تصحيح أخطائنا التراثية – بيان الدعاء المستجاب

بسم الله الرحمن الرحيم

تصحيح أخطائنا التراثية – بيان الدعاء المستجاب

 

PRAY2.jpg

هناك نظام طبيعي يحكم كل الكائنات وقد أثبتها ربنا عمليا. فلا نرى في ما حولنا أي كائن خارج عن النظام، فكأن كل الكائنات عبارة عن دواليب تتحرك مع بعض مثل دواليب الساعة فتنتج شيئا واحدا هو الكائنات الطبيعية أو الكائنات الممكنة. على كل عاقل أن يستعمل عقله وفكره باحثا عن المسببات الطبيعية ليستعين بها لقضاء حوائجه. فالذي مرض يذهب إلى الطبيب ليعطيه الدواء المناسب أو يقدمه إلى المعالجات غير الدوائية مثل العمليات الجراحية والعلاج بالكيماويات أو بالإشعاعات المختلفة أو بالتمارين الرياضية أو بغير ذلك. وهكذا الذي يريد صناعة السيارة أو بناء البيت أو نقل البضائع. كل تلك الحاجات تتم ضمن نظام الطبيعة وتخضع لقوانينها.

فحينما نلجأ إلى المتخصصين فإننا نلاحظ عدة مسائل، منها وجود الحاجة ومنها توفر الإمكانات المادية ووجود المتخصصين، ومنها توفر المال لشراء ما نحتاج ولدفع أتعاب المتخصصين، ومنها عدم تضارب الحاجة وحلها مع نظام السير وأنظمة اقتصاد الدولة والقوانين المتداولة. فإذا تحققت الحاجة ولكننا لم نقو على تحقيق إحدى المستلزمات الأخرى أو أننا وفرنا كل شيء ولكن النتيجة ما كانت إيجابية فإننا سنشعر بأن كل الأبواب مقفولة أمام وجوهنا. هناك نلجأ إلى الدعاء. ندعو الله تعالى عادة لأننا نشعر بأنه القوي القادر على تحقيق كل ما نحتاج إليه إن شاء.

ولي حكاية مع  فهمي للدعاء المستجاب. وذلك حينما أردت أن أفسر سورة مريم لجلساتنا في شمال لندن في نهايات عام 2005 لاحظت بأنني عاجز عن فهم المقصود من تلك السورة الكريمة دون التعرف على رموزها المذكورة في بدايات السورة وهي كهيعص. لقد فسرت قبلها أكثر من سورة وأنا أعد الزملاء بأن أقدم لهم معاني لتلك الرموز فيما بعد، ولكنني في سورة مريم شعرت بالعجز الكامل عن الفهم قبل فهم الرموز. ولي حكاية أخرى لفهم الرموز قبل أن أبدأ بالتفسير وذلك قبل أكثر من عشرين عاما حيث لم أتمكن يومها من فهم المعاني. لكنني عرفت بأن الأحرف المتقطعة لا ترمز إلى كلمات داخل السورة بل ترمز إلى معاني يجب السعي لفهمها. ولذلك استعنت بالله تعالى لفهم رموز سورة مريم بأي شكل قبل البدء بالتفسير. وأشعر بمنن الله تعالى علي بأنني بعد السعي الحثيث توصلت إلى معاني الرموز بالكامل والحمد لله. لعل ما فهمته غير صحيح ولكنه فهم كامل وقد طبقتها على كل السور الكريمة وأظن بأنني قريب من الصحة.

السورة تبدأ بالرموز التالية: كهيعص، وهي شروط الدعاء المستجاب في الواقع. ذلك لأن كل أبطال السورة وهم أنبياء كرام ابتداء من زكريا ثم النبية الوحيدة في القرآن مريم وانتهاء بالنبي إدريس  قد مروا بالمراحل الخمسة التي تشير إليها الرموز الحرفية كما احتملت. بالطبع لم أتعرف كثيرا على حكاية إدريس مثلا، إلا أننا نعرف بأنه دعا واستجيب دعاؤه من الآيات التالية في سورة الأنبياء: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ (86).

