات القدسية يجب أن نحللها لنعرفها بدقة أكثر.

لعلنا نجزم بأن أسماء الله تعالى تدل على المبالغة في صفة من صفاته التي هي صفاتٌ باعتبار آثارها في الخلق. كل أسمائه تدل على بلوغ المسمى غايته وعلى ما يمكن أن يشتمل عليه الاسم من كثرة في التأثير. ولعل اسم الرحمن هو أكثر وأعم تأثيرا من بقية الأسماء القدسية بعد الاسم المعروف بـ الله. إن كل شيء ممكنٍ محتاجٌ في وجوده وبقائه إلى الرحمة من رب السماوات والأرض كلها. وكل ما نحتاج إليه خارجٌ عن كيان رب العالمين. فالخلق بأفراده محتاجون إلى البدء وإلى التطور وإلى الزمان وإلى الطاقة المحدودة التي تناسب مقاومة كل منهم وإلى تداوم الطاقة باستمرار لأن كل الخلق بمن فيهم الملائكة الكرام عاجزون عن الاحتفاظ بالطاقة اللازمة للبقاء بل محتاجون إلى الاستمداد دائما وأبدا من الحي القيوم جل جلاله. لكن الرحمن سبحانه لم يبدأ وهو غني عن الزمان وعن المكان وعن الحاجة إلى أية طاقة يستمدها من غيره جل جلاله. على أن الكثير من خلقه محتاجون إلى الحياة وإلى متطلبات الحياة والجنسُ الحيواني من خلقه محتاجون إلى الأكل والشرب والحرارة المحدودة وكثير منهم يحتاج إلى المكان المناسب للمشي وإلى الطرق والسيارات الحيوانية أو الآلية وكلهم محتاجون إلى التنفس وما إلى ذلك من ضرورات الحياة الحيوانية الأخرى.

وليس لنا من يغطي فقرنا غير الله سبحانه وهو غني عن كل حاجة. وكل ما يمد الغير به فهو محض عطاء لا ينتظر مقابلا له إطلاقا سبحانه وتعالى. وبما أنه سبحانه غير محتاج لما يمد به الغير فعليه بأن يخلق كل شيء ويبدأ بخلق كل شيء وإلا انهار هرم الخلق بالكامل. لو نمد نحن غيرنا بالمال والقوة البدنية ونساعدهم في المأكل والمشرب والملبس فإننا نعطيهم مما لا نحتاج إليه بأنفسنا من تلك النعم. نحن نزرع لأنفسنا ونغذي به أولادنا ونجمع المال لحاجتنا ونصرفها على أنفسنا وأهلينا ولكن الله تعالى يخلقها لخلقه فقط كما خلق الخلق لا لحاجة له إلى أي منهم. تصور لو أنك لا تملك بيتا ويطلب أحد منك المال ليشتري به بيتا لنفسه أو أنك عاجز عن التمتع بالموسيقى لضعف في سمعك مثلا وتريد أن تهيأ وسائل الطرب لأشخاص آخرين. هذه هي المسألة الثانية في هذا البحث المختصر.

ومن زاوية ثالثة فإن الله تعالى لا يعيش مع أحد من خلقه أبدا. ليس لأحد من الخلق القدرة على الاقتراب من مصدر النور أو الطاقة في هذا الكون المهيب المترامي، لو فرضنا إمكانية الاقتراب من القدوس جل جلاله، فهو غير ممكن طبعا. لكننا نحن نستمتع ونبادل الكثير من المتطلبات مع من هم مثلنا في الإنسانية أو في الحيوانية أو في النبت. الحيوانات تسعد بالتعايش معنا وتعيننا على التمتع بالكثير من متطلبات الحياة؛ والنباتات النامية تحتاج لسقينا ورعايتنا كما نحتاج لظلالها وثمارها ولونها الأخضر وكل شيء فيها. ونحن البشر نستمتع مع بعض كأزواج أو كآباء وأبناء أو كأصدقاء أو كمعلمين وتلاميذ أو كحكام ومحكومين أو خدم ومخدومين. حتى بعض الملائكة وخاصة الذين يُخلقون مع تواجد كل شخص على ظهر الأرض فإنهم يبادلوننا الحاجة ولو جزئيا، بأنهم لولانا لما خُلقوا احتمالا. وهكذا الجن، قال تعالى في سورة الأنعام: وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أولياؤهم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ﴿128 فالله تعالى ليس وليا لنا من الذل بل هو سبحانه ولي من الكبرياء والرحمة فحسب.  ولكن ولاية كل من دونه على كل من دونه تعالى ولاية ذل وليس ولاية كبرياء.

وهو سبحانه يمد كل الكون ومن وما في الكون بكل ما يحتاجون إليه دون أن يناله أي نصيب من المتعة التي لا يبحث عنها الله تعالى بل هو في صدد الحقيقة والعدل المطلق وليس لأي من خلقه أي تأثير ممتع في الذات الربوبية جل جلاله.

وأما المسألة الرابعة فهو أنه سبحانه يمد كل الخلق بما يمكن لهم استيعابه من العلم والقوة والحياة والبقاء دون أن يخشى على ملكه وملكوته من أن تنقلب عليه موازين القوى وتتآمر ضده أو تقضي عليه سبحانه، دان له العالمون واستجاروا به وهم في عزِّ قوتهم وشوكتهم. إنه سبحانه يعطي الكل القوة أو القدرة العلمية والبدنية و الطاقوية بالقدر الذي يقوون على جذبه والانتفاع به ويعطيهم سبحانه من عنده ما يقويهم ويمنعهم من التأثر السلبي بالمزيد من الطاقة والقدرة. إنه سبحانه محيط بكل قوة دون أن يخاف عاقبة هذا التوسع الشديد في تمكين غيره. فهو سبحانه لا زال يوسع في حدود الكون ويزيد الخلق خلقا ويدعو العقلاء منهم للتآلف والتآزر والتكاتف ومساعدة بعضهم البعض. إنه سبحانه لا يخاف من أن يُنافسه أي من خلقه مهما بلغ من القوة والشأن. فكل ما يتحدث به العزيز الحكيم من أنداد في الكتاب الكريم، لهو حديث عن اتخاذ الناس أندادا لله وليس عن تخوف فعلي من أنداد فعليين ينافسونه في الملكوت.

لو لاحظنا هذه المسائل الأربعة ونحن ننظر إلى سعة رحمة الله تعالى لكان من الممكن لنا أن نعرف بعض الشيء عن أسباب التوسع الشديد في الرحمة من حيث التفعيل والبذل الفاعلي النازل من العزيز الجبار جل جلاله. فهو غني لا يخاف ولا يهاب من النقص ولا من ممارسة الندية ضده ولا يتأثر بذاته بالعطاء أو بعدم العطاء. فهو يرحم لأنه رحيم بالذات وهذا من محامده الذي يشع بالجمال والخير لكل خلقه فهنيئا لخلق الرحمن من خالق كريم وباسط رحيم هو الرحمن نفسه.

وأما من حيث الانفعال أمام الرحمة الواسعة فإنه موضوع خارج عن هذا البحث ولعلنا نناقشها في مناسبة أخرى. يكفي أن نعرف بأن الرحمة متاحة للجميع وما نراه من محدودية أحيانا فهو بسبب الضعف الموجود لدى المخلوقين المتنعمين بالعقل والإرادة والحاجات المادية. قال تعالى في سورة الشورى:وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴿27 فالرحمة من حيث صدورها من الخالق العزيز واسعة وكبيرة ومتنوعة ومبسوطة بوفرة ولكن السبب في التحديد هو الإنسان نفسه أو الجن نفسه. هذا التفعيل بالرحمة يشمل كل الجوانب من تكميل النقص المادي والنقص العقلي والإرادي وأي نقص آخر، بما فيها نعمة الهداية والعلم التي يبيحها الله سبحانه بصورة مستمرة دائمة لكل خلقه حسب حاجتهم وحاجة بعضهم إلى البعض. أقصد بأن التحديد في الهداية تابع لإمكانية البغي في الأرض لو توسعوا علميا.

ذلك لأن التوسع في العلم يسبق التوسع في الملك والقدرة وهي مضللة لمن لا يستحقها. قال تعالى في سورة البقرة: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴿204 وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴿205 وهذا النفاق والشقاق الفاشي في نفوس بعض الناس يعم كل أنواع السيطرة من السياسية والمالية والاجتماعية والعلمية حتى السيطرة بالجاذبية الجنسية وبجاذبية القدرة الرياضية وإشغال الناس بالقصص الجميلة والمزاح والمداعبات الزائفة المضحكة وغير ذلك من أنواع الولاية والسيطرة على قلوب الناس، ولكن أخطرها وأكثرها سلبية هو السلطان والسيطرة السياسية التي تمثل بها الآية الكريمة. فالله تعالى يحب البذل والرحمة ولا يمتنع إلا حينما تمتزج النتيجة بالسلبية التي يكرهها الوجود الفياض الذي لا يحب غير الإيجاب ويكره السلب، سبحانه.

هذا البحث يجرنا إلى سلبية واضحة في هذه الرحمة الواسعة وهي التي نراها ونلمسها من آثار الظلم الفعلية هنا وهناك. فما قاله سبحانه في الآية 205 أعلاه لم يُفعَّل بصورة شاملة كما يبدو. هناك الكثير من الناس بمن فيهم الأطفال الأبرياء يئنون من ظلم المُترفين لعنهم الله تعالى. ولمعرفة الحقيقة علينا بأن نتوسع في تحليلنا ليشمل بعض الجوانب الأخرى في الموضوع. فلو نمعن النظر في الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها الملايين من البشر ظالمين ومظلومين بمن فيهم الأطفال أيضا. نرى بأن الحرب قد أتت بالكثير من الثمار الإيجابية مثل:

1)         تم اختبار مجموعات مختلفة من البشر وظهر فساد وصلاح القلوب بشكل واسع وكبير وهو من أهم أهداف هذه النشأة التي أوجدها الله تعالى ليبلونا أينا أحسن عملا.

2)         أعقبت الحرب ظهور الهيئة الأممية من جديد وبشكل أقوى وأصلب من مثيلتها التي سبقتها والتي ماتت دون أن تتمكن من القضاء على نزعات التوسع والظلم الفاحش. كما توسعت مهمة الأمم المتحدة لتشمل العلوم والثقافات والأموال الدولية والمساعدات المركزية والقضاء الدولي و…

3)         تحسنت جغرافية الكرة الأرضية من حيث توزيع السكان بشكل ملحوظ بعد الحرب واستقرت المجموعات بطريقة منسقة أكثر مما قبل الحرب. فتجمع اليهود في المكان الذي عاشوه من قبل وانفصلت القارة الهندية لتحد من خطورة دولة عظمى متكاملة في آسيا والعالم وتوقف التوسع التركي وانتظمت الدول الأوروبية واهتز سلطان اليابان شديد الخطورة على كل الكرة الأرضية وغير ذلك.

4)         شعر الشعوب بخطورة المصادمات والمنازعات وبخطورة الجهل والفساد وبسلبية الفقر والجوع واستعدوا للتضحية في سبيل تصحيح الأخطاء.

5)         قضت الحرب على مجموعة من أخطر الزعماء السياسيين في العالم مثل رؤساء وزعماء  إيطاليا وألمانيا واليابان. كما قضت على جموع كبيرة من الإرهابيين والمتهورين والطامعين في السلطة.

6)         مما لا شك فيه أن الحرب التي قضت على 40 مليون نسمة قد حققت توازنا سكانيا في المناطق التي مستها الحرب. ولولا الحرب لكانت الأمراض أو الزلازل هي التي ستقوم بهذه المهمة.

7)         شعرت البشرية بعد الحرب بضرورة الاهتمام بتحسين النسل وتوزيع الثروة والسعي للتوازن الاجتماعي والتثقيف والتعليم والتربية والكثير من مسببات النهوض والتقدم.

8)         ومن أهم نتائج تلك الحرب وما أعقبها من تفهم واسع للشعوب هو أن العالم اليوم لا يسمح للقتلة والسفاكين الذين يتواجدون بين الفينة والفينة هنا وهناك باسم الوطنية والدين وهم كذابون؛ فالبشرية اليوم لا تسمح له بالتوسع بل تحاربهم وتسعى للقضاء عليهم.

لقد مات الكثيرون أطفالا وشيوخا ومقعدين وظهر الكثير من العجزة والمعوقين في مقابل استيقاظ البلايين من البشر الذين ازدادوا علما وثقافة وتفكرا وإيمانا وعودة إلى الله تعالى أو فهما وعلما به سبحانه ليتم الحجة عليهم يوم القيامة. فالله تعالى هو الذي سوف يتولى بكرمه تعويض المظلومين في الدار الآخرة وسوف ينتبه أعداد كبيرة من الناس من بعد موتهم في الدنيا غبّ غفلة وسبات سببت الحرب الطاحنة. ولولا موت الأطفال الذين هم بريئون فعلا من كل ذنب لما بان خبث بعض النفوس المريضة والفاسقة ولما ظهرت عواطف وحسنات بعض النفوس الأخرى الطيبة والطاهرة.

قال تعالى في سورة الأنعام: قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿12 فكل ما نراه في أرجاء الكون العظيم، بعيوننا أو بأفكارنا واستدلالاتنا من مظاهر الرحمة صادرة من الرحمن بحساب وبدقة وروية وكل ما نراه من ظلم سببها نفس هذه الرحمة حينما تواجدت بكثرة لدى البعض فإنها إما أن تُعجّل فيأخذ  الظالم جزاءه أو يؤجَّل ليوم الحساب الذي يجمع فيه الله تعالى كل الجن والإنس في كل كوكب ليقضي بينهم بالحق والقسط.

ولنعم ما قال المرحوم الشاعر العربي الكبير زهير بن أبي سلمى من قبل ظهور الإسلام العظيم:

فلا تكتمُن الله ما في نفوسكم          ليخفى ومهما يُكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيُدَّخر        ليوم الحساب أو يعجل فيُنقم

ومن الجدير معرفة أن المرحوم الشاعر المؤمن يعترف في شعره الجميل بأن الله تعالى يحاسب الناس على نفوسهم وليس على أعمالهم وهو علم يجهله غالبية المعروفين برجال الدين اليوم وبعد حوالي ستة عشر قرنا من وفاة بن أبي سلمى. وهذا أعتبره من مظاهر رحمة الله تعالى الذي يعلم عبيده بقدر سعيهم واستحقاقهم واستعداد زمانهم ومكانهم دون وساطة أنبيائه ورسله البشريين.

والرحمان في الواقع هو الاسم الذي يدل على ربط العالم المادي الفيزيائي بما وراء الطبيعة. فالله تعالى شديد العطاء وعطاؤه يصدر إلى الخلق عن طريق الطاقة والنور الصادر من الذات القدسية جل جلاله. وهذا النور تارة ما يتحول إلى مادة -كما يمكننا معرفته من بحث آخر ولا سيما في سورة النور – فيوصل الطاقة إلى خلقه سبحانه في عالم الفيزياء عن طريق الأشجار النورية ثم المجرات التي هي طاقة ودخان أو غاز ثم النجوم التي هي طاقة وغاز وموادّ سائلة مثل الماء، ثم الكرات الأرضية التي تمثل نهاية التطورات الفيزيائية؛ وتارة ما يتحول نور الله تعالى إلى أوامر لدى ملائكته الكرام ليرتبطوا بالجن والإنس ويُفعِّلوا فيهم أوامر الجبار العظيم جل جلاله. هذا الربط المعقّد بين الطبيعة وما وراء الطبيعة تتم عن طريق وحدات في غاية الصغر، ولعلها تربو من حيث العدد على الملايين أو مئات الملايين في كل رأس إبرة من المواد الطبيعية. هذه الوحدات تكون في قاعدتها على شكل أمواج غير قابلة للتحسس الكامل حتى عن طريق  الأجهزة والمعدات الدقيقة.

ونحن حينما نغوص في بحار الكتاب الكريم، فإننا لا محالة نمر على هذه المعلومات الدقيقة التي تُعرّفنا على كيفية الارتباط بعالم الغيب ولو لحد بسيط يتناسب مع إمكاناتنا الفكرية والعقلية. هذه الوحدات في قاعدتها البعيدة عن خواص المادة تحمل وحدات أخرى طاقوية تجتمع معها لتفعيل أوامر الله تعالى في التكوين. وباختصار فإن قاعدة التكوين المادي مؤلف من ثلاثة قواعد أصلية تتعاون لتشكل مادة من المواد أو ما يُعرف لدينا بالعناصر الأصلية المعروفة لدى الفيزيائيين وعلماء الكيمياء. هذه القواعد هي الطاقة الأصلية الصادرة من القدوس سبحانه والحامل لتلك الطاقة وهو ما يُعرف في القرآن بأسماء الله إضافة إلى أمر الجبار لتعيين نوع التفاعل بين الوحدة الطاقوية وحاملها. والكلمات أو كلمات الله هي هذه المجموعات الثلاثية كما يبدو لي. و نرى بأن القرآن يسمي المسيح مثلا كلمة ويتحدث عن كلمات الله بأنها لا تنفد فيبدو للمتحري أن الله تعالى يستعمل الكلمات حينما يتحدث عن إيجاد ما يتلاءم مع رضا الله تعالى ولكن الحق أنه سبحانه يتحدث عن كلمة العذاب أيضا فسمى مكونات العذاب كلمة أيضا. إلا أن العناية في ذكر الكلمات على كل مسألة إيجابية يقوم بها الجبار داخل الطبيعة أو في خارجها ولكن خارج الساحة القدسية. وذلك باعتبار أن الله تعالى يكره السلب ولا يقوم بأي عمل سلبي إلا بعد أن يستقر عليه قانون العدالة الذي رسمه سبحانه لنفسه. فالسلب حينذاك إيجاب تقتضيه العدالة ولكنه سلب بالنسبة لمن ينفعل أمامه.

فلو ننظر إلى هذه الوحدات التي لا يمكن للبشر إحصاءها بأية وسيلة، فهي من حيث العدد كبير في الكثرة ومن حيث النوع تشمل كل ما يمكن تصوره من أنواع ومن حيث القوة فهي تحمل كل جزيئات الكون إضافة إلى مكونات الملائكة والأرواح القدسية وكل الملإ الأعلى الذي يشمل الجن والملائكة ونحن لا نعرف عن ماهياتها شيئا يُذكر فهي مصداق قوي على صدق صيغة المبالغة في الرحمة والتي اختصرها الله تعالى باسم “الرحمن” جل جلاله. أضف إلى كل ذلك أصل الفضاء الحاوي لكل التكوينات المادية والتكوينات الممثلة لما وراء الطبيعة غير الذات القدسية جل جلاله. والقدوس ليس محاطا بهذا الكون المهيب بل هو سبحانه محيط به وبكل ذراته وجزيئاته. عرفنا من هذا البحث المقتضب أن الطاقة والنور هي التي تجمع الطبيعة بما وراء الطبيعة وهي التي تكونها جميعا فيصدق على كلها اسم الخلق أو خلق الرحمن جل جلاله، كما يصدق على هذه المجموعة اسم النور أو رحمة الله تعالى.

أحمد المُهري

13/3/2017

 

#تطويرالفقهالاسلامي

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.