النوم في العسل: الأحلام كمصدر من مصادر التشريع في الفقه القديم

النوم في العسل: الأحلام كمصدر من مصادر التشريع في الفقه القديم

 

dream.jpg

أرسل إلينا فضيلة الشيخ أحمد الكاتب رسالة من “ألطف” الرسائل التي وصلت مركزنا.  يبيّن لنا فضيلته الدور الكبير الذي لعبته الأحلام في الفقه الإسلامي القديم بشقيه السني والشيعي, وكيف استطاع أهل الفضل والعلم من أهل السنة والجماعة وكذلك إخوانهم من أهل الشيعة أن يتحدثوا إلى الله سبحانه وتعالى كما مع رسوله الكريم.  وهكذا أصبحت الأحلام مصدرًا من مصادر التشريع مثلها في ذلك مثل القرآن.  يقول فضيلته:

 

“من عوامل انحطاط المسلمين ابتعادهم عن القرآن الكريم بالتأويل التعسفي، وبتفضيل الأحاديث عليه, والقول بهيمنة السنة على القرآن, أو حكومة السنة على القرآن ونسخها لآياته المحكمة، وتزوير الأحاديث على لسان النبي الأكرم، من أجل تبرير ظلم الحكام والأمر بطاعتهم والخضوع لهم.  ولم يكتف الفقهاء بذلك وإنما أضافوا مصدرًا جديدًا ما أنزل الله به من سلطان, ألا وهو الرؤى والأحلام.  فقد ادعى بعض الحكام والفقهاء, وأئمة المذاهب, الاتصال المباشر مع الله والنبي في الرؤى والأحلام, ورواية أحاديث عنهما بصورة مباشرة، من أجل مواجهة الحكام والمذاهب الأخرى، وإضفاء الشرعية الدينية على حكمهم أو مذهبهم وموقفهم.  وقد تفشى هذا المصدر منذ القرن الثاني الهجري بين معظم الحكام وأئمة المذاهب، وشكَّل ظاهرة ثقافية سلبية في المجتمعات الاسلامية ترافقت وتنامت مع ظاهرة الانقسام والتشرذم التي عصفت بالعالم الإسلامي.  


وقد هوى الفكر الطائفي الى هذا المستوى الثقافي المشحون بالخرافات والأساطير بواسطة الأحاديث المزورة المنسوبة إلى النبي الأكرم محمًد, صلى الله عليه وسلم, التي كانت بحد ذاتها خطوة متقهقرة الى الوراء تم استغلالها من قبل الحكام ورؤساء المذاهب لتشييد دولهم, وحكوماتهم, ومذاهبهم, وسياساتهم الطائفية.  ويأتي على رأس تلك الأحاديث الحديث الشهير الذي يرويه البخاري بإسناد متصل من حديث أبي قتادة.  قال قال رسول الله: “من رآني فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتزيا بي، أو لا يتمثل بي”, أو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم, قال: “من رآني في المنام فقد رآني، فان الشيطان لا يتمثل صورتي”.  البخاري، ج 8 ص 54.   ذلك الحديث الذي فتح بابًا لإضفاء الشرعية الدينية على كثير من الأئمة, والحكام, والمؤلفين, وأصحاب المذاهب المختلفة, وأصبحت الأحلام الواردة عن الرسول والصحابة بمثابة المسلمات والواضحات التي لا يجوز البحث فيها فضلاً عن التشكيك بصحتها.  (الخطيب، علاء، الحلم المقدس وأثره في تأسيس الدول وإشعال الحروب، ص 46. المركز الثقافي العراقي، لندن, دار الحكمة 2014 ط 1)

 

ولقد “حاول البعض أن يثبت أن المنامات جزء من العقيدة وأن كثيرًا من العقائد جاء إلى النبي عن طريق المنام فقال “إن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر ثم أوحى اليه بعد ذلك في اليقظة بقية عمره, فما المانع أن تكون هذه الأحلام مصدرًا مستمرًا للتعاليم والأوامر السماوية؟”.   ولم يتوقف الأمر عند رؤية الرسول وأخذ الشرعية والمباركة منه، وإنما تعدى الأمر إلى ادعاء رؤية الله عز وجل في المنام, فقد قال ابن تيمية إن “المؤمن قد يرى الله في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحًا لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ربه ما يشبه إيمانه”.


ويعتبر ابن تيمية إمكانية الرؤيا من المسلمات ويقول:”إن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين يؤكدون على أن الله يُرى في الآخرة بالأبصار عيانا، وإن أحدًا لا يراه في الدنيا بعينه، لكن يُرى في المنام ويحصل للقلوب من المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها… ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط.   ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية.  وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا غيب يتعلق به سبحانه وتعالى وإنما ذلك بحسب حال الرائي, وفساده, واستقامة حاله وانحرافه، وما أظن عاقلا ينكر ذلك”.  (ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، م 5 ص 384، جامعة الامام محمًد بن سعود الإسلامية, 2008, تحقيق محمًد رشاد سالم.  وانظر أيضًا: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، ج 1 ص 182 تحقيق يحيى بن محمًد الهنيدي، طباعة مجمع الملك فهد 1426، وشرح الوصية الكبرى لابن تيمية، وفتاوى ابن باز)

 

وأضاف الخطيب:”لقد شكلت الثقافة المنامية أساسًا خطيرًا من أسس التفريق بين المذاهب في المعتقدات الدينية والأحكام الشرعية. ولا يجد المرء عناءً في اكتشاف ذلك… إن للأحلام مساحة كبيرة وأهمية في اثبات أو نفي المذهب أو الفكرة التي يؤمن بها الكاتب”. (الخطيب، الحلم المقدس، ص 175).   ويقول علي الوردي: “إن المسلمين أدخلوا بعض الأحلام في صلب شريعتهم، وأيدوها بما أوتوا من كتاب وسنة، فصارت لديهم بمثابة الوحي المنزل”.  (المصدر، ص85).   ويحدثنا فاضل الأنصاري عن دور الأحلام والرؤى في تعميق الشرخ بين المسلمين فيقول: “تتالت الرؤى التي ظهر فيها الرسول في أحلام الأشخاص وهو يحدث بتكفير هذا أو ذاك، فاعتبرت تلك الأقوال صحيحة مسندة ” إذا كان راويها الذي شهد الرسول في منامه قد عرف بصدقه” وبذلك رست قاعدة “أحاديث الرؤيا” وبدأت تحفل بها كتب الصحاح “استنادا إلى ما نسب للرسول من قول: “من رآني فقد رآني” باعتبار أن النبي لا يتلبسه الشيطان”. (الأنصاري، قصة الطوائف، ص 158).


وبناءً على هذه القاعدة ادعى الخليفة العباسي هارون الرشيد أنه رأى الرسول في المنام وبشره بالخلافة وقال له: “إن هذا الأمر قد صار إليك، فاغزُ وحج ووسع على أهل الحرمين”, وكذلك ادعى المتوكل. (المصدر، ص 158).  ولما كان المتوكل قد أحدث انقلابًا في سياسة الدولة العباسية المذهبية ضد المعتزلة ولصالح أهل السُنَّة، فقد استغل البعض “باب الأحلام” ليضفي الشرعية الدينية على ما فعل المتوكل ويكرس الاتجاه الجديد، فبث هذه الاشاعة: أن المتوكل رؤي في المنام بعد وفاته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.  قيل له بماذا؟  قال: بقليل من السُنَّة أحييتها. (تاريخ بغداد 7/ 170, والبداية والنهاية 10/ 351).  وإذا كان المتوكل قد رأى النبي في المنام، فإن أحمد بن حنبل قد ادعى أنه رأى الله في المنام وجهًا لوجه، حسبما ينقل ولده عبد الله عنه.  يقول: سمعت أبي يقول: رأيت رب العزة في المنام فقلت: “يا رب، ما أفضل ما تقرب به اليك المتقربون؟”  قال: “بكلامي يا أحمد.”  قلت: “يا رب بفهم أو بغير فهم؟  قال: “بفهم وبغير فهم.”  (هناك رواية أخرى يقول فيها أحمد أنه رأى الله تسعًا وتسعين مرة، وفي المرة المائة سأل الله أن يعلمه شيئا فقال له…) (الذهبي، سير اعلام النبلاء، ص 347)  ونُقل عنه أيضًا أنه رأى النبي في المنام وقال له: “يا أحمد كما اتبعت سُنَّتي واستحييت أن تنزل عريانا جعلتك ربع الاسلام.  (عن أحمد بن حنبل، الرد على الزنادقة والجهمية، ص 111، دار الثبات، تحقيق صبري سلامة شاهين 2003).

 

وقد شرح أبو الحسن محمًد بن أحمد الملطي (377هـ) في كتابه “التنبيه والرد” كيفية العمل لمن أراد أن يرى النبي في منامه, وهي الاغتسال ليلة الجمعة وصلاة ركعتين يقرأ فيهما سورة “قل هو الله أحد” ألف مرة .   ونقل عن محمًد بن عكاشة أنه اغتسل, وصلى, ونام, فرأى النبي، فقال له: “يا رسول الله, إن الفقهاء قد اختلفوا علي، وعندي أصول من السنة، أعرضها عليك، فقال: “نعم”, فعرض عليه عقيدته السُنّيّة كما يلي:”الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منه من جور وعدل ولا يخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا، والكف عن أصحاب محمًد وأفضل الناس عند الله بعد رسول الله: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي”.  ويقول ابن عكاشة بأنه ظل يعرض هذه العقائد على النبي ثلاث ليال متواليات ولكنه كان يشعر بشيء من التردد عند ذكر عثمان قبل علي, وكأن النبي أحس بما في نفسه فقال له “ثم عثمان، ثم علي”, وأعاد ذلك ثلاث مرات وعيناه تهملان بالدموع”.  ويضيف: “فوجدت حلاوة في قلبي وفي فمي، فمكثت ثمانية أيام لا آكل طعاما ولا أشرب شرابا، حتى ضعفت عن صلاة الفريضة”.  (الملطي العسقلاني، أبو الحسين محمًد بن احمد، “التنبيه والرد على الأهواء والبدع”، ص 15 – 16 المكتبة الشاملة).  وقد روى الإمام أحمد بن حنبل هذا الحلم للمتوكل عندما سأله قائلا:”يا أحمد, إني أريد أن أجعلك بيني وبين الله حجة، فأظهرني على السُنَّة والجماعة وما كتبت عن أصحابك عما كتبوه عن التابعين مما كتبوه عن أصحاب رسول الله”.  (المصدرالسابق، ص 23 – 25).   أما أحمد بن حنبل نفسه فقد أصبح موثقا جدًا ومزكى بناءً على الأحلام، حيث شوهدت روحه بعد وفاته في السماء – كما يقول ابراهيم الحربي- أنه رأى بشر الحافي في المنام فقال له: قدم علينا البارحة روح أحمد بن حنبل فنثر عليه الدر والياقوت، فهذا مما التقطت، قلت: فما فعل يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، قال: تركتهما وقد زارا رب العالمين، ووضعت لهم الموائد.  (الخطيب، علاء، الحلم المقدس ص 193 عن ابن خلكان, عن ابي الفرج الجوزي في كتابه, عن “أخبار بشر الحافي”)   

 

ولم يفت تلميذ الشافعي، الربيع بن سليمان المرادي، أن يرسم هالة من القدسية على أستاذه، فيقول إنه رآه في المنام بعد وفاته فقال له: يا أبا عبد الله ما صنع الله بك؟  فقال: أجلسني الله على كرسي من ذهب ونثر علي اللؤلؤ الرطب.  (ابن خلكان، وفيات الأعيان، مجلد 4 ص 163/ الحلم المقدس ص 194) سكت ابن خلكان عن منامات الشافعي/ تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج2 ص 60 – 69.  وفي رؤيا أخرى يقال إنه سأل النبي عن الشافعي فقال: من أحبني وأحب سنتي فليتبع طريق الشافعي فإنه مني وأنا منه. -(يراجع : مناقب الشافعي لأبي حاتم الرازي، حيث يوازي بين الشافعي والرسول) (أبو نعيم، حلية الأولياء، والبداية والنهاية، لابن كثير).

 

وهكذا قال الإمام الأوزاعي عبد الرحمن بن عمر بن أحمد (88 – 157): “رأيت رب العزة في المنام فقال: “أنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟”  فقال: بفضلك أي رب، ثم قلت: يا رب أمتني على الاسلام، فقال: وعلى السُنَّة”.  (أبو نعيم، حلية الأولياء، والبداية والنهاية، لابن كثير)

 

انقلاب الأشعري على المعتزلة

لعبت الأحلام دورا كبيرا في انقلاب الامام أبي الحسن الأشعري على المعتزلة، لصالح “أهل السُنَّة”، حيث كان معتزليًا يدافع بقوة عن أفكار المعتزلة، ثم اختلف مع أستاذه أبي علي الجبائي وزملائه، وشن حربا شعواء عليهم وتبرأ منهم ومزق كتبه وطعن بها، وأسس المذهب الاشعري بناء على رؤيا زعم أنه رآها. 


وقد ارتقى كرسيا في المسجد الجامع في البصرة في يوم جمعة، من سنة 300 للهجرة، في خلافة المقتدر، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي، أنا فلان بن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وإن الله لا يُرى بالأبصار، وإن أفعال البشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة”. (الأنصاري، قصة الطوائف, ص 223 عن ابن النديم في الفهرست، ص 271). 


يقول ابن عساكر في تاريخه: إن الاشعري تحير في المسائل التي لم يجد لها جوابا شافيا عند المعتزلة، فسأل الله أن يهديه إلى الصراط المستقيم، ثم نام فرأى الرسول في المنام فقال له: عليك بسُنَّتي، فلما استيقظ رجع إلى الكتاب والسُنَّة. (الأشعري، مقالات الاسلاميين، تحقيق الدكتور الاهواني، عن موقع وزارة الاوقاف والشئون الاسلامية، المغربية، مقال بعنوان ابو الحسن الاشعري).  ويشرح الاشعري نفسه قصة الحلم فيقول: بينما أنا نائم في العشر الأول من شهر رمضان، رأيت المصطفى (ص) فقال: يا علي انصر المذاهب المروية عني فإنها الحق، فلما استيقظت دخل علي أمر عظيم، ولم أزل مفكرا مهموما للرؤيا، ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك، حتى كان العشر الأوسط فرايت النبي (ص) في المنام فقال لي: ما فعلت فيما أمرتك به؟  فقلت: يا رسول الله، وما عسى أن افعل وقد خرجت للمذاهب المروية عنك وجوها يحتملها الكلام، واتبعت الأدلة الصحيحة التي يجوز اطلاقها على الباري عز وجل؟ فقال لي: انصر المذاهب المروية عني فانها الحق، فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن، فأجمعت على ترك الكلام واتبعت الحديث وتلاوة القرآن”.  (ابن عساكر الشامي، تبيان كذب المفتري، ص 38)

 

ويعتمد ابن مجاهد أبو بكر أحمد بن موسى التميمي البغدادي (- 324) على رؤيا يدعيها أنه رأى الله في المنام، لتدعيم صحة كتابه (السبع في القراءات) فيقول: رأيت رب العزة في المنام، فختمت عليه ختمتين للقرآن، فلحنت في موضعين فاغتممت لذلك، فقال لي: يا ابن مجاهد، الكمال لي الكمال لي.  (الخطيب، الحلم المقدس، ص 181 عن ابن خلكان، وفيات الأعيان).

 

الشيعة والأحلام

رفض الشيعة مبدأ رؤية الله في اليقظة والمنام في الدنيا والآخرة، خلافا لما ذهب إليه بعض أئمة أهل السُنَّة، فقد رفض الامام جعفر الصادق إمكانية رؤية الله في المنام وقال لإبراهيم الكرخي الذي سأله قائلا: ان رجلا رأى ربه عز وجل في منامه فما يكون ذلك؟  فقال:”ذلك رجل لا دين له، إن الله تبارك وتعالى لا يرى في اليقظة ولا في المنام، ولا في الدنيا ولا في الآخرة”.  (المجلسي، محمًد باقر، بحار الانوار، ج 4 ص 32).   وهو ما ذهب اليه المعتزلة أيضا.  

 

واختلف الشيعة في رؤية النبي، وتصحيح حديث:”من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل صورتي”. حيث رواه الصدوق في (الأمالي) و(عيون اخبار الرضا) والشيخ المفيد في (أوائل المقالات), وضعفه الشريف المرتضى في (الأمالي) وقال عنه: “هذا خبر واحد ضعيف من أضعف الأخبار ولا معول على مثل ذلك”.  وأثبت المفيد صدق منامات الأئمة، فقال:”إن منامات الرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام صادقة لا تكذب، وإن الله تعالى عصمهم عن الأحلام، وبذلك جاءت الأخبار عنهم عليهم السلام على الظهور والانتشار.  وعلى هذا القول جماعة فقهاء الإمامية وأصحاب النقل منهم، وأما متكلموهم فلا أعرف لهم نفيًا ولا إثباتا ولا مسألة فيه ولا جوابا.   والمعتزلة بأسرها تخالفنا فيه”. (المفيد، أوائل المقالات، باب 45).


وبغض النظر عن صحة الحديث السابق “من رآنا فقد رآنا” أو اعتماد الشيعة عليه، فان بعضهم روى عن الأئمة أحاديث مشابهة، ولا سيما في عملية إثبات الإمامة لعدد من الأئمة (الاثني عشر) الذين يفتقدون النص الصريح على إمامتهم من آبائهم، وأضافوا الى الأحلام قصصا أخرى باسم “المعاجز” لا تحدث إلا في المنامات، مثل قصة (تكلم الحجر الأسود) في الكعبة والفصل بين الإمامين المتنازعين محمًد بن الحنفية وزين العابدين علي بن الحسين، والسلام على الأخير بلسان عربي فصيح.  (الكليني، الكافي، كتاب الحجة، باب ما يضل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة، ح رقم 5 والصفار، بصائر الدرجات، ج 10 ص 502، وابن بابويه، الإمامة والتبصرة من الحيرة، ص 60)

 

والمنام الذي رواه الشيخ حسين بن مثلة الجمكراني، سنة 373 هـ أنه رأى الامام المهدي الغائب (محمًد بن الحسن العسكري) في المنام، يأمره ببناء مسجد في منطقة جمكران بالقرب من مدينة “قم” حيث يقام اليوم مسجد كبير يحج اليه الملايين من الشيعة كل عام.  وقد ادعى الشاه اسماعيل الصفوي أنه رأى الامام علي في المنام وقال له:”ولدي لا تدع القلق يشوش افكارك.  احضر القزلباشية مع أسلحتهم الكاملة الى المسجد في تبريز وأمرهم أن يحاصروا الناس، واذا أبدى هؤلاء أية معارضة أثناء الخطبة باسم اهل البيت فان الجنود ينهون الأمر”. (الخطيب، الحلم المقدس، وأثره في تأسيس الدول واشعال الحروب، ص 88 وص 63 المركز الثقافي العراقي، لندن دار الحكمة 2014 ط 1، عن تاريخ الشاه اسماعيل).  ومثلما قامت الدولة الصفوية على أساس حلم، فقد سقطت على أساس حلم آخر رآه والي افغانستان مير ويس الذي أعلن استقلال بلاده عن فارس، وحكم من 1708 – 1715م ثم قضى على الدولة الصفوية، بعد أن ادعى انه رأى رؤيا عندما كان في الحج ونام عند قبر النبي فشاهد النبي يقلده سيفا (الوردي علي، تاريخ العراق الحديث ج1 ص 100) وبعد قرنين من الزمان ادعى نادر شاه الذي احتل العراق، أنه رأى الامام علي يقلده سيفه ذا الفقار، ويأمره باحتلال العراق. (الخطيب، الحلم المقدس، ص 86).

 

واذا كان الشيعة بصورة عامة لا يعتمدون في بناء عقائدهم على الأحلام، فان الثقافة الشعبية الشيعية تتبادل بعض القصص التي يؤمن بها بعض الناس إيمانا كبيرا، مثل القصة التي يوردها الدكتور علي الوردي عن لص من قطاع الطريق حاول ذات مرة التعرض لزوار الحسين، وسلب أموالهم. وبينما كان كامنا في الطريق أخذته غفوة فنام، ورأى في منامه كأن القيامة قد قامت وأن الناس قد حشروا للحساب، وأراد الملائكة القاءه في النار لأعماله، فأنقذه الحسين لأن شيئا من غبار الزوار أصابه أثناء نومه، فاستيقظ اللص وهو ينشد شعرا: “إذا رمت النجاة فزر حسينا، لكي تبقى الإله قرير عين، فإن النار ليس تمس جسما، عليه غبار زوار الحسين”. ويعلق الوردي على ذلك بقوله:”انتشر هذا الشعر بين الناس، وأصبح عندهم كأنه من الآيات المنزلات”. – الوردي، الأحلام، ص 60

 

وربما كان الوردي يعني الشيعة الأخباريين، الذين عُرفوا بالإيمان بالأحلام، وعلى رأسهم الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي (1826م) الذي يقول عنه الوردي أنه استلهم معظم عقائده المغالية من الأحلام، واستند فيها على الحديث القائل “من رآنا فقد رآنا حقا”.   وينقل عنه قوله عن نفسه:”أنه في أول مرة رأى في بعض أحلامه الحسن بن علي عليه السلام، ورجا منه أن يعلمه شيئا إذا قرأه استطاع أن يراه أو يرى غيره من الأئمة في النوم، فعلمه الحسن بضعة أبيات من الشعر, وكانت هذه الأبيات مفتاح كنز عظيم من العلوم للشيخ بعد ذلك، استطاع بها أن يرى أي إمام يشاء في نومه عند الحاجة”.  (الوردي، علي، الأحلام بين العلم والعقيدة (1958) ص 10 ط2 1994 دار كوفان لندن).   وهذا ما يؤكده علاء الخطيب أيضا، حيث يقول: كان الأحسائي يدعي أنه يرى الأئمة والنبي، وكان يعتقد أنه لا ينطق عن الهوى بل هي علوم ألقيت اليه من النبي وأهل البيت، ويقول: رأيت النبي وقلت: يا سيدي أريد منك مساعدتي على أن أخلع الدنيا أصلا، بحيث لا أعرف شيئا منها، فقال: هذا أصلح… فسقاني النبي من ريقه… وكل من رأيت منهم يجيبني في كل ما طلبت، وكنت مدة إقبالي سنين متعددة ما يشتبه علي شئ في اليقظة إلا وأتاني بيانه في المنام.. كنت في تلك الحال دائما أرى منامات وهي إلهامات. (الخطيب، الحلم المقدس ص 74)


ومن المعروف أن معركة طويلة وعنيفة جرت بين الأصوليين والأخباريين في كربلاء في القرن الثامن عشر اضطر فيها المجتهد “الملا محمًد باقر الوحيد البهبهاني” إلى استخدام نفس سلاح (الرؤيا) ضد خصمه الأخباري الشيخ أحمد الأحسائي، وقال إنه رأى الامام الحسين وقد أمره أن يقضي عليه, وذلك بعد أن أصدر فتوى تحرم الصلاة خلف الشيخ الاحسائي زعيم الأخباريين باعتباره فاقد الأهلية لإمامة الجماعة وأنه غير عادل. (المصدر، ص 72)”

 

خالص الشكر لفضيلة الشيخ أحمد الكاتب على كريم رسالته.

14 يناير 2017

#تطويرالفقهالاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.