إن فهمَ هذه الشروط يمثل أحد الأرزاق العلمية التي منَّ الله تعالى بها على مريم في محراب تقربها إلى ربها. ويبدو أن زكريا كانت تسمع منها كلما دخل عليها المحراب علما جديدا فيزداد منها علما. سلام الله عليهما وعلى جميع أنبيائه ورسله وعلينا وعلى كل المؤمنين والمؤمنات. ومعناها باختصار وسوف أعتبر الدعاء مذكرا لا مؤنثا:

  1. 1. الكاف:

تعني الكتمان وهو أن يكون الدعاء خفيا لا يطلع عليه أحد حتى أقرب الناس إلى الداعي. ليس للإنسان أحد أقرب إليه من الله تعالى نفسه الذي هو ربنا وخالقنا ومعلمنا وهادينا وهو الذي إن كنا مؤمنين سوف يدخلنا فردوسه البهي الباقي بقاء الأبدية الفعلية بإذنه جل جلاله. قال تعالى في نفس سورة مريم:إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا (3). وقال في سورة الأعراف: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205).

ومن مستلزمات الكتمان أن يكون الدعاء بين العبد وربه دون وساطة أحد. فالذين يطلبون من الطيبين أن يتوسطوا بينهم وبين الرحمن فهم ليسوا مصيبين. وهكذا الذين يدعون لغيرهم فالدعاء يجب أن يكون للنفس أو لما يرتبط بالنفس. بمعنى أن تكون هناك مصلحة بين الداعي والمدعو لأجله  كدعاء الأب لابنه أو العكس أو دعاء المرأة لزوجها أو العكس. هناك مصلحة مشتركة بينهم فالداعي لصالح ابنه إنما يدعو لنفسه في الواقع. إن عذاب ابنه ومحنته وبلاءه مؤذ لكليهما فباعتبار المصلحة المشتركة يدعو لابنه. ولعل دعواتنا للأمان لأوطاننا تدخل ضمن هذا النوع من الدعاء. فالوطن يهم الجميع ويهم بقية الأوطان حيث أن الأمان ضروري لكل الناس معا.

و أما بالنسبة للمظلومين فإن من الأفضل أن يستغفروا للذين ظلموهم لو أرادوا ان يدرؤوا عنهم عذاب الخزي أو عذاب المصائب الدنيوية. قال تعالى في سورة النساء: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (64). وقال تعالى في سورة يوسف: قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98). لقد ظلم إخوة يوسف أباهم ولكنهم لم يقولوا له اغفر لنا بل طلبوا منه أن يستغفر لهم الله تعالى. وقد وعدهم أبوهم بأن يستغفر لهم ربه دون أن يحدد الكيفية أو وقت الدعاء كاتما عنهم ذلك.

نعلم من القرآن الكريم بأن زكريا دعا ربه في المحراب وهو يصلي ولم يقل الله تعالى بأنه أخبر معلمته مريم بذلك بل كتم ما يريد أن يفعله مع ربه عن مريم وعن كل شخص آخر كما أظن. فالكتمان هو السبيل المثلى للجوء إلى الله تعالى وحده عند الطلب وإظهار الحاجة والعوز للسيد المتعالي وحده دون غيره.

