الطريقة الحدسية في الحصول على المعلومات

 الطريقة الحدسيّة في الحصول على المعلومات، وتنظيمها، واستخدامها

magic

انتهى بنا البحث في المقال السابق إلى أن فهم ما كتبه فضيلة الإمام الأعظم أبو جعفر الطبري, رضي الله جل وعلا عنه وأرضاه, يحتاج, أولاً, إلى فهم أن الموروث الثقافي العربي في حقل الدراسات الدينية لا يختلف مقدار شعرة عن الموروث الثقافي العربي في أي حقل آخر, كما يحتاج, ثانيًا, إلى فهم أنظمة التفكير البشرية, كما يحتاج, ثالثًا, إلى فهم العوامل التي تحكم ظهور أنظمة التفكير هذه.    يعمل هذا المقال على تقديم عرض مختصر لخصائص الموروث الثقافي العربي في حقل الدراسات اللغوية.   يهدف المقال من وراء هذا العمل إلى لفت النظر إلى أن خصائص الموروث الثقافي العربي في حقل الدراسات الدينية لا تختلف “قدر شعرة” عن خصائص الموروث الثقافي العربي في حقل الدراسات الدينية.   في كلتا الحالتين, نحن أمام “منتج ثقافي” تم إنتاجه عن طريق نظام إدراك بدائي.  تحديدًا, نظام المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك حسب مقياس بياجيه.

 

خصائص الدرس اللغوي العربي

صدرت إشارات عديدة من داخل قطاع الدراسات اللغوية في حقل الثقافة العربية المعاصرة تتعلق بطريقة قدماء النحاة واللغويين في الحصول على المعلومات، وتنظيمها، واستخدامها.    حقا، جاءت هذه الإشارات بصورة مفرقة في كل الأحيان، في سياق الحديث عن هذا المؤلِّف أو ذاك، أو هذا المؤلَّف أو ذاك، وبدون الانتباه في معظم الأحيان إلى أن الخاصية المشار إليها ليست مقصورة على هذه السياقات وحسب، وإنما هي خاصية عامة تميز طريقة القدماء في التعامل مع المعلومات.   يمكن القول، مع ذلك أن صدور مثل هذه الإشارات، وبهذا القدر، يدل على وجود درجة من الإحساس، أو قدر من الوعي، بنوع الخصائص التي تميز طريقة القدماء في الدرس اللغوي العربي.  

 

كان هناك وعي بأن طريقة القدماء في الحصول على المعلومات تتميز بالنقل، وعدم التحقق، والنظرة الجزئية، وأحادية المنهج، كما كان هناك إدراك بأن طريقتهم في تنظيم المعلومات تتميز بالغموض، والاستطراد، والتشتت، والعشوائية.  كان هناك وعي أيضا بأن القدماء لم يكشفوا على الإطلاق عن القواعد التي بناءً عليها أقاموا تصنيفهم للمادة اللغوية.   كانت هناك حيرة أيضا في فهم السبب في تميز الدرس اللغوي العربي القديم بهذه الخصائص.   يظهر ذلك بوضوح تام في حيرة محمّد رشاد الحمزاوى من طريقة القدماء في نقل الأخبار عن بعضهم بعضًا دون أي انتباه لما في هذه الأخبار من اضطراب وتناقضات بارزة.   يقول :

“إن الدارس لحياة ابن سيده التي تناولها بالبحث مترجمون كثيرون من القدماء والمحدثين لا يتردد أن يتساءل محتارًا عندما يلاحظ إجماع أولئك المترجمين على ما ذكروا من مظاهرها المختلفة، فيتعجب محقًا من اطمئنانهم ورضاهم عن نقل الأخبار عن بعضهم بعضًا رغم ما أتى فيها من اضطراب وتناقضات بارزة.”

                                                                                        من قضايا المعجم العربي، 9

 

يظهر ذلك، مرّة أخرى، في استغراب عبّاس حسن لموقف النحاة الذين قاموا عبر مئات السنين بعملية  “نقل”  العلل النحويّة دون أدنى محاولة لـ “التحقّق” من صحتها.   يقول :

“الغريب أن تعيش هذه العلل منذ نشأتها إلى اليوم، يتلقاها النحاة بالقبول جيلا فجيلا، ويملئون بها فراغ أوقاتهم وكتبهم، ويصدعون بها الرؤوس، لا يفكر أحد في محاربتها، وإراحة المتعلمين منها، ومما احتوته المراجع المطولة من ألوانها، وضروب عبثها.”     

                                                               النحو العربيّ بين القديم والحديث، 145            

 

يظهر ذلك، مرّة أخرى، في تعجب محمّد عبد الغني حسن من عدم تصريح القدماء بالطريقة التي استخدموها في الترجمة.   يصرح محمّد عبد الغني حسن أنّ :

“المترجمين والنقلة من غير العرب والعرب في القديم والحديث لم يهتموا بالكتابة في أدب الترجمة وفنها اكتفاء منهم بممارسة الترجمة نفسها ومعاناة العمل فيها، بغض النظر عن التأليف أو الكتابة في قواعدها وطريقتها.  فمضوا لطريقهم في ترجمة الآثار المراد نقلها، وأكبوا على العمل إكبابا لم يجدوا معه فسحة من الوقت، ولا فراغا من الجهد، ليشرحوا لنا كيف يترجمون،أو ليقولوا لنا كيف ينقلون أو يعربون.  ومن أعجب العجب أن هؤلاء النقلة والمترجمين القادرين لم يدونوا لنا مذهبهم في الترجمة، على طول مكابدتهم لها، وكثرة تجويدهم فيها.”

                                                                                    فنّ الترجمة في الأدب العربيّ، 4-5

 

نجح قطاع الدراسات اللغويّة في حقل الثقافة العربيّة المعاصرة، بهذا الشكل، في التعرّف على عدد من الخصائص الأساسيّة التي تميّز طريقة الدرس اللغويّ العربيّ القديم في الحصول على المعلومات، وتنظيمها، واستخدامها.   لم ينجح القطاع، على أيّة حال، في التعرّف على أسباب تميّز الدرس اللغوي العربي القديم بهذه الخصائص.  يعود ذلك إلى أن قطاع الدراسات اللغوية في حقل الثقافة العربية المعاصرة لم يدرك بعد أن الدرس اللغوي العربي القديم ليس درسًا حديثا صادرًا عن ثقافة حديثة وإنما هو درس قديم صادر عن ثقافة قديمة لها طريقتها الخاصة بها في “إدراك الواقع” والتي تختلف اختلافا “نوعيًا” عن طريقة الثقافات الحديثة.

 

يهدف هذا الجزء من البحث إلى بيان أن الخصائص التي تميز طريقة الدرس اللغوي العربي القديم في الحصول على المعلومات، وتنظيمها تتطابق مع خصائص التفكير الحدسي، أي مع خصائص تفكير المرحلة الثانية من مراحل النمو الإدراكي كما حددها بياجيه.

 

 

أولاً :  طريقة الحصول على المعلومات

تتميز الطريقة المتّبعة في الحصول على المعلومات في الدرس اللغويّ العربيّ القديم بأربع خصائص رئيسيّة هي النقل، وعدم التحقّق، والنظرة الجزئيّة، وأحاديّة المنهج.

 

  1. النقل

كشفت دراستنا لطريقة الدرس اللغوي العربي القديم في الحصول على المعلومات أن  الطريقة المعتمدة في الحصول على المعلومات في هذا الدرس هي الحصول عليها من الآخرين.   يتمّ ذلك إمّا عن طريق نقلها بالكامل كما هي عليه بدون إجراء أي تعديل عليها، أو عن طريق نقل أجزاء منها فقط، أو بعد إطالتها بعض الشيء، أو اختصارها بعض الشيء، أو إعادة صياغتها، أو ترتيبها.  في كلّ حالة من هذه الحالات، على أيّة حال، لا يعمل  “المؤلّف” على نقل “وجهة نظره” عن الواقع كما يراه هو، وإنّما على نقل “وجهة نظر” شخص آخر.

 

تتفق هذه الخاصية مع ما هو معروف من غياب أي تصورات شخصية عن الواقع في المرحلة الحدسية (المرحلة الثانية) تختلف عن التصورات الاجتماعية عن الواقع.   في المرحلة الحدسية, يحصل الكائن البشري على المعلومات الموجودة في ذهنه إما من التجربة الشخصية المباشرة (المشاهدة) أو من التجربة الحسية لأشخاص آخرين (إخبار).   في كلتا الحالتين، ينظر الفرد إلى هذه المعلومات على أنّها تمثل الواقع.   في حقيقة الأمر، لا تنمو عند الفرد المقدرة على التحقّق من صحة المعلومات الصادرة عن الأشخاص المحيطين به (وبالتالي القدرة على التفكير المستقل) إلا مع نمو المقدرة على التحقق من صحّة  “تصوّراته”  هو عن الواقع.   حيث إنّ المقدرة على التفرقة بين  “ما نفكر أنه الواقع” وبين  “الواقع” لا تظهر إلا مع بداية المرحلة الثالثة، عليه لا يستطيع الفرد في المرحلة الثانية (المرحلة الحدسية) التأكّد من صحّة التصوّرات الاجتماعيّة عن الواقع، وبالتالي لا يستطيع الاستقلال عنها وتكوين تصوّراته هو الشخصيّة عن الواقع.       

 

يبين الاستشهاد التالي المدى الذي يمكن أن يصل إليه غياب القدرة على التفكير المستقل لدى أبناء الثقافات التقليدية.   يشير حسن سعفان، في معرض حديثه عن إحدى الدراسات التي قام بها أحد الباحثين حول الفروق الثقافية في التفكير، إلى أن :

“الباحث وجد أن من المستحيل حمل أي فرد من الأستراليين (أي سكان أستراليا الأصليين) على مجرد محاولة حل أية مسألة من مسائل الاختبار بنفسه ومستقلا عن الآخرين كما هي الحال في جميع الاختبارات التي تجرى في كل الشعوب.   يعود ذلك إلى أن الأستراليين متعودون على التفكير سويًا وحل المشاكل سويًا ولا يتصورون أن ينفرد فرد بحل مسألة ما وحده مستقلاً عن الآخرين، فكل المشاكل الناتجة عن الحياة القبلية تناقش ويفكر فيها في مجلس شيوخ القبيلة حتى يصلوا إلى رأي جماعي في حل المشكلة.   بل إن الأفراد الذين أجرى عليهم الاختبار، كانوا ينتظرون من الباحث أن يساعدهم ولا سيما بعد أن اعتبره فريق منهم عضوًا فيه.”

                                                                حسن شحاته سعفان، دراسات في علم الإنسان، 99              

 

 

  1. عدم التحقّق

المبدأ المعمول به في قطاع الدراسات اللغويّة في حقل الثقافة العربيّة القديمة هو تقبّل المعلومات السائدة في هذا القطاع كما هي عليه، بدون أدنى محاولة للتحقّق من اتفاق هذه المعلومات مع الواقع، حتى في تلك الحالات التي قد يكون اضطراب هذه المعلومات فيها واضحًا، أو خطأها بارزًا.   حقيقة الأمر، لم تصدر دراسة نقديّة واحدة في الدرس اللغويّ العربيّ القديم، وذلك إذا ما استثنينا  “الرد على النحاة”  لابن مضاء، يعمل مؤلّفها على التحقّق من اتفاق المعلومات السائدة في هذا القطاع مع الواقع.

 

مرّة أخرى، تتفق هذه الخاصية مع ما سبقت الإشارة إليه من أن الكائن البشري في المرحلة الحدسية لا يستطيع التحقق من اتفاق أفكاره عن الواقع مع الواقع.   يعود ذلك، كما سبقت الإشارة إلى ذلك أيضا، إلى أن الكائن البشري في هذه المرحلة عاجز عجزا أساسيا عن التفرقة بين “ما يفكر أنه الواقع” وبين “الواقع”.   أي عاجز عن إدراك أن أفكاره عن الواقع ليست هي الواقع وإنما مجرد أفكار عن الواقع.    

 

  1. النظرة الجزئيّة

يقوم تصنيف قدماء النحاة للمادة اللغويّة التي جمعوها (أو وضعوها) على نظرة جزئيّة لا تأخذ كلّ عناصر الظاهرة موضع الدراسة بالاعتبار.   تتّفق هذه الخاصيّة اتفاقًا تامًا مع طبيعة التفكير الحدسيّ.    يميل الكائن البشريّ في المرحلة الحدسيّة إلى إصدار أحكامه على الواقع (أو أيّ جزء منه) تأسيسًا على خاصية واحدة من خصائص هذا الواقع (أو هذا الجزء من الواقع) وبدون أخذ الخصائص الأخرى في الاعتبار.   يشكّل عجز الكائن البشريّ عن النظر إلى أيّ موضوع نظرة كليّة خاصيّة أساسيّة من خصائص التفكير في المرحلة الحدسيّة.     

 

  1. أحاديّة المنهج

قدّم قدماء النحاة تصنيفًا واحدًا لا غير للنظام اللغويّ العربيّ.    مرة أخرى، تتفق هذه الخاصية مع طبيعة التفكير في المرحلة الحدسية.   تتطلب القدرة على التصنيف على أساس أكثر من قاعدة وجود القدرة بداية على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة.   في المرحلة الحدسية، لا توجد لدى الكائن البشري القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة أصلا.   أكثر من ذلك، كما أوضحت الدراسات التي تمت في حقل علم النفس الإدراكي، لا يعني وجود القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة وجود القدرة على إعادة التصنيف على أساس قاعدة مختلفة.    يلفت مايكل كول وسلفيا سكربنر، في هذا السياق، الانتباه إلى أنه:

ليس من الضروري أن يكون التصنيف وإعادة التصنيف ناتجين عن نفس العملية – لم يستطع العديد من الأشخاص الذين قاموا بتصنيف البطاقات على أساس  قاعدة واحدة القيام بإعادة تصنيفها على أساس قاعدة أخرى.”

Culture and Thought, 108

 

 ثانيًا :  طريقة تنظيم المعلومات

توضّح العديد من الإشارات الصادرة عن قطاع الدراسات اللغويّة في حقل الثقافة العربيّة المعاصرة أنّ الطريقة المتّبعة في تنظيم المعلومات في الدرس اللغويّ العربيّ القديم تتميّز بأربع خصائص رئيسيّة هي الغموض، والاستطراد، والتشتت، والعشوائيّة.

 

  1. الغموض

تبين الدراسة التي قام بها بياجيه لنمو الإدراك لدى الطفل، أن الطفل الحدسي لا يستطيع أخذ وجهة نظر الآخرين في الاعتبار (تجربة الطفل الذي يحاول الاختباء عن أعين رجال الشرطة)، بل لا يستطيع إدراك أن الآخرين قد تكون لهم وجهة نظر تختلف عن وجهة نظره هو (تجربة القطة والكلب).   يتصرف الطفل في هذه المرحلة كما لو كان الآخرون يرون ما يراه، ولا يرون ما لا يراه، ويعرفون ما يعرف، ولا يعرفون ما لا يعرف.   يؤدّي هذا العجز عن أخذ وجهة نظر الآخر في الاعتبار، بطبيعة الحال، إلى صعوبة في التفاهم بين الأطفال عندما يتناقشون مع بعضهم البعض.  يشير بياجيه وإنهلدر، في هذا السياق، إلى أنّه :

“عندما يحاول أحد الأطفال أن يشرح لطفل آخر شيئًا ما، أو عندما يتناقش الأطفال مع بعضهم البعض. . . .    يستطيع المرء أن يرى الصعوبة التي يعاني منها الطفل باستمرار في أخذ وجهة نظر الشخص الآخر بالاعتبار، في محاولة الطفل أن يجعل الشخص الآخر يفهم ما يقوله . . . . . لا يكف الطفل عن التحدث إلى نفسه ويبدأ في أخذ وجهة نظر الشخص الآخر في الاعتبار إلا بعد تدريب طويل.”

Piaget and Inhelder, 1969, 122

 

تؤكّد الدراسة التي قام بها كروس وزملاؤه ما ذهب إليه بياجيه أنّ الطفل الحدسي عاجز عن إدراك نوع المعلومات التي يحتاجها المستمع من أجل فهم ما يقصده الطفل.   قام الباحثون بتقديم عدد من الأشكال التي لا معنى لها وطلبوا من الأطفال وصفها.   على حين قد يصف طفل صغير شكلاً معينًا بعبارة مثل “إنه يبدو مثل قبعة أمي”، وهو وصف لا يساعد المستمع (الذي لا يعرف، بالطبع، قبعة أمه) في التعرّف على الشكل المقصود، فإنّ الأطفال الكبار كانوا يشيرون إلى خصائص محددة للموضوع الذي يصفونه، وهو ما يساعد المستمع على التعرف على الشكل المطلوب.   كشفت التجربة، بهذا الشكل، أن أطفال الطبقة الوسطى الأمريكية لا يعملون على إعطاء أوصاف موجزة، وأكثر كفاءة، للأشكال التي يصفونها إلا مع تقدمهم في العمر.

 

تبين التجارب التي قام بها كروس وروتر (1968)، وبرنستين (1970)، وهايدر (1971)، أثر العوامل الاجتماعية على ظهور القدرة على التفاهم مع الآخرين.   كشفت هذه التجارب أن أطفال الطبقات الدنيا تعاني من صعوبة في التفاهم مع الآخرين أكثر بكثير من الصعوبة التي يعانيها أطفال الطبقات العليا.   يذهب هؤلاء الباحثون إلى أن صعوبة التفاهم مع الآخرين التي يعاني منها أبناء أطفال الطبقات الدنيا تعكس أنماط الحوار في هذه الطبقات والتي لا تعمل على توضيح المعنى.

 

تبين الدراسات الثقافية المقارنة كذلك أثر العوامل الثقافية على القدرة على التفاهم مع الآخرين.   في دراسة لطرق التفاهم المستخدمة لدى أبناء الثقافات التقليدية، قام كول، وجليك، وشارب، بإعداد طاولة عليها مجموعتين متماثلتين من العصي الخشبية وأعواد البامبو، تتكون كل منها من عشر قطع.  يقوم رجلان من قبيلة الكبلي بعد ذلك بالجلوس على هذه الطاولة وأمام كل منهما مجموعته.  يضع الباحثون بعد ذلك حاجزا بينهما بحيث لا يرى أي منهما الآخر ولا العصي الموجودة أمامه.  يجلس أحد الباحثين بعد ذلك بين كلا المشاركين ثم يأخذ عصا من مجموعة العصي الموجودة أمام أحدهما ويضعها على يسار هذا المشارك.  يطلب الباحث بعد ذلك من هذا المشارك أن يصف العصا لزميله بحيث يمكنه أن يختار مثيلتها من المجموعة الموجودة أمامه.   بعد سماع الوصف، يقوم هذا المشارك باختيار العصا التي ينطبق عليها هذا الوصف ويضعها على يساره.   يقوم الباحث باختيار عصا أخرى ويضعها بجانب العصا الأولى، ثم يطلب من المشارك الأول أن يصفها بحيث يستطيع المشارك الثاني أن يختار مثيلتها من مجموعته ويضعها في مكانها.   تستمر التجربة بهذا الشكل إلى أن ينتهي المشارك الأول من وصف العصي العشر ووضعها في صف أمامه، وينتهي المشارك الثاني من وضع عصيه بنفس الترتيب.   عند هذه النقطة، يرفع الحاجز، ويطلب من الرجلين مقارنة العصي ليريا ما إذا كانا قد وضعا العصي بنفس الترتيب.   يتم التعليق على الأخطاء، ومناقشتها، ثم تعاد التجربة مرة أخرى.

 

     يوضح الجدول التالي أوصاف العصي، والأوصاف التي قدمها أحد المشاركين.               

وصف العصي                               وصف رجال الكبلي                      وصف رجال الكبلي   

                                                 (المرة الأولى)                           (المرة الثانية)

أغلظ خشبة مستقيمة                          إحدى العصي                            إحدى العصي

الخشبة المستقيمة المتوسطة                واحدة ليست كبيرة                     إحدى العصي

السنارة                                          إحدى العصي                            عصا ذات فرعين

العصا ذات الفرعين                           إحدى العصي                            إحدى العصي

عصا البامبو المقوسة الرفيعة               عصا البامبو                              عصا البامبو المقوسة

الخشبة المقوسة الرفيعة                      عصا                                       إحدى العصي

عصا البامبو الرفيعة المستقيمة             عصا البامبو                              عصا البامبو الصغيرة

عصا البامبو الطويلة السميكة               عصا البامبو                              عصا البامبو الكبيرة

العصا ذات الأشواك القصيرة                واحدة من ذوات الأشواك               ذات الأشواك

العصا ذات الأشواك الطويلة                 واحدة من ذوات الأشواك               ذات الأشواك

 

 

الشئ الملفت للنظر في هذه التجربة هو عجز المشارك (الذي يمثل أداؤه أداء العديد من رجال الكبلي الذين شاركوا في التجربة) عن تضمين الرسالة الخصائص التي يجب توصيلها إذا كان للرسالة أن تستقبل بغير غموض.  توضح النتائج، بهذا الشكل، أن رجال الكبلي لا توجد لديهم مهارات الاتصال الجيد حين يتعلق الأمر بموقف لا يرى فيه المشاركون بعضهم البعض. 

 

يشير مايكل كول وسلفيا سكربنر، في هذا الصدد، إلى أنه :

“على الرغم من اختلاف الاصطلاحات النظرية الدقيقة من باحث إلى آخر، إلا أن كل العاملين في هذا الحقل بالإجماع تقريبًا يذهبون إلى أن مصدر صعوبات الحوار هذا يعود إلى فشل المتحدث في أن يأخذ في الاعتبار نوع المعلومات التي يحتاجها المستمع من أجل فهم الرسالة.”

 

  1. الاستطراد

القاعدة المعتمدة في الحصول على المعلومات في الدرس اللغوي العربي القديم هي الحصول عليها من الآخرين.   لم يكن النحوي القديم، بهذا الشكل، مشغولاً بتقديم وجهة نظره في الموضوع الذي يتناوله بل كان مشغولاً بتقديم وجهة نظر شخص آخر.   بعبارة أخرى، لم يكن النحوي القديم، أو اللغوي القديم، مشغولاً  “بمشكلة” يحاول أن يجد حلاً لها، بل كان مشغولاً بـ “رواية” ما “قاله” شخص آخر عن نقطة أو أخرى في النظام اللغوي العربي.   في أي محاولة لفهم طريقة الدرس اللغوي العربي القديم في تنظيم المعلومات لا بد من الانتباه إلى أنّ العمليات العقلية المستخدمة في هذا الدرس  لم تكن من نوع العمليات العقلية المستخدمة في  “حل المشاكل”  بقدر ما كانت من نوع العمليات العقلية المستخدمة في “الاسترجاع”.

 

تبين التجارب التي تمت في حقل التذكر الحر وجود فروق في تنظيم الذاكرة بين المتعلمين وبين الأميين من أبناء الثقافات التقليدية.   على حين يميل المتعلمون إلى تنظيم المواد المطلوب منهم تذكرها ومن ثم استرجاعها بمساعدة هذا النظام الذي تم فرضه عليها، يعمد الأميون إلى استرجاع هذه المواد بدون أي نظام على الإطلاق، أو حسب ترتيب عرضها عليهم، وذلك في القليل النادر.  يذهب بارتلت، في هذا الصدد إلى أن هناك نوعين اثنين من تنظيم الذاكرة.  يطلق بارتلت على النوع الأوّل اسم “التذكّر الإنشائي”، على حين يطلق على النوع الثاني اسم “التذكّر التتابعي”.

 

لم يكن لدى الباحثين الذين قاموا بدراسة الذاكرة والثقافة في أوائل القرن العشرين أدنى شك في القدرات غير العادية للشعوب البدائية على التذكر.   مثال على ذلك، كتب جولتن (1883، 72) عن الذاكرة الخارقة لأحد أفراد الإسكيمو الذين شاهدهم واحد من رجال البحرية يدعى الكابتن هول.  استطاع هذا الرجل، كما يقال، أن يرسم خريطة لساحل يمتد لمسافة ستة آلاف ميل متعرج بدون الرجوع إلى أي شئ يمكن أن يساعده على هذا العمل، وبدرجة مذهلة من الدقة، كما أوضحت المقارنة مع خريطة انجليزية لنفس الساحل.   حقيقة الأمر، ومن عقود قليلة فقط، كتب وارن دازيفيدو، أحد علماء الأنثروبولوجيا الذي قام بدراسة شعب الجولا في ليبيريا، أن “كبار السن ضعاف الذاكرة” أو “الذين لم يخبرهم أهلهم الكبار شيئا” يعدون “صبيانا صغارا” بالنسبة للكبار، بل قد ينظر إليهم صغار السن باحتقار.

 

كان بارتلت (1932) هو أول عالم نفسي تجريبي يدرس موضوع الثقافة والذاكرة بطريقة منضبطة.   ذهب بارتلت إلى أن هناك مبدأين اثنين يحكمان تنظيم الذاكرة.  الأول هو عملية التذكر الإنشائي.   يذهب بارتلت إلى أن الثقافات هي مجموعات منتظمة من الأفراد ذات عادات، ومؤسسات، وقيم مشتركة.   يكون الأفراد “مشاعر قوية” تجاه النشاطات المرتبطة بالمؤسسات والقيم الاجتماعية.   تشكل هذه القيم الميول النفسية لاختيار أنواع محددة من المعلومات لتذكرها.   تشكل المعرفة التي تم الحصول عليها تحت تأثير هذه العواطف القوية البنيات التي تقوم عليها عملية التذكر.  يكون التذكر أفضل في حالة تلك المواضيع الغنية بالبنيات عما يكون عليه في حالة المواضيع الأقل قيمة، حيث يوجد عدد قليل من المشاعر القوية، وبالتالي عدد أقل من البنيات التي ترشد عملية التذكر.

 

كمثال لهذا المبدأ، يروي بارتلت قصة تجربة قام بها لدى شعب السوازي في شرق أفريقيا.   اقترح أحد أصحاب المزارع أن يقوم بارتلت بسؤال راع يعمل لديه كان حاضرًا عندما قام صاحب المزرعة هذا بشراء بعض المواشي في العام السابق.   كان صاحب المزرعة قد قام بتسجيل عملية الشراء هذه في سجل لديه، مع كتابة وصف لكل بقرة اشتراها يومئذ.   استخدم بارتلت هذا السجل لاختبار ذاكرة الراعي.  طلب بارتلت من الراعي أن يذكر الماشية التي تم شراؤها ذاك اليوم، مع إعطاء أي تفاصيل يحب أن يعطيها.   تذكر الرجل عملية الشراء بالكامل  ثمن كل بقرة، والعلامات الخاصة بها، وملاكها السابقين.   حقيقة الأمر، لم يخطئ الرجل إلا في نقطتين فقط في التفاصيل.  كان الوصف الذي أعطاه الرجل لكل عملية شراء يحتوي على تفاصيل من نوع: “من جامبوكا لينيسدا، ثور صغير أبيض ذو نقاط حمراء بسعر جنيه واحد : من لولا ليل، بقرة رقطاء ذات خمس سنوات، أبيض في أسود، بسعر ثلاثة جنيهات، تم دفعها عينا في صورة كيس من الحبوب ونقدا في صورة جنيه واحد” (بارتلت، 1932، 250).

 

على الرغم من أن هذا الأداء كان مذهلا (قدم الرجل معلومات تتعلق بحوالي 12 بقرة على الرغم من أنه لم يكن مسئولا عن عملية الشراء)، فإن بارتلت لم ينظر إليه على الإطلاق على أنه عمل غير عادي : “توجد لدى رعاة البقر من شعب السوازي مقدرة هائلة على تذكر الخصائص الفردية للحيوانات التي يرعونها.   هناك حالات يضيع فيها حيوان ويختلط بقطعان أخرى، وقد يبقى مفقودا لمدة طويلة.   مهما طالت المدة، على أية حال، إذا أتى مالك الحيوان بوصف للحيوان المفقود فإن الآخرين يأخذون بكلامه على الفور، ويسمحون له بأن يأخذ حيوانه ويقوده بأمان إلى قطيعه”   (نفس المرجع).

 

ذهب بارتلت كذلك إلى أن هناك نوعا آخر من الذاكرة يكون  فيه الترتيب  الزمني هو المبدأ التنظيمي : “هناك نوع أدنى من التذكر يقترب كثيرا جدا مما يسمى الحفظ عن ظهر قلب أو “الصَّم”.   يعد الصَّم خاصية من خصائص حياة عقلية ذات اهتمامات قليلة نسبيًا، وطبيعة عينية في غالبها، وتتساوى كلها في الأهمية” (226).

 

يستشهد بارتلت على ذلك بسجلات محكمة محلية.   يتعلق المثال التالي برجل يجرى التحقيق معه لمحاولة قتل امرأة.   قامت المحكمة باستدعاء المرأة نفسها كشاهد أساسي في القضية.  

القاضي :   أخبرينا كيف أصبت بتلك الضربة في رأسك.

المرأة  :   حسن، تركت فراشي في ذاك اليوم في الفجر، وقمت (ذكرت المرأة قائمة طويلة من الأعمال التي قامت بها، والناس الذين قابلتهم، والأشياء التي قالتها).   بعد ذلك، ذهبت إلى منزل فلان وعلان وقمنا (ذكرت المرأة قائمة أخرى مماثلة)، وشربنا بعض الجعة، وقالت فلانة . . . .

القاضي :   دعك من هذا.   أنا لا أريد أن أعرف أي شئ سوى كيف أصبت بهذه الضربة على رأسك.

المرأة  : حاضر، حاضر.   سوف أصل إلى هذا.   أنا لم أصل إلى هذه النقطة بعد.   وهكذا قلت لعلانة . . . . (قائمة طويلة أخرى من المحادثات والتفاصيل الأخرى).   وبعد ذلك ذهبنا إلى منزل فلانة.

القاضي :   اسمعي يا امرأة !  إذا استمر الأمر بهذا الشكل فسوف نأخذ كل اليوم في هذا الموضوع.   كيف أصبت بهذه الضربة على رأسك ؟

المرأة  :   حاضر، حاضر.   لكني لم أصل إلى هذه النقطة بعد.   وهكذا قمنا . . . . (قائمة أخرى طويلة تتعلق بتفاصيل كل الأشياء التي فعلتها طوال ذلك اليوم).   بعد ذلك ذهبنا إلى منزل علانة . . . . وكانت هناك مشاجرة . . . . وضربني على رأسي، ومت، وهذا هو كل ما لدي (265).

 

في محاولته الدفاع عما ذهب إليه من أن الثقافة السوازية تشجع التذكر التتابعي أشار بارتلت إلى أن :

“الأخبار تنتقل بسرعة في وسط الأهالي.   لا يوجد نظام محلي من الإشارات لنقل الأخبار، إلا أنه كلما التقى اثنان في الطريق قام كل منهما بإخبار الآخر عن كل الأشياء التي فعلها، أو رآها، أو سمع عنها مؤخرا.   يعتبر التذكر التتابعي أفضل وسيلة في مثل هذه الحالات.   يستخدم نفس النظام في المجالس المحلية كثيرة الكلام قليلة الحركة.   يعود ذلك إلى وفرة الوقت في مجتمع يحوز فيه كل شئ يحدث نفس الأهمية التي تحوزها كل الأشياء الأخرى، وحيث، بالتالي، يرحب المجتمع بذكر كل شئ بالتفصيل (265-266).

 

من الضروري هنا الإشارة إلى أن بارتلت كان مدركا أن التذكر التتابعي المبالغ فيه ربما كان نتيجة الموقف الاجتماعي الذي أنتجه بنفس الدرجة التي كان فيها نتيجة ميول نفسية ثابتة مرتبطة بالثقافة.   يقول بارتلت :

“عندما يتغير الجمهور المستمع إلى جمهور غريب، تتغير كذلك طريقة التذكر.   الشيء المهم هنا هو الوضع الاجتماعي للراوي بالنسبة إلى مجموعته، وعلاقته بالجماعة التي ينتسب جمهور المستمعين إليها.   إذا كان جمهور المستمعين من جماعة أدنى، يكون الراوي واثقا من نفسه وتتماشى مبالغاته مع الميول المفضلة لدى جماعته، وذلك بصورة ملحوظة.   أما إذا كان جمهور المستمعين من جماعة أعلى فإن ذلك قد يدفع الراوي إلى طريقة التذكر التتابعي إلى أن ينتبه، عن وعي أو بدون وعي، إلى التحيزات المفضلة لديهم.   يبدأ الراوي عندئذ في استخدام الطريقة الإنشائية في التذكر، وفي رسم الصورة التي كان هذا الجمهور سيرسمها لنفسه (266)”.

 

تبيّن هذه الإشارات، بهذا الشكل، أنّ فرض النظام على المادة لم يكن خاصيّة من خصائص الدرس اللغويّ العربيّ القديم.   من الضروري الانتباه، في هذا الصدد، إلى ما سبقت الإشارة إليه من أن القاعدة المعتمدة في الحصول على المعلومات في الدرس اللغوي العربي القديم هي الحصول عليها من الآخرين.   لم يكن النحوي القديم (أو اللغوي القديم)، بهذا الشكل، يقدم وجهة نظره هو في الموضوع الذي يتناوله وإنما وجهة نظر شخص آخر.   بصورة أوضح، لم يكن النحوي القديم، أو اللغوي القديم، مشغولا “بدراسة” النظام اللغوي العربي بل كان مشغولا “باسترجاع” ما قاله نحوي أقدم، أو لغوي أقدم، عن النظام اللغوي العربي.   في أي محاولة لفهم الدرس اللغوي العربي القديم، بهذا الشكل، لا بد من الانتباه إلى أن العمليات العقلية المستخدمة في هذا الدرس تتعلق “بالتذكر”، أو “الاسترجاع”، أكثر من أي شئ آخر.

 

كما سبق أن رأينا، توضّح التجارب التي تمت في حقل التذكّر الحر أنّه على حين يقوم المتعلّمون بالبحث عن بنية، ومن ثمّ فرضها، وتأسيس تذكّرهم عليها، فإنّ الأميّين لا يقومون بذلك.   تؤكّد هذه التجارب، بهذا الشكل، ما سبق أن كشفت عنه التجارب المتعلّقة بالتصنيف والتي توضّح أنّ أبناء الثقافات التقليديّة لا يقومون في العادة بتصنيف الأشياء على أساس قاعدة ثابتة.   بعبارة أخرى، أنّ فرض النظـام على الأشياء من تلقـاء الذات ليس أسلوبـًا شائعًا لدى أبناء الثقافات التقليديّة.

 

ثالثًا :  التصريح بالأساس الذي يقوم عليه التصنيف

كشفت الإشارات الصادرة عن قطاع الدراسات اللغويّة في حقل الثقافة العربيّة المعاصرة أنّ قدماء النحاة واللغويّين لم يكشفوا عن الأصول العامة للمنهج الذي استخدموه في دراسة النظام اللغويّ العربيّ، أو النظريّة اللغويّة التي استندوا إليها في درسهم له.   يظهر ذلك على مستوى النحو، كما يظهر على مستوى المعجم، والدلالة، والترجمة.   بعبارة أخرى، لم يحدث على الإطلاق أن كان التصريح بالمبادئ والقواعد التي يقوم العمل على أساسها مبدأً معمولاً به في أي جانب من جوانب الدرس اللغويّ العربيّ القديم.   يتفق ذلك مع ما كشفت عنه التجارب التي تمت في حقل الدراسات الثقافية المقارنة من غياب القدرة على التصريح بالأسس التي يقوم عليها التصنيف لدى الأميين من أبناء الثقافات التقليدية.   يشير مايكل كول وسلفيا سكربنر، في هذا السياق، إلى أنه :

“في النهاية، فإنّ النتيجة الوحيدة التي لا غموض فيها في الدراسات التي تمّت حتى اليوم، هي أنّ  “التعليم” (والتعليم فقط) هو الذي يؤثّر على الطريقة التي يقوم فيها الناس بوصف وتفسير العمليّات العقليّة الخاصة بهم.”                               

Culture and Thought, 122

 

#تطويرالفقهالاسلامي

 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.