تصحيح أخطائنا التراثية – حقيقة المعاجز

تصحيح أخطائنا التراثية

حقيقة المعاجز

 

المعاجز.jpg

 

قلنا وسنقول بإذن الله تعالى تباعا يوما بعد يوم بأن جدودنا الذين مضوا كانوا يحملون عقلية زمانهم ومكانهم. وقلنا بأن أهل مكة على الرغم من أنهم كانوا أناسا طيبين من خيرة أهل الأرض من قبل مبعث ابنهم رسول الله عليه السلام، ولكنهم كانوا يفكرون هكذا. يمكن للضب أن يتكلم باللغة الفصحى وكل شاعر مسنود بجني يعلمه الشعر وكل ما يخطر ببالك ممكن حتى شق القمر ورد الشمس وسلام الشجر على بشر وتحول صورة الأسد إلى أسد مفترس والزواج من الجن ووو. هذه عقلية الأطفال وقد كنا هكذا حينما كنا أطفالا صغارا نتقبل كل ما يقوله لنا الكبار، ولكننا كبرنا وفكرنا وعرفنا بأن كل ذلك وهم وخيال باطل.

قال تعالى مخاطبا نبينا في سورة الضحى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (7). فلولا ارتباطه عليه السلام بالوحي لبقي في ضلال التطور الناقص للأمة. هذا هو الضلال الطبيعي الذي عم كل الناس الطيبين وغير الطيبين في مكة والحجاز عموما بل في كل الأرض وليس عيبا لأحد، ورسولنا واحد من الأمة.

وقال تعالى في سورة آل عمران: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105). واسمحوا لي أن أوضح الآيات بعض الشيء دفعا للَّبس. الآية 104 لا تتنافى مع قوله تعالى بعدها في نفس السورة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110). كان أهل مكة نسبيا خير أمة أخرجت للبشرية آنذاك. بالطبع أن السبب هو أنهم كانوا محيطين بالحرم المكي الشريف وكانوا يخدمونه ويستفيدون منه فيستقبلون الحجيج ويحترمونهم ويساعدون الفقراء والمحتاجين حماية لبلدهم ولمبادئهم. كانوا يهتمون باللغة العربية ويقيمون أسواق الشعر وكل ذلك كان ضروريا لاستقبال كتاب سماوي مقدر له أن يبقى في الأرض قرونا وألفيات طويلة.

لكن الأمر بالمعروف ليس أمرا بشيء ثابت لا يتغير مثل الأمر بالصلاة والحج. ذلك لأن المعروف في واقعه هو ما يُشهره الله تعالى بين البشر جميعا لتحسين أحوالهم وتثبيت سلامتهم وجلب الأمان لهم ورفع الإنتاج ومحاسبة الظالمين وتوسيع المعرفة وبسط العدالة مثل الديمقراطية والعَلمانية والمؤسسات العلمية والخيرية والمصحات ومراكز التحقيق والتطوير والبرلمانات والبلديات وما شابه ذلك. كل ذلك يتغير بتغير الزمان وتكاثر الناس وظهور الصناعات والحاجة إلى الدفاع. وليست الطقوس المختلفة بين الأديان السماوية والبشرية من المعروف. إنها مختصة بالطبقات وبعضها بالأفراد ولكن المعروف عام لكل البشر بالتساوي دون ملاحظة الجنس والقومية والوطنية والدين.

فأهل مكة كانوا يأمرون بالمعروف المشهور بينهم ولكنهم بعد بزوغ فجر الإسلام العظيم لم يتمكنوا من توطين أنفسهم للتغيير المطلوب منهم. ولذلك شجعهم تعالى بقوله الكريم: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104). فالمعروف الجديد خير بالنسبة للمعروف القديم. والسبب الأساسي في ضعفهم أمام مسيرة التغيير الكبرى هو سرعة التطوير التي تجلت في ذلك الزمان بفضل القرآن والرسول القوي القادر على القيادة النموذجية عليه السلام.

ونعرف منهما ومن آيات مشابهة أخرى بأن جدودنا الماضين في الحجاز كانوا بسطاء نسبيا كغيرهم من العرب والعجم لا يتطورون مع تطور الزمان إلا قليلا. وبما أن نسبة التطور الضروري لديهم لم تكن كافية للمواجهة مع الكم الكبير من الخرافات المنتشرة هنا وهناك فإنهم كانوا يتقبلون الأساطير ويصعب عليهم رفضها. والفترة الرسالية التي عاشوا فيها مع الرسول العربي الكبير لم تكن كافية ليختمر التغيير في عقولهم. قال  تعالى في سورة آل عمران: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ (144). فالتحذير الواضح في الآية هو لتنبيههم على الاستمرار في التحضر والتمدن الإسلامي الجديد وعدم العودة إلى العادات القبلية التي عاشوا عليها قبل نزول القرآن الكريم. لكن الكثير منهم عاد مع الأسف وكما يُقال بأن الولاة يأتون على قدر الناس فإن الأمة المتراجعة ابتعدت عن علمائها الأفذاذ وتوجهت نحو بني أمية ومن بعدهم بني العباس ومن جاء بعدهم من أهل الضلال والفجور.

وبما أن مسألة المعجزة لم تكن واضحة للمسلمين حتى حين وجود الرسول فإن المفترين بدأوا شيئا فشيئا بالغلو في شخصيات زعمائهم الذين مضوا فثبتوا لهم المعاجز والمكرمات وتقبلوا بأنهم كانوا فوق البشر. هذا الغلو كان مفيدا للسلطات الظالمة التي حكمت البلاد باسم الخلافة الإسلامية بمعنى أنهم جميعا خلفاء رسول الله. والواقع أن رسول الله لا يمكن أن يخلف من بعده خليفة لأنه حمل الرسالة السماوية التي ختمت بوفاته فلا معنى للخلافة. لنتصور ساعي بريد ينقل لنا الرسائل ثم مات ساعي البريد وأخبرنا الذين أرسلوا الرسائل بأنهم لن يرسلوا رسالة بعد وفاة مندوبهم. فهل من المعقول بعد الوفاة والإعلان أن نستلم رسائل مشابهة من نفس الذين راسلونا من قبل أم يجب علينا تكذيب كل من ادعى الرسالة وتفنيد كل الرسائل الجديدة بدليل أن الرسول مات والرسالات انتهت.

قال تعالى في سورة الأنعام: وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35). الآية تعني علامة النبوة والتي أظهرها موسى وعيسى بالمعجزات. فرسولنا لم يحمل آية سماوية عدا القرآن الكريم. وقال تعالى في سورة الرعد: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27). والغريب أننا نحن بعد خمسة عشر قرنا لا زلنا لا ندرك سر عدم نزول آية مع خاتم النبيين. وكنت ذات مرة أستمع إلى إحدى التلفزيونات التبشيرية المسيحية وكان المذيع يقرأ الآية الكريمة أعلاه ويستهزئ برسولنا بأنه كان عاجزا عن الإتيان بآية فكيف يتقبل الناس نبوته؟ وكان يقول إذا كان الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فما معنى ادعاء النبوة؟

أخونا المسيحي يجهل معنى النبوة ويجهل معنى التطور البشري كما أظن. وليس عيبا عليه فالمسلمون بأنفسهم يجهلون ذلك إلا قليلا. وباختصار فإن النبوة تعني استلام الكليات العلمية كأنباء من السماء وحيا عليهم. هذا يعني بأنهم كانوا عاجزين عن الوصول إلى الحقائق الضرورية بأنفسهم فلزم مدهم بالوحي ليتعلموا باطمئنان. وحينما يختم الله تعالى النبوة فهو يعني بأن البشرية وصلت حدا يمكنها أن تفهم الحقائق لو تستعمل إمكاناتها العقلية دون الحاجة إلى نبي. والرسول هو النبي الذي يوحى إليه بأن يعلن نفسه رسولا من الله تعالى ليقوم بإبلاغ رسالات السماء كما يقوم بتعليم الناس معارفه النبوية. كل ذلك لأن قانون الرحمة التي كتبها الله على نفسه يستوجب أن يساعدنا ربنا على اكتشاف الحقيقة بما يتناسب مع عقولنا وإمكاناتنا الإدراكية.

ولقد نزل القرآن الكريم ليكون رسولا مخطوطا يحل محل الرسل البشريين لأن البشرية أضحت غير محتاجة للرسل ولا يمكن أن يقوم الله تعالى بإرسالهم عند عدم الحاجة فهو عمل لغو حينئذ والله تعالى لن يأتي باللغو.

فما فائدة تقبل رسالة الرسول لو كانت الرسالة في حقيقتها هي القرآن الكريم الذي بقي بين يدي البشر حتى يومنا هذا؟ ولذلك قال الله تعالى لرسولنا بأن يُخبر الناس بأن لا معاجز بعد اليوم لأن الله تعالى قام بتطوير البشر فوصلوا إلى قمة الإدراك ولا يحتاجون إلى معاجز. لم يبق إلا مسألة أخرى طبيعية وكانت موجودة مع كل الرسل السابقين وهي أن الهدى ليس بيد الرسل ولا يقوم المعجزات بفرض الهدى بل كان ولا زال الهدى بيد الله تعالى الذي يهدي من يستحق الهدى ويترك من لا يستحق ليستولي عليه الضلال ويتولاه الشياطين بالوسوسة والتشكيك في الحقائق.

والمضحك بأن اليهود يعتقدون بظهور رسل أوحي إليهم بعد موسى والمسيحيون يعتقدون بظهور رسل أوحي إليهم بعد عيسى وظهور الرسل دليل على حاجة الناس إلى الرسول لأنهم لم يتطوروا. ثم إن اليهود والمسيحيين جميعا ومن فترة قبل ظهور رسولنا صاروا يعتقدون بعدم ظهور رسول بعد رسلهم السابقين. فهلا يعني ذلك بأنهم آمنوا بأن الرسالات قد ختمت وانتهت؟ ولو تسألهم عن السبب في ختم الرسل يقولون لك بأن الله تعالى خلف لنا كتبا سماوية لتحل محل الرسل. فهل ترون يا إخواننا اليهود والمسيحيين بأن كتبكم تقوم بالمعجزات؟ لقد ظهرت المعاجز على يد موسى وعيسى لأن البشر لم يكونوا متطورين قادرين على الاكتفاء بالكتب السماوية بدليل ظهور رسل بعدهما كما تعتقدون. ولذلك لم يقدر الله تعالى معاجز لرسول الإسلام. فحال رسولنا وحال القرآن كحال التوراة بعد انتهاء رسل اليهود وكحال الإنجيل بعد انتهاء رسل النصارى.

أتمنى أن نكون عرفنا ضرورة المعجزة والآن لنأتي إلى المعجزة لنراها ما هي وكيف يمكن أن يقوم إنسان بالمعاجز.

حقيقة المعجزة:

المعجزة مسألة نسبية تدل على تفوق الذي يأتي بها على غيره بصورة واضحة جلية بأنها أكثر تجليا وأكبر تأثيرا من التطور العلمي العام. نحن البشر نقوم بالمعجزات بالنسبة للحيوانات ولذلك خضعت بعضها لنا. الكلاب والقطط أقوى منا كثيرا ولكننا نخضعهم لنا لأننا متفوقون عليهم ونأتي بما يعجزهم. الحصن والجمال والأبقار أقوى منا أيضا ولكننا مسيطرون عليهن فقوتنا بالنسبة لهن قوة إعجازية باهرة تجعلهن يشعرن بالضعف أمامنا فلا يستعملن قدراتهن البدنية ضدنا لأننا قهرناهن بقدراتنا النفسية. ومعجزة الإنسان للإنسان هي أن يتمكن الشخص الحامل للمعجزة على القيام بأعمال ممكنة ولكنها فوق قدرة من دونه من الناس. لا يمكن أن يقوم أحد بعمل غير ممكن فكل الحركات وكل التغييرات تتم ضمن إطار الإمكان طبعا. فلو كان الذي يقوم بالمعجزة هو الله تعالى نفسه فإنه سبحانه قادر على عمل كل شيء ولكن بقيد الإمكان. ذلك لأن غير الممكن فهو لا يمكن أن يتحقق فالنقص فيه لا في القادر على الإيجاد. فمثلا شريك الله تعالى. ماذا نقول لمن يسألنا: هل الله قادر على أن يخلق شريكا لنفسه؟ لا نحتاج إلى نفي القدرة عن الله تعالى بل يكفينا أن ننفي الإمكان لذلك الطلب. فالله تعالى هو الذي لم يُخلق وأي خلق يخلقه الله تعالى فهو مخلوق ولا يمكن أن يكون خالقا. فليس الضعف في الله تعالى ولكن خلق الخالق الذي لم يُخلق مستحيل فكيف يأتي الله بالمستحيل؟ إنه مستحيل بنفسه ولا يمكن تحقيقه فإذا قام الله تعالى بعمل المستحيل فسنكون حينئذ قد أخطأنا في أننا وضعنا ذلك العمل في خانة المستحيلات بل كان ممكنا بدليل أن الله تعالى خلقه. فالمعجزة نسبية وهي لا يمكن أن تأتي بالمستحيل لأن المستحيل ممتنع الوجود وليس ممكن الوجود.

كيف يمكن أن يأتي إنسان بالمعاجز؟

هذا هو بيت القصيد في هذه المقالة. وقبل أن نفهم ذلك دعنا نعود إلى كتاب الله تعالى لنرى ونحصي الأشخاص الذين قاموا بالمعجزات. ذكر الله تعالى في كتابه الكريم شخصين فقط تمكنا من القيام بالمعجزات؛ وهما الرسولان الأمينان موسى وعيسى عليهما السلام. فلندرس حكاية موسى وهو أول إنسان قام بالمعاجز في الأرض ثم ندرس حكاية منحه القدرة الإعجازية بعد أن كان شخصا عاديا لا يمكنه القيام بأية معجزة. كان موسى من أسرة قوية فكريا وقوية في النسب ومحافظة على كيانها الأسري منذ أن صنع يوسف أسرة بني إسرائيل المؤلفة منه ومن إخوانه الأحد عشر. ولد موسى بصورة عادية حسب الظاهر ولكن في زمان خطير. كان فرعون موسى ناويا تذليل بني إسرائيل ونحتمل بأن السبب هو تفوق بني إسرائيل علميا على أقباط مصر وكان عالم البلاط إسرائيليا واسمه قارون. كنوز قارون كنوز علمية وليست كنوزا مالية كما ظن سلفنا. الكنوز العلمية يصعب فتحها ولكن مفاتيح الكنوز المالية ليست صعبة ولا ثقيلة. كان المفكرون يجثون راكعين أمام إمكاناته العلمية ويكفيه بأنه عالم البلاط الفرعوني. وبالطبع أن فرعون كان مضطرا أن يمنحه الكثير من المال والزينة ليضمن بقاءه تحت سيطرة فرعون. كما كان جمع من بني إسرائيل يديرون البلاط وهم الذين سيطروا على القصر بعد غرق فرعون مع كل وزرائه وكبار رجالاته. وأما المؤمنون من بني إسرائيل فهم عبروا البحر قبل الغرق فلم يرثوا جنات الفراعنة ونعيمهم.

وكان فرعون وحاشيته شديدي الحرص على بقاء السلطة كاملة بيدهم فقرر فرعون إرسال الأطفال الذكور من بني إسرائيل إلى بيوت الأقباط واستخدام أمهاتهم لخدمة أطفالهم حتى يكبروا ويكونوا في خدمة آل فرعون. قدر الله تعالى في تلك المعمعة أن ينجي بني إسرائيل ويجعل بعضهم أئمة وبعضا آخر وارثين للحكم والثروة الفرعونية. وحتى تسير العملية سيرا طبيعيا فإنه سبحانه رأى بأن موسى إنسان قوي وهو في رحم أمه. والله تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى من البشر من كل الحيثيات البدنية والنفسية. اختار الله تعالى موسى ليقوم بالمهمة منذ صناعته في رحم أمه. فاصطنعه الله تعالى لنفسه ليحمل النور العظيم الذي يمكنه من إظهار التفوق على من عاش معه في زمانه ومكانه.

ثم جاء موعد الحمل النوري بعد أن رأى موسى أنواعا من النعمة والفقر ومارس أنواعا من الحياة الكريمة و الخشنة ومر بمراحل الخوف وتدرب على الاستغفار والاهتمام بالدعوة إلى الله تعالى طيلة حياته التي قدرها الله تعالى له لذلك الأمر. رأى موسى نور الله تعالى على شكل نار فقربه الله إلى تلك النار وأدخله من زاوية لا تحرقه النار ويتأثر كيانه النفسي بها فقط (وقربناه نجيا). وهكذا تغير موسى وصار إنسانا آخر قادرا على عمل المعجزة. هناك آثار نفسية أخرى لا يمكننا التحدث عنها في هذا المختصر وسنفعل ذلك بإذن الرحمن فيما بعد. تلك الآثار كما أظن مشتركة بينه وبين مريم وعيسى ومحمد ويحيى عليهم جميعا السلام كما أحتمل. وأقصد بكلمة المشتركة، التماثل والتشابه طبعا.

وحتى يعلم فرعون وقومه بأن الذي يقوم بالحركات الإعجازية هو موسى نفسه وليس العصا؛ فإن الله تعالى أمره أن يريهم يده بعد أن يخرجها من جيبه ليروها ساطعة فيعلموا بأن موسى عليه السلام هو صانع المعجزة. ولذلك اكتفى به مرة واحد لأن العصا التي تحولت إلى ثعبان في المرة الثانية فإنها حولت كل المواد الفيزيائية التي جمعها السحرة إلى طاقة انتشرت في الجو فانبهر فرعون ووزراؤه والسحرة والناس جميعا ولم يكن هناك حاجة لإظهار اليد. لقد مسك موسى الثعبان وعادت العصا ظاهرة أمام العيان. فموسى عليه السلام حمل طاقة نورية مهيبة قادرة على التدمير كما كانت قادرة على فتح طريق يابس في عرض البحر وعمل جدار مائي على طرفي الطريق بقوة النور الطاقوي الذي كان يحمله موسى وبمجرد ابتعاد موسى عن الطريق عادت المياه إلى مجاريها الطبيعية فأغرق فرعون وجنوده الذين ظنوا بأن الطر يق مفتوحة إلى الأبد.

وأما عيسى عليه السلام فهو كان حاملا لذلك النور العظيم من لحظة صناعته في رحم أمه. ذلك بأن الروح القدس صنع نفسه وهو في الخلية الأولى من نور الله المباشر فصار عيسى حاملا للنور القوي القادر على عمل المعجزات. وكان آدم كذلك ولكنه عصى ربه ففقد القدرة الإعجازية كما أظن والعلم عند الله. وأظن بأن آدم في تلك الفترة وقبل أن يفقد القدرة الإعجازية فإنه وضع مقومات اللغة من اسم وفعل وحرف وبدأ يتحدث إلى صاحبته بالأسماء، والعلم عند الله تعالى .

وليس عمل عيسى مقتصرا على المعجزات الخارقة بل حمل علما غزيرا أيضا. ومن الأفضل القول بأنه صار قادرا على كسب العلم بقوة خارقة بفضل النفس القوية التي كان يحملها أو كانت تحمله. نحن البشر جميعا نحمل ذلك النور ولكنه ليس مباشرا بل هناك وسائط متعددة بيننا وبينه ولذلك فنحن نفكر وندرك إدراكا يفوق بقية الكائنات المشابهة لنا. لكن سرعة إدراكنا أقل من سرعة إدراك موسى وعيسى. إدراكنا كافية لنخوض في الأعماق ولندرك بأن ما فعله موسى وعيسى أقوى من قدراتنا البشرية. وكل ذلك تمثل آيات لإثبات الرسالات فقط.

وهناك حيوان حمل نفس النور وهو تلك الناقة التي قامت بالعمل الإعجازي لصالح دعوة صالح عليه السلام ولذلك سماها الله تعالى “ناقة الله” ولم يسمنا نحن مثلا بشر الله بل سمانا خلفاء الله. فنحن مخولون بالإرادة وهي خاصة بالله تعالى ولكننا لا نقوم بالمعجزات. معجزة تلك الناقة كانت بأنها تشرب كل المياه المخصصة لقوم صالح ولأنعامهم وزرعهم في يوم كامل ثم لا تشرب في اليوم التالي ليستفيد كلهم عدا الناقة من تلك المياه. هكذا كانت تحول الناقة تلك الكم الهائل من المياه إلى طاقة تنتشر في الهواء على غرار ما فعلته عصا موسى بالمواد الجامدة. وحينما عقرها ذلك المجرم بموافقة قومه ومباركتهم فإن نفس الطاقة الإلهية أو النور الإلهي صعدت إلى أعلى وجمعت السحب خلال ثلاثة أيام لتتحول إلى عاصفة تدمر القوم جميعا كما أحتمل والعلم عند المولى عز اسمه.

يمر الإنسان بمراحل معقدة حتى يستعد لاستقبال النور المباشر كحالة موسى أو يبدأ الله تعالى بتحضير الشخص من قبل ميلاده ليحمل النور المباشر كما هو حال المسيح. هكذا يمكنه القيام بالمعجزات ولكن بقية الرسل الكرام غير موسى وعيسى لم يمروا بتلك المراحل ولم يمهد الله تعالى لهم قبل ميلادهم فلم يتمكنوا من القيام بأية معجزة. وحينما ننظر إلى معاجز النبيين الكريمين ونسعى لفهم العامل المشترك بينهم وبين الناقة سنعلم بأن الرسول حين المعجزة يفقد كل إرادة ويسير وفق إرادة السماء. ولذلك لم نسمع بأن موسى رمى عصاه قبل أن يأمره الله تعالى ولذلك لا فرق بينهما وبين الناقة التي لا تملك الإرادة أصلا. فقدان الإرادة هو القاسم المشترك بين الإنسان والحيوان حينما يريد الله تعالى أن يقوم بالإعجاز والعلم عنده سبحانه.

وأما المعاجز التي يذكرها أصحاب الديانات لمن يحبونهم فهي كلها لا تتعدى ادعاءات غير مشفوعة بأي تأييد إلهي ولذلك نرفضها جميعا. المنامات والفلسفة والعلوم الأصولية كلها لا تتجاوز التخيلات في هذا المضمار وكلها مضللة ويجب أن نرفضها دون تريث. بالطبع أنني أقل من أن أكمل بحث المعاجز في صفحات قليلة ولذلك أكتفي بهذا القدر متمنيا لأهلي في كل بقاع الأرض أن يفكروا ويتدبروا أمورهم الإلهية ولا يثقوا بأحد غير القرآن الكريم فهو شفاء للقلوب وهو الفاصل الحق في كل جدال فكري والحمد لله أولا وآخرا.

أحمد المُهري

26/2/2017

#تطويرالفقهالاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.