علينا أن نتذكر بأن الله تعالى كان يمهد لمجيئنا من قبل أن يُقدم أبوانا على المزاوجة وإعداد السبيل لقدومنا إلى الحياة الدنيا. ثم إننا نترك أبوينا أو أنهما يتركاننا ولكن الله تعالى لن يتركنا أبدا فهو معنا أينما كنا وفي أي حال عشنا. أظن بأنكم تعلمون بأن ارتباطنا بأبوينا هو في حقيقته ارتباط مادي باعتبار أننا صُنعنا من جيناتهما ولكن نفوسنا ليست مصنوعة من التركيبة الجينية بل هي مصنوعة من الطاقة الإلهية المسماة بالروح. فالروح هي أو هو الذي يخلق النفس وارتباطها بالبدن هو أن الله تعالى يسويها مع البدن لتبقى محبة للبدن طيلة الحياة الدنيا. لنتصور بأن الله تعالى أراد أن يعيد أبي الميت إلى بدنه المدفون في الأرض قبل أكثر من ربع قرن. لنفترض بأنه سبحانه أرسل نفس أبي مع أحد الملائكة إلى البدن المسوس تحت التراب فقالوا لها بأنها قادرة بإذن الله تعالى أن تدخل في تلك العظام النخرة المتكسرة تحت التراب. سوف يأنف أبي من الحياة مع تلك العظام البائدة وسوف يطلب بدنا جديدا. فلو قدر الله تعالى له بدنا جديدا فإن أبي سيأتي ببدن لا يحمل الجينات التي صُنعتُ منها فسوف لن يكون أبي!! لكنه في كل حال يقول ربي الله تعالى. إنه كان يقول ابني أحمد حينما كان في بدنه الذي أنا جزء منه ولكنه بعد العودة إلى الحياة سوف يرى بأنه شخص آخر ولا علاقة له بي. فالله معنا دائما وأبدا ولكن الأبوة والبنوة والصحبة والنبوة والملة كلها حالات مؤقتة تزول تمام بعد الموت.

لو علمتم هذا فستقبلون بأن الله تعالى هو الأقرب إليكم فلا معنى لأن تتحدثوا مع أحد غيره عن مشاعركم بالضعف. تلك إهانة للمالك الحقيقي لأنكم في النهاية عبيد له سبحانه وسوف يرفض أن تخبروا غيره بهوانكم وضعفكم.

  1. الهاء:

أن يكون الدعاء بالهمس النفسي وليس باللسان ودون استعمال اللغة. ذلك لأن الله تعالى يسمع نداء القلب فليس من الأدب أن نجهر له بالقول والهمسُ القلبي أصدق بيانا وأكثر واقعية من صناعة الكلام باللسان. وهو معنى واذكر ربك في نفسك، فلا تذكر ربك في لسانك إن كنت تريد الارتباط بربك فعلا. إن لكل نفس ارتباطا مفتوحا مع ربه بإذن ربه فليستعمل ذلك الارتباط ولا يُدخل أحدا أو لغة أو أي شيء آخر بينه وبين ربه. إن البشر عادة ما يتفكرون في موضوع قبل أن يحولوها إلى لغة للتفاهم مع الغير. فخاطبوا ربكم بالموضوع قلبيا دون الجهر من القول لتكونوا مؤدبين أمام السيد المتعالي عز اسمه.

  1. 3. الياء:

تشير إلى اليقين المشتق من فعل يقن.  إن يقين المؤمنين فيما وراء الطبيعة أو فيما وراء المنظور محصور في وعد الله تعالى الذي يقول بأنه يجيب دعوة الداع إذا دعاه. فاليقين هو سمة المؤمنين وخاصة حينما يدعون ربهم بأن ربهم يسمعهم ويستجيب لهم. وأظن بأن الدعاء باب مفتوح إلى الله تعالى ليعلم الداعي حينه بأن ربه سوف يحقق وعده. ولكن ليس تحقق وعده سبحانه بالطريقة التي يطلبها الداعي. فكما قال أحد الإخوة نحن ندعو بطريقتنا والله تعالى يستجيب بطريقته. هذا اليقين ليس سهل التحقق بل يحتاج إلى مقدمات. قال تعالى في سورة الحجر: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99).

فاليقين بالله تعالى يجب أن ينطوي على نفي كل مخضوع له سواه سبحانه. بمعنى أن يبتعد الإنسان عن الخضوع لغير الله تعالى وهو معنى العبادة لله وحده. العبادة تعني الخضوع الاختياري للواحد الأحد جل جلاله. هناك يسبح العابد لله تعالى كما يسبح له ملائكته وهو تسبيح بالحمد. والواقع أن كل الموجودات بما فيها النباتات والجمادات تسبح بحمد ربها. قال تعالى في سورة الإسراء: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44). ونعرف بأن الكائنات ليست مدركة مثل الملائكة والجن والإنس فكيف تسبح بحمد ربها؟ هذا يعني باختصار أن التسبيح بالحمد ليس هو قول سبحان الله وبحمده أو سبحان ربي العظيم وبحمده كما يظن الكثيرون ويسعون للتكثير منها باللسان.

التسبيح يعني التنزيه والحمد يعني الثناء على جميل لا ينتظر صاحبه المقابل. فالجنة مقام محمود باعتبار أن الجنة ليست بانتظار المقابل من ساكنيها. وحينما نوظف هذه التعاريف للتحدث عن التسبيح بحمد الله تعالى نصل إلى أن كل الكائنات تتجاوب مع الله تعالى في كل قوانينه تجاوبا كاملا يدل على أن المقنن أبدع في سن تلك القوانين وتقبلها سواء كانت قوانين طبيعية لا تحتاج إلى وضع واضع؛ أو قوانين إلهية وضعها الله تعالى فعلا لما في الطبيعة من قوانين وضعيه مثل نزول المطر في أوقات خاصة وعلى أراضي تستفيد من المطر. وأبسط دليل على قوة تلك القوانين ودقتها هو أن عمر الكون يقرب من ثلاثة عشر بليون سنة ولم يتعرض للانهيار مع وجود كائنات تحمل حرارة ملايين الدرجات المئوية بجانب كائنات مثل الإنسان الذي لا يحتمل جلده أكثر من خمسين إلى ستين درجة مئوية. كل تلك الكائنات بما فيها كيانات أبداننا وكيانات نفوسنا نحن البشر المختارون تسير وفق نظام الألوهية سيرا هادفا ومقصودا إلى مصير يعرفه الله تعالى. هكذا وبصورة عمليه تنزه الكائنات ربها من كل خطأ ومن كل شريك ومن كل مساعد ومن كل مؤثر في إرادة القدوس جل جلاله. هذه العملية يقوم بها الإنسان بوجود نفسه دون كيانها باختيار أو لا يقوم به. فإذا قام به باختيار واستمر عليه حتى صارت الخضوع لله تعالى أشبه بالخضوع الإجباري للملائكة ولكل الماديات، هناك نقول بأن فلانا سبح بحمد ربه. مثل ذلك الشخص يأتيه اليقين بالسيطرة الكاملة للقدوس على كل ذرات الوجود بلا استثناء؛ ومثل ذلك الشخص يعرف كيف يدعو الله تعالى وقد أتاه اليقين.

  1. العين:

هو الاعتزال عن الناس بمعنى أن لا يشترك الداعي مع غيره في الدعاء. تماما بعكس ما نراه في أسواق الدعاء التي يقيمها الإخوة الكرام في المساجد والأماكن العامة. قال تعالى في نفس سورة مريم على لسان إبراهيم: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50). نعلم جميعا بأن إبراهيم دعا الله تعالى ليغفر لأبيه ولكنه سبحانه لم يستجب ذلك الدعاء بالطريقة التي أرادها إبراهيم لعدم توافق دعائه مع نظام العدالة لديه سبحانه ولكنه تعالى منحه إسحاق ويعقوب. خسر إبراهيم أباه وكسب ابنا لم يطلبه من الله تعالى. إنه طلب ابنا واحدا فمنحه ربه إسماعيل ولكن إسحق الذي أنتج الرجل العظيم إسرائيل مثَّل منحة إلهية بدل أبيه الفاسد آزر. والعلم عند الله تعالى. كما نرى بأن زكريا دعا الله تعالى في الصلاة لينعزل عن الناس جميعا. قال تعالى في سورة آل عمران: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء (38) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (39). فهو في الصلاة ناجى ربه بقلبه وسمع النداء في قلبه أيضا وهو قائم يكرر أذكار الصلاة.

ذلك لأن الدعاء في حقيقتها تعني عودة المرء باختياره إلى بارئه ليكشف عنه علة أو مصيبة أصيب بها. وكلنا نعرف بأن الله تعالى ليس كمثله شيء فهو ليس بشرا ولا ملكا ولا روحا ولا وحدة طاقوية بل هو شيء آخر نجهله ولا نعرفه ولكننا نرى آثاره ونسعى للتعرف عليه في حدود علاقته بالكائنات وعلاقة الكائنات به لنعرف كيف نستفيد منه تعالى. ولعل بعضنا يعرف بأن علاقة الله تعالى مع كل فرد من أفراد خلقه مختلفة غير متشابهة. لا يمكن أن يمد الله تعالى أحدا بصورة عشوائية أو متأثرا بالحب والبغض كما عليه البشر والجن. لعله يكون صعبا ولكنه حقيقة بأن ارتباط كل إنسان بالله تعالى مغاير لارتباط أقرب الناس إليه بالله تعالى. ولذلك فإن الداعي لو لا ينعزل عن الآخرين ليكون صادقا مع ربه في حدود معرفته له سبحانه، فإنه غير جدير بالاستجابة حتى لو رأى بأنه حقق هدفه. ذلك لأن الله تعالى في نفس الوقت الذي يتجاوب بصورة أكثر إيجابية مع من يدعوه فإنه سبحانه يمنح من لا يدعوه من نعمه أيضا.

  1. ص:

الصبر وهو مختلف في الحالات والأماكن. فنرى بأنه سبحانه استجاب دعاء إسماعيل وهو مستسلم لأبيه ليذبحه في نفس اللحظة. ولكنه استجاب دعاء مريم بعد سنوات احتمالا. كما استجاب دعاء إبراهيم بعد فترة طويلة حينما ترك العراق وهو فتى ثم بلغ سن الكبر في فلسطين حتى منحه الله تعالى إسماعيل ثم أكرمه بإسحاق ومن وراء إسحاق بعد فترة طويلة أيضا منحه يعقوب بن إسحاق. بالطبع أنه سبحانه منحه إسماعيل فترة قبلهما احتمالا. وإسماعيل هو نتيجة دعائه عليه السلام للولد. قال تعالى في سورة إبراهيم: رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39). فإبراهيم احتمالا كان يُخفي حبه للأولاد وهو دعاء في منطق الرحمان فمنحه ربه إسماعيل ولكنه أظهر دعاءه لأبيه بالهدى علنا فمنحه الله تعالى بدله إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب. ونرى بأن إبراهيم اعتبر كلا الدعاءين مستجابين، والعلم عند الله تعالى. استجاب الله دعاءه لأبيه المشرك بأن منحه إنسانا طيبا آخر يُغنيه عن التفكر في أبيه وهو إسحاق. وإسحاق الذي أنتج إسرائيل قد كان سببا لظهور أعظم أسرة بشرية على الإطلاق وهي أسرة بني إسرائيل التي بقيت حتى يومنا هذا وستبقى حتى آخر الحياة في كوكبنا ولا يمكن رميهم بالبحر كما يتصور بعض البسطاء.

قال تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167). ألا تعني هذه الآية الكريمة بأنهم باقون حتى يوم القيامة ليُساموا بالعذاب؟ فهم باقون إلى يوم القيامة باختيارهم. ويوم القيامة في هذه الآية تعني يوم انتهاء الحياة في هذا الكوكب ولا تعني يوم يقوم الناس لرب العالمين كما أظن والعلم عند الله تعالى.

فالصبر بمختلف أشكاله وبمختلف أطواله ضروري عندما ننتظر ممن ندعوه أن يستجيب لنا. إنه سيد الكائنات كلها ورب العالمين جميعا فهو يراعي كل المصالح ويلاحظ كل الحيثيات ولكنه سبحانه وعدنا بأن يقيم القسط الحقيقي يوم يقوم الناس لرب العالمين.

وحتى نزداد علما واطمئنانا بأن المراحل المذكورة أعلاه قريبة من الصحة نلقي نظرة خاطفة على أبطال سورة مريم وهي سورة الدعاء المستجاب كما ظننت.

  1. زكريا: من الواضح بأنه عليه السلام وبعد أن مسته وزوجته الشيخوخة فإنه لم يكن لينتظر الإنجاب. لكنه دعا ربه ليمنحه وليا يرث علمه وحكمه في بني إسرائيل. لم يشعر باستجابة الدعاء إلا بعد أن علمته مريم شروط الدعاء المستجاب كما علمها ربها. هناك رأى بأن الصلاة خير حالة تعزله عن كل من حوله كما أنه بصورة طبيعية لا يمكنه أن يدعو بغير الهمس القلبي. فعل ذلك واستجيبت دعاؤه فورا وهو قائم يصلي في المحراب. وبعد ذلك حملت زوجته التي لم تكن في سن الحمل منه وهو الشيخ الذي بلغ من الكبر عتيا.
  2. مريم: هي النبية الأنثى الوحيدة في القرآن الكريم. وحينما نمعن في حكايتها نعلم من الآية التالية من سورة مريم بأنها كانت تحب الأولاد وتقر عينها بالولد كما نعلم من آية أخرى في نفس سورة مريم بأنها لم تكن لتبغي الارتباط الجنسي مع رجل. والآيتان هما: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26). قري عينا تقال لمن كان ينتظر حبيبا بفارغ الصبر. هذه الآية تدل دلالة واضحة بأنها شعرت ببرودة الفرح في عينها حينما وضعت المسيح. أشعرها ابنها بقوة الروح القدس بأن الله تعالى سوف يحميها من أهلها. كما نعلم بأنه سبحانه قد مهد لمجيء المسيح بذلك الشكل الغريب بأن قدر لشيخ وشيخة هما زكريا وزوجه أن ينجبا في سن الشيخوخة فيسهل على بني إسرائيل أن يقبلوا بأن الله تعالى قد يقضي بتقديرات غير متعارفة كأن يقدر لشيخين أن ينجبا وقدر لفتاة غير متزوجة أن تنجب. وقد وضح سبحانه حكاية إنجاب مريم في القرآن وكيف تم ذلك بصورة طبيعية ولكنها غير عادية فقط وسنشرحها في وقتها بإذن الله تعالى.

و الآية الثانية هي: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ِلأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20). قالت جوابا ردا على ما قاله الروح القدس بأنها لم تكن بغيا. والبغي تعني التي تطلب الرجل سواء بالحرام أو بالحلال. البغي في الآية التالية تعني الزانية: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28). ولكنها في الآية 20 لا يمكن أن تعني الزانية. ذلك لأنها قالت قبلها بأن لم يمسسها بشر فلا معنى لأن تقول بأنها لم تكن زانية. كما أن نفس الكلمة في الآية 28 لا يمكن أن تعني نفس معنى البغي في الآية 20. ذلك لأن أم مريم كانت متزوجة من عمران فهي كانت تبغي الزواج ولم تستنكف عن الارتباط بالزوج مثل ابنتها مريم. وليعلم القارئ الكريم بأن الذي يحرر هذه الأسطر المتواضعة قد صرف وقتا غير قصير واطلع على آراء كبار المفسرين ولم يصل إلى غير المعنى الذي ترونه أمام عيونكم. فإذا فهم أحد غير ما فهمته فأكون شاكرا له أن يعلّمني مما علمه ربه.

  1. إبراهيم: ذلك النبي العظيم الذي كان يدعو ربه ليغفر له ولكني لم أجد في القرآن آية تدل على أن الله تعالى غفر له كما غفر لبقية الأنبياء مثل موسى ونبينا عليهم جميعا سلام الله تعالى. قلت بأن الله تعالى لم يجد لعبده إبراهيم خطأ ليغفر له ولكن إبراهيم كان يشعر دائما بالتقصير أمام ربه. إن الله تعالى نعم الرب وإبراهيم نعم العبد. هذا النبي العظيم صبر على النار التي أراد قومه بأن يلقوه فيها فلم يغير دعوته وبقي على رفضه لعبادة الأصنام وأظن بأنه كان ينتظر من ربه النجاة. هكذا نجاه ربه فورا بتغيير مقطع من الطبيعة حيث قال تعالى في سورة الأنبياء ذاكرا تلك الحكاية الغريبة ومبينا لنا بأن الله تعالى وهب له إسحاق ويعقوب نافلة باعتبار أن إبراهيم لم يدع إلا لولد واحد وهو إسماعيل:

قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72). حاولت كثيرا أن أفهم كيف حول الله تعالى طبيعة النار المحرقة إلى طبيعة أخرى باردة فلم أتمكن. لست عالما بالفيزياء ولكنني سألت غيري فلم أعثر على جواب. عرفت قصة ميلاد المسيح والكثير من القصص الغريبة في القرآن ولكنني فعلا أجهل أغوار هذه المسألة. أظن بأنها تصرف واضح في نظام الطبيعة والله تعالى قادر على كل شيء. بالنسبة لي فهي أغرب حكاية قرآنية والعلم عند المولى.

لقد صبر إبراهيم فاستجاب له ربه دعاءه وأعطاه ولدا صالحا هو إسماعيل كما منحه سبحانه من عنده إضافة إلى طلبه وهو إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب تكرما منه عز اسمه. هكذا يذكر الله تعالى عبيده ويكرمهم بالمزيد عندما يصبرون على البلاء. قال تعالى في سورة البقرة: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157). أرجو ألا يسأم القارئ الكريم من أنني أذكر مجموعة من الآيات ولا أكتفي بآية واحدة. هدفي هو أن نطلع على الحقائق ونستفيد منها ولا نكتفي بالتعرف على الحكايات القرآنية.

  1. موسى: كان يخاف من المواجهة مع فرعون وكان يتمنى في قلبه أن يشد الله تعالى عضده بأخيه هارون. وأحتمل كثيرا بأنه كان يدعو الدعاء التالي في قلبه وهي في سورة طه ولنستمع إلى مجموعة من الآيات لنعرف الحكاية بدقة بإذن الله تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47).

أرجو فقط ملاحظة أن الخطاب في نفس الموقف حيث كان موسى في طور سيناء وحيدا يناجي ربه، تغير الخطاب من المفرد إلى التثنية ليشمل موسى وهارون. كان هارون في مصر وموسى في الجبل فالحديث حديث نفسي وموسى كان يناجي ربه في تلك اللحظات وليس حديثا لسانيا مثل بداية الموقف حيث سمع موسى صوتا يقول له كما في سورة طه أيضا: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13). فبعد المكالمة الأولى بدأ الله تعالى بالوحي القلبي لتثبيت فؤاد موسى هكذا: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16). هذه هي الرسالة في حقيقتها ويحتاج موسى إلى تثبيتها في صدره النفسي عن طريق الفؤاد النفسي. ثم عاد التكليم الصوتي مرة أخرى بعد تثبيت الرسالة:

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24). كل ذلك كلام شفهي يسمع فيها موسى صوتا ويرد عليه كما يلقي عصاه ويهرب ماديا ببدنه، ذلك ما أظن والعلم عند الله تعالى.

وأما السر في أن الله تعالى ذكر قصة موسى بعد إبراهيم ثم ذكر قصة إسماعيل وهو الابن المباشر لإبراهيم فكما أظن بأن الله تعالى في صدد بيان آثار توجه إبراهيم إلى ربه منعزلا عن الناس جميعا حيث أراه ربه إسحق في قصة معروفة في القرآن ثم أراه يعقوب ابن إسحاق ثم مات إبراهيم عليهم السلام. لكن القصة لم تنته فيعقوب خلف بعد قرون أعظم رأس بشري وقع على الأرض وهو موسى الذي اصطنعه الله تعالى لنفسه. هو وكما أحتمل من سلالة نبوية متصلة بإبراهيم حيث لم تنقطع النبوة بعد يوسف احتمالا. لكن لإسماعيل حكاية أخرى فهو نبي لوحده ثم انقطعت النبوة في ذريته حتى ولد خاتم النبيين عليهم جميعا سلام الله تعالى.

  1. إسماعيل: فمما لا شك فيه بأنه كان مفكرا رائعا ورث علم أبيه وإيمانه وصلابته بكل قوة. هذا الرجل العظيم كان يظن خطأ كما أخطا أبوه بأن الله تعالى أمر أباه ليذبحه وقد شهد الله تعالى له في الآيات التالية بأنه كان صادق الوعد إذ وعد أباه أن يكون صابرا. لكنه كان يعلم بأن قيام أبيه بقتله سوف لا يعمل له مشكلة مع الله تعالى لأنهما ظنا بأنهما ينفذان أمر ربهما، لكن إسماعيل كان يفكر في موقف أبيه أمام الناس الذين ينظرون إليه فيما بعد بأنه قاتل ابنه ولا يفيدهم منام إبراهيم. لعله فكر في أن موقف أبيه سيكون صعبا جدا حتى أمام الأسرة الصغيرة التي نشآ فيها. فهو في حين صبره على ما ينتظره كان يدعو أن يفرج الله تعالى عنهما ذلك الهم الكبير وكان ربه يسمعه فاستجاب دعاءه وأوقف أباه. بالطبع لا ننس بأننا نحن لو رأينا مثل ذلك المنام اليوم فمن واجبنا ألا نعبأ به ولكن إبراهيم لم يكن بمستوانا العلمي والتطوري. كل ظني بأن رسولنا لو كان رأي مثل ذلك في المنام لما اهتم به واعتبره أضغاث أحلام. وما يقوله بعض الفضلاء بأن أحلام الأنبياء بمثابة أمر لهم فهو ادعاء غير مصحوب بالدليل القرآني.

لنقرأ الحكاية من سورة مريم: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55). ونرفق بها بعضا من آيات سورة  الصافات لعلنا نهتدي إلى جوانب أخرى من القضية: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111).

يمكنكم ملاحظة أن الله تعالى أقر بصدق إسماعيل حينما وعد أباه بأنه سيصبر والبلاء مشترك بينهما لكن آيات الصافات تختم الحكاية بالسلام على إبراهيم وتصفه وحده بالإحسان والإيمان. لعل ذلك بسبب أن صبر إبراهيم كان أهم من صبر إسماعيل. أظن بأنكم تعرفون معنى الآية 103 أعلاه. فهما معا أسلما أمرهما إلى الله تعالى ولكن الحكاية تل إبراهيم للجبين. بمعنى أن الاضطراب النفسي والقلبي الشديد لإبراهيم قد بلل رأسه للجبين. اقترب إبراهيم كما أظن من السكتة القلبية التي تسبب نزول العرق الشديد من الجبين. فالصبر في آيات مريم يشمل إبراهيم مع إسماعيل والعلم عند المولى عز اسمه.

ونختم الكلام بالآية التالية من سورة مريم حتى لا يدغدغ أخي الحبيب أحمد بشير في نفسه من قولي بأن مريم كانت النبية الوحيدة في القرآن الكريم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58). وقد انتبه بعض المفسرين الكرام مثل الزمخشري بأن الآية تدل دلالة واضحة بأن مريم كانت نبية ولكنه لم يعترف بنبوتها إذ أنه لا يظن بأن الله تعالى يمنح النبوة لأنثى! لا نلوم الزمخشري ولا غيره ولكن الثقافة البدوية التي تميز بها رجالنا الأفذاذ تحول دون التفكير في أن الله تعالى خلق الذكر والأنثى من بعضهما البعض. فكل ذكر يحتاج إلى أنثى ليأتي وكل أنثى تحتاج إلى ذكر لتلد عدا مريم. تلك المرأة العظيمة التي أثبتت جدارتها لتنجب بلا رجل فهي أب وأم للمسيح والمسيح ليس ابنا لله تعالى ولكنه ابن لمريم فعلا. سنوضح المسألة مستقبلا بإذن الرحمن.

أحمد المُهري

7/1/2017

#تطويرالفقهالاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.