تصحيح اخطاءنا التراثية : بقرة بني اسرائيل

بسم الله الرحمن الرحيم

تصحيح اخطاءنا التراثية : بقرة بني اسرائيل

YELLOW COW.jpg

بقرة بني إسرائيل

صاحبت قصة البقرة التي أمر الله تعالى بني إسرائيل أن يذبحوها مجموعة متضاربة من الأقوال عند سلفنا الطيب من مفسري القرآن الكريم رضي الله تعالى عنهم جميعا وعنا. إنهم غير ملومين وقد سعوا واجتهدوا وعند ربهم جزاؤهم وأجرهم. لكننا حينما نمعن في القصة التي تبدو غريبة نجد أنها قصة مهمة أجمع القراء كما أظن بأن السورة العظمى قد سميت باسمها.

فلنقرأ الآيات وننظر إليها بعين فاحصة لعلنا نفهم سر قصة البقرة من القرآن نفسه بدون أن نلتفت إلى مقولات البشر حولها. وليكن واضحا بأنني لا أريد المساس بكرامة أحد  كما أنني أحب رسول الله حبا جما ولكني لا أجرؤ أن أنسب إليه قولا ما لم أسمعه منه )وهو غير ممكن( أو ينقل لنا القرآن الكريم كلاما منسوبا إليه عليه السلام. وأما ما كتبه الناس فإن الله تعالى أمرني وأمر الجميع ألا نتبع ما ليس لنا به علم. قال تعالى في سورة الإسراء: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36). ولم يعد الله تعالى بأن يصون لنا كلام نبينا وحبيبنا عليه السلام.

والآيات هنا وهي من سورة البقرة طبعا: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ (68) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74). سوف نسعى لاختصار التفسير حتى نصل إلى الهدف من كامل القصة بإذن الله تعالى.

الابتداء ب ” وَإِذْ ” تشير إلى أمر معطوف على مسائل أخرى وبأنها جميعا تعبر عن هدف أو حكايات  مشتركة بين المتعاطفات. وحينما نرجع إلى بداية الحكاية نرى الآيات التالية هي التي بدأت بما تلتها من مسائل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41). فكأن الله تعالى بعد أن ذكر قصة أبينا المرحوم آدم وخيانته لعهده مع ربه قام بتذكير بني إسرائيل الموجودين حين نزول القرآن وأكد عهدهم مع ربهم وبأن الله تعالى لا زال على عهده معهم. فكان ضروريا أن يذكرهم بما أكرمهم به من إمكانات تساعدهم على الوفاء بعهدهم مع الله تعالى وتسعفهم بكل ما احتاجوا إليه من معلومات ومفاهيم علمية. ومن الواضح أن الله تعالى أراد ولا زال يريد أن يؤدبهم ويهذب نفوسهم ويشجعهم على أن يتذكروا تكريم الله تعالى لهم فيخضعوا له وينتظروا منه المزيد من مظاهر الرضوان.

إذن قصة البقرة المعطوفة على الآية 40 تمثل مكرمة من الله تعالى وليس بيانا لظلمهم أو توضيحا لحماقاتهم كما تصوره السلف الصالح. ونعرف من مجموع آيات القصة بأن هناك جريمة قتل إنسان حصلت في بني إسرائيل ولكن أيا منهم لم يساعد النبي الأمين موسى على معرفة القاتل لمجازاته. نعرف الموضوعين الأخيرين من الإمعان في الآية 72 أعلاه، كما نعرف أيضا بأن الله تعالى يريد كشف المجرم بما فعله في حكاية البقرة.

لا يختلف معي المفسرون بأن القضية كلها مرتبطة بكشف المجرم. لكنهم يظنون بأن معجزة سماوية حصلت بعد الانتهاء من عملية الوصول إلى البقرة المطلوبة. وعلى القارئ الكريم أن يتذكر كل الغرائب التي نقلتها لنا كتب التفسير ومنها ما يلي:

  1. قالوا بأنه تعالى أمرهم بذبح بقرة ثم نسخ حكمه ببيان صفاتها ثم نسخ حكمه ثالثة ببيان لونها ثم رابعة بتحديدها في بقرة خاصة. ودافع الزمخشري رحمه الله تعالى بأن النسخ جائز قبل التنفيذ!.
  2. انتبه بعضهم بأن جملة “وما كادوا يفعلون” تدل على أنهم لم يذبحوا البقرة. لكنهم واتباعا للأحاديث الموجودة بين أيديهم سعوا لحل المشكلة اللغوية وأصروا على حصول الذبح. دافعوا عن حصول الذبح بأن جملة ” وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ” تعود إلى تباطؤ بني إسرائيل (كما ادعوا) في ذبح البقرة حتى انحصرت الأوصاف في بقرة معينة. فكأنهم أرادوا ألا يذبحوا البقرة!!.
  3. قالوا إن معنى اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا هو اضربوا بعض أعضاء البقرة التي ظنوا بأنها مذبوحة بأعضاء المقتول فلما فعلوا قام الميت وأخبر عن قصة قتله وبيّن اسم القاتل ثم مات مجددا! وقال بعضهم بإبهام بأن القاتل تبلور بعد ضرب الأعضاء، فكيف نتصور حيوانا ميتا مذبوحا يحيي إنسانا مذبوحا؟!.

واسمحوا لي أن أضيف على الإبهامات المذكورة مجموعة أخرى من التساؤلات التي لا يمكن أن نجد لها جوابا لو أننا قبلنا التفسير المتداول.

  1. لو كان بنو إسرائيل ينوون عدم ذبح البقرة فكيف رضوا بالنتيجة بأن يذبحوا بقرة فريدة يقولون بأنهم دفعوا مبلغا كبيرا لصاحبها؟.
  2. لماذا ينسخ الله تعالى حكمه واحدا تلو الآخر؟ أليس ذلك دليلا على عدم كفاءة الحكم المنسوخ؟ جل شأن الله تعالى عن أن يصدر حكما غير قابل للتنفيذ فيضطر لتبديله. والواقع أنه لا يوجد أي نسخ في القرآن بل النسخ لبعض أحكام التوراة بآيات جديدة من القرآن. ولو كان القرآن الكريم غير قادر على أن يصمد على حكم لمدة 23 سنة فكيف يمكن لنا أن نتبعه بعد حوالي 15 قرنا؟!
  3. يقول سبحانه بعد ذكر القصة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى. فهل يحتاج كل ميت إلى بقرة مذبوحة يوم القيامة ليتم إحياؤه؟ لو كان المقصود إحياء هذا الميت الدنيوي فقط لقال سبحانه: كذلك يحي الله هذا الميت ودون الحاجة لأن يقول: الْمَوْتَى!. فالحديث فعلا عن إحياء الموتى يوم القيامة.
  4. لو كان معنى ” وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ” كما قالوا بأنهم ذبحوا البقرة لكنهم ترددوا في فعل ذلك كثيرا، لكان من الأولى أن يقول سبحانه: وكادوا أن لا يفعلون. ذلك لأن “ما كادوا” تعني بأنهم لم يقربوا من الذبح. قال الراغب في المفردات في معنى كاد: “ووضع (كاد) لمقاربة الفعل، يقال: كاد يفعل: إذا لم يكن قد فعل، وإذا كان معه حرف نفي يكون لما قد وقع، ويكون قريبا من أن لا يكون”. فما كاد أبعد من الفعل من كاد بدون حرف نفي. وهو صحيح لأن كاد من أفعال المقاربة.
  5. وأخيرا فإن كل من اطلعت على ما كتبوه في هذا المضمار مجمعون وأنا معهم بأن المقصود من كل القصة أن يتعرف موسى ومن معه من مسئولين في سدة الحكم على القاتل. فما الحاجة والحال هذه لهذه العملية المعقدة؟ كان يمكن أن يحيي الله تعالى ذلك الميت بقدرته فيشهد أمامهم بالقاتل ثم يموت مرة أخرى كما ظنوا دون أن يُتعب الناس في البحث عن بقرة. ما هو ارتباط البقرة بالكشف عن مجرم؟.

البعض يظن بأن عملية البقرة اقتصرت على الكشف عن مستور تلك الجريمة النكراء فخسروا بقرة ثمينة محبوبة لدى صاحبها بحيث أنه لم يكن يستخدمها لأي عمل بل احتفظ بها للزينة. ولم يذكر ذلك البعض لنا أية فائدة من تلك القصة لبني إسرائيل. فكأن قول بني إسرائيل لموسى: أتتخذنا هزوا، كان في موضعه. والحال أن موسى عليه السلام قد استعاذ بالله من القيام بأي عمل غير جاد، لا سيما وهو ينقل أمر ربه إلى أمة كبيرة تعتبر مثالا لأهل الأرض.

إن العملية تعليمية ليعلم الناس كيفية الكشف عن الجريمة ولا حاجة للخروج عن نطاق الآيات أو إضافة شيء إليها من خارج القرآن. لا جَرَم والمسلم مطالب بالاعتقاد بأن القرآن الكريم كامل لا ينطوي على نقص أبدا ولا يحتاج المحقق فيه إلى أن يضيف إليه قصصا أخرى ومزيدا من الكلام ليتعرف على أهدافه ومعانيه. لو كان القرآن كذلك لما كان هدى للناس بل كان عاملا للتضليل والعياذ بالله. حاشا كتابنا السماوي الكريم من أي نقص أو حشو.

وقبل أن أشرح القصة من واقع القرآن وحده أحب أن أذكر القارئ الكريم بقصة أبينا إبراهيم مع الطيور الأربعة الموجودة في نفس سورة البقرة. إنها حكاية الآية 260. وتلك الآية تمثل النموذج الثالث من إخراج الله تعالى عبيده من الظلمات إلى النور والمبيّن في الآية 257 قبلها.

والنماذج الثلاثة عبارة عن مساعدة الله تعالى لعبده إبراهيم وهو يحاور الملك ليبهت إبراهيمُ ذلك الملكَ المتكبر بما أورد من مثال. والنموذج الثاني يعبر عن مساعدته سبحانه لمؤمن شك في قدرة الله تعالى على إحياء قرية عامرة بعد أن خوت على عروشها وفقدت أهلها فعجزت عن أن تكون قرية. والنموذج الثالث هو مساعدة اللطيف الخبير لإبراهيم الذي كان خائفا من الخروج من الأرض التي سوف يصنعها الله تعالى في المستقبل تمهيدا ليوم القيامة. كان إبراهيم يفكر في كيفية الخروج من الأرض بجسم جديد باعتبار أن ذلك اليوم لن يكون مثل يوم خروجه من بطن أمه والذي قد يكون الإنسان فيه اكتفى بالبكاء من هلع الخروج. فإبراهيم يعلم بأنه سيكون نفسا عالمة مدركة يوم الخروج من الأرض ملبسا ببدن نباتي حتى لا يكون مدينا لأبوين، باعتبار أن الأبوة لا تناسب الآخرة. والقصة مذكورة في موقعي الفكري تحت عنوان: إبراهيم خائف لا مرتاب. هناك لم يحصل أي تطيير عملي للطيور ولا حصل أي ذبح لأي طير كما يتصور الأعم الأغلب من المطلعين على هذه الآيات ولم يكن إبراهيم الذي يشير إليه القرآن الكريم على أنه  قدوة لكل أنبياء الله تعالى بمن فيهم نبينا في الاعتماد على الله تعالى وحده لا شريك له، شاكّاً أو مرتابا والعياذ بالله، بل كان خائفا فقط من عملية الخروج من الأرض الجديدة.

وعلى غرار القصة المشار إليها وردت قصة البقرة في سورة البقرة نفسها للحديث عن مسألة فكرية دون أن يكون هناك أي ذبح فعلي وإنما مجرد تعليم بني إسرائيل كيفية التحقيق الجنائي للكشف عن ملابسات الجريمة التي كانت قد وقعت آنذاك.

ولو فكرنا مليا في الكثير من المسائل والعلوم التي نراها اليوم في متناول يد البشر، فسوف نرى لها جذورا تاريخية قديمة. لقد حصل لإنسان أو لمجموعة من البشر قصة احتاجوا فيها إلى ربهم ليمدهم بالمزيد من العلم، فمنّ عليهم ربهم بذلك ثم تطور علمهم حتى وصل إلينا اليوم بشكل متطور يتناسب مع التطور البشري المعاصر. فالكتابة مثلا بدأت قبل آلاف السنين بشكل بسيط هو أصل الكتابة الحالية وأساسها في الواقع. ثم تطورت حتى أصبحنا نكتب في جهاز الحاسوب اليوم ونصحح فيها ما نشاء ونظهرها بنوع الخط الذي نحبه لنقوم بعد ذلك بنشرها بين الناس في حين أن أسلافنا  بداية لم يتمكنوا من عرض ما كتبوه لكل الناس أو لمجموعة كبيرة منهم على الأقل بل لفرد واحد في كل مرة.

تأمل في أمور أخرى كالعلاج بالعقاقير أو دفن الموتى تحت التراب أو انتخاب الملوك أو التوجيه والجهد الإعلامي أو يوم العطلة الأسبوعية أو الاهتمام بميلاد القمر في احتساب الزمان والذي يخالف السنة الفعلية منذ القدم ولكنه يعلم الناس الحساب.

إن سورة البقرة تمثل كنزا عظيما من المعارف البشرية التي ضمنها الله تعالى كتابه العظيم ليتعرف الناس على ربهم فيتمسكوا به وحده ولا يكتفوا بذلك بل يتمسكوا باللقاء معه والعودة إليه أيضا وهو الهدف الأساسي من السورة التي نزلت في عمق حقيقتها لتزكية النفس والله العالم.

فالمفاجأة في (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) لا تعني بأن موسى قام من نومه فقال يا أيها الناس: اذبحوا بقرة. بل حصلت جريمة فعلية احتار موسى وكبار صحابته في الكشف عن المجرم فيها فهدى الله تعالى موسى إلى اكتشاف المجرم بتلك الطريقة. هي تماما مثل ما احتار ابن آدم في كيفية التخلص من جثة أخيه فعلمه الله تعالى كيفية الدفن. كلتا العمليتين مقصودتان لتوجيه البشرية إلى الطريق الصحيح لمعالجة قضاياهم.

و الدعوة كانت موجهة إليهم لذبح بقرة معينة يريد الله تعالى منهم أن يبحثوا عنها ولا يريد مجرد بقرة أيا كانت كما ظن الغالبية؛ إذ كان ممكنا استعمال نفس الجملة قاصدا بقرة منكرة غير موصوفة أو بقرة معلومة فريدة. لكنّ الواضح بأن البقرة مقصودة ويمكن ادراك هذا المعنى  من تعامل بني إسرائيل مع هذا الطلب. وأما سر تعجبهم فهو ارتباط البحث عن بقرة مع الكشف عن مجرم. فالملأ من بني إسرائيل كانوا ينتظرون من موسى أن يعلمهم كيف يتقصوا عن مجرم لا عن بقرة. فالبحث أساس في القصة وما فعله بنو إسرائيل هنا يدل على إذعانهم لأمر ربهم وما أبدوه لموسى من تعجب هو من حقهم. لقد كانوا متعاونين مع نبيهم والمشار اليهم في السياق القرآني ليسوا كل أمة بني إسرائيل بل نخبة من المسئولين والمتصدين لشؤون  الأمة منهم.

فكانت الاسئلة التي أثاروها في محلها للاستفسار عن حقيقة البقرة ليبدؤوا بالبحث عنها. لم يعرفوا بداية أن يسألوا عن حقيقة معينة تساعدهم بل قالوا: ما هي، فقط. كانوا في بداية التعلم في مدرسة الربوبية. وكان موسى مأمورا بذكر الأوصاف معهم تدريجيا ليحدد مجموعة الأبقار التي ينبغي الاختيار منها فيصلوا بسرعة إلى البقرة المطلوبة. ولذلك لم يماطل موسى ولم يطلب زمانا للاستفهام من ربه بل كان يرد عليهم فورا. قال لهم بأن البقرة متوسطة العمر ولكن قالها بصورة أكثر دقة. لا فارض، الأمر الذي فسره المفسرون عموما بالمسنّة ولكني أتحفظ على هذا التفسير وسأقوم ببحث لغوي بسيط مع قلة علمي ليتبين المعنى الحقيقي بإذن الله تعالى.

قال الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن في بيانه لمعنى الجذر : فَرَضَ: … والفارض: المسن من البقر. قال تعالى: {لا فارض ولا بكر} [البقرة/68]، وقيل: إنما سمي فارضا لكونه فارضا للأرض، أي: قاطعا، أو فارضا لما يحمل من الأعمال الشاقة، وقيل: بل لأن فريضة البقرة اثنان: تبيع ومسنة، فالتبيع يجوز في حال دون حال، والمسنة يصح بذلها في كل حال، فسميت المسنة فارضة لذلك، فعلى هذا يكون الفارض اسما إسلاميا. انتهى النقل.

إن الراغب محق في أن الفارض في هذه الحالة اسم اسلامي. فلا يجوز استعمال هذا الاسم بالنسبة لقصة وقعت قبل الإسلام ولا يمكن أن يترجم الله تعالى قول موسى بترجمة إسلامية تبعث بالحيرة!

وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة لتوضيح معنى نفس الجذر: ومما شذَّ عن هذا الأصل الفارض: المُسنّة، في قوله تعالى: لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ [البقرة 68.   انتهى النقل.

ولا يمكن أن يأتي الله تعالى بالشاذ في كتاب شاء له سبحانه أن يكون هاديا مبينا واضحا.

إذن يجب أن نبحث عن معنى آخر للفارض لا يكون معنى إسلاميا ولا شاذا. و أنا ببساطة أقول بأن الفرض معناه الواجب القطعي في مقابل الواجب الظني كما قاله الحنفية وهم أدق من غيرهم في فهم اللغة تبعا لشيخهم أبي حنيفة وهو إمام في اللغة العربية ومهتم بالدليل العلمي في كل شيء.

كذلك فقد قال الراغب أيضا في شرحه لنفس الجذر: والفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتبارا بوقوعه وثباته، والفرض بقطع الحكم فيه (الفرض والواجب مترادفان، وقالت الحنفية: الفرض: ما ثبت بقطعي، والواجب بظني. وقرأت في نسخة المفردات المنشورة بالإنترنت الإضافة التالية ولا أدري أنها من الراغب أم من الناشر وهو يؤيد ادعاءنا:-

قال أبو زيد الدبوسي: الفرض: التقدير، والوجوب: السقوط، فخصصنا اسم الفرض بما عرف وجوبه بدليل قاطع؛ لأنه الذي يعلم من حاله أن الله قدره علينا، والذي عرف وجوبه بدليل ظني نسميه بالواجب؛ لأنه ساقط علينا. والفرض عمليا أو قرآنيا هو ما يضاد السقوط. قال تعالى في الحج: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36).والوجوب هنا يعني السقوط وهو مستعمل في غير الأوامر التشريعية بل أقرب من ذلك فقد أتى بالنسبة لحيوان مشابه. ونحن نستعمل الفرض في مقابل السقوط في غير الحيوان أيضا. فمثلا نقول: إن دفن الميت فرض كفاية على كل المؤمنين، فإذا قام به أحدهم سقط عن الباقين. فأتينا بلفظ الفرض مقابل السقوط فعلا. انتهى النقل.

فلو اعتبرنا الفرض ما يضاد السقوط فسيكون معنى الفارض هو غير الساقط من البقر. فيشير إلى البقرة التي لا زالت تعمل وليست البقرة المسنة كما ظنّوا. وواقع الأمر أن الله تعالى بصدد تحديد مساحة البحث ليقتربوا إلى البقرة المطلوب ذبحها بتعب أقل. وبذا فإن تفسير معنى الفارض بالطريقة التي اخترنا أكثر تحديدا للطيف الذي يقع فيه البحث إذ تخرج منه الأبقار من سن المتوسط فما بعد بينما طبقا للتفسير الرائج فإنهم يبدؤون من البكر حتى المسنة.

هنا قد يرد في ذهن القارئ أن الفارض لو كان بمعنى غير الساقط لصار اللا فارض بمعنى الساقط! ولكن القرآن ليس بصدد ذكر النقيض في الآية. إنه سبحانه يقصد تحديد سن معين فيقول لا في هذا السن ولا في سن بداية العمل والذي عبر عنه عز اسمه بالبكر يعني في باكورة العمل.

و قام موسى معه بتحديد آخر وهو قوله تعالى على لسانه: عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ. فأخرج الله تعالى سن العجولة وسن الكهولة ووصل إلى منتصف باكورة النشاط العملي وقبل السقوط وهو معنى لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ.

والعوان مأخوذ من العون بمعنى المظاهرة. كما قال الراغب. وقال ابن فارس: العَوانُ: النَصَفُ في سنِّها من كلِّ شيء، والجمع عونُ. وفي المثل: لا تُعَلَّمُ العَوانُ الخِمْرَة. وتقول منه: عَوَّنَتِ المرأة تَعْويناً، وعانَتْ تَعونُ عَوْناً . والعَوانُ من الحروب: التي قوتِل فيها مرةً بعد مرّة، كأنَّهم جعلوا الأولى بِكْراً. انتهى النقل.

فالعوان ليس تأكيدا لما بين الفارض والبكر دون شك و هو بعيد عن البلاغة لما ينطوي عليه من الزيادة غير الضرورية. وإني أظن بأنه تحديد ثان للسن. فبالتحديد الأول أوصلهم إلى منتصف سن من بين الباكورة ونهايات سن العمل ثم يقول عوان بين ذلك. فكلمة ” ذَلِكَ ” يعود إلى ذلك السن المنتصف والعوان بين ذلك أي العوان بين ذلك الطيف من الباكورة حتى المنتصف فيصير في ربع الطيف. ولكنه سبحانه استعمل كلمة العوان بمعنى المظاهرة ليقول بأنها أقرب إلى سن البكر من سن منتصف العمل. وبمعنى أدق فإن العرب على الأقل كانوا يعتبرون السن الأمثل هو النصف الأول كما قال الراغب ضمن بيان عون: والعوان: المتوسط بين السنين، وجعل كناية عن المسنة من النساء اعتبارا بنحو قول الشاعر:

فإن أتوك فقالوا: إنها نصف           فإن أمثل نصفيها الذي ذهبا

انتهى النقل.

هذا يعني بأن العرب على الأقل – ولعل كل الناس آنذاك – كانوا يعتبرون النصف الثاني من المتوسط بين سن الشباب والكهولة عمرا غير مثالي. والبقرة المطلوبة بقرة في قمة الشباب والجمال كما يشعر به المرء من سياق الآيات وكما قاله المفسرون أيضا حيث أنهم اعتبروا أنها تستحق ثمنا باهضا. فالعوان يعني السن الأقوى باعتبار المظاهرة من بين سن البكورة و نقطة ربع السن من البكورة ونهايات سن العمل النشط. فتم تحديد السن في طيف ضيق جدا لا يكاد يصل إليه ثمُن الأبقار العاملة الموجودة في المدينة.

وختام الآية لا تعني بأن يذبحوا بقرة كيفما كانت كما تصوره المفسرون الكرام؛ إنها تعني بأن يستمروا في البحث ليحددوا المجموعة التي يمكن أن تكون البقرة المطلوبة بينها. قال لهم موسى: فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ. والفاء تشير إلى التحديدات التي تساعدهم على كشف البقرة التي أُمروا بذبحها.

توصل بنو إسرائيل بعد البحث المضني بالطبع إلى مجموعة معقولة من الأبقار فأرادوا حقا انتخاب المطلوب من بين أفرادها. وهم الآن بعد أن تعلموا كيفية البحث عن المطلوب التفتوا بأنفسهم إلى اللون الذي يحدد العدد إلى حد كبير جدا. ولذلك توجهوا إلى النبي الأمين و: قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ. بالطبع أن الله تعالى قد أخذ دور المعلم بكل أناة وعناية ليخرج عبيده من الظلمات إلى النور ولينشر علما جديدا بين أهل الأرض وهو دأب رب رؤوف رحيم عز اسمه. كان للون الذي طلبه بنو إسرائيل بأنفسهم دورا غير قليل في تحديد العدد ولكن ليس بأهمية العنوان الأول ولا الأخير. ذلك لأن أكثر الأبقار صفراوات وقد حددها سبحانه بالفاقع وهي من الفقاع وهو ماء الشعير أو البيرة بالتعبير المعاصر أو أية عصارة مخمرة مثل عصير التفاح المخمر. ويقول اللغويون بأن سبب التسمية هو ما يعلوه من فقاعات. ويُستعمل لبيان الصفاء والخلوص في اللون أو لبيان الشدة. كقولهم: أسود حالك، وأحمر قانىء وأبيض ناصع. ومن المحتمل بأن هذه الأوصاف المخصصة للألوان تشير إلى شدة مع خلوص. والواقع أن الله تعالى يصف البقرة بالصفراء ويصف لون البقرة بالناصع ثم يصف آثار الناصع بأن البقرة أضحت تسر الناظرين باعتبار الانعكاسات التي تصدر من تلك الصبغة الجميلة كما أظن.

ويبدو لي بأن بني إسرائيل الذين طلبوا اللون ليساعدهم على كشف البقرة شعروا بعد قليل بأن تحديد اللون بالنسبة للبقرة لم يساعد كثيرا. إن أكثر الأبقار صفراوات وأكثرها فاقعات اللون لأن نوع الشعر الذي يعلو جلد البقرة متجانس وغير ملتو وليس كثا كالصوف فهو على كل حال بديع أكثر من لون الأنعام الأخرى. ولذلك لم يحددوا نوع الوصف بعد ذلك واكتفوا بطلب المزيد من الحقيقة. ولعل اللون بنفسه جعل الأبقار الصفراء تتشابه عليهم وصعب عليهم تبيين الناصع من غير الناصع. ونعرف من جواب رب العالمين بأن هناك أبقارا كثيرة تحمل نفس اللون شدة وضعفا. نرى بأن الله تعالى ذكر أربعة أوصاف أخرى توصلهم إلى البقرة فعلا. فلنستمع إلى بقية الحكاية.

قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) معنى الآية باختصار أنهم طلبوا مرة أخرى من موسى أن يحدد ماهية البقرة بدون ذكر أي وصف أو جنس أو فصل من مجموعة الحقائق التي تدل على شيء بعينه. ومن المحتمل انهم تعبوا كثيرا لفصل الأبقار الصفراوات عن غيرها و مع ذلك كانت النتيجة كبيرة. ذلك بعكس الوصف الأول الذي أخرجوا على أساسه من البقر أكثر من 80 بالمائة في فرز واحد. فاللون في الواقع ليس بأهمية الأوصاف الماهوية الأخرى مثل الطول أو السن أو الصحة والمرض أو الحالات العملية والمهنية. ولذلك أعقبوا طلبهم المفتوح بقولهم: إن البقر تشابه علينا. يعني أن هناك أعداد كبيرة تحمل هذا الوصف فلا يمكننا تحديد الحصر بسرعة لننفذ أمر ربنا. ولم ينسوا أن يدعوا لأنفسهم بقولهم: وإنا إن شاء الله لمهتدون. فالجملة تمثل عجز المرء عن الوصول إلى أي هدف بدون معرفة مشيئة الله تعالى والسعي للتوافق مع ذلك النظام الشمولي المهيمن. كما أنها تعني: اللهم اهدنا طريقك المستقيم. إنهم كانوا من مؤمني بني إسرائيل وكانوا حريصين على اتباع أوامر الله تعالى. ولعلهم شعروا بأن المسألة علمية وهناك هدف أسمى من مسألة التعرف على قاتل واحد.

كان العمل مضنيا جدا حينما نفكر فيه ونسعى لأن نعيش الحالة التي عاش فيها المؤمنون بالله تعالى آنذاك. ولكن علينا ان ندرك بأننا هكذا تعلمنا وهكذا تحضرنا وهكذا انتقلت علوم السماء وتدريباتها فلا ننسب حصيلة تعب الأمم إلى أنفسنا بل نكتفي بشكر ربنا حينما نتعلم شيئا. سواء كان علما مباشرا مثل العلوم الأولية للبشر أو كان علما إتقانيا وهو أكثر من 99% من علوم علماء الأرض. وعلى نفس النمط لا ننسب المال إلى أنفسنا فما بأيدينا ليس جنىً فعلياً لنا، بل هي مواريث أعمال السابقين من البشر، وما كان بأيديهم هي مواريث عمل الطبيعة بأمر الله تعالى بلايين السنين. فالحمد لله تعالى وحده لا شريك له.

ثم جاء دور موسى: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا.

البقرة الذلول تعني البقرة التي تخدم صاحبها بكل قوة ولا تتكبر عليه ولا تتكاسل في ما يوجهها نحوه من عمل. وتُستعمل الكلمة في التي تثير الأرض. يعني التي تحفز الأرض لتتحرك للزرع بأن تجر عليها خشبة الحرث مثلا. كما تُستعمل في التي تسقي الحرث بالأساليب البدائية القديمة. والواقع أنني لا أعرف الكثير عن طريقة تحفيز الأرض أو السقي أو أي نوع من الآلات كانت متوفرة آنذاك. المهم أن البقرة كانت الحيوان الذي يُستفاد منه للغرضين المذكورين وهذه البقرة لم تكن تُستعمل لذلك الهدف العام. والوصف الوارد يخرج ثلاثة أنواع من الأبقار في واقع الأمر. فهناك أبقار تثير الأرض وأخرى تسقي الحرث وأخرى تعمل العملين معا. وكل هذه الأعمال تترك آثارا على ظهر الدابة أو قوائمها أو عليهما معا. فبوصف بسيط خرجت أكبر نسبة من الأبقار المتبقية ولم يتبق إلا عدد ضئيل. والبقرة حينما تُعفى من العمل فهذا يعني بأنها بقرة مدللة يحتفظ بها صاحبها للزينة أو لنذر أو لهدف مستقبلي آخر. ذهب القوم بعد ذلك وراء الوصفين الأخيرين وهما السلامة من الأمراض ومن العلامات أو الألوان المتداخلة. هنالك انحصر الانطباق على بقرة واحدة فقط.

لقد انتهى الاختبار الأول وتم استيفاء المطلوب وهو البحث عن فردٍ واحد من بين أفراد متشابهين عن طريق اختلاف الأوصاف. ثم بدأت المرحلة الثانية التطبيقية للاستفادة من هذا العلم لدراسة موقع وظروف الجريمة والكشف عن المجرم. ولننظر ما الذي حصل فيما بعد.

فأول الأمر هو إظهار الفرح في أنهم أنهوا أمرا اختباريا إلهيا وتمكنوا من إحضار البقرة المطلوبة تمهيدا للذبح. بالطبع أنهم لا زالوا يجهلون السر وراء كل العملية الطويلة الشاقة والتي نجهل نحن الوقت الذي أمضاه هؤلاء المؤمنون في البحث والتحري داخل بيوت ومزارع بني إسرائيل عن البقرة المطلوبة. وبالإدراك تم ذبح البقرة في خيال كل واحد منهم إذ لا أحد منهم يعرف من الذي سيكلف بذبحها فعلا. ولذلك وصف الله تعالى حالتهم الذهنية ومدى شعورهم بالفرح بقوله الكريم:فذبحوها. يعني بأن كل واحد منهم بدأ يحلم بأنه هو الذي سيتشرف بذبح البقرة وإكمال أمر الله تعالى العزيز عليهم والمحبب لديهم. ذلك لأن الذبح ليس عملا جمعيا يقوم به بنو إسرائيل سويّة كما عملوا معا حين التحريات. إنه عمل فردي وبعد هذا الجهد المضني سيكون الشرف من نصيب واحد بأمر موسى رسول الله عليه السلام. وهذا معنى: وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ. يعني لم يقتربوا من الذبح الفعلي. كانوا يعرفون بأن المقصود ليس ذبح بقرة للأكل ولكنهم شعروا بأن المقصود هو البحث عن بقرة خاصة ثم ذبحها ولم يعرفوا السبب أبدا. إنهم تلاميذ ينفذون أوامر المعلم الذي يكتم السر عنهم.

جاء دور موسى إيذانا ببدء المرحلة الثانية من الأمر. هنا وبعكس المرحلة الأولى التي أمرهم فيها بالبحث عن بقرة دون ذكر أي سبب لذلك بحيث أنهم شكوا في سلامة الأمر فاتهموه بالاستهزاء بداية، فقال لهم بأن الهدف من المرحلة الثانية هو إخراج ما في قلوب الذين يعرفون القاتل ويتكتمون عليه. ولذلك قال موسى:

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (72). وجدير بنا أن نعرف بأن الخطاب لأية أمة أو جماعة في القرآن أو الحديث عنهم وخاصة عن بني إسرائيل لا يعني بالضرورة شمولا لكل أفراد تلك المجموعة أو القوم. فمثلا يتحدث الله تعالى عن بني إسرائيل بأنهم خرجوا من مصر مع موسى قبل غرق فرعون ما يعني  في المرحلة الأولى من العلم بأن كل بني إسرائيل قد خرجوا. لكنه سبحانه يكمل القصة بأن فرعونا قد غرق وأورث الكثير من أملاكه بني إسرائيل. فأين بنو إسرائيل ليتسلموا ملك فرعون؟ وواقع الأمر أن هناك مجموعة من بني إسرائيل كانوا يخدمون فرعون في المواقع الوظيفية الكبرى وهم ليسوا من المؤمنين في الواقع. لكنهم الذين ورثوا بعضا من ملك فرعون فتم تسليط بني إسرائيل بتسليط بعضهم على حكم الفراعنة فتغير حال الإسرائيليين في مصر من مجموعة مهملة إلى أمة ترفع رأسها بفضل إهلاك الله تعالى لفرعون.

الآية تشير إلى مجموعة كبيرة من المشاركين في عملية القتل وتصفهم بأنهم قتلوا والمقصود ليس المشاركة الفعلية طبعا و إنما بالمشاركة في التستر طبعا وليس بالممارسة وهم ليسوا الذين نفذوا واحدا من أصعب أوامر الله تعالى عن طريق عبده موسى. كما أن الذين قَتَلوا ينحصر في فرد واحد والباقون يشاركونه فقط في التستر وهم جميعا مع المؤمنين يشتركون في أنهم من بني إسرائيل وفي أنهم هم الذين نقلوا المفاهيم الحضارية السماوية إلى أهل الأرض.

وقبل أن نكمل مشوارنا مع قصة البقرة دعنا نلفت الى قضية بالغة الاهمية في موضع آخر من القرآن الكريم وهي أن الذبح الذي ظنه إبراهيم أمرا من الله تعالى لم يتحقق كعمل فعلي أبدا بنص القرآن الكريم ذاته. والواضح من سياق الآيات أنّالله تعالى لم يأمره بمثل ذلك العمل المخالف لحقيقة الربوبية المتجلية في الذات القدسية جل جلاله. لكن إبراهيم ظن بأن عليه أن يذبح ابنه فاستعد أيما استعداد بدني ونفسي بلغ به أن أحضر سكينا مناسبة للعمل فضلا عن إعداد للضحية وهو إسماعيل الذي وصفه الله تعالى بأنه صادق الوعد عليه وعلى أبيه السلام. هنالك قال له ربه: قد صدقت الرؤيا. إنه لم يصدق الرؤيا كما فهم ولكنه صدَّقه كما يريده الله تعالى.

وهنا في قصة البقرة فإن بني إسرائيل لم يكونوا مأمورين بذبح البقرة كما قال لهم موسى بل كانوا مأمورين بالبحث عن بقرة بقصد ذبحها. وظنوا احتمالا بأن موسى يطلب منهم بقرة مهمة خاصة ليذبحها طاعة وتقربا لربهم وتكريما له تعالى. لقد نسوا بأن الذبح ليس من شيم رب العالمين ولكنه سمح بالذبح فقط للأكل. إن كلّ ما يظنه المسلمون في ذبائح العيد غير دقيق والأمر الحقيقي هو أن يذبحوا ليأكلوا وإلا لا يجوز لأحد أن يذبح حيوانا دون فائدة. للحيوان قيمته وكرامته عند خالقه ولكن كرامة الإنسان فوق كرامة الحيوان؛ وإبعادُ الجوع والضعف عن الانسان امرٌ يستحق إزهاق نفس حيوان وسفك دمه.

مما لا ريب فيه أن الحيرة استولت على بني إسرائيل بعد أن استمعوا إلى الهدف من المرحلة الثانية من العملية بعد التحري وبعد أن عرفوا بأن الله تعالى أرسلهم للقيام بعملية تمشيط كامل للمدينة بأكملها بحثا عن بقرة معيّنة لغرض مرتبط بالجريمة التي بقي مرتكبها مجهولا.

إن حالهم تشبه الى حد كبير حال عدة مجموعات من الطلاب في صف واحد وجههم المعلم كمجموعات مستقلة للقيام بتجارب خاصة، ثم جمعهم في نهاية الفترة ليربط النتائج مع بعضها البعض. كانت التجارب تدور مدار الإثارات الطاقوية مثلا ثم قال المعلم بأنه اليوم يريد صنع قنبلة متفوقة ذرية من مجموع هذه التجارب. لا يمكن لأي طالب أن يكون قد تعرف على ما يجول في خاطر المعلم قبل انتهائهم من التجارب المختلفة. لعلهم ظنوا بأنه يريد اختراع مصباح كهربائي جديد ولكن التفكير في صنع قنبلة كان بعيدا جدا عن أذهانهم.

هكذا كان حال القوم الذين بحثوا عن بقرة لذبحها ثم يقول لهم موسى بأن الله تعالى يريد الآن أن يستعمل هذه النتيجة للكشف عن المجرم في جريمة القتل التي وقعت سابقا والتي  كان الكلّ عارفا بها. من الطبيعي أن يسيطر الوجوم على كل الذين استمعوا إلى كلام رسول الله موسى. وانك لترى الوجوم نفسه قد سيطر على أفكار شريحة واسعة ممن تصدوا لبحث او تفسير هذا المقطع من سورة البقرة فظنوا جميعا بأن هناك معجزة سماوية ظهرت بأن أنطق الله تعالى ذلك الميت بعد أن ضربوا جثمانه بأوصال اللحم المقطع من البقرة المذبوحة! لم يفكر هؤلاء بالسبب الداعي لذبح البقرة مع أن أهل العلم منهم كانوا شاكين في الموضوع تماما. إنك تشعر بما كان يجول في خاطر الإمام اللغوي والنحوي الكبير الزمخشري وهو يكتب ما يخالف فكره. لقد ترك الزمخشري تفسير الآيات بعلمه و سعى سعيا بليغا للدفاع عمّا وجده من تراث بين يديه لتفسير هذه الآيات. لقد دافع الزمخشري عن رسول الله بنية طيبة ولكنه أغفل القرآن ونسي أمر ربه بالانفراد في التدبر في آياته وعدم التوجه للغير وطلب المعرفة من المنزل العظيم نفسه.

ولو ينتبه القارئ الكريم فإن دور موسى قد انتهى في البحث عن البقرة بعد أن أرسل المحققين إلى مختلف حظائر المدينة بحثا عن البقرة المطلوبة. لقد انتهى دوره حينما أخبرهم بأن الله تعالى مخرج ما كانوا يكتمون.

يتغير لحن الآيات تماما بعد ذلك فيتصدى الله تعالى نفسه للحديث وليس موسى. هذا يعني بأن موسى كان يعرف ترتيب الأسئلة حتى عن اللون فإنه كان يرد عليهم فورا لكنه سلم الإضبارة بالكامل الآن إلى الله تعالى مشعرا بأنه أكمل دوره وجاء دور المعلم العظيم رب العالمين. والغريب أن أكبر دور في العملية يتلخص في كلمتين وهما: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا. تبا للذين يظنون بأن القرآن ليس بليغا. إنه سبحانه يختصر علما في هاتين الكلمتين فأية بلاغة أكثر وأتم من ذلك؟ لقد أتموا تجربة بشرية سهلة نسبيا فقال لهم ربهم طبقوا هذه التحريات على ما ترونه من آثار الجريمة حتى تتمكنوا من العثور  على المجرم. يستعمل العربي وكذلك القرآن كلمة الضرب لضرب المثل. فيعني بأنهم يستفيدوا من البحث كمثال للبحث عن الجاني؛ عليه يكون معنى اضربوه ببعضها هو ضربا لما تعلمتموه من جوانب القصة في البحث عن البقرة المعينة على جوانب قضية البحث عن الجاني في جريمة القتل.

هنا بدأت مرحلة صعبة جدا للكشف عن المجرم. خرجت البقرة وخرج الذبح من أذهان المؤمنين وحل محلهما تطبيق نفس التعليمات على قاتل لم يروه ولم يعرفوا لونه ولا يدرون عنه أي تعريف. الذين يعرفونه هم المخاطبون في جملة موسى:وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ. ولكن المؤمنين يريدون أن يعرفوه. فلنخمن ما فعله موسى وحاشيته المؤمنون لضرب العلم الذي حصلوا عليه على قضية التحري لتقصي آثار المجرم. وللمزيد من الاطمئنان فإن هاء المذكر في نهاية اضْرِبُوهُ تعود على العلم الذي كسبوه وهاء المؤنث في ِبَعْضِهَا تعود على صفات البقرة ولذلك قال بعضها وليس كلها. إنهم الآن قد تعلموا عملية التحري وسيتعلمون عمّا قريب عملية التطبيق ليقوموا بالتحريات بشكلٍ آخر.

بالطبع أن كلا منا يعرف بأن البحث عن بقرة من بين مجموعة من البقر سهل لأن البقرة لا تعرف كيف تخبئ نفسها أو تهرب من مأموري الأمن، ولكن التحري عن البشر صعب. سوف يبدؤون بعد قليل بالتفكير في شكل القاتل من واقع الجريمة ومن واقع المجنى عليه. ولنفرض بأنهم كشفوا بأن القاتل استعمل السكين لعملية القتل. ثم تحرّوا عما اذا كان القاتل قد استعمل يده اليمنى أم اليسرى ليبحثوا عن الناس الذين يكثرون من استعمال أي يد أو يميزوا اليمينيين من اليساريين في استخدام الأيدي. ثم بحثوا عن إمكانية أنّ القاتل كان وحيدا أثناء ارتكابه الجرم أم إمكانية العثور على آثار مشاركة من شخص آخر؟. ثم بحثوا في إمكانية قيام المجني عليه بالدفاع عن نفسه ومقاومة القاتل أو أنه فوجئ بضربة من خلفه مثلا؟ قد يكونوا لاحظوا بأن القتل لم يكن قد وقع بيد مجموعة لصعوبة التستر على ذلك وضبط الجميع لأنفسهم وعدم إفشاء الامر ولاحظوا فرضا بأن العملية تمت فجأة إذ لا حديث عن أصوات أو دفاع قام به المجنى عليه. بحثوا عما خلّفه المجرم من أدوات أو ملابس أو أكل أو فردة حذاء أو عصا أو أي شيء يمكن الاستهداء به للكشف عليه. ثم سألوا الجيران وأهل الحي وكل شخص وطلبوا منهم أية معلومة تساعدهم على كشف المجرم. لقد علمهم الله تعالى عمل التحريات وعلمهم البحث قبلها عن آثار وصفات ولون وطريقة حركات ومهنة المجرم.

نحن لا نعرف كم من الوقت قضوه حتى تعلموا كيف يتوصلون إلى الجاني وهل توصلوا أم لا؟ لكننا نعرف بأن هذا العلم الجديد أخذ مسيره في الأرض وجذب معه بعض الطالبين. وليس هدف القرآن الكريم أن يكمل القصة كما أنه ليس بمقدور البشر بعد آلاف السنين أن يعرفوا حقيقة ما حدث. إن هدف القرآن أن يذكر بني إسرائيل منن الله تعالى عليهم وتعليمه إياهم. ذلك ليقول لهم بأن ما بأيديهم من علم ومعرفة ليس مملوكا لهم بل إنهم حملوا رسالة ربهم لكل البشر.

وبما أن صفة الكمال لا تفارق الكتاب العزيز فإن الآيات الكريمة لا تفتأ تذكرهم بربهم وباللقاء معه سبحانه وبأن ما في الدنيا من علم ودراية ليست إلا نزرا يسيرا من أصل العلوم والمعارف. ولذلك أكمل الله تعالى تعليمه إياهم بما يلي: …كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74). نبههم ربهم بأن التعرف على الجاني من العلم ليس عملا إعجازيا ولا خاصية إلهية. إن البشر بالقوة قادر على القيام بالكشف عن الكثير من حقائق الوجود والتمتع بفوائده وآثاره ولكن الله تعالى يقوم بأعمال أخرى ليست من هذا السنخ. إنه سبحانه يحي الموتى فلا يمكن إخفاء شيء عليه. ذلك لأن إحياء نفس الميت يتطلب العلم المحيط بكل جوانب النفس لصنع بدن متناسب معها فتحيى النفس بإعادتها الى الوجود المادي عبر تلبيسها ببدن مناسب وإلا فسوف يكون تحليلا بمعنى إدخال نفس في بدن غير مناسب لجزئيات النفس. فالذي يحي الموتى لا يمكن أن يخفى عليه شيء من أبسط ما التصق بالنفس من معلومات وصور تحدد كيان تلك النفس إلى أقصى ما يمكن تصوره نافعا في قضية إعادة الحياة للموتى. لكنه سبحانه قال ذلك ليريهم علامات الألوهية فقط. والعلامة هنا هي أن كل عمل يقوم به أي موجود يحمل نفسا فهو يُبقي ملامح من وجوده وعقائده على عمله بصورة طبيعية بتقدير الله تعالى. ولذلك لا يمكن عمليا إخفاء الجريمة إخفاء كاملا ويمكن للمتحري الدقيق أن يكشف الجاني ولو بعد حين.

ولعل السبب في أن الله تعالى ذكرهم بعدم إمكانية إخفاء شيء عليه هو لأنهم كما سمعنا عنهم ينظرون إلى الله تعالى بأنه غير محيط بكل أعمالهم. قال تعالى عنهم في نفس سورة البقرة: وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77).

وأما السر في قسوة قلوبهم التي تلت عملية كشف المجرم وظهر الذين يُخفون أمرهم. فمما لا شك فيه أن موسى قال لهم أو أومأ إليهم بعد أن كشفوا البقرة بأنكم قادرون على إخراج بقرة من بين أبقار المدينة فهل يُعقل أنكم عاجزون عن معرفةالقاتل؟ لقد وقعوا في مأزق لم يفكروا فيه من قبل ومن هنا نعرف السر في أن موسى لم يقل لهم الهدف من التحري بل قال لهم بأن الله تعالى يأمرهم أن يذبحوا بقرة. كانوا في غفلة من القضية حتى أتموا البحث وأتوا بالبقرة المقصودة الفريدة من بين آلاف البقر أو عشرات الآلاف من أبقار المدينة. فقسوة قلوبهم نتيجة حتمية لانكشاف ما أخفوه في قلوبهم وكتموه عن موسى والمؤمنين من أصحابه.

فالإنسان مهما كان مجرما وجانيا ومستعدا لارتكاب الإثم فإنه يسعى لأن يكسب لنفسه كرامة في المجتمع حتى لا يُهان وحتى يعيش بأمان. إنه يسعى أن يصل إلى أهدافه بأقل إثم يمكن أن يعرض حياته الدنيا إلى خطر وبالنسبة لبعضهم ممن يفكرون قليلا في الآخرة فهم يسعون لأن يواجهوا ربهم بأقل ما يمكن من المعاصي. إن اللص يدخل البيت للسرقة ويسعى لأن يلثم وجهه ويهرب إذا رأى نفسه في معرض الانكشاف ويسعى جهد الامكان ألا يتجاوز السرقة. لكنه إن انكشف أمره لأحد ورأى نفسه قادرا على قتله فسوف يقتله حتى لا ينكشف أمره أمام المجتمع والقانون ثم يهرب من المكان. فقلبه يقسو حينما يخاف من انكشاف أمره ولذلك ذكر الله تعالى لهم ذلك لئلا يستعملوا هذا العلم في الكشف عن المجرمين إلا عند الضرورة القصوى مثل اكتشاف القتلة في جرائم القتل. وأما السر في الأمثلة التي ذكرها سبحانه بعد هذه القصة وبعد ذكر قسوة قلوبهم لأنهم كما يبدو استعملوا العلم في غير الضرورة فهي كالآتي بإذن الله تعالى. لنبدأ بفهم الأمثلة باختصار.

المثال الأول هو الحجر الذي تشقق فتفجر منه الأنهار وهو الحجر الذي كان يغطي مياها معدنية خبّأها الله تعالى في الأرض حتى لا تنتهي معادنها ثم يأتي الإنسان فيستخرجها لنفسه. ذلك الحجر الكبير الذي فجره موسى نفسه بعصاه فانبجست منه اثنتا عشرة عينا. وأما الثاني فهو إشارة إلى الدروع الأرضية الكبيرة المحيطة بالأرض والتي تحتضن البحار واليابسة. إنها كانت تحتفظ بالمياه الأصلية التي نزلت من الشمس حين تشكلت الأرض وبقيت مستقرة فيها حتى اكتملت صناعة الأرض فقدر الله تعالى حركة هذه الألواح أو الدروع المهيبة الضخمة لتتشقق الأرض فتخرج المياه من أعماقها وبهذه التشققات تشكلت المحيطات والبحار وامتلأت ببقايا الحمم بعد أن تبخرت منها المياه ثم سقطت على شكل أمطار لتملأ الأحواض السطحية شيئا فشيئا خلال عدة مئات من ملايين السنين. وأما المثال الثالث فهو يشير إلى الجبل الذي دمره الله تعالى حينما تجلى له بنوره القوي فصار رذاذا لكن الله تعالى خوّف به بني إسرائيل الذين رأوه فوق رؤوسهم كأنه ظلة ليأخذ منهم العهد انسجاما مع الطبيعة البشرية التي تجعل البشر يرضخ لعقود السلام بعد خوف كبير أو حرب كبرى. هذا الجبل لم يسقط على الأرض بل هبط شيئا فشيئا بأمر الله تعالى لئلا ينتشر الرذاذ فيهلك بني إسرائيل. كان هذا الهبوط بأمر الله تعالى فعبر عنه سبحانه بالخشية أنه عجز عن التجاوب مع الجاذبية الأرضية. والعلم عنده سبحانه.

وأما سر المثال فهو بأن الحجر الأول أخفى المياه واحتفظ بها ولكنه حينما حان وقت الكشف أذعن لدعوة ربه عن طريق عصا موسى فتفجر بالمياه لمن يستحق. فهو أخفى أمرا بكل قوة مستعملا صلابته ولكنه أذعن لأمر ربه وتخلى عن صلابته ورضخ للدعوة فكان أقل قسوة من قلوب البشر الذين أخفوا أمرا حينما كان عليهم أن يفصحوا عنه وقسوا حينما كان عليهم أن يكونوا بشرا طبيعيين لا  يعرفون القسوة. وأما المثال الثاني فهو مشابه للأول تماما وهي حجارة أقوى من الأولى من حيث القسوة ولكنها رضخت أيضا لأمر ربها وتخلت عما كانت تخفي تحتها حينما تلقت دعوة الله تعالى. وأما الثالث فهي أقوى من الجميع باعتبار أنها كانت رذاذ جبل كبير أمسكت بنفسها مقابل جاذبية الأرض رضوخا لأمر الله تعالى ثم هبطت شيئا فشيئا دون أن تؤذي أحدا متخليّة عن قسوتها الطبيعية. لكن أولئك النفر من بني إسرائيل يحملون قلوبا بشرية طرية بطبيعتها وقاسية من جراء الخبث الذي تتطبع بها نفوسهم الشرسة كما يُفهم من النص.

ضرب الله تعالى لهم هذه الأمثلة ليتورعوا ويتركوا استعمال معلوماتهم في غير مواردها فلا تقسى قلوبهم ولا يضطروا لكسب المزيد من الإثم والخوض في معاصي كان يمكنهم تفاديها وتجنبها. والعلم عند الجبار العظيم سيد الكائنات جل جلاله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مختصر التفسير الذي ألقيته في  23/6/2005 بمعونة الرحمان.

أحمد المُهري

31/12/2016

#تطويرالفقهالاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

9 تعليقات
  1. الغدرة :

    جزاك الله خيرا ، على جهودك وتأملاتك …
    انا كنت اتمنى ان تنظر وتتوقع بأن االبقرة المذكورة في السورة لعله يقصد بها مخلوق آخر غير الحيوان اللبون المعروف ، خاصة وقد ذكر اوصاف عديدة له …
    فقد توسعت واستنتجت مفاهيم عميقة وعديدة من خلال هذه الواقعة ، غير انك توقفت واقتنعت بأن المقصود بالبقرة ، هي الحيوان المعروف والمشهور بين الناس ..

    1. ambmacpc :

      شكرا لكم سيدي بالتأكيد ليس توقفا فما زلنا نتعلم كل يوم ، لان فهمنا لكتاب الله يتحسن مع تحسن مداركنا ومعارفنا التي تتطور يوما بيوم … لك مودتي وكل التقدير

      1. الغدرة :

        اشكركم كثيرا على تجاوبكم اللطيف..
        ماذا لو قلت لكم لعل المقصود بالبقرة هو نوع من الاحجار او الصخور التي تحتوي على معادن او معدن خاص ، مثل الصخور التي تحتوي على الالماص
        والذباحة يقصد بها ، الصقل او شحذ الصخر ..

  2. الغدرة :

    ارجو التكرم بزيارة مدونتي المتواضعة ، وترك بصماتكم الكريمة
    https://algodra941.blogspot.com/?view=flipcard

    1. ambmacpc :

      اتشرف بذلك استاذي

      1. أحمد حسين :

        يالله إنا لله وإنا إليه راجعون هذا المقال مصداق لقول الله تعالى (ولا تلبسوا الحق بالباطل) فالحق هو قولك بحب النبي صلى الله عليه وسلم والباطل هو إنكار تصديق أي شئ نسب إليه ولو كان النسب إليه صحيح دون سماع كما تزعم وأنت بذلك تطعن في الصحابة ثم من بعدهم من عدول التابعين وفي الصالحين الذين روا الأحاديث الصحيحة وتتهمهم جميعا بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاهم فهم عدول وهذا الكلام تكذيب لقول الله سبحانه وتعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)فالسنه النبوية ذكر كما أن القرآن ذكر وقد وعد الله بحفظهم ودليل حفظ السنه النبوية هو الأحاديث الضعيفة والمكذوبة حيث أنها لو لم تحفظ لما عرفنا أن هناك ضعيف ومكذوب وباطل ثم بذلك القول الخاطئ الفاسد ينهدم الدين لأن السنه النبوية مبينة لمراد الله شارحه لأحكامه مفصله لها فأنكارها هدم الدين
        الله تعالى أمرنا ألا نتبع ما ليس لنا به علم. قال تعالى في سورة الإسراء:( وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) فلا ينبغي لنا أن نقف ما ليس لنا به علم ولكن إستدلالك خاطئ والخطأ واضح جدا لأن علم الحديث هذا علم مبني على أسس وقواعد متينه والله الذي لا إله غيره لعلم الحديث قواعده أقوي من قواعد البحث العلمي التجريبي ومع ذلك لا أظنك تنكر علم الكمياء ومع ذلك تنكر بكلامك علم الحديث!
        تقول ولم يعد الله تعالى بأن يصون لنا كلام نبينا وحبيبنا عليه السلام وماذا عن قول ربنا (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)فأما أن تقول بأن سنه النبي ليست ذكر وبذلك تكفر تكذيبا لقول الله ( وما ينطق عن الهوى-إن هو إلا وحي يوحى) وإما أن تقول هى ذكر وبذلك تكون مكذبا للآيه الكريمة(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ولا يتبقى إلا أن تقول أنها ذكر والله حفظها كما وعد وإذا أراد الله شيئا هئ أسبابه وأجتهاد العلماء في وضع علم الحديث وجمع الصحيح منها وتنقيح ما ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم هو سبب والله هو حافظ دينه وشرعه وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم
        هذا يبين فساد منهجك وأنحرافه وتعديه بحيث تتهم جميع المفسرين بالخطأ وتجعل تخرصاتك هي الصواب! وهل تعلم أنت اللغه وهم لم يعلموها بل هم على درجة من العلم والفقه يمكنهم من وضع تفسير والقرآن يفسر بالقرآن ثم بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم كلام الصحابه ثم باللغه وأسباب النزول ولا مدخل لأحد أن يقول برأيه في كتاب الله أصلا وبعض كتب التفسير بها أحاديث ضعيفة وبعضها بها روايات بني إسرائيل التي لم يأتي في الشرع ما يخالفها وبذلك لا تصدق ولا تكذب لأنه قد تكون حق أو باطل لدخول التحريف علي شريعة موسى وعلى التوراه كما حكى الله سبحانه وتعالى لذلك تتفاضل كتب التفسير
        أظن أن الغرض من هذا التأليف بجانب الطعن في الشرع وهدم الدين هو محاولة إلغاء البراء من اليهود ومولاتهم مع العلم أن من آمن من بني إسرائيل بموسى عليه الصلاه والسلام قبل بعثة عيسى فهو في الجنه ونحبه ومن كفر من بني إسرائيل بعيسى عليه الصلاه والسلام فهو مخلد في النار ومن آمن من النصارى بعيسى رسول من عند الله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فهو أيضا في الجنه ومن كفر من اليهود والنصارى بالنبي محمد بن عبد الله القرشي الهاشمي صلى الله عليه وسلم فهو مخلد في النار لأن من كفر بنبي كمن كفر بهم كلهم لأن دعواهم واحده أن أعبدوا الله ولا تشركوا به شيأ وطاعته فيما أمر وإجتناب ما نهى
        إتقي الله وتب إلى الله وتذكر أن الكبر هو من جعل إليس مخلد في النار فلا تتكبر في قبول الحق ربنا يهدي المسلمين لما يحب ويرضى ويقيهم شر أهل الشر

        1. ambmacpc :

          جزاكم الله خيرا ، كل التقدير لافادتك

  3. ابو عبدالحميد :

    علوم الكفته ، جزاك الله خيرا اجتهدت و أخطأت بارك الله فيك

  4. عبد الرحمن :

    القرآن الكريم يفسر بالمعني الظاهر للآيات وأي شخص مطلع على مبادئ الحوار في اللغة العربية يفهم نفس المعاني والمضامين من كلمات القرآن.
    فأما هذا التفسير الذي اتيت به فهو من هوي نفسك و اوهامك و تخيلاتك

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.