تصحيح أخطائنا التراثية – الإيمان بالغيب

تصحيح أخطائنا التراثية – الإيمان بالغيب

 

 

destiny.jpg

انضم لصفحتنا :

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

 

 

يواجه كل فرد بشري في حياته مسائل غير قليلة لا يمكن تفسيرها بالتفاعلات المادية. و بما أننا نعيش في عالم المادة فسوف نسعى لتفسير كل حادث ضمن الأبعاد الثلاثة المعروفة إضافة إلى بُعدِ الزمان. وإذا عجزنا عن إيجاد سبب لما يحدث فإننا نفسر ما وقع بالصدفة. ولاريب أن لسعي الإنسان وجهده تأثير كبير في وقوع الحادث أو تلافيه، لكننا نرى في أحيان كثيرة بأن الأمر يقع متجاوزا كل الإجراءات الاحترازية. كما نرى بأن إنسانا لا يعرف كيف يكسب، وإن كَسَبَ فإن دخله يتلاشى خلال أيام جراء سوء تصرفه ولكنه في النهاية يغزو قائمة الأثرياءِ أصحابِ الملايين. إنه أُثري رغم أنفه. وهكذا يصل البعض إلى السلطة أحيانا أو يتنعم بالحياة الناعمة الجميلة دون أن يقدم جهدا متواصلا عقلانيا مفيدا في طريق الفوز باللذات. بالطبع فإن الناس يشيرون إلى الأول بأنه إذا جاء القدر عمي البصر، كما أنهم يشيرون إلى الثاني بأن (فاز باللذات من كان جسورا). ليسوا خاطئين ولكن ليس ما يقولونه يمثل العلة الكاملة. هناك في الواقع هيمنة غريبة خلف كل ما يقع. هذه الهيمنة هي التي تمثل مدير الكون العظيم الذي خلق كل شيء ليدبر أمورها ويديرها إدارة قوية حسنة هادفة تُوصل كلَّ مخلوق  الهدفَ الذي خُلق من أجله.

ليست هذه الهيمنة بيد إنسان ولا شيطان أو جن ولا ملك ولا أي ذي قوة أخرى. إنها في أعمق أعماق الغيب الذي لا يمكن الوصول إليه لا بالآلة ولا بتحليل الحوادث والمعلومات ولا بأي طريق آخر. ليس هناك شريك للمهيمن كما ليست بيدنا وسيلةٌ لدراسة كنه السياسة الحكيمة التي تدير كل ما في الوجود من مقومات وآثار. هذه هي هيمنة رب العالمين الذي أعلن بأنه لن يُعلِمَ أحدا ما ذا يفعل. ذلك فيما عدا ما يريد لنا أن نعرفه ونعلمه فيبعث رسولا يسير تحت مجهر الربوبية ليخبرنا بذلك. إنه سبحانه يريد لنا أن نعرف شيئا عن كيفية الحساب وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، كما يريد لنا أن نعرف بعض حقائق الوجود ونتعرف قليلا على بداية الخلق وكيفية الحياة واستمرارها وبعض المسائل الأخرى التي يراها مناسبة لنا وللهدف الذي أتينا من أجله. ولكننا لن نعرف ما يجول في رؤوس الآخرين أو وقتَ الوفاة أو أرضَها وكيفيتَها أو أخبارَ تحرك الشياطين أو ما نكسبه غدا.

وواضح بأنه سبحانه يريد منا أن نتعرف على الله تعالى ونؤمن به ونستيقن باللقاء معه سبحانه وتعالى كما يريد لنا أن نقوى على محاسبة أنفسنا وموازنتها لنعرف كيف نصلح نفوسنا ونعدِّل وجهة أفكارنا وأعمالنا. يريد لنا أن نؤمن بأنه يعرف عنا كل شيء وقادر على أن يفعل بنا كل شيء. من أجل ذلك فنحن نحتاج إلى أدوات كافية للتعرف على الذات القدسية بعضَ الشيء ولمعرفة أنه يعرف كل شيء عنا ويُقدِّر مستقبلَنا ومستقبل كل الناس ومستقبل الجن معهم. هذه الآلة هي التي يكسبها المرء لو أن الله تعالى وجَّهَ العقلَ الإنسانيَّ لديه بقبول الغيب وبأن هناك مسائل موجودة وتصدر أبدا ودائما ولكن ليس بوسع المرء أن يُحيط بها. وأنى لنا ذلك ونحن لا نلمس الغيب لمسا ماديا محسوسا؟ هذا ما تؤكد عليه القرآن الكريم وسورة البقرة بالذات، أن الهدى تأتي من رب العالمين لمن يستحق الهدى فحسب؛ وليس للرسل أية قدرة للتدخل في ذلك. إنهم مبشِّرون ومنذِرون بلسان قومهم لا غير. إنهم يبشرون ويُنذرون الذين يؤمنون بالغيب دون غيرهم. وهل يكفي الإيمان بالغيب ليشعر المرء بحقيقة الإنذار والتبشير التي يقدمها الرسل لقومهم ثم تنتقل إلى بقية الناس؟ كلا، لا يكفي بل يجب على الذي يريد أن تنطبع نفسه على آثار الحقائق فلا ينجرف وراء اللذائذ الآنية المؤقتة، يجب عليه أن يقيم الصلاة وينفق مما رزقه الله تعالى ويؤمن بالأنبياء وبالكتب السماوية ويعتقد بلقاء الله تعالى يومَ القيامة. كل ما دون الإيمان بالغيب يتأتى لو آمن المرء بالغيب الذي لا يمكن أن يؤمن به إلا من أصلح نفسه وأبعدها عن الدرن والظلم.

وليكن واضحا بأن الغيب الذي ينطق به كتاب الله يعني ما هو مغيب عنا وليس مغيبا عن الله تعالى. إن كل شيء وكل أمر وكل نية أو قصد فإنه مشهود من الله تعالى وليس أمام الله العظيم غيب أبدا. الموجودات التي كانت أعداما فأوجدها الله تعالى تشهد شيئا وتغيب عن شيء آخر حتى الملائكة لا تشهد كل شيء. ألم تر أن الله تعالى يقول في البقرة: قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿33. فهناك ما يخفيها الملَك المقرب وهي خفية على زملائه الملائكة ولكنها ليست خفية على الله تعالى. فالملائكة لها غيب وشهود أيضا، ولذلك فإن الله تعالى يتحدث في الواقع عن الغيب الذي هو غيبٌ بالنسبة لكل الموجودات غيرَ الذات القدسية جل جلاله.

هذا الغيب يشمل فيما يشمل:

  1. المستقبلَ الغامضَ على الكل غيره سبحانه. ذلك لأنه هو وحده الذي يبرمج للمستقبل وليس ضروريا أن يُعلِم أحدا من خلقه شيئا عن ذلك الأمر.
  2. ما يُخفيه الخلق من أفكار وأهداف ونوايا فهي مشهودة لله تعالى ولعل ما يخفيه البشر يكون مشهودا لبعض الملائكة لأن ربهم سبحانه قد حملَّهم بعض المسؤوليات تجاه البشر. فهم يعلمون بعض ذلك لضرورة الواجب والوظيفة.
  3. الحركةَ الطبيعية للكواكب والمجرات والأجسام المادية الضخمة كثيرا. تلك خافية علينا كما نرى فعلا، ويُحتمل أن تكون خافية على الملائكة أيضا. وعلى كل حال فلو كان بعض الملائكة على علم ببعضها فهي ليست مشاعة بينهم. وهكذا فلا يعرف أحد سر السماوات والأرض ولا يمكن أن يكون لله شريك في إدارة المواد المُرَكَّبة في ملكه سبحانه وتعالى.
  4. خبرَ الساعة أو التطورات الكونية الشاملة إضافة إلى ما هو مختص بكامل نظام شمسي واحد. إنها خارج نظام الطبيعة ، وتنتظر أمر الله تعالى. لا يمكن للدمار الكوني الشامل مثلا أن ينتظر استعداد الطبيعة للدمار لأن الزمان حسب تقدير العلماء فوق الحسبان ولا داعي لانتظار ذلك. هناك يأتي أمر الله تعالى في ظاهرة مخلوقة تسمى بالنفخ في الصور. هذا الموضوع لا يمكن أن يَعلَمَ به أحدٌ من الممكنات وسيبقى في علم الله تعالى حتى يظهر بأمره وإذنه جل جلاله.

والغيب يشمل عدة مسائل كلية وجزئية في القرآن الكريم ولعل التي يريد الله تعالى لنا أن نعرفها هي  مجموع تلك المسائل، لا غيرها فلا يفيد التشبث بغيب خارج القرآن الكريم وهي:

  1. إيمانُ الإنسان المؤمن بالله تعالى، وقبولُه دعوةَ الرسل المرسلين إليه،  ليس متأثرا بما يقوله الرسل في الواقع ولو أن الرسل يزيدون الشخص علما بالحقائق. ولكن الإيمان تابع للخشية الخفية الموجودة داخل قلوب بعض الناس الذين نراهم في الظاهر وقد تقبلوا الحقيقة حينما سمعوا عنها. قال تعالى في سورة يس: وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿10 إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴿11. إن الرسل الكرام يؤدون واجبهم فيبلغون رسالات السماء بكل إخلاص وأمان والناس يسمعون فيؤمنون أوْ لا يؤمنون باختيارهم. ودور الرسل ينحصر في تبليغ الرسالة ليميز الله تعالى الذين يخضعون للحقيقة من الذين يتكبرون على الحقائق المحضة. ولو أن الله تعالى أعطى الرسل السيطرة الكاملة على نفوس غيرهم ليُدخلوا فيها الهدى لكان ذلك ظلما على الذين لم يحضروا الرسالات ولاختلت هيمنة الجبار جل جلاله. ولذلك وضع الله تعالى العبرة بالشخص نفسه ومدى تقبله للحقيقة إذا أتته لا بالرسل ومقدار سعيهم.
  2. القلوب الفاسدة تُخفي بعض الصفات التي لا يُمكن إثباتها إلاّ إذا أُجريت عليها اختبارات خاصة لا يعلمها الناس إطلاقا، ولكن الله تعالى على علم بها وسوف يختبر بها الناس حتى لو كانوا مؤمنين. ذلك ليتبين حقيقتهم وحقيقة ما يُخفونه عن أبصار الناس. قال تعالى في سورة آل عمران: ما كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿179 وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿180. مفهوم الآية 179 هنا، تؤكد ما جاء في الآية السابقة وتؤكد بأن الهدى مرتبط بالنفوس التي لا يعلم أحدٌ حقيقتها غير الله تعالى. إنه وحده الذي يتصرف في النفوس كما يشاء ويريد سبحانه وتعالى.
  3. نتائجُ الأفعال تابعة للكثير من الحقائق التي لا يعلمها الفاعلُ البشري إلا قليلا ولكن الله تعالى يعلمها جميعا. قال تعالى في سورة الأعراف: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿188. وقال في سورة السجدة: يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴿5 ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴿6. وقال في الأعراف: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴿188. وقال سبحانه في سورة الرعد: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ﴿8 عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.فلو كان المرء على علم بكل المتغيرات لكان جديرا وقادرا على أن يتنبأ بالنتائج إلى حد كبير فيستكثر من المكاسب ويقلل من الخسائر. ولعل السر في عدم إفصاح النظام الكوني عن المتغيرات بكاملها هو عدم تعريض الاختبار للخطر. فالصحيح ألا يكون الشخص على علم كامل بكل شيء فسوف يوفق عملَه مع الحقائق التي يعلمها فلا يخطئ ولا يخسر ولا يتبلور حقيقةُ نفسه.فهو إن يجهل الحقائق سوف يبرمج حياته على أساس المبادئ النفسية أكثر من التوجه للنتائج الحتمية عند تدبير الأمور فيكون عمله صنيعا نفسيا لا صنيع الضرورات والحتميات الطبيعية.
  4. ظاهر التركيبات الخَلقية لا يُتيح فهم النتائج التي تحصل تبعا لتفاعل هذا الخلق مع غيره من حقائق الوجود مادية وغير مادية، حوادثَ أو أصول، فالمستقبل الطبيعي لكل مخلوق خاف على الممكنات وهو من الغيب طبعا ولكن الله يعلمه. قال تعالى في سورة البقرة: قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿33. بالنسبة لآدم. فإن آدم أقدم على تسمية الأشياء التي يتعامل معها باعتبار حاجته إلى التسميات. إنه في معزل عن حقائق الكائنات بعكس الملائكة الذين هم على علم بالحقائق ولا يحتاجون إلى التسمية بل يُشيرون إلى كل شيء بحقيقته التي تغاير حقيقة الشيء المشابه ظاهريا. لكن آدم ينظر إلى هذه البقرة ولا يرى غير البقرة وإلى البقرة الأخرى بنفس الحقيقة فيسمي كل واحدة منهما باسم يميزها عن أختها ليتسنى له التعامل مع كل منهما مُمَيَّزَةً عن الأخرى. ونعرف أهمية هذه العملية التي تبدو بسيطة في ظاهرها إذا تعمقنا في تفسير نفس الآيات بإذن الله تعالى.فكان آدم وما سيقوم به خافيا تماما على الملائكة ولا يمكن لهم معرفة السر في تقدير رب العالمين جل جلاله بإحداث هذا الموجود الغريب والمعقد مع ما ينطوي عليه من ضعف بدني يستوجب الكثير من الحذر حين مرور الملائكة والجن في أجواء سير آدم وحواء وسلالتهما إلى نهاية حياة البشر في الأرض.
  5. ما يُخفيه الملائكة فردا فردا من أفكار أو تصورات في أذهانهم فهي خافية على غيرهم وعلى بقية أفرادهم إلا الله تعالى الذي يُحيط بكل شيء علما. نفس الآية السابقة بالنسبة للملائكة، وبأنه سبحانه وتعالى يعلم ما كانوا يكتمون. لعل الملائكة بقوا إلى فترة غير منتبهين لأهمية انطواء الموجود الإنساني على التحكم في أسماء الأشياء بدلا عن حقائقها فبقوا يكتمون تعجبهم من اهتمام ربهم بخلق الإنسان. لقد انكشفت الحقائق شيئا فشيئا للملائكة الكرام وهم يُتابعون خلق آدم وحواء وحياتَهما الأولى وكيفية تصديهما للمسائل وكيفية تفاهمهما مع بعضهما البعض دون الحاجة إلى فهم حقيقة وجودهما. هناك عرفت الملائكة بأن الله تعالى قد خلق موجودا غريبا ينطوي على مواهب خافية تتجلى شيئا فشيئا وهو في ضعفه عن النظر إلى الحقائق التي تؤثر فيه دون أن يراها أو يلمسها بحواسه المختلفة. وفي هذا اختبار تدريبي للملائكة أنفسهم الذين يخافون الله تعالى لإحساسهم وشعورهم بعظمة الجبار العظيم ولكن الإنسان لا يشعر حقيقة الخالق إلا إذا استعمل عقله وفكره وصرف الوقت في التفكير في الذات القدسية. وهكذا انجلى سر الخلق الأخير وعلم الملائكة أنهم لا يعلمون الغيب فعلا.
  6. وكلُّ إنسان أو مجموعة من الناس يُخفون في قلوبهم ما لا يعلمه إلا الله تعالى من أغراض وأهداف حسنة أو سيئة. قال تعالى في التوبة: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿94.فالله سبحانه و في هذه المناسبة، قد أخبر رسوله ببعض الكوامن التي أخفاها المنافقون المتخلفون عن الحرب فلا يتعاطف عليه السلام معهم ولا يقبل عذرهم. وأما في يوم القيامة فسوف يكشف الله تعالى حقيقة قلوبهم التي كانت وراء أعمالهم فينكشف للملإ كل عوامل تخلفهم ويتعرفون على أهدافهم التي كانوا يخفونها عن الناس.
  7. هناك مشهودات مرئية في السماوات والأرض وهو ليس بخاف عنا ويمكننا مشاهدتها لو تمكنا من الوصول إليها وهناك خفايا غيبية لا يمكن لنا مشاهدتها مثل ما يخفيه الناس في صدورهم والله تعالى هو الذي يعلم كل شيء عن كل شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. آل عمران:  إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ﴿5﴾. وقال في سورة سبأ: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴿2 وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ ولا فِي الأرْضِ ولا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ ولا أَكْبَرُ إلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿3 لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿4. فهو سبحانه يعلم كل حيثيات القلوب وحالاتها ليقف على دوافعهم وأهدافهم ومدى قوتهم وضعفهم درءاً للظلم وتحقيقا للقسط. وقال في سورة فاطر: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿38. ولعل السر في الخلط بين ما في الصدور وما في تخوم الأرض وألباب السماء هو أن معرفته سبحانه بما في أعماق الشمس مثلا لا تقتصر على مقدار الغاز الموجود من كل نوع ولا مقدار الحرارة بل في ما سيؤول إليه أمر الشمس عند حصول التغييرات الكمية والكيفية فيها. وما في صدور الناس من حقائق تنبئ عما سيؤول إليه أمرهم يوم القيامة وهي غير خافية على خالق السماوات الذي هو بنفسه سوّى هذه النفوس، جل جلاله.
  8. كل الحوادث القديمة أو التي تحدث أمام عيون غير عيوننا فهي بالنسبة لنا غيب ولكن الله تعالى شاهد عليها جميعا بالطبع. قال تعالى في آل عمرن: . ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿44. وقال تعالى في هود: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿48 تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴿49. ووضح تعالى لنبيه ولنا في سورة يوسف خفايا إخوان يوسف في سورة يوسف: ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴿102. وفي ذكر ذلك دليل واضح على أن ليس من شأن الرسول وأتباعه أن يعرفوا أكثر مما عرفوا عن قصص الماضين. بالطبع لا يرغب الله تعالى في إظهار مكنونات النفوس للذين هم في غرف الاختبار بل يُظهرها جميعا حينما يكون الناس بمجموعهم في حالة واحدة بعيدين عن الاختبار وبعيدين عن أي انتفاع من قصص غيرهم.
  9. الكليات العلمية التي يمكن تطبيقها على الجزئيات المناسبة والمماثلة ليست صحيحة بالضرورة إلا إذا أتتنا من مصادر مرتبطة بالسماء. ولذلك نرى الكثير من الكليات العلمية تتغير لدى العلماء والله تعالى ليس بخيلا على عبيده في تعليمهم حقائق الوجود ليخرجهم من الظلمات إلى النور. إن أحد مصادر  نشر العلم الإلهي هو الرسل الكرام الذين يتولون بيان ثقافة السماء لبني الإنسان. قال سبحانه في سورة التكوير: وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ﴿23 وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ﴿24. والغيب هنا إشارة إلى القرآن الكريم الذي هو مفتاح الكثير من الكليات العلمية. ولا يخفى أن في القرآن الكثير من الخفايا العلمية التي يُظهرها الله تعالى شيئا فشيئا. فعدم إظهار ذلك يوم نزول الوحي ليس مشعرا بأن الله تعالى بخيل على عبيده بل هو بسبب العبيد أنفسهم من حيث عدم حاجتهم إلى المزيد من الحقائق العلمية التي قد تضرهم وتضر مستقبل الأجيال القادمة بعدهم.
  10. و هكذا المستقبل وما سيخصصه الله تعالى لعبيده فهو أيضا من الغيب ولا يعلم عنه أحد شيئا. قال سبحانه في سورة مريم: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ َلأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا ﴿77 أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ﴿78.وتستهدف الآية موضوعا آخر بالطبع، فإن هذا الكلام صادر ممن يؤمن بالله تعالى ولكنه يكفر بما أنزله سبحانه. والقرآن يستشكل عليه أنه لو كانت المتغيرات بيد الله تعالى فكيف تسمح لنفسك أن تدعي بأن الله تعالى سوف يؤتيك المال والولد دون أن يكون لديك عهد منه سبحانه. هذه حال كل الذين يظنون بأن الله تعالى سوف يغفر لهم ذنوبهم بسبب تشبثهم برسله وحبهم إياهم وظنهم بأنهم سوف يتوسطون عند الله تعالى ليغفر لهم يوم القيامة. فالله تعالى ينصح الناس ألا يخاطروا بآخرتهم على حساب الظنون والاحتمالات فليس لأحد أي امتياز لم يسبقه وعد منه سبحانه. وهو سبحانه لم يعط وعدا عدا المحاسبة الدقيقة وبأنه سوف يلاحظ مثقال ذرة من الخير كما يلاحظ مقدار ذرة من الشر ليريها الذين أتوا بها. اقرأ الآيات الثلاث التي تليها رجاء.
  11. حينما يرى الذي يحب الصيد صيدا متاحا له وهو في الإحرام، فإنه يسعى لتبرير ما سيأتي به فيُبيح لنفسه القيام بالصيد ليستمتع بهوايته والله تعالى يعلم ما يُخفيه في تلك الحالة ولكنه هو الذي لا يلتفت إلى ما اختبره الله تعالى به وهو يُبليه بإتاحة الفرصة له للصيد. فمثلا يقول لنفسه: إن حفظ النفس واجب ولو تركت هذا الصيد فلعلي أموت جوعا أو مرضا أو لعل بعض إخواني من الحجاج يحتاجون إلى لحم هذا الصيد، فواجب علي أن أقوم به ليس من أجل التمتع بل لأمر معقول. هذا النوع من التبريرات غير خافية على الذات القدسية جل جلاله. قال تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿94. ومن الغريب أنه سبحانه يُنذر الناس قبله في القرآن ويقوم به بعضهم احتمالا. وهذا الاختبار ليس خاصا بالصيد بظني، بل هو يشمل كل ما أوتي الإنسان من قدرة على تذليل الطبيعة مثل بناء أو شراء البيت أو مكان العمل أو مكان اللهو والراحة، ومثل القدرة على القيام بالأعمال الاجتماعية أو العلمية الكبرى فكلها اختبارات لا يعلم الناس ما يخفيه أصحابها والله من ورائهم ناظر ليختبرهم.
  12. الغيب المتاح للرسول مغاير للغيب المتاح للملائكة المقربين. فلكل منهم مجاله الذي يعمل ضمنه وحاجته إلى نوع من المعلومات التي لا تأتي إلا من الله تعالى، ولو أن الملائكة هم الذين ينقلون العلم المغيب عنا إلى الرسل. لكن هذا العلم يتفاعل مع معطيات كل منهم بشرا أو ملكا فيتحصل في ذهن كل منهم مفاهيم خاصة به لا يشاركه فيها الآخر. فلا الملائكة يُنافسون البشر علميا في الواقع ولا العكس. سبحان البديع الحميد جل جلاله. قال تعالى في سورة الأنعام: قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ ﴿50. وتأكيدُ الرسول على اتباعه ما يوحى إليه هو بلفظ المتكلم لوحده، مشعر بتحقق فهم خاص به عليه السلام للوحي الذي يأتيه عادة عن طريق الملائكة. ولذلك أمرنا الله تعالى أن نصلي عليه ليتجلى لنا فهمه هو عن الكتاب الذي أُنزل باللغة والكيفية التي يُدركها رسول الله كما يتضح ذلك في سورة الأحزاب بإذن الله تعالى.
  13. لله تعالى في خلق وإيجاد الممكنات هدف حكيم لا نعرفه حق المعرفة وله سبحانه في تنويع الممكنات وتقسيمها بالطريقة البديعة التي نراها، مجردات ومركبات، كرات غازية وصلبة، جمادات ونباتات، حيوانات وبشرا، جنا وإنسا، أبيض وأسود وألوانا، وما إلى ذلك من تقسيمات بديعة لا تعد ولا تحصى بالنسبة لنا، فله في هذا التنويع الحكيم أهداف أيضا. وينحدر من كل قسم منها مجموعات متغيرة بحسب الزمان والمكان والعِرق والحالة وغير ذلك من أطوار، فلله تعالى في كل تقسيم فرعي هدف أو أهداف فرعية أيضا. كل الأفعال التي يسمح بها تُصب في الأهداف القريبة وكلها تنطبق مع الأهداف الأكثر بعداً حتى الهدف النهائي للخلق. هذه المفاتح الغيبية محفوظة عند رب العالمين وحده لا شريك له ولا ند جل جلاله. قال تعالى في سورة الأنعام: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴿59. وقال فيها أيضا: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿73.
  14. لله على خلقه حجج وله آيات يريها إياهم متى ما شاء وكلها في الغيب. ليس في القرآن حجج بشرية كما يزعم الناس وينعتون بعض علمائهم بها وهو كبير عند الله تعالى لأنها منسوبة إليه ولم يُعَيِّنها الله تعالى في كتابه الكريم. والذين اختلقوا هذه الحجج وهم يعلمون فعليهم أن ينتظروا حكم ربهم فيهم، وأتمنى أن يجهلوا الموضوع فلا يؤاخذهم الله تعالى على جهلهم. هناك آيتان بشريتان هما مريم وابنها المسيح وقد ذكرهما الله تعالى بهذا العنوان أكثر من مرة ولم يذكر آية بشرية أخرى بالاسم. وهناك آية بشرية أخرى لا نعرف اسم صاحبها وهي مذكورة في الآية 259 من هذه السورة الكريمة وسنشرحها في مكانها إنشاء الله تعالى.كما أنه سبحانه جعل جسد فرعون آية أيضا.  والله تعالى يعلم ما ذا سيفعل بالذين اختلقوا له سبحانه آيات وآيات عُظمَيات إن كانوا يعلمون. ونبينا الأمين لا يعلم شيئا عن آيات الله فضلا عن أن يعين شيئا منها. إن آيات الله مغيبة حتى عن النبي وتظهر حينما يشاء الله تعالى ذلك. هذا ما تقوله الآية التالية من سورة يونس: وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ﴿20. والآيات البشرية كلها آيات باعتبار فعل الله وليس باعتبارهم أنفسهم فمريم في واقعها ليست آية ولكن فعل الله فيها آية.
  15. إن معرفة الناس  بحقائق نفوسهم التي تُدخلهم الجنة أو النار ليس متاحا لأحد غير الله تعالى. هناك الكثير من الحيثيات المؤثرة في معرفة أسباب ما يظهر منهم من أعمال قد تكون ضارة أو مفيدة. وما أظن أن الملائكة يعرفون ذلك وفهمه مقتصر على الذات الربوبية سبحانه وتعالى. قال سبحانه في سورة الزمر: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿45 قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿46.لطالما رأينا مثل هذه القلوب التي تشمئز من ذكر الله تعالى وحده وهو فعلا دليل على عدم الإيمان بحقيقة الآخرة وشرك بالملكوت الأعلى، رأيناهم يعودون إلى الله تعالى ويؤمنون به وباللقاء معه وينفون عن الذات القدسية كل شريك. فالحكم فعلا لله وحده، فاطر السماوات والأرض، جل جلاله.والمؤثرات من الكثرة بحيث لا يمكن لنا معرفتها بدقة حتى بعد الموت والوقوف أمام الله تعالى. ولذلك لا يمكن لأحد غير الله تعالى نفسه أن يحكم بين العباد.
  16. وما أمر الساعة إلا أمرا غيبيا خفيا على الممكنات وغير معلوم إلا عند الله تعالى نفسه. وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿77 من سورة النحل. ويمكن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على دقة تفاعل الموجودات مع بعضها البعض وهي في طريقها إلى الفناء، فسوف تحين اللحظة الطبيعية التي تتوقف فيها الكون لحظة غير محسوسة لتغير وجهة حركته إلى الوجهة المعاكسة بالكامل ليجري باتجاه الفناء الفعلي عوضا عن وجهته الفعلية التي تجري باتجاه التكون والتكاثر. والعلم عند مولانا العظيم جل جلاله.
  17. جنات الخلود التي وعد الرحمن ليست موجودة اليوم ولم تُخلق بعد. إنها في غيب الرحمن نفسه، هو سبحانه يعلم كيف ومتى وفي أي مكان سيخلقها أو يخلق كلا منها في مختلف الأنظمة الشمسية لمختلف سكان الأراضي التي منها أرضنا. قال سبحانه في سورة مريم: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا ﴿61.
  18. لا يمكن أن يكون الإنسان موجودا غيبيا لأنه  في عالم المواد ومحاط بالأبعاد الثلاثة  فلا يمكن أن يكون الإنسان من سنخ الله تعالى نفسه الذي تقدس عن عالم المادة فهو مجرد محض. قال سبحانه في سورة المؤمنون: قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿88سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴿89 بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿90 مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿91عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿92. إن كل موجود غير الله تعالى فهو بطبيعته لا يملك علما ذاتيا من تلقاء نفسه فكيف يمكن أن يكون أحد منسوبا إلى الله تعالى الذي يملك العلم بذاته ولا يكتسبه. والباقون يتعلمون ما يشاء الله تعالى تعليمهم إياه. ولا يمكن أن يجعل الله تعالى من عبيده شركاء لنفسه سواء بالبنوة أو بغير ذلك لأن ذلك يستتبع قيامهم بأعمال إلهية فيخرج الملكوت من يد الله تعالى وسوف يذهب كل إله بما خلق.فالحقيقة أن الله تعالى وحده الذي يمسك أزمة كل الأمور بيده ولا ند له ولا شريك ولا معاضد. سبحانه وتعالى عن ذلك.
  19. والخلاصة أن الله تعالى لا يمكن أن يدخل عالم الشهود لأن هذا العالم مخلوقٌ ولا يسعُ ربَّ العالمين. إنه سبحانه في عالمه وهو عالم غيبي لا يمكن الوصول إليه سبحانه. إنه جل جلاله محيط بعالمنا الذي يمكن أن يكون مشهودا لنا كيفما ومتى ما شاء الله تعالى ولو بصورة جزئية. نحن في الواقع نشهد ونحضر قسما بسيطا جدا من عالم الشهود. ولا نرى كل جزئيات هذا القسم المشهود بالطبع. فكيف يمكننا أن نؤمن بالذات القدسية جل جلاله لو لم نؤمن بالغيب؟ وقد قال سبحانه إضافة إلى الآية الثالثة من سورة البقرة ما يفيد الخشية بالغيب وهو مشابه للإيمان بالغيب ونتيجتهما واحدة في الواقع. تلك في سورة الأنبياء: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ﴿48 الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴿49. وأما ما في البقرة فهي:الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿3.

ونستنتج من هذا البحث المختصر والبسيط الممتع عن الغيب في أعماق القرآن الكريم بأن الغيب في الواقع يشير إلى الحقيقة الخالصة التي لا تسع الممكنات أن يحيطوا بها ولكنهم يتوقون إليها بطبيعتهم.نرى في سورة البقرة بأن الملائكة يتعشقون فهمَ الحقيقة وهم لا يُدركونها في الواقع ، وأما البشر فهو تواق بكل جد وجهد لمعرفة الحقيقة. والنزعة الطبيعية التي تنطلق نحو الحقائق هي نزعة حب الاستطلاع. إنها دون شك غريزية طبيعية نشاهدها لدى أصغر الأطفال ولدى الحيوانات وحتى الحشرات منها. لكن الناس على الأغلب يوظفون تلك الغريزة لصيانة شهواتهم .  وبما أننا بشر ضعفاء نواقص فإننا لو وظفنا بعض غرائزنا في مجال يأخذ وقتا طويلا فإننا لضعفنا ولقلة ساعات نشاطنا عاجزون عن توظيف نفس الغريزة لبقية مسائلنا التي قد تكون ضرورية أيضا.

نرى الملوك والحكام يستغلونها للأمن فلا يبقى لهم مجال لكسب العلم أو الاستزادة من المعارف الحقيقية. ونرى التجار يستغلونها للتعرف على ضمائر الزبائن وعلى مجالات الشراء الواسعة المنتشرة في الأرض، كما نرى الصناعيين يستعملون نفس الظاهرة للكشف عن بعض الحقائق الكيماوية والرياضية والفيزيائية التي تساعدهم على تحسين صنائعهم والسيطرة على الأسواق. والفقراء عادة ما يوظفون نفس الغريزة لمعرفة نفسيات الأثرياء من حيث التأثر العاطفي بالآخرين والمرضى لمعرفة عواقب الأمراض والأطباء لتسهيل التشخيص بحثا عن التفوق العلمي والمهني في العادة وهلم جرا. لقلما نجد أناسا يستعملون غريزة حب الاستطلاع للكشف العلمي البحت بحثا عن الحقيقة وتوخيا لكشف حقائق الوجود والتعرف على ما وراء الأحداث.

والذين يسعون لكشف حقائق الوجود ومعرفة ما وراء الطبيعة والتعرف على العالم التالي و ما سوف يرونه في ذلك العالم وهم قليل بالطبع، فإنهم لن يبلغوا عمق الحقيقة دون التوجه إلى الله تعالى طلبا للغيب وبحثا عن الخفيات. إنه وحده الواقف على كل الحقائق التي يتمتع بإدراك وجودها الذين يبحثون عن العلم والمعرفة. والله سبحانه ليس بخيلا ولكنه ليس مفرِّطاً أيضا. حاشاه أن يُعلِّم الإنسان الدنيوي ما لا يستحقه. على المرء أن يرتقي بنفسه عن حضيض النزعات الحيوانية ليستحق المعرفة فيخضع لله تعالى ليتعلم الحقائق. فالإيمان بالغيب في عمق معناه إيمان بالحقائق الأصيلة المحضة التي لا يشوبها أسباب الجهل وعوامل الظلام. فقوله تعالى في بداية البقرة: هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب، إشارة واضحة بأن الله تعالى لم يترك مفاهيم كتابه عرضة لمن شاء أن يؤوله حسب مزاجه أو تحت ضغوط مصالحه ومصالح من يفيده بل وضحها لنا توضيحا يغنينا عن استجداء ما في جعبة الوصوليين من مسخ سفيه وسخيف لمفاهيم كتابنا العظيم الذي نعتز به ونفتخر بأننا قرآنيون منسوبون إليه. ونعرف أيضا بأن الغيب هو الذي يُدخل الموضوع في قلوبنا دون أن يكون لنا إرادة أمامه، لكننا قادرون على أن نبتعد عن هذه الوعاظ أو نقفل آذاننا بأيدينا فلا نسمعهم.

إن من طبيعة الغيب أن يتعامل في السر وقلما يتعامل في العلن. ولا يمكن لأحد أن ينظر إلى الذي يعلم الغيب لأنه هو بنفسه في الغيب. ولو كان الله تعالى في المشهد لما علم الغيب علما حضوريا لا يحتاج سبحانه لذلك العلم أن يتعلم أو يبحث عنه فهو عنده وأمام عينه. ولذلك لا يمكن أن يكون  الغيب مقولة نسمعها من الناس. إن ما يمكن أن نعرفه عنه فهو نوع غيب ليس لنا إلا أن نؤمن به دون جدل. حتى ضمان الصحة التي تطمئن الإنسان لا يأتينا من عند غير الله . ألا بذكر الله تطمئن القلوب. ذلك لأن ذكر الله وحده ينظف النفس ويجعلها قادرة على التمييز بين الحق والباطل. فالإيمان بالغيب لن يتحقق بدون التوجه والصلاة إلى الله تعالى والتخلص من الأموال والثروات الزائدة التي تُغري الإنسان وتقربه من إشباع أهوائه وشهواته ولا يمكن أن تقربه إلى الله تعالى. وبذلك يتقي اللقاءَ مع الله تعالى حال كونه محَُمَّلا بالإثم ويسعى لتخفيف معاصيه وتكثير عباداته التي تقربه إلى ربه. فإذا ذكرنا ربنا حقيقة وصدقا فإننا نفتح باب قلوبنا لولوج الحقائق في زواياها فنستوعبها بإذن الله تعالى ولا سبيل إلى فهمها غير التماس المعرفة من رب العالمين، فنحن نجني المفاهيم الغيبية ممن هو في الغيب وبأسلوب غيبي أيضا والعلم عند الله تعالى.

وقد قال سبحانه ما يؤيد ذلك في سورة الأنبياء أيضا: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ ﴿48 الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴿49 . كما حدد إدراك نُذُر السماء عن طريق الخوف والتقوى بالغيب لا بالشهود. إنما يمكن أن نراه بعيوننا ليس قادرا على أن يعطينا الصورة الواضحة الكاشفة عن حقيقة النُّذُر. والدليل على ذلك ما سمعناه عن الذين أنزل الله تعالى عليهم العذاب فلم يعتبر بها من لحقهم وكذلك ما نراه اليوم من تبعات العذاب والموت لكل مظاهر الشرك لدى الناس دون أن يعتبروا ويفكروا لتصحيح ارتباطهم بخالقهم. فلا مجال للمعرفة الحقيقية دون رحمة الله تعالى نفسه ولا يمكن أن تنزل الرحمة الكاملة على من لا يستحق لأن ذلك يستوجب  الرحمة  لكل المخلوقات باعتبار أن الله تعالى ربهم جميعا. قال سبحانه في سورة فاطر: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿18﴾. نسأل الله تعالى أن يهدينا لعدم الخضوع لغير الذات القدسية سواء في الشكر أو في الطاعة أوفي الحب . نريد أن نعبد الله تعالى وحده ليهدينا سبيل  الرشاد.  

 

أحمد المُهري

6/3/2017

كتب الأصل في 21/4/2007

 

#تطويرالفقهالاